آية الله ناصر مكارم الشيرازي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمانزاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٢
١ ـ آية المباهلة
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ ابْنَاءَنَا وَابْنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَانْفُسَنَا وَانْفُسَكُم ثَمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللهِ عَلى الْكَذِبِينَ). (آل عمران / ٦١)
هنا ينبغي توضيح بعض الامور :
اولاً : مضمون الآية.
ثانياً : من الذين ذكرتهم الروايات التي جاءت في المصادر الإسلامية المعروفة في تفسير هذه الآية؟
ثالثاً : كيفية الاستدلال بهذه الآية على أفضلية علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام.
رابعاً : الرد على بعض الشبهات فيما يتعلق بهذه الآية.
مضمون آية المباهلة :
تدلُّ الآية أعلاه بالإضافة إلى الآيات التي نزلت قبلها وبعدها أنّ النبي صلىاللهعليهوآله يُؤْمَر في مواجهة اصرار النصارى على التمسك بعقائدهم المحرفة كزعمهم بأُلوهية عيسى عليهالسلام مثلاً ، وعدم جدوى المنطق والاستدلال ازاء عنادهم ، فكان لابدّ للنبي عليهالسلام من التضرع وأن يسلك طريق المباهلة ، ويثبت صدق كلامه من خلال هذا الطريق المعنوي ، أي يباهلهم ليتبين الصّادق من الكاذب!
والمباهلة في الأصل من مادة «بهلْ» على وزن (أهلْ) وتعني الترك ، من هنا فعندما يتركون الحيوان لحاله ولا يلفون ثداياه في كيس خاص ـ لمنع وليده من الرضاعة ـ يقولون
له : «باهل» ، و «الابتهال» في الدعاء تعني التضرع وايكال الأمر إلى الله تعالى.
وتارة فسروا هذه الكلمة بمعنى «الهلاك واللعن والطرد من الله» ، وذلك أيضاً بسبب ترك العبد وايكاله إلى نفسه والخروج عن ظل لطف الله سبحانه.
هذا الرأي هو الأصل اللغوي ، أمّا من ناحية «المفهوم المتداول» الذي أشير إليه في الآية ، فالمباهلة الملاعنة بين شخصين ، من هنا فعندما لاتجدي الاستدلالات المنطقية ، ويجتمع الذين يدور بينهم جدول بشأن مسألة دينية مهمّة ويتضرعون إلى الله سائلين منه أن يفضح الكاذب ويعاقبه ، وهو مافعله النبي صلىاللهعليهوآله في مواجهة نصارى نجران ، حيث اشير إليه في الآية.
ومن خلال ماذكر نلقي نظرة على تفسير هذه الآية :
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ مَاجَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ ابنَاءَنَا وَابنَاءَكُم وَنسَاءَنَا وَنسَاءَكُم وَانْفُسَنا وَانْفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الكَذِبِينَ).
لا شك أنّ هذه الواقعة التاريخية قد حصلت ولم يستطع أحد انكارها ، ومفادها : أنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله اختار نفراً واصطحبهم معه للمباهلة.
جاء في الروايات الإسلامية التي نقلها المفسرون والمحدثون : لما نزلت الآية أعلاه اقترح النبي صلىاللهعليهوآله على نصارى نجران المباهلة ، فطلب زعماء النصارى من النبي صلىاللهعليهوآله مهلة يوم واحد ليتشاوروا في الأمر ، فقال لهم حبرهم :
«انظروا محمّداً في غدٍ فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء فلما كان الغد جاء النبي صلىاللهعليهوآله آخذاً بيد علي والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة تمشي خلفه ، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم ، فلما رأى النبي صلىاللهعليهوآله قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من علي عليهالسلام ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ، وتقدم رسول الله فجثا على ركبتيه قال الأسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فرجع ولم
يقدم على المباهلة ، فقال الأسقف : ياأبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك» (١).
وجاء هذا المضمون أيضاً باختلافات طفيفة لا تضر بأصل القضية في الكثير من التفاسير الاخرى ، مثل تفسير الفخر الرازي (ج ٨ ، ص ١٠) ؛ والقرطبي (ج ٢ ، ص ١٣٤٦) ؛ وروح البيان (ج ٢ ، ص ٤٤) ؛ وروح المعاني (ج ٣ ، ص ١٨٨) ؛ والبحر المحيط (ج ٢ ، ص ٤٧٢) ؛ وتفسير البيضاوي (ذيل آية البحث) وتفاسير آخرى.
والآن لنرى كتب الحديث ، ماذا تقول :
* * *
المباهلة في أقوال المحدثين :
وردت روايات كثيرة تعد موثوقة ومعتبرة في مصادر أهل السنّة ومصادر أهل البيت عليهمالسلام حيث تفيد بصريح القول : إنّ آية المباهلة نزلت بحق علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام. منها :
١ ـ روي في صحيح مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» في باب فضائل علي بن أبي طالب عليهالسلام عن سعد بن أبي وقاص أنّ معاوية قال لسعد : ما منعك أن تسب أبا تراب؟ قال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلىاللهعليهوآله فلن أسبّهُ لئن تكون لي واحدة منها لكانت أحبّ الي من حمر النعم ، ثم أخذ يذكر قصة حديث المنزلة في (معركة تبوك) وقصة اعطاء الراية لعلي عليهالسلام أبان معركة خيبر ، ثم يضيف : ولما نزلت هذه الآية (قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم) دعا رسول الله صلىاللهعليهوآله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي (٢).
روى هذا الحديث جماعة آخرون من عظماء أهل السنّة مثل! الترمذي في صحيحه (٣).
فبعد نقله يضيف. يقول أبو عيسى : إنّه حديث حسن وصحيح وغريب (لعل غرابته تكمن في عدم اتفاقه مع حكمه المسبق المليء بالتعصب).
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١ و ٢ ، ص ٤٥٢ مع شيء من الاختصار.
(٢) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٧١ ، ح ٣٢ ، الباب ٤.
(٣) صحيح الترمذي ، ج ٥ ، ص ٦٣٨ ، ح ٣٧٣٢ (الباب ٢١ باب مناقب علي عليهالسلام).
وأحمد بن حنبل في مسنده (١).
والبيهقي في السنن الكبرى (٢).
والسيوطي في الدر المنثور (٣).
٢ ـ وفي موضع آخر من صحيح الترمذي أيضاً نقل الحديث عن سعد بن أبي وقاص : إنّه لما نزلت آية المباهلة دعا النبي صلىاللهعليهوآله علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام وقال : اللهم هؤلاء أهلي (٤).
والرواية نفسها نقلها الحاكم في «مستدرك الصحيحين» ، وأخيراً يقول : هذا حديث صحيح موافق لمعايير الشيخين (٥).
كما نقله البيهقي أيضاً في السنن الكبرى (٦).
٣ ـ يروي السيوطي في «الدر المنثور» عن «الحاكم» ، و «ابن مردويه» و «أبو نعيم» في «الدلائل» ، عن «جابر بن عبد الله الأنصاري» : لما عزم النبي صلىاللهعليهوآله على مباهلة النصارى ، أخذ في اليوم التالي بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام واتى بهم إلى المباهله ، لكنهم لم يباهلوا ، ثم يضيف جابر : إنّ آية (تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ...) نزلت بحق هؤلاء (٧).
يقول السيوطي : هذا حديث صحيح لدى «الحاكم».
٤ ـ ويروى عن ابن عباس في كتاب الدر المنثور نفسه أنّ وفد نصارى نجران جاء إلى النبي صلىاللهعليهوآله وبعد تفصيله لقصة المباهلة ورجوع نصارى نجران يضيف : كان هذا لما خرج النبي صلىاللهعليهوآله وكان معه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام وقال لهم : إن دعوت أنا فأمنوا أنتم ، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية.
__________________
(١) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ١٨٥.
(٢) السنن الكبرى ، طبقاً لنقل الفضائل الخمسة ، ح ١ ، ص ٢٩١.
(٣) تفسير در المنثور ، ذيل الآية ٦١ من سورة آل عمران.
(٤) صحيح الترمذي ، ج ٥ ، ص ٢٢٥ (الباب ٤ ، ح ٢٩٩٩).
(٥) مستدرك الصحيحين ، ج ٣ ، ص ١٥٠.
(٦) السنن الكبرى ، ج ٧ ، ص ٦٣.
(٧) تفسير در المنثور ، ج ٢ ص ٣٨ ذيل آية البحث (مع الاختصار).
٥ ـ وفي نفس الكتاب يروي عن «ابن جرير» عن «العلباء بن أحمر اليشكري» ، عندما (١) نزلت آية قل تعالوا ندعُ ابناءنا ٠٠٠ ودعا النبي صلىاللهعليهوآله بعلي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهمالسلام واقترح على المخالفين المباهلة فأبوا (٢).
٦ ـ يروي العلّامة الطبري في تفسيره وبسنده عن «زيد بن علي» في تفسير هذه الآية : كان النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (٣).
٧ ـ ويروي في نفس الكتاب أيضاً بسنده عن السديّ في ذيل هذه الآية : أخذ النبي بيد الحسن والحسين وفاطمة وقال لعلي اتبعنا (٤).
٨ ـ يقول العلّامة «أبو بكر الحصاص» وهو من علماء القرن الرابع الهجري في كتاب «أحكام القرآن» في تعبير مفيد بصدد المباهلة : أنّ رواة السير ونَقلةَ الأثر لم يختلفوا في أنّ النبي صلىاللهعليهوآله أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة عليهمالسلام ودعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة (٥).
وعلى ضوء قول الجصاص فإنّ هذه القضية محل إجماع واتفاق علماء الحديث والتاريخ جميعاً.
٩ ـ يقول هذا العالم نفسه في كتاب آخر تحت عنوان «معرفة علوم الحديث» بعد ذكره لقصة المباهلة : قال الحاكم وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أخذ يوم المباهلة بيد عليّ وحسنٍ وحسينٍ وجعلوا فاطمة وراءهم ثم قال : هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا (٦).
هذا جانبٌ فقط من الروايات المتعلقة بقصة المباهلة ونزولها بحق هؤلاء ، ومن الطبيعي أنّ اختلاف هذه الأحاديث في بعض الجزئيات مثل إن كانت فاطمة مع النبي صلىاللهعليهوآله أم أنّها
__________________
(١) تفسير در المنثور ، ج ٢ ، ص ٣٩.
(٢) المصدر السابق.
(٣) تفسير جامع البيان ، ج ٣ ، ص ١٩٢ (وفقاً لنقل احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٧).
(٤) المصدر السابق.
(٥) أحكام القرآن للجصاص ، ج ٣ ، ص ١٤.
(٦) معرفة علوم الحديث ، ص ٥٠ ، (وفقاً لنقل احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٨).
جاءت خلفه ، أم أنّ علياً عليهالسلام كان إلى جانب النبي صلىاللهعليهوآله أم خلفه ، لا يترك أثراً على أصل القضية ، لأنَّ ثمّة اختلاف في نقل جزئيات وفروع ومتعلقات الكثير من الوقائع التاريخية المسلم بها ، مثل معركة بدر ، وخيبر ، والأحزاب ، وفتح مكة ، ومن النادر أن نستطيع العثور على واقعةٍ تاريخية مهمّة تخلو من هذه الاختلافات في مثل هذه الامور الثانوية.
على أيّة حال فالروايات المذكورة وبشهادة جماعة من عظماء أهل السنة كثيرةٌ ومشهورة بحيث وصلت إلى حدّ التواتر ، مع هذا فإنّ من العجب أن يقول صاحب تفسير المنار في ذيل هذه الآية : قال الاستاذ الإمام : الروايات متفقة على أنّ النبي صلىاللهعليهوآله اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة ، وكلمة (أنفسنا) على علي عليهالسلام فقط ، ومصادر هذه الروايات الشيعة! ومقصدهم منها معروفٌ! (١).
وإنّه لمدهشٌ حقاً ، فعندما تتركز قاعدة الحكم المسبق والتعصبات الطائفية يتفوه عالم معروفٌ كمؤلف كتاب المنار بكلام لا يخفى خواؤه على أحد ، هل أنّ «صحيح مسلم وصحيح الترمذي ومسند أحمد من مصادر الشيعة؟ وهل أنّ علماء الشيعة كتبوا سنن البيهقي ، والدر المنثور للسيوطي ، وأحكام القرآن للجصاص ، وتفسير الطبري ، ومستدرك الحاكم»؟
إنّ خطأً بهذا المستوى لا يحصل إلّانتيجة لحجاب التعصب.
فمن ناحية يقول الموما إليه : إنّ الروايات التي نقلت هذا الحديث «متفقٌ عليها» ومن ناحية اخرى يضعها موضع التشكيك.
فاذا كانت كتب مثل صحيح مسلم ، والترمذي ، ومسند أحمد ، وما شابهها بحيث يستطيع الشيعة وضع روايات ودسّها فيها بحيث تغدو متواترة ، فاي قيمة تبقى لهذه الكتب؟ وكيف يتسنى قبول ولو حديثٍ واحدٍ منها؟
وفي واقع الأمر أنّ مؤلف المنار بكلامه هذا أفقد اعتبار المصادر المعروفة لأهل السنّة ، وسلب منها قيمتها بالكامل ، نعم فهو أراد التنكر لفضيلة علي وفاطمة وابنيهما عليهمالسلام بَيدَ أنّه
__________________
(١) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٣٢٢.
وجَه ضربة قاصمة لأصل المذهب السنّي!.
والكلام الوحيد الذي يبقى هنا هو الشبهة التي آثارها المنار وآخرون بصدد «ضمائر الجمع» الموجودة في الآية ، وسنتطرق إليه فيما بعد بشكل مفصل.
أهميّة المباهلة :
إنَّ أول أمر يثير الاهتمام في هذه الآية هو إمكانية طرح قضية المباهلة على أنّها دليلٌ جليٌ على حقانية وصدق النبي صلىاللهعليهوآله في مسألة ادّعائه للرسالة ، لأنّه من المتعذر على الذي لا يملك إيماناً جازماً بصلته بالباري عزوجل أن يدخل مثل هذا الميدان ، أي ليدعو معارضيه أن تعالوا ندعو الله أن يفضح الكاذب ، وأنا اعطي عهداً على أنّ دعائي على أعدائي سيحصل بشكل عملي ، وسترون نتيجة ذلك!
ومن المسلَّم به أنّ دخول مثل هذا الميدان خطير للغاية ، فلو لم يُستَجب الدعاء ولا يظهر أثرٌ من عقاب الخصوم ، فلا تكون هناك نتيجة سوى فشل الداعي ، وأي إنسان عاقل لا يدخل هذا الميدان مالم يطمئن إلى النتيجة.
من هنا نقرأ في الروايات الإسلامية : لما حضر النبي صلىاللهعليهوآله إلى المباهلة استمهله نصارى نجران ليفكروا في الأمر ، وعندما رأوا أنّ النبي صلىاللهعليهوآله اصطحب معه الأشخاص الذين يمكن أن تستجاب دعوتهم ، وحضر إلى المباهلة بعيداً عن المراسيم والضجيج ، اعتبروا ذلك دليلاً آخر على صدق دعوته فانصرفوا عن المباهلة ، لئلا يصيبهم العذاب الإلهي.
فعندما رأوا أنّ النبي صلىاللهعليهوآله جاء بنفر قليل من خاصته وحامته وابنائه الصغار وابنته فاطمة عليهاالسلام ، اضطربوا وذعروا وأبوا المباهلة.
ومن جهة أخرى فانَّ هذه الآية سندٌ واضحٌ على المقام الشامخ لآل النبي صلىاللهعليهوآله ، علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، لأنّ الآية فيها ثلاث كلمات ، «أنفسنا ، ونساءَنا ، وأبناءنا» ، ولا شك في أنّ المراد من «أبنائنا» الإمام الحسن والحسين عليهالسلام ولا اعتراض في ذلك أبداً ، ولا تنطبق كلمة «نساءنا» على أحدٍ سوى فاطمة عليهاالسلام ، وأمّا كلمة «أنفسنا» فمن
المتيقن بأنّها ليست إشارة إلى شخص النبي صلىاللهعليهوآله ، لأنَّ الآية تقول :
ندعُ ... وأنفسنا ، فإن كان المراد هو النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإنّ دعوة الإنسان لنفسه لا معنى لها ، بناء على ذلك فلا يبقى سبيل إلّاأنّ نقول : أنّ المراد هو علي عليهالسلام فحسب.
والملفت للنظر هو أنّ «الفخر الرازي» ينقل في ذيل هذه الآية عن «محمود بن الحسن الحمصي» وهو من علماء الشيعة ، أنّه يثبّت من خلال هذه الآية أنّ علياً أفضل من الأنبياء والصحابة أجمعين بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله. فيقول : ليس المراد بقوله (وأنفسنا) نفس محمّد صلىاللهعليهوآله لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علياً عليهالسلام فدلّت الآية على أنّ نفس علي هي نفس محمّد صلىاللهعليهوآله ، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ....
ثمّ الإجماع دل على أنّ محمداً صلىاللهعليهوآله كان أفضل من سائر الأنبياء عليهمالسلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء عليهمالسلام فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ، ثمّ قال : ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف هو قوله عليهالسلام : «مَنْ أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليهالسلام».
ثمّ يضيف قائلاً : (وأمّا سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أنّ علياً (رضى الله عنه) أفضل من سائر الصحابة ، وذلك لأنّ الآية لما دلت على أنّ نفس علي (رضى الله عنه) مثل نفس محمّد صلىاللهعليهوآله إلّافيما خصّه الدليل وكان نفس محمّد أفضل من الصحابة (رضوان الله عليهم) فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة) (١).
وبعد ايراده لهذا الدليل يمر الفخر الرازي مر الكرام ويكتفي في الجواب قائلاً : (إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً صلىاللهعليهوآله أفضل من علي ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان ، على أنّ النبيّ أفضل ممن ليس بنبيّ واجمعوا على أنّ علياً
__________________
(١) التفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٨١.
(رضي الله عنه) ما كان نبيّاً ، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمّد صلىاللهعليهوآله ، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء عليهمالسلام) (١).
تمعّنوا جيداً في كلام «الفخر الرازي» تجدوا بأنّه في واقع الأمر لا يمتلك جواباً لذلك الاستدلال القوي والمتين ، وكأنّه يريد الكلام لملء الفراغ فحسب ، وإلّا فالقول بأفضلية كل نبي من الأنبياء على من هو غير نبي ليس محل جدالٍ ، لأنّ أفضلية جميع أنبياء الله على غيرهم مسلّم بها في الوحي فقط ، وأمّا في غير الوحي فربّما يكون هناك عظماء أفضل من الأنبياء جميعاً ما عدا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولو غضضنا النظر عن هذا فإنّ الكلام حول أفضلية علي على سائر الامّة ، وهذا الأمر لايحتاج إلى إثبات أفضليته عليهالسلام على سائر الأنبياء (تأملوا جيداً).
على أيّة حال ، فالفضيلة التي تستنتج من هذه الآية والروايات المتواترة التي جاءت تعقيباً عليها تستطيع توضيح قضية خلافة النبيّ صلىاللهعليهوآله لأنّ الله تعالى يأبى أن يكون الأفضل مأموماً وغير الأفضل إماماً ، وأن يكون الذي هو كنفس النبيّ صلىاللهعليهوآله تابعاً ، ومن سواه الذي يليه في المرتبة متبوعاً!!
وفي هذه القضية لا فرق في أن نرى الإمامة مشروطة بتعيين إلهي ـ كما نعتقد نحن أو عن طريق انتخاب الامّة ، كما يعتقد أبناء السنّة ، لأنّه في الحالة الاولى من المحال أن يقدم الله تعالى «المفضول» على «الأفضل» ، وفي الحالة الثانية لا ينبغي للُامّة أن تقدم على فعل يخالف الحكمة ، ولن يكون مقبولاً ومرضياً فيما أقدمت عليه.
مؤاخذاتهم على آية المباهلة :
المؤاخذة المعروفة التي أثارها صاحب المنار والآخرون بصدد نزول الآية بحق أهل البيت عليهمالسلام ، وهي : كيف يتسنى أن يكون المراد من «أبناءنا» الحسن والحسين عليهماالسلام والحال إنّ كلمة «أبناء» جمعٌ ولا يطلق الجمع على المثنى؟ وأيضاً : كيف يمكن اطلاق كلمة
__________________
(١) تفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٨١.
«نساءنا» وهي تفيد الجمع ، على السيدة فاطمة عليهاالسلام فقط؟
وكذا كيف يمكن أن يكون المراد من «أنفسنا» علياً وحده؟ إذ إنّ «انفسنا» صيغة جمع أيضاً ، وعلي عليهالسلام كان واحداً.
الجواب :
في الرد على هذا السؤال نلفت انتباهكم إلى عدّة امور :
١ ـ كما ذكر بالتفصيل فيما سبق فقد وصلتنا روايات كثيرة في العديد من المصادر الإسلامية المعتبرة والمعروفة سواء من الشيعة أو السنّة بصدد نزول هذه الآية بشأن أهل البيت ، حيث صرّح فيها أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لم يصطحب معه إلى المباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، وهذا بذاته سيكون قرينة واضحة لتفسير الآية ، فإننا نعلم أنّ من بين القرائن التي تفسّر آيات القرآن هي (السنّة وسبب النزول القطعي).
على هذا الأساس ، فالمؤاخذة المذكورة لا تثير اهتمام الشيعة فحسب ، بل يجب على علماء الإسلام جميعاً الرد عليها.
٢ ـ إنّ اطلاق (صيغة الجمع ـ على «المفرد» أو «المثنى») ليس أمراً مستجداً ، وكثيراً ما يشاهد هذا المعنى في القرآن وغيره من الأدب العربي وغير العربي.
وتوضيح ذلك هو : كثيراً ما يحصل عند تفصيل قانون ما ، أو تنظيم وثيقة ما ، ايراد الحكم بصيغة العموم أو الجمع ، فمثلاً يدوّنون في الوثيقة أنّ : المسؤول على تنفيذها هم الموقّعون عليها وأبناؤهم ، بينما ربّما يكون لأحد طرفيها ولدٌ واحدٌ أو ولَدَان ، فهذا الموضوع لا يتعارض أبداً مع تنظيم القانون أو الوثيقة بصيغة «الجمع».
خلاصة الأمر لدينا مرحلتان : «مرحلة ابرام العقد» ، و «مرحلة التنفيذ».
ففي مرحلة ابرام العقد تذكر الألفاظ بصيغة الجمع لكي تنطبق على كافة المصاديق ، أمّا في مرحلة التنفيذ فربّما ينحصر المصداق بشخص واحد ، وهذا الحصر في المصداق لا يتعارض وعمومية القضية.
وبعبارة اخرى فقد كان النبيّ صلىاللهعليهوآله مكلّفاً على ضوء العهد الذي كان أبرمه مع نصارى نجران أن يصطحب معه أبناءه ونساءه والذين هم بمنزلة نفسه جميعاً إلى المباهلة ، ولكن لم يكن مصداقاً لهؤلاء سوى ابنين وامرأة واحدة ورجل واحد.
وفي القرآن الكريم لدينا موارد اخرى عديدة بأنّ تأتي العبارة بصيغة الجمع إلّاأنّ مصداقها يختص بشخص واحد لسبب ما ، مثل الآية : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوهُمْ). (آل عمران / ١٧٣)
فالمراد في كلمة الناس في هذه الآية وعلى ضوء تصريح فريق من المفسّرين هو «نعيم بن مسعود» الذي كان قد أخذ الأموال من «أبي سفيان» لِيُرْعِبَ المسلمين من قوّة المشركين!
كما نقرأ في الآية : (لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ انَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحنُ أَغْنِيَآءُ). (آل عمران / ١٨١)
فالمراد من «الذين» في الآية وبناءً على ما صرّح به بعض المفسّرين هو «حي بن اخطب» أو «الفنحاص» ، وأحياناً يشاهد اطلاق كلمة الجمع على المفرد أيضاً من باب الإكبار ، كما نقرأ بشأن إبراهيم : (إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ). (النحل / ١٢٠)
فهنا اطلقت كلمة «امّة» وهي جمع على شخص واحد (وكان لنا بحث مفصّل أيضاً بهذا الصدد).
٣ ـ يُستفاد من آية المباهلة أيضاً أن يقال لأبناء البنت «ابن» على العكس ممّا كان شائعاً في الجاهلية حيث كانوا يعتبرون أبناء الابن فقط أبناءهم ، وكانوا يقولون :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا |
|
بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ |
فهذا النمط من التفكير كان وليداً لتلك السنّة الخاطئة حيث إنّهم لم يكونوا يرون أنّ الانثى عضواً رئيساً في المجتمع البشري ، ويعدونهن أوعية لحمل الأولاد فقط.
كما يقول شاعرهم :
وإنّما امهات الناس أوعية |
|
مستودعاتٌ وللانساب آباءُ |
بيدَ أنّ الإسلام قضى على هذا النمط من التفكير قضاءً مبرماً واجرى حكم الابن على
أبناء الولد والبنت على حدّ سواء.
ونقرأ في القرآن الكريم بشأن أبناء إبراهيم : (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيمنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهرُونَ وَكَذَلِكَ نَجزِى الُمحسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحيَى وَعِيسَى وَإِليَاسَ كُلٌّ مِنَ الصلِحِينَ). (الأنعام / ٨٥ ـ ٨٤)
ففي هذه الآية عدّ المسيح من أبناء إبراهيم والحال أنّه كان ابن من البنت.
وفي الروايات الواردة عن طرق الشيعة والسنّة بحقّ الإمام الحسن والإمام الحسين عليهماالسلام كثيراً ما يلاحظ تكرار اطلاق كلمة «ابن رسول الله».
ونقرأ في الآيات المتعلقة بالنساء اللواتي يحرّم الزواج منهن : (وحلائل أبنائكم ...) ، فهذه المسألة من المسلّم بها بين فقهاء الإسلام حيث إنّ زوجات الأبناء والأحفاد أولاداً كانوا أم بنات محرمات على الشخص ومشمولات بالآية أعلاه.
ومن الامور الجديرة بالاهتمام بشأن آية المباهلة ما ورد في الرواية المشهورة أنّ المأمون العباسي سأل الإمام علياً بن موسى الرضا عليهالسلام : ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب؟ قال : «آية انفسنا» ، قال : «لولا نسائنا» قال : «لولا أبنائنا».
يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الجمل القصيرة :
«آية «أنفسنا» يريد أن الله جعل نفس علي عليهالسلام كنفس نبيّه صلىاللهعليهوآله ، وقوله : لولا نسائنا. معناه : أنّ كلمة نسائنا في الآية دليل على أنّ المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذٍ ، وقوله : لولا أبنائنا ، معناه : أنّ وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه ، فإنّ المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورداً لذكر الأبناء» (١) (تأملوا جيداً).
ونُقلت هذه الحادثة في بحار الأنوار بنحو آخر ، والظاهر أنّ السؤال وجواب الإمام الرضا عليهالسلام عنه كان في موضع آخر ، تقول هذه الرواية : قال المأمون يوماً للرضا عليهالسلام : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليهالسلام يدل عليها القرآن ، فقال له الرضا عليهالسلام : «فضيلة في المباهلة ، قال الله تعالى : (فمن حاجك فيه ...) الآية ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآله الحسن والحسين عليهمالسلام فكانا
__________________
(١) تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ٢٣٠ ـ ذيل آية المباهلة.
ابنيه ، ودعا فاطمة عليهاالسلام فكانت في هذا الموضع نساءَه ، ودعا أمير المؤمنين عليهالسلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل ، فقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله تعالى أجلَّ من رسول الله صلىاللهعليهوآله وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله صلىاللهعليهوآله بحكم الله تعالى ...».
فقال له المأمون : هل بالإمكان أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ، ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين عليهالسلام ما ذكرت من الفضل؟ قال عليهالسلام : «ليس يصحّ ما ذكرت ، وذلك أنّ الداعي إنّما يكون داعياً لغيره ، كما أنّ الآمر آمر لغيره ، لم يدع رسول الله صلىاللهعليهوآله رجلاً في المباهلة إلّاأمير المؤمنين عليهالسلام فقد ثبت أنّه نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه وجعل حكمة ذلك في تنزيله» (١).
* * *
__________________
(١) بحارالأنوار ، ج ١٠ ، ص ٣٥٠ ، مع الاختصار.
٢ ـ آية خير البرية
(انَّ الَّذيِنَ آمَنوُا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الَبِريَّةِ* جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجرِى مِنْ تَحتِهَا الانهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ابَداً رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ). (البيّنة / ٧ ـ ٨)
في هذه الآيات وما قبلها ذكر الله تعالى «خير» و «شر» مخلوقاته ، فهو يصف الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذين يفكّرون بإطفاء نور الله من خلال مختلف الدسائس والمؤامرات ، وهم ضالون ويجرّون الآخرين نحو الضلالة ، بأنّهم شر البرية (١) ، وفي المقابل وصف المؤمنين الذين اكتشفوا طريق الحقّ في ظل إيمانهم وكانوا ولا زالوا مصدراً للأعمال الصالحة ، فبالاضافة إلى أنّهم مهتدون فهم نبراس هداية الآخرين ، على أنّهم «خير البرية».
صحيح أنّ مفهوم الآية واسع وشامل ، ولا يختص بشخص أو أشخاص معينين ، ولكن تمت الإشارة في العديد من الروايات الإسلامية التي جاءت في مصادر الحديث لأهل السنّة والشيعة ، إلى أشخاص يقفون في طليعة (خير البرية) وأفضل مخلوقات الله.
إنّ التمعن في مضمون هذه الروايات بإمكانه ايضاح الكثير من الحقائق التي يلفها الغموض لحد الآن بالنسبة للبعض. وأن يكون رداً على الكثير من الأباطيل النابعة عن الجهل.
__________________
(١) «البرية» من مادة «برء» وتعني الخلق ، لذا يقال لله تعالى «الباري» بمعنى «الخالق» والمخلوقات برية ، وقال البعض ، إنّ «البرية» من «البري» وتعني «التراب» وبما أنّ المخلوقات برئت من التراب فيقال لها «برية» ، وقال البعض أيضاً ، إنّ «البرية» أخذت من «بريت القلم» ونظراً إلى أنّ المخلوقات تأتي إلى الوجود بأمر الله على أشكال مختلفة من حيث الهيئة والقامة كأنّهم يشبهون الأقلام المبراة في مصنع الخلق فيقال لها «برية» (يراجع تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٢٣٥ ؛ ومفردات الراغب وسائر كتب اللغة).
وهنا نلفت انتباه القراء إلى جانب من هذه الروايات :
١ ـ يروي المفسر المعروف «السيوطي» في الدر المنثور عن «ابن عساكر» عن «جابر بن عبد الله» في ذيل هذه الآية : كنّا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله وإذا بعلي قادم نحونا ، ولمّا وقعت عين رسول الله صلىاللهعليهوآله عليه ، قال : «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية) ، فكان أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله إذا أقبل علي عليهالسلام قالوا : جاءَ خَيرُ البَرِيّة» (١).
وجاءت هذه الرواية بنفس المضمون ، في «شواهد التنزيل» للحاكم الحسكاني (٢).
٢ ـ ونقرأ في رواية اخرى عن ابن عباس : لما نزلت آية : (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : «هو أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوّك غضباناً مقمحين» (٣).
٣ ـ جاء في رواية اخرى عن «أبو بريدة» : لمّا قرأ النبيّ صلىاللهعليهوآله هذه الآية ، التفت إلى علي عليهالسلام وقال : «هم أنت وشيعتك يا علي وميعاد ما بيني وبينك الحوض» (٤).
٤ ـ جاء في تفسير الدر المنثور أنّ ابن مردوية يروي عن علي عليهالسلام أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال لي : «ألم تسمع قول الله إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جِئْتُ الامَمُ للحِسابِ تُدَعَوْنَ غُراً محَجَلينَ» (٥).
٥ ـ كما ورد في «شواهد التنزيل» : إن «عطية الكوفي» يقول : دخلنا على «جابر بن عبد الله الأنصاري» وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر فقلنا له : اخبرنا عن علي ، فرفع حاجبيه بيده ثم قال : «ذاك من خير البريَّة» (٦).
__________________
(١) تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٧٩.
(٢) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ح ١١٣٩.
(٣) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ح ١١٢٦ ؛ ونفس المضمون أورده ابن حجر في الصواعق ، ص ٩٦ ؛ والشبلنجي في نور الابصار ، ص ٧٠ و ١٠١ أيضاً.
(٤) المصدر السابق ، ص ٣٥٩ ، ح ١١٣٠.
(٥) تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٧٩.
(٦) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٣٦٤ ، ح ١١٤٢.
٦ ـ يروي الكنجي الشافعي في كفاية الطالب عن عطاء : سألت عائشة عن علي عليهالسلام فقالت : «ذاك خير البشر لايشك فيه إلّاكافر» (١).
ونُقل في نفس الكتاب أيضاً عن «حذيفة» أنّه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «علي خير البشر ، من أبى فقد كفر» (٢).
بديهي أنّ هذه التعابير جميعها ناظرة إلى شخص علي عليهالسلام بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أي أنّه أفضل الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله.
والملفت للانتباه أن الآلوسي المفسر السنّي المعروف الذي يمتاز بتشدد خاص في الروايات الخاصة بفضائل علي عليهالسلام (وطالما أشرنا إلى نماذج من ذلك في هذا الكتاب) وبعد بيانه لجانب مهم من الروايات الواردة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في ذيل هذه الآية ، يقول : «ليس معنى هذه الروايات أنّ هذه الآية تخص علياً عليهالسلام وشيعته ، وإن كانوا داخلين في هذه الآية ويقفون في الصفوف الاولى بلا ريب.
ثمّ يقول : إنّ الإمامية وإن كانوا يعتبرون علياً عليهالسلام أفضل من الأنبياء والملائكة ، إلّاأنّهم يفضلون النبيّ صلىاللهعليهوآله عليه».
وخلاصة القول : إنّ جماعة كثيرة نقلت الروايات المتعلقة بـ «خير البرية» في المصادر الإسلامية المعروفة ، وهي من أجلى الأدلة على افضلية علي عليهالسلام على كافة المسلمين والصحابة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله.
هذا في الوقت الذي ركز أعداء علي عليهالسلام وبسبب عدائهم له أبان عهد بني امية الأسود على كتمان فضائله ، وَكَتَمَ شيعتُهُ فضائله بسبب خوفهم من أولئك المجرمين ، إلّاأنّ هذه الفضائل العظمى قد تجاوزت جميع هذه الحقب ، وبعد كل هذه القرون والاعصار وصلت إلينا بأُعجوبة ، وهذا لم يتحقق إلّاباللطف الإلهيّ.
على أيّ حال ، يستفاد من هذه الروايات بالإضافة إلى الآية الشريفة أمران هما :
__________________
(١) ١. كفاية الطالب ، ص ١١٨ ، طبعة الغري (على ضوء نقل احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٢٨٨).
(٢) المصدر السابق.
١ ـ أفضلية علي عليهالسلام على جميع أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وحيث إنّ تقديم غير الأفضل على الأفضل فعل قبيح وغير مقبول ، فلا يمكن تقديم غيره عليه ، وعليه يجب أن يكون هو أول خليفة لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، سواء كان التنصيب من الله ـ كما تعتقد الشيعة ـ أم من قبل الامّة حيث تعتقد به طائفة اخرى.
٢ ـ الأمر الآخر الذي نحصل عليه من هذه الروايات العديدة هو أن تسمية اتباع علي عليهالسلام بـ «الشيعة» أمر ورد على لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله مراراً ، والذين يعلنون عداءهم لهذه الصفة ، ويتنفرون منها ، وأحياناً يتخذون «الشين» فيها دليلاً على «الشؤم» و «الشر» هم في الواقع قد انبروا إلى معارضة رسول الله صلىاللهعليهوآله ويعربون عن انزعاجهم لكلامه والعياذ بالله ، ومن المسلّم به أنّ فعلهم صعب جدّاً فيما لو صرحوا بكلامهم هذا علانية ، أليس الأفضل أن نقول : «إنّهم كانوا يجهلون هذه الروايات الواردة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله؟».
نعم ، فلقب الشيعة لا يثير الازعاج ، إنّه تاج فخر وضعه رسول الله صلىاللهعليهوآله على رؤوس أتباع مذهب علي عليهالسلام ، طبقاً للكثير من الروايات ، نسأل الله أن نكون أهلاً لهذا الفخر.
* * *
٣ ـ آية ليلة المبيت
نقرأ في الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِى نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ). (البقرة / ٢٠٧)
وردت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية المعروفة في شأن نزول هذه الآية منها :
١ ـ ينقل المفسر السنّي المعروف «الثعلبي» في تفسيره في شأن نزول هذه الآية مايلي :
«لما عزم النبي صلىاللهعليهوآله على الهجرة إلى المدينة ، ترك عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام في مكّة ليؤدّي الديون التي عليه والأمانات إلى اهلها ، وأمرهُ ليلة خرج إلى الغار وقد احاط المشركون بالدار ، أن ينام في فراشه صلىاللهعليهوآله وقال له : اتشح ببردي الأخضر ، ونم على فراشي فانّه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله ، ففعل ذلك علي عليهالسلام فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ، فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما : أَفلا كنتما مثل علي؟ آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوَّه ، فنزلا فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرائيل ينادي بخ بخ من مثلك يا علي بن أبي طالب يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة فأنزل الله على رسوله صلىاللهعليهوآله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي عليهالسلام : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِى نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضاتِ اللهِ).
وقد نقل رواية الثعلبي هذه وبنفس التفصيل كل من الغزالي في إحياء العلوم (ج ٣ ، ص ٢٣٨) والكنجي في كفاية الطالب (ص ١١٤) ... وابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة» (ص ٣٣) و «السبط بن الجوزي الحنفي» في «تذكرة الخواص» (ص ٢١) و «الشبلنجي» في «نور الابصار» (ص ٨٢) (١).
__________________
(١) الغدير ، ج ٢ ، ص ٤٨.
٢ ـ ويروي الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عن «أبو سعيد الخدري» هذا المضمون بشيء من التفاوت (١).
٣ ـ وفي نفس الكتاب «شواهد التنزيل» يروي عن ابن عباس أنّ علياً عليهالسلام كان أول من آمن برسول الله صلىاللهعليهوآله بعد خديجة وارتدى رداءه وبات في فراشه ... (لكنه لم يشر إلى الآية الشريفة في هذه الرواية) (٢).
٤ ـ وفي نفس الكتاب أيضاً يروي هذا المعنى عن «عبد الله بن سليمان» (وفي نسخة عن عبد الله بن عباس) قال : «أنام رسول الله صلىاللهعليهوآله علياً على فراشه ليلة انطلق إلى الغار ، فجاء أبو بكر يطلب رسول الله فأخبره علي أنّه قد انطلق ، فأتبعه أبو بكر وباتت قريش تنظر علياً وجعلوا يرمونه ، فلما أصبحوا إذا هم بعلي ، فقالوا : أين محمّد؟ قال : لا علم لي به ، فقالوا : قد أنكرنا تضورك كنّا نرمي محمّداً فلا يتضور وأنت تتضور ، وفيه نزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِى نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضاةِاللهِ) (٣).
٥ ـ يروي الحاكم النيسابوري في كتابه المعروف «مستدرك الصحيحين» عن ابن عباس أنّ علياً عليهالسلام باع نفسه لله ، وارتدى ثوب النبيّ صلىاللهعليهوآله وبات في فراشه ... وفي نهاية هذه الرواية يقول : هذا الحديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (٤).
٦ ـ في نفس الكتاب يروي عن «حكيم بن جبير» عن «علي بن الحسين عليهالسلام : «إنّ أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله علي بن أبي طالب عليهالسلام» (٥).
ثمّ يضيف : لما أراد علي عليهالسلام المبيت في فراش رسول الله صلىاللهعليهوآله ، كان يردد هذه الأبيات :
وقيتُ بنفسي خير منْ وطىء الحصى |
|
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر |
رسول إله خاف أن يمكروا به |
|
فنجاه ذو الطول الإله من المكر |
__________________
(١) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ١٩٦ ، ح ١٣٣.
(٢) المصدر السابق ، ص ٩٨.
(٣) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ١٠٠.
(٤) مستدرك الصحيحين ، ج ٣ ، ص ٤.
(٥) المصدر السابق.