هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

المحرّم ، فإنّه يسقط الواجب بالإتيان به على الوجه المفروض ، ويصحّ الإتيان بالحجّ ، فكذا في المقام فيكون الإتيان بالخصوصيّة المحرّمة مسقطا للتكليف بإحدى الخصوصيّات المحلّلة ممّا يتوقف عليها أداء الطبيعة ، ويكون الطبيعة الّتي يتوصّل بها إليها واجبة حسنة على نحو الحجّ في المثال المفروض.

قلت : أمّا ما ذكر من منع وجوب المقدّمة فقد عرفت وهنه في محلّه ، مضافا إلى منع كون الخصوصيّة مقدّمة ـ كما سنشير إليه إن شاء الله ـ وأمّا ما ذكر : من اجتماع الواجب الغيري مع الحرمة وإنّه ليس الوجوب هنا على حدّ غيره من أقسام الوجوب. فقد عرفت وهنه ، كيف! والقائل بامتناع اجتماع الوجوب والحرمة إنّما يقول بتنافى مطلق الوجوب والتحريم ـ كما هو مقتضى دليلهم ـ وحينئذ فلا فرق في ذلك بين أقسام الوجوب من الوجوب النفسي والغيري والأصلي والتبعي والعيني والتخييري وغيرها.

نعم هنا كلام بالنسبة إلى اجتماع الوجوب والتحريم الغيري ـ وسيجيء الإشارة إليه ـ وأمّا ما ذكر : من كون الحرام حينئذ مسقطا للواجب من غير أن تكون تلك الخصوصيّة واجبة أصلا.

ففيه أوّلا : انّ الخصوصيّة متّحدة مع الطبيعة بحسب الخارج ، فكيف يعقل كون الخصوصيّة مقدّمة لإيجادها بحسب الخارج مع وضوح قضاء التوقف بمغايرة المتوقّف للمتوقّف عليه في الخارج. وكون الوجوب في أحدهما نفسيّا وفي الآخر غيريّا فرع تغاير الموجودين دون ما إذا اتّحدا ـ كما هو الحال في المقام ـ حسب ما فرض من اتّحاد الطبيعتين في المصداق ، فغاية الأمر مغايرة الخصوصية للماهيّة في التحليل العقلي وهو لا يقتضي كونها مقدّمة لها في الخارج موصلة إليها ، كيف! والوصول إلى الخصوصية المفروضة عين الوصول إلى الطبيعة. فظهر بذلك أنّ دعوى التوقّف الخارجي بينهما غير ظاهرة. وقضيّة اتّحادهما في الوجود وجوب الخصوصيّة بوجوب الطبيعة في الخارج ، ضرورة اتّصاف المتّحد مع الواجب بالوجوب ، فكيف! يقال بعدم وجوب الخصوصيّة أصلا.

٦١

نعم ، غاية ما يقال اختلاف الحيثيّة في الوجوب ، فإنّ الخصوصيّة إنّما يجب حينئذ ، لاتّحادها مع الطبيعة في الخارج لا بملاحظة نفسها بخلاف نفس الطبيعة ، وكذا الحال في تحريم الخصوصيّة بالنسبة إلى تحريم الطبيعة ، وإذا كان الحال على ما ذكر فكيف يعقل القول بوجوب الطبيعة خاصّة وتحريم الخصوصيّة.

وأمّا ثانيا : فبأنّ تسليم حرمة الفرد والمنع منه من غير أن يتعلّق الوجوب به قاض بعدم تعلّق الأمر بالطبيعة من حيث هي ، بل من حيث حصولها في ضمن غير الفرد المذكور ، إذ لو كانت الطبيعة مطلوبة على إطلاقها لزمه وجوب الفرد المذكور من حيث انطباق الطبيعة عليها ـ حسب ما ذكرنا ـ فتكون إذا واجبة قطعا وهذا خلف.

نعم ، غاية الأمر عدم وجوب الخصوصيّة في حدّ نفسها ، ولا ينافي ذلك وجوبها من الجهة المذكورة اللازم من تعلّق الأمر بالطبيعة الحاصلة بها إلّا مع التزام التقييد ـ حسب ما ذكرنا ـ فيثبت به ما اخترناه هذا. ولو قيل بعدم اتّحاد الطبيعتين المفروضتين في الوجود اتّجه ما ذكر من إطلاق ثبوت كلّ من الحكمين لكلّ من الطبيعتين ، إلّا أنّه لا ربط له بالكلام المذكور. وهو أيضا مدفوع بما مرّت الإشارة إليه ويأتي توضيح القول فيه إن شاء الله تعالى.

رابعها : أنّ ما يجب على المكلّف من الأفعال سواء كان من العبادات أو غيرها لابدّ أن يكون فعله راجحا بحسب الواقع على تركه رجحانا مانعا من النقيض ، ولا يمكن اتّصاف شيء من الأفعال بالرجحان على حسب الواقع إلّا إذا كانت جهة رجحانه كذلك خالية عن المعارض أو غالبة على غيرها من الجهات الحاصلة فيه ، إذ لو لا ذلك لم يكن الفعل الصادر عن المكلّف راجحا على عدمه ، بل قد يكون عدمه راجحا على وجوده ، وما يكون كذلك يستحيل أن يكون مرادا للشارع ، مطلوبا حصوله من المكلّف بناءا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين.

فإن قلت : إنّ القدر اللازم في حقيقة الواجب على قواعد العدليّة أن تكون حقيقة الفعل وطبيعته ممّا يرجّح وجودها على عدمها رجحانا مانعا من النقيض ،

٦٢

فرجحان وجود نفس الطبيعة بملاحظة ذاتها كاف في كونها عبادة راجحة ، مطلوبة للشارع وإن انضمّ إليها من القيود والخصوصيّات المرجوحة ما يقابل ذلك الرجحان ، بل ويزيد عليه بحيث يجعل الفرد الحاصل في الخارج مرجوحا ، راجحا عدمه على وجوده رجحانا مانعا من الوجود ، إذ لا ينافي ذلك رجحان نفس الطبيعة المعتبرة في تعلّق الأمر بها.

قلت : إذا كان الأمر على ما ذكر لم يكن الطبيعة الحاصلة في الخارج متّصفة بالرجحان بحسب الواقع ، إذ المفروض انضمام القيود الخارجة عنها إليها ، الباعثة على مرجوحيّة وجودها ، الغالبة على جهة رجحان نفس الطبيعة الحاصلة لها بملاحظة ذاتها ، فيزول عنها الرجحان بسبب انضمام دواعي المرجوحيّة إليها ، إذ ليس ذلك الرجحان من لوازم ذاتها ليستحيل انفكاكه عنها ، بل إنّما يدور مدار الوجوه والاعتبارات الحاصلة لها ، وإذا كانت الطبيعة الحاصلة في الخارج خالية عن الرجحان ـ بل ومرجوحة ـ استحال أن تكون مطلوبة للحكيم ، مرادة له.

فإن قلت : لا ريب حينئذ في رجحان نفس الطبيعة الحاصلة في الخارج بملاحظة ذاتها مع قطع النظر عن الخصوصيّات المنضمّة إليها فليس الرجحان مسلوبا عنها بالمرّة حتّى لا يصحّ تعلّق الأمر بها على قواعد العدليّة ، أقصى الأمر أن تكون المرجوحيّة الحاصلة للخصوصيّة غالبة على رجحانها بعد ملاحظة المعارضة بين الجهتين ، ولا يكون ذلك مانعا من تعلّق الأمر بنفس الطبيعة ، غاية الأمر حصول الجهتين في الفرد ، فيكون المكلّف عند اختياره الفرد المذكور مطيعا عاصيا ، من جهتين إتيان بالراجح والمرجوح كذلك ، فإنّ مكافئة مرجوحيّة الخصوصيّة لرجحان الطبيعة أو غلبتها عليه لا يرفع رجحان أصل الطبيعة ، فالحيثيّتان حاصلتان بحسب الواقع تكون إحداهما مصحّحة للأمر والاخرى للنهي ، فمصادفة جهة المرجوحيّة الحاصلة بسبب الخصوصيّة للرجحان الحاصل بنفس الطبيعة كمصادفة الإتيان بالمحرّم لأداء الواجب مع تعدّد الفعلين بحسب الخارج ، فكما لا يمنع ذلك من تعلّق الأمر والنهي بهما فكذا لا يمنع هذا من تعلّق الأمر والنهي بالجهتين إذا تقارنتا في الوجود بسوء اختيار المكلّف.

٦٣

قلت : رجحان وجود الطبيعة بملاحظة ذاتها لا يستلزم رجحان وجود الطبيعة بحسب الخارج ، فإنّ الأوّل قضيّة طبيعيّة لا يقتضي إلّا ثبوت الحكم المذكور في الاعتبار المفروض ، كما أنّ خيريّة طبيعة الرجل من طبيعة المرأة لا يستلزم خيريّة أفراد الرجل من أفراد المرأة بحسب الواقع.

غاية الأمر أن يقضي بخيريّة جهة الرجوليّة من جهة الانوثيّة ، فثبوت شيء لشيء باعتبار مخصوص لا يقتضي ثبوته له بحسب الواقع ، ألا ترى أنّ قولك «الماء بارد» بملاحظة ذاته وطبيعته لا ينافي كونه حارّا بالعارض بمجاورة النار.

فظهر من ذلك أنّ قياس الفعل الواحد على الفعلين بيّن الفساد ، لوضوح الفرق بين الأمرين. فتبيّن ممّا قرّرنا : أنّ ثبوت الرجحان للطبيعة على الوجه المذكور لا يفيد إلّا كون الرجحان من شأن الطبيعة الموجودة لا ثبوت الرجحان لها بحسب الواقع ، إذ قد يكون في الفرد ما ينافي ذلك.

ومن البيّن : أنّ المعتبر على قواعد العدليّة رجحان الفعل على الترك بحسب الواقع في تعلّق الأمر به ، ومرجوحيّته كذلك في تعلّق النهي ، فبعد اجتماع الجهتين المفروضتين في الفرد إمّا أن يتساويا أو يترجّح جانب الأمر أو جانب النهي ، وعلى كلّ حال فلا يكون واجبا محرّما ـ كما هو مختار القائل باجتماع الأمرين ـ.

فإن قلت : انّ ذلك كلّه إنّما يتمّ مع عروض الرجحانيّة والمرجوحيّة المفروضتين لمعروض واحد. وأمّا مع عروض كلّ منهما لشيء واقترانهما في الوجود بالنسبة إلى الفرد المفروض فلا مانع فيه ، إذ لا مانع من اتّصاف ذات الشيء مثلا بالرجحان واتّصاف بعض أعراضه بالمرجوحيّة من غير تدافع بين الأمرين.

قلت : ليس الحال في المقام على الوجه المذكور ، إذ المفروض اتّحاد الكلّيّين المفروضين في الوجود وبحسب المصداق. وقد نصّ جماعة بتسليمه من المجوّزين للاجتماع وإنّما قالوا : إنّ ذلك لا يقضي بعدم تمايز الطبيعتين في أنفسهما.

قال بعض الأفاضل منهم : إنّ متعلّق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلّق النهي طبيعة

٦٤

الغصب وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد. فإنّ ذلك قاض بتسليمه اتّحاد الطبيعتين في الوجود والمصداق غير أنّه يدّعي أنّ ذلك لا يخرجهما عن كونهما حقيقتين. وقد نصّ الفاضل المذكور بعد ذلك بأنّه لا ريب في تعدّد الطبيعتين مع اتّحاد الفرد وأنّه لا ينتفي إحدى الحقيقتين في الخارج بحسب اتّحاد الفرد ولم يصيرا شيئا ثالثا أيضا ، بل هما متغايرتان في الحقيقة متّحدتان في نظر الحسّ في الخارج.

وأنت خبير : بأنّ اتّحاد الطبيعتين في الوجود لا يخرجهما عن كونهما حقيقتين لكن يخرجهما عن كونهما شيئين في الخارج ، فإذا كان الاتّصاف خارجيّا لم يفد بيان كونهما حينئذ حقيقتين أيضا في إثبات المقصود. فالاستناد إلى ذلك في دفع الإشكال موهون جدّا ، وكذا ما قد يتخيّل من عدم اتّحاد الطبيعتين في المصداق وتعدّدهما بحسب الوجود بناءا على ما هو التحقيق عندهم من عدم إمكان اتّحاد الماهيتين اللتين بينهما عموم من وجه بحسب الموجود ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه ـ فإنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لم يكن بينهما اتّحاد في الخارج أيضا ، وليس في الوجه المذكور ما يفيد خلاف ذلك ، فإنّ أقصى ما يستفاد منه عدم اتّحاد الماهيتين بحسب الذات ، وأمّا مع اتّحادهما في بعض مراتب الواقع فلا مانع منه ، كيف! والاتّحاد بين الشيئين قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض وهو حاصل هنا قطعا ، إذ هو المأخوذ في محلّ النزاع. فإنّ حيثيّة تعلّق الأمر والنهي بالطبيعتين هنا إنّما هي بملاحظتهما على وجه يتّحدان في الخارج. ولذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه ـ حسبما قرّر في بيان محلّ النزاع ـ ومع الغضّ عن جميع ذلك فنقول : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو قلنا بكون الحسن والقبح الحاصلين للأفعال مقصورا على الذاتي المستند إلى ذواتها ، وأمّا لو قلنا باستنادهما إلى الوجوه والاعتبارات أيضا ـ كما هو الحقّ ـ فكون جهة الحسن. أو القبح عارضيّا غير متّحد مع الذات اتّحادا ذاتيّا لا يقضي بعدم عروض الحسّ أو القبح للذات من جهتها ، بل قضيّة ذلك اتّصاف الذات بالحسن والقبح مع كون الجهة عارضية مغايرة للذات كما هو الحال في

٦٥

المقام ، إذ المفروض حسن الكون الواحد وقبحه من الجهتين المفروضتين ، وإن كانت إحدى الجهتين ذاتيّة والاخرى عرضيّة أو كانتا عرضيّتين فلابدّ من ملاحظة المعادلة أو الترجيح بين الجهتين المذكورتين ، فتعدّد الجهتين وتكثّرهما في حدود أنفسهما لا يصحّح اتّصاف الكون الشخصي في المثال المشهور بالحكمين المتضادّين ، فإنّ الكون الّذي يجتمع فيه الجهتان المذكورتان إن كان بملاحظة تينك الجهتين ممّا يتساوى وجوده وعدمه لم يتّصف بوجوب ولا تحريم ، وإن كان تركه راجحا على سبيل المنع من النقيض كان محرّما خاصّة ، وإن كان بالعكس كان واجبا خاصّة ، واتّصافه فعلا بهما معا غير معقول.

نعم يمكن اتّصافه بهما على سبيل الشأنيّة بمعنى اتّصافه بالوجوب بملاحظة الجهة الموجبة خاصّة أو التحريم بملاحظة الجهة المحرّمة من دون ملاحظة لكلّ من الجهتين والمصادفة الحاصلة في البين. فصار المتحصّل أنّ الأمر الحاصل من المكلّف في المقام أمر واحد قطعا ـ كما يشهد به الضرورة ـ وهو الكون الخاصّ في المثال المفروض ، وله حال واحد بحسب الواقع من الحسن والقبح والرجحانيّة والمرجوحيّة بعد ملاحظة ذاته وعوارضه الحاصلة له ـ كما هو قضيّة اصول العدليّة ـ فكيف! يعقل القول بحصول كلّ من الحكمين المتضادّين في المقام بالنظر إلى كلّ من الجهتين. نعم الممكن حصولهما معا بملاحظة القضيّة الطبيعيّة المفيدة لشأنيّة ثبوت الحكم المذكور للكون المفروض لو لا قيام المانع منه وهو خارج عن محلّ الكلام ، إذ قد لا يحصل شيء من الحكمين للفرد المفروض أو يثبت له أحدهما خاصّة من غير أن ينافي ذلك ثبوت كلّ من الحكمين بملاحظة خصوص كلّ من الجهتين مع قطع النظر عن الاخرى ، إذ لا يفيد ذلك سوى شأنيّة ثبوت الحكم المذكور للفرد كما لا يخفى.

قوله : (وتعدّد الجهة غير مجد ... الخ.)

اورد عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ ما لا يجدي في المقام هو تعدّد الجهة التعليليّة ، إذ المانع هو

٦٦

اجتماع المتنافيين في موضوع واحد ، واختلاف العلّة غير مفيد مع فرض الاجتماع. وأمّا تعدّد الجهة التقييديّة فمجد في ذلك ، حيث إنّ ذلك قاض حقيقة بتكثّر الموضوع وتعدّده بحسب الواقع ، والظاهر أنّ الحاصل في المقام من قبيل الثاني ، فإنّ متعلّق الوجوب وموضوعه في المثال المفروض هو مطلق الكون من حيث هو كون مطلق ، ومتعلّق الحرمة وموضوعها هو خصوصيّة الكون وتشخّصه ، وهما أمران يمكن الانفكاك بينهما وقد جمعهما المكلّف بسوء اختياره.

غاية الأمر : أن يكون أحد الموضوعين عارضا للآخر ، فخصوصيّة الغصبيّة عارضة لمطلق الكون ، ومعروضها متعلّق للوجوب ، والعارض المفروض متعلّق للحرمة ، ولا يتصوّر فيه المانع المذكور أصلا ، إذ ليس ذلك من اتّحاد المتعلّق في شيء.

واورد عليه : بأنّ جعل متعلّق الوجوب مطلق الكون خروج عن ظاهر كلام المصنّفرحمه‌الله فإنّ الظاهر من عبارته كون متعلّق الوجوب والتحريم هو الكون الخاصّ ، حيث ذكر أنّ الكون المفروض مأمور به من حيث إنّه أحد أجزاء الصلاة ومنهيّ عنه باعتبار أنّه بعينه الكون في الدار المغصوبة ، فالاتّحاد المفروض في كلامه هو الاتّحاد الشخصي لا الاتّحاد الحاصل بين المطلق والمقيّد.

وفيه : أنّه ليس في كلام المصنّف رحمه‌الله ما يفيد كون متعلّق الأمر بحسب الحقيقة هو الكون الخاصّ ، كيف! والمفروض فيه تعلّق الأمر بمطلق الصلاة فيكون الواجب هو مطلق الكون ، غير أنّ ذلك المطلق لمّا كان حاصلا في ضمن الفرد المفروض كان ذلك الفرد واجبا من حيث حصول الطبيعة في ضمنه وانطباقها معه وكان بعينه محرّما من جهة الخصوصيّة ، ولا بعد في حمل العبارة على ذلك بوجه من الوجوه مع موافقته لما هو الواقع ، إذ الحال في المقام على الوجه المذكور. وحينئذ يرد عليه بعد التأمّل في حقيقة الحال ما ذكره المورد من أنّ وجوب الفرد من حيث حصول الطبيعة به إنّما هو لقيام الوجوب بالطبيعة ، وتحريمه لأجل الخصوصية إنّما هو لقيام الحرمة بالخصوصية ، وهما موضوعان متعدّدان بحسب

٦٧

الواقع ـ حسب ما ذكره ـ ولو سلّم عدم انطباق العبارة عليه فلا يقضي ذلك بدفع الإيراد المذكور ، بل غاية الأمر حينئذ منع ما ادّعاه من تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد عند التحقيق ـ أعني خصوص الكون المفروض ـ وإنّما يتعلّق الأمر بالكون المطلق والنهي بالخصوصيّة حسب ما قرّرناه.

ثمّ إنّه قد يقال : مع الغضّ عمّا ذكر وتسليم تعلّق الأمر والنهي بالكون الخاصّ في الجملة إلّا أنّه لا شكّ في اختلاف جهتي الأمر والنهي ، فإنّ ذلك الفرد إنّما يكون مأمورا به من حيث كونه جزءا من الصلاة ومنهيا عنه من حيث كونه غصبا ، فهناك طبائع ثلاثة مشتركة «كون وصلاة وغصب» حاصلة بالكون المفروض ، وحينئذ فإمّا أن يقال : بكون الفرد المذكور ملتئما من الماهيّات الثلاث المفروضة حتّى تكون تلك الماهيّات متّحدة بحسب الخارج في الشخص المفروض ، أو يقال : بأنّ هناك أفراد ثلاثة للطبائع الثلاث المفروضة متميّزة بحسب الخارج.

غاية الأمر أن يكون بعضها عارضا للبعض بأن يقال ـ مثلا ـ بعروض الصلاة والغصب للكون الخاصّ المفروض ، فذلك الكون من حيث كونه فردا من الكون معروض للأمرين المذكورين ، وهما شيئان متعدّدان بحسب الخارج عارضان له ، لا سبيل إلى الوجه الأوّل لما تقرّر عندهم من استحالة التئام الطبيعة من جزئين يكون بينهما عموم من وجه ـ كما أشرنا إليه ـ فتعيّن الثاني. وحينئذ فيكون معروض الوجوب والحرمة بالذات هو العارضان المذكوران ويتّصف معروضها بالأمرين على سبيل التبعيّة ولا مانع منه ، لعدم كون الاتّصاف حينئذ حقيقيّا. لكنّك بعد التأمّل فيما قرّرنا تعرف ضعف الإيراد المذكور ـ حسب ما مرّ تفصيل القول فيه وسيجيء أيضا مزيد توضيح له إن شاء الله ـ على أنّه قد يقال بكون الجهتين في المقام تعليليتين لا تقييديتين. وتوضيح ذلك في المثال المفروض أنّه لا شكّ في أنّ الحاصل من المكلّف في الخارج كون شخصي خاصّ حاصل في المكان المغصوب وليس الحاصل هناك كونان في الخارج كما يشهد ضرورة الوجدان ، وذلك الكون المفروض متّحد مع الصلاة والغصب معا ، فهو بملاحظة وجوب

٦٨

الصلاة وكونه جزءا منها يكون واجبا ، وبملاحظة كونه عين الغصب وجزئيّا من جزئياته يكون محرّما ، فليس الواجب والحرام حينئذ بحسب الخارج إلّا شيئا واحدا ، وعلى هذا فلا يكون الجهتان المذكورتان إلّا تعليليّتين.

بيان ذلك : أنّ الحيثيّة المعتبرة في الموضوعات قد تكون مميّزة لما اعتبرت فيه بحسب الخارج ، بأن يكون المحيّث بإحدى الحيثيّتين مغايرا في الوجود للمحيّث بالاخرى ، كما في ملاحظة الحيوان من حيث كونه ناطقا ، وملاحظته من حيث كونه ناهقا ، وضرب اليتيم من حيث كونه تأديبا ومن حيث كونه ظلما ، وحينئذ فلا مانع من اتّصاف المحيّث بالحيثيّتين بالمتضادّين من الجهتين المذكورتين لتغاير المتعلّقين وكون الوحدة الملحوظة في الموضوع من قبيل الوحدة النوعيّة وقد مرّ أنّه لا إشكال في جواز اتّصافه بالحكمين المذكورين ، وقد لا يكون مميّزة لذات ما اعتبرت فيه من غيره بحسب الخارج ، بل الذات المحيّثة بالحيثيّتين أمر واحد في الخارج ، وحينئذ فإن ثبت الوصفان المتضادّان لنفس الجهتين فلا مانع أيضا ، كما تقول : إنّ العلم صفة كمال والفسق صفة نقص ولا مانع من قيام الوصفين بموضوع واحد ـ كالعالم الفاسق ـ فيثبت له الكمال بملاحظة الجهة الاولى والنقص بملاحظة الثانية على نحو ما ذكر في الأحكام الثابتة للقضايا الطبيعيّة ، فإنّها تسري إلى أفرادها على الوجه المذكور لا بملاحظة الواقع ، ولو اريد ملاحظة ثبوت الكمال للفرد بحسب الواقع وعدمه فلابدّ من ملاحظة حال الصفتين فإن تساويتا في القوّة فلا كمال في ذلك الفرد بحسب الواقع بعد ملاحظة جميع صفاته ، لتساقط الجهتين وإلّا كان الفرد تابعا للأقوى منهما ، ويجري ذلك بعينه فيما نحن فيه أيضا ، إذ لا مانع من القول بكون الكون المفروض واجبا من جهة كونه جزءا من الصلاة مع قطع النظر عن كونه غصبا ، وكونه محرّما من حيث كونه غصبا مع قطع النظر عن كونه جزءا من الصلاة ، لكن لا يفيد شيء منهما حال الفرد المذكور بحسب الواقع. فإن اريد ملاحظته على الوجه المذكور فلابدّ من ملاحظة حال الجهتين في القوّة والضعف فإن تساوت مصلحة الوجوب والتحريم

٦٩

في القوّة كان الفعل مساويا للترك ، وحينئذ فلا أمر ولا نهي وإلّا تعلّق به ما يتفرّع على الجهة الغالبة ، وإن اريد إثبات الوصفين المتضادّين للمحيّث بتينك الحيثيّتين بحسب الواقع نظرا إلى تعدّد الجهتين كما هو الملحوظ في المقام فهو بيّن الفساد سواء جعل محلّ الصفتين خصوص متعلّق الحيثيّتين أو المحيّث والحيثية معا.

أمّا الأوّل فواضح والحيثيّة حينئذ تكون تعليليّة نظرا إلى كون الحيثيّة المذكورة علّة لثبوت الحكم في المحيّث بها.

وأمّا في الثاني فلقيام الضدّين أيضا بالمحيّث المفروض في الجملة ، ألا ترى أنّه إذا كان الإتيان بالكون المفروض من حيث كونه صلاة واجبا والإتيان به من حيث كونه غصبا حراما ما كان نفس الكون المحيّث بالحيثيّتين مشتركا بين الواجب والحرام بعضا من كلّ منهما ، فيكون واجبا محرّما من حيث كونه محصّلا للواجب والحرام ، على أنّ الكلام في الاتّصاف بالصفات الخارجيّة وهي في الحقيقة عارضة لذوات الموضوعات إذا حصلت معها تلك الحيثيّات ، ألا ترى أنّه لو قال «الماء طاهر والملاقي للنجاسة نجس» لم يكن المقصود بذلك أنّ طبيعة الماء من حيث هي طاهرة وطبيعة الملاقي من حيث هي نجسة ، بل المقصود منه ثبوت الحكم لأفراد الماء وأفراد الملاقي ـ حسب ما عرفت ـ وحينئذ فالمتّصف بالطهارة والنجاسة ذات الماء من حيث كونه فردا من الماء وفردا من الملاقي ، فلا يصحّ اتّصافها بهما واقعا ولو مع تعدّد الحيثيّات والجهات المعتبرة في كلّ من الحكمين.

نعم ، يصحّ اتّصافهما بهما على سبيل الشأنيّة حسب ما يعطيه ثبوت الحكم على سبيل القضيّة الطبيعيّة ـ كما أشرنا إليه ـ إلّا أنّه غير مقصود في هذه المقامات ، فيرجع الحال في هذه الصورة أيضا إلى الصورة الاولى وتكون الحيثيّة أيضا تعليليّة بالملاحظة المذكورة. وكأنّه إلى ما قرّرنا نظر المحقّق الداماد حيث قال قدس‌سره في السبع الشداد : إنّ الوجوب والحرمة من الامور المتضادّة والحيثيّات المتقابلة بالذات فلا يصحّ اجتماعهما في ذات فعل واحد بالشخص كهذا الكون في هذا

٧٠

المكان بحيثيّتين تعليليّتين ، لكونه جزءا من الصلاة المأمور بها وكونه تصرّفا عدوانيّا في الدار المغصوبة ، بل لا بدّ من اختلاف حيثيّتين تقييديّتين يجعل أوّلا نفس ذلك الكون الشخصي الموصوف بالوجوب والحرمة كونين ، ثمّ يعرض الوجوب والحرمة لهما من تلقاء الاستناد إلى تينك الحيثيّتين التقييديّتين انتهى كلامه رحمه‌الله.

قوله : (احتجّ المخالف بوجهين ... الخ.)

قد زاد عليه بعض المتأخّرين وجها ثالثا. وربما يستأنس له بوجوه اخر وسنشير إلى الجميع إن شاء الله.

قوله : (إنّ السيّد إذا أمر عبده ... الخ.)

يمكن أن يقرّر هذه الحجّة :

تارة : بإرجاعها إلى التمسّك بحكم العرف ، فإنّه إذا أمر السيّد عبده بالخياطة ونهاه عن الكون في مكان خاصّ فأتى بها فيه عدّ مطيعا وعاصيا قطعا ، فيدلّ ذلك على حصول الاجتماع فإنّ الإطاعة هنا بموافقة الأمر والعصيان بمخالفة النهي.

واخرى : بإرجاعها إلى التمسّك بحكم العقل ، فإنّه بعد ورود الأمر والنهي على الوجه المذكور يقطع العقل حينئذ بحصول الطاعة والعصيان بالخياطة المفروضة الكاشف عن تعلّق الأمر والنهي به ، وكان هذا هو مقصود المستدلّ ، إذ الوجه الأوّل غير نافع في مقام إثبات الجواز عقلا ، كما هو المفروض في محلّ البحث ، إذ لا يتّجه الاستناد فيه إلى حكم العرف ، لإمكان الغلط في شأنهم بالنسبة إلى الامور العقليّة ، نعم إنّما يصحّ الرجوع إليهم في المداليل الوضعيّة والمفاهيم اللفظيّة ، فيصحّ الاستناد إلى الوجه المذكور بعد إثبات الجواز العقلي عند بيان عدم فهم التقييد عرفا ، وعدم الحاجة إلى حمل أحد الإطلاقين على الآخر وتقييده به حسب ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله.

قوله : (إذ الاتّحاد في المتعلّقين ... الخ.)

قد يقال : إنّ هذا مناف لما مرّ في تحرير محلّ النزاع لتقرير الخلاف هناك

٧١

في تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصي من جهتين ، فما ذكر من عدم تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد في المقام يقضي بخروج ذلك عن محلّ الكلام.

ويدفعه : ما عرفت من أنّ المراد من تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين كون الأمر والنهي بحسب الحقيقة متعلّقا بالجهتين ويكون اجتماعهما في الفرد لأجل حصول الجهتين فيه ، فحصول الاجتماع في محلّ واحد إنّما هو بتلك الملاحظة ، وهذا هو محلّ البحث في المقام ومورد النفي والإثبات ، والمستدلّ بالمنع يتخيّل أنّ ذلك قاض باجتماع الحكمين حقيقة في الفرد المفروض ، والقائل بالجواز يتخيّل عدم اجتماع الحكمين في محلّ واحد في دقيق النظر.

غاية الأمر أن يتراءى الاجتماع في جليل النظر والامتناع الناشئ من حكم العقل إنّما يتبع الحقيقة دون ظاهر الحال ولا اجتماع في المقام بحسب الحقيقة ، لقيام الحكمين حقيقة بنفس الجهتين ، وهما شيئان متعدّدان لا اتّحاد بينهما بحسب الحقيقة كما مرّ الكلام فيه.

نعم لا يجري الدليل المذكور فيما إذا تعلّق الأمر والنهي بنفس الفرد من الجهتين المفروضتين من غير أن يتعلّق الأمر بنفس الجهتين ، فيكون كلّ من الجهتين المفروضتين واسطة في ثبوت الحكم المفروض لا في عروضه ، وقد مرّ أنّ البناء على التطبيق بين الوجهين المذكورين في تحرير محلّ النزاع يقضي بإخراج ذلك عن محلّ البحث ، وقد يجعل الاستناد إلى الدليل المذكور شاهدا عليه كما أشرنا إليه. وممّا قرّرنا يظهر ضعف ما يتوهّم في المقام من : أنّ من يلتزم باختلاف متعلّق الأمر والنهي فيما يتخيّل فيه الاجتماع قائل في الحقيقة بعدم جواز الاجتماع ، فلا خلاف له مع القائل بالمنع في أصل المسألة ، وإنّما كلامه في خصوص الأمثلة ، ولذا تخيّل بعضهم عدّ بعض من هؤلاء من القائلين بمنع الاجتماع ، فليس المخالف في المسألة إلّا من يقول بجواز الاجتماع في الواحد الشخصي من جهتين.

ووهنه ظاهر بعد التأمّل في كلماتهم ، كيف! ومعظم المصرّحين بجواز

٧٢

الاجتماع مصرّحون بما ذكر من اختلاف المتعلّق مستندون إليه ، ولو صحّ ما ذكر لارتفع الخلاف في المسألة بحسب المعنى ولكان البحث في خصوص الأمثلة بأنّ الحال فيها من قبيل الاجتماع أولا؟ وليس كذلك قطعا ، فالمناط في الاجتماع المأخوذ في مورد البحث هو ما ذكرنا دون الاجتماع الحقيقي ، وإنّما يؤخذ ذلك وجودا وعدما دليلا على المنع والجواز فتأمّل.

ثمّ انّ هذا الوجه هو الأصل فيما ذهب إليه القائلون بجواز الاجتماع ، وهو عمدة ما استندوا إليه في المقام ، فلنفصّل القول في بيانه ، وفي دفعه وإن تبيّن الحال فيه ممّا قرّرناه في الاحتجاج على المختار.

فنقول توضيح الاستدلال : إنّ المفروض في محلّ النزاع تعلّق كلّ من الأمر والنهي بطبيعة غير ما تعلّق به الآخر ، فهناك طبيعتان مختلفتان يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى. غاية الأمر أن يكون المكلّف أوجدهما في مصداق واحد وقارن بينهما في الوجود بسوء اختياره ولا مانع من ذلك لا من جهة : قيام الضدّين بأمر واحد ، إذ المفروض قيام الحكمين بالطبيعتين وهما أمران لا اتّحاد بينهما في لحاظ الطبيعة الذي هو المناط في تعلّق التكليف به ، فإنّ المكلّف به هو الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط شيء ـ حسب ما قرّر في محلّه ـ وهما متغايران بهذا اللحاظ قطعا لا اتحاد بينهما أصلا ، ألا ترى في المثال المشهور أنّه لا يصير طبيعة الصلاة غصبا ولا طبيعة الغصب صلاة؟ غاية الأمر أنّهما يتصادقان على مصداق واحد. ومن ذلك يظهر أنّه لا مانع من صدور الإرادتين من المكلّف أيضا ، نظرا إلى اختلاف المرادين. ولا من جهة : لزوم إرادة القبيح من الحكيم ، لعدم تعلّق الأمر إلّا بالطبيعة الراجحة الخالية عن الوجوه المقبّحة. ولا من جهة : لزوم التكليف بالمحال ، ضرورة إمكان الانفكاك بين الأمرين ، وإنّما جمع المكلّف بينهما بسوء اختياره.

وقد يقرّر الاحتجاج المذكور بوجه آخر قد مرّت الإشارة إليه أيضا وهو : أنّه قد تقرّر في محلّه أنّ الطبيعتين اللتين بينهما عموم من وجه لا يمكن اتّحادهما

٧٣

بحسب الوجود ، لأنّ مصداق كلّ منهما يغاير مصداق الآخر عند التحقيق ، وإذا كان الحال في الطبيعتين المفروضتين في المقام على الوجه المذكور فلا اجتماع للأمر والنهي بحسب الحقيقة ليلزم قيام الوجوب والتحريم بشيء واحد ، لاختلاف المتعلّقين بحسب الوجود. غاية الأمر حصول اتّحاد بينهما بالعرض على بعض الوجوه ، والمفروض انفكاك كلّ من الطبيعتين عن الاخرى وانتفاء الملازمة بينهما ، وكون الجمع بينهما من سوء اختيار المكلّف فلا يلزم التكليف بالمحال أيضا.

والجواب أمّا عن التقرير الأوّل فبما عرفت : من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هو الطبائع من حيث الوجود ، إذ لا يعقل طلب نفس الماهية من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود ، فتغاير الماهيتين في حدود أنفسهما لا يفيد شيئا في المقام مع اتّحادهما في الوجود الذي هو مناط التكليف ومتعلّقه ، ومع الغضّ عنه فليس الوجوب والحرمة وأخواتهما إلّا (١) من عوارض الوجود لا من عوارض الماهية ، فلا يتّصف بها الماهية إلّا من حيث وجودها في الخارج إمّا محقّقا أو مقدّرا ، والمفروض اتّحاد الماهيتين بالنظر الى الوجود الّذي هو مناط الاتّصاف.

فإن قلت : إنّ المطلوب إنّما هو وجود الماهيّة دون الخصوصيّة ، والمفروض رجحان وجود الماهيّة على عدمها وإن لم يكن الإتيان بالماهيّة الاخرى راجحا بل كان مرجوحا ، فالوجود المفروض إذا قيس الى الماهيّة الراجحة كان راجحا على عدمه ، وإن قيس إلى الماهيّة الاخرى كان بالعكس ، فأيّ مانع حينئذ من اجتماع الراجحيّة والمرجوحيّة على الوجه المذكور في شيء واحد نظرا إلى اختلاف الجهتين.

قلت : من البيّن امتناع اتّصاف الوجود الواحد بالرجحان والمرجوحيّة بحسب الواقع وإن أمكن حصول الجهتين المذكورتين فيه. فغاية الأمر رجحانه بالنظر إلى إحداهما ومرجوحيّته بالنظر إلى الاخرى وهذا غير رجحان إيجاده على عدمه ومرجوحيّته بحسب الواقع، إذ لابدّ حينئذ من ملاحظة النسبة بين

__________________

(١) في (ق) لا من عوارض الوجود ولا من عوارض الماهيّة.

٧٤

الجهتين والأخذ بالراجح أو الحكم بالمساواة كيف! ولو جاز حصول الوصفين في الواقع نظرا إلى اختلاف الجهتين فإمّا أن يتفرّع عليها التكليف بالإيجاد والترك معا فيلزم التكليف بالمحال أو يتعلّق بأحدهما فلا اجتماع للحكمين.

فإن قلت : إنّا نقول بوجوب إيجاد الطبيعة المطلقة من غير أن يتعلّق الوجوب بشيء من خصوصيّات أفرادها ، إذ لا يتعلّق الأمر بشيء منها على ما حقّق في محلّه.

أقصى الأمر : أنّه لمّا توقّف إيجاد الطبيعة على إيجاد واحد من الأفراد ـ إذ لا يمكن إيجاد الكلّيات إلّا بإيجاد أفرادها ـ كان الإتيان بأحد الأفراد واجبا من باب المقدّمة ، وهي تحصل في ضمن الحرام أيضا ، سواء قلنا بإمكان اجتماع الوجوب التوصّلي مع الحرام أو قلنا بقيام الحرام مقام الواجب منها ، فيكون الإتيان بالمحرّم مسقطا للتكليف المتعلّق بالمحلّل ، لحصول التوصّل بالحرام ـ كما هو المختار حسب ما مرّ القول فيه ـ وحينئذ نقول بتحريم الفرد المفروض وحصول التوصّل به إلى أداء الطبيعة الواجبة. كذا يتلخّص من كلام بعض الأفاضل في المقام.

قلت : لا ريب أنّ الماهيّة متّحدة مع الفرد بحسب الخارج ، وليس الإتيان بالفرد في الخارج إلّا عين الإتيان بالطبيعة ، وليس الامتياز بينهما إلّا في تحليل العقل ، فكيف! يعقل أن يكون مقدّمة موصلة إليه بل ليس الإتيان بالفرد إلّا عين الإتيان بالطبيعة ، فيكون ذلك أداءا لنفس الواجب. غاية الأمر أنّ عنوان الخصوصيّة إذا ميّز في نظر العقل من عنوان الطبيعة لم يحكم بوجوبه لنفسه ، بل من حيث اتّحاده مع الواجب في الخارج إذ توقّف حصول الواجب في الخارج على اتّحاده معه ، وكون الشيء بالنظر إلى بعض عناوينه مقدّمة لعنوانه الآخر في لحاظ العقل لا يقضي بكون وجوب ذلك الشيء في الخارج من باب المقدّمة حتّى يمكن القول بصحّته وسقوط الواجب بأدائه ، إذ قد يكون ذلك الشيء بعينه واجبا نفسيّا بملاحظة صدق ذلك العنوان عليه ، ولا يمكن الحكم بتحريمه كما هو الحال بالنسبة

٧٥

إلى الطبيعة والخصوصية ، بل قد يكون الشيء بملاحظة بعض عناوينه مباحا أو مكروها ـ مثلا ـ ويكون بملاحظة عنوان آخر واجبا ، فحينئذ لا يصحّ القول بإباحته في الواقع ، لوضوح غلبة جهة الوجوب على جهة الإباحة ، فيتّصف الفعل بالوجوب بحسب الواقع كما هو الحال في جميع الواجبات لعدم وجوبها بجميع العناوين الصادقة عليها وهو ظاهر.

والحاصل : أنّه لا مجال للقول بكون الإتيان بالفرد إتيانا بالمقدّمة الموصلة إلى الواجب لا أداءا لنفس الواجب ، بل ليس إتيانا بعين الواجب لكن بملاحظة كونه الطبيعة المأمور بها ، كيف! ولو لا ذلك لما كان الصادر عن المكلّفين إلّا المقدّمات دون نفس الواجبات ، إذ ليس الحاصل منهم في الخارج إلّا الأفراد. وهو واضح الفساد. وحينئذ فتسليم حرمة الفرد في المقام والحكم بعدم وجوبه مع الحكم بأداء الطبيعة الواجبة واتّصافها بالوجوب كما ترى.

ومن العجيب! ما ذكره الفاضل المذكور في المقام حيث قال : قلت كاشفا للحجاب عن وجه المطلوب ورافعا للنقاب عن السرّ المحجوب : إنّه لا استحالة في أن يقول الحكيم : هذه الطبيعة مطلوبتي ولا أرضى إيجادها في ضمن هذا الفرد لكن لو عصيتني وأوجدتها فيه اعاقبك لما خالفتني في كيفيّة الإيجاد لا لأنّك لم توجد مطلوبي ، لأنّ ذلك الأمر المنهيّ عنه خارج عن العبادة ، فهذا معنى مطلوبيّة الطبيعة الحاصلة في ضمن هذا الفرد لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد. فقد أسفر الصبح وارتفع الظلام فإلى كم قلت وقلت ومن ذلك يظهر الجواب عن الإشكال في نيّة التقرّب ، لأنّ قصد التقرّب إنّما هو الإتيان بالطبيعة لا بشرط الحاصلة في ضمن هذا الفرد الخاصّ ، لا بإتيانه في ضمن هذا الفرد الخاصّ المنهيّ عنه انتهى كلامه رفع مقامه.

فإنّه بعد تسليم كون إيجاد الطبيعة في ضمن الفرد المفروض عصيانا باعثا على استحقاق العقاب لا يعقل القول بكون الطبيعة الحاصلة في ضمنه مطلوبة للآمر مرادة له ، فإنّه إن كان إيجاد تلك الطبيعة بأيّ إيجاد كان مطلوبا له لم يتصوّر

٧٦

معه القول بحرمة الإيجاد المفروض والمنع منه ، وإن لم يكن ايجادها كذلك مأمورا به بل كان المطلوب إيجادها بغير الإيجاد المفروض لم يعقل القول بحصول الامتثال بالإيجاد المفروض ولو من جهة حصول الطبيعة به ، إذ ليس ذلك الإيجاد حينئذ إلّا عصيانا محضا لا يشوبه شائبة الطاعة والانقياد.

فإن قلت : ليس المقصود شيء من الوجهين المذكورين بل المدّعى كون المطلوب إيجاد نفس الطبيعة لا بشرط العموم ولا التخصيص. ولا شكّ في حصول اللا بشرط في ضمن الفرد المذكور ، فأيّ مانع من حرمة ذلك الإيجاد الخاصّ ومطلوبيّة مطلق إيجاد الطبيعة اللا بشرط ، فيكون الآتي بذلك الخاصّ مطيعا بالنظر إلى الإتيان بالطبيعة اللا بشرط عاصيا من جهة الخصوصيّة. وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله : فهذا معنى مطلوبيّة الطبيعة الحاصلة في ضمن الفرد لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد. وقوله : إنّ قصد التقرّب إنّما هو في الإتيان بالطبيعة لا بشرط الحاصلة في ضمن هذا الفرد لا بإتيانه في ضمن هذا الفرد الخاصّ.

قلت : إنّ ما ذكر خيال ظاهري لا يكاد يعقل حقيقته بعد التأمّل فيه.

فإنّه إن اريد بذلك بقاء مطلوبية الطبيعة اللا بشرط على حالها مع فرض مطلوبيّة ترك إيجادها على الوجه الخاصّ.

فهو واضح الفساد ، ومن البيّن أنّه مع عدم مطلوبيّة إيجادها على الوجه الخاصّ يكون المطلوب إيجادها على غير ذلك الوجه ، فلا يكون اللا بشرط مطلوبا ، بل يكون المطلوب مشروطا على خلاف ما هو المفروض ، وحينئذ فلا يعقل حصول الامتثال مع إتيانه بغير مطلوب الآمر.

وإن اريد به أنّ مطلوبيّة الطبيعة ـ وإن قيّدت بإيجادها على غير الوجه المذكور ـ لا تفيد عدم مطلوبيّة الإتيان بأصل الطبيعة الراجحة بالإيجاد المفروض ، إذ قد يكون ذلك من جهة المرجوحيّة الحاصلة في الخصوصيّة ، فرجحانيّة الطبيعة ومطلوبيّتها من حيث هي على حالها إلّا أنّ الجمع بين ذلك والاجتناب عن المرجوحيّة الحاصلة لأجل الخصوصيّة يقتضي تقييد الأمر

٧٧

بإيجاد الطبيعة بغير الصورة المفروضة ، فلا يدلّ ذلك على عدم مطلوبيّة أصل الطبيعة ، فلو فرض أنّه عصى بإقدامه على الإيجاد المفروض فإنّما يكون عاصيا من جهة إقدامه على الخصوصيّة المرجوحة لا بتركه إيجاد أصل الطبيعة.

فهو أيضا فاسد ، فإنّه بعد تقييد الأمر المتعلّق بالطبيعة بغير الصورة المفروضة لا يعقل وجه لحصول الامتثال بأدائها ، وكون النهي المتعلّق بها لا من جهة ملاحظة نفس الطبيعة بل لأجل الخصوصيّة لا يفيد شيئا في المقام ، إذ لا يعتبر في تحريم الفعل أن تكون العلّة في تحريمه ذات ذلك الفعل ، بل لا إشكال في صحّة اتّصافه بالتحريم لعلّة خارجة عن ذاته ـ كما في كثير من المحرّمات ـ فإنّ التحسين والتقبيح غالبا إنّما يكون بالوجوه والاعتبارات ومنه المفروض في المقام ، وحينئذ فكيف! يعقل حصول الامتثال مع تقييد الأمر المتعلّق بالطبيعة بالنهي المفروض إلّا أن لا يلتزم حينئذ بتقييد الأمر ، بل يقول بتعلّق الوجوب والتحريم معا بالإيجاد المفروض بالنظر إلى اختلاف الجهتين ـ أعني بملاحظة كونه إيجادا للطبيعة المطلقة وكونه إيجادا للخصوصيّة ـ وهو مع وضوح فساده للزوم اجتماع الضدّين في محلّ واحد مخالف لما هو بصدده من البيان ، فإنّه أراد بذلك دفع لزوم اجتماع الضدّين ـ أعني الوجوب والتحريم في شيء واحد ـ بالتزام حصول التحريم خاصّة في المقام دون الوجوب وإن حصل به أداء الواجب حسب ما زعمه.

وأمّا الجواب عن التقرير الثاني فمن وجوه :

أحدها : انّ الطبائع المقرّرة في الشريعة ك «الصلاة والغصب» في المثال المفروض من الامور الاعتبارية : بحسب الخارج لا وجود لها إلّا بوجود ما ينتزع منها ، والمفروض اتّحاد ما ينتزع منه الأمران المذكوران في الوجود ، فإنّ نفس الكون في المكان المغصوب ينتزع منه الصلاة والغصب وإن كانت حيثيّة كونه صلاة مغايرة بالاعتبار لحيثيّة كونه غصبا ، فليس للصلاة وجود متميّز من الغصب ، بل الحاصل من المكلّف في الخارج أمر واحد هو الكون المفروض وينتزع منه الأمران المذكوران ، فكلّ من الأمرين المذكورين في وجوده الاعتباري مغايرا

٧٨

للآخر ، لكن لا وجود لشيء منهما في الخارج استقلالا ، وإنّما الموجود هناك منشأ انتزاع الأمرين. فالطبيعتان المفروضتان متّحدتان بحسب الوجود الخارجي التبعي نظرا إلى اتّحاد ما ينتزعان منه ، ولمّا عرفت أنّ المكلّف به هو إيجاد الماهيّة وترك إيجاده لزم اجتماع المتنافيين في تكليفه بإيجاد منشأ انتزاع الأمرين وتركه له. ألا ترى أنّه لو قال «ايتني بواحد من القوم ولا تأتني بالفاسق» لم يمكن إبقاء التكليفين على إطلاقهما ، فإنّ المأمور بالإتيان به والمنهيّ عنه بحسب الحقيقة إنّما هو من ينتزع منه الوصفان المذكوران ، لا مجرّد الإتيان بالواحد من حيث إنّه واحد. ومفهوم الفاسق من حيث هو ، فمجرّد تغاير الوحدة للفسق بحسب الاعتبار لا ينفع في المقام مع اتّحادهما في الخارج بحسب ما ينتزعان منه.

ويرد عليه : أنّ منشأ انتزاع الأمرين المذكورين وإن كان أمرا واحدا في الخارج إلّا أنّ كلّا منهما مغاير للآخر بحسب وجوده الضعيف الاعتباري ، إذ من البيّن أنّ انتزاع العقل لشيء من شيء يتفرّع على نحو وجود لذلك الشيء في المنتزع منه ، وإلّا لكان الانتزاع بمحض التعمّل من غير أن يكون له حقيقة أصلا.

ومن البيّن أيضا أنّ ذلك الوجود ليس عين وجود المنتزع منه بملاحظة ذاته بل هو من توابعه ولواحقه. فإذا تقرّر ذلك ظهر أنّ اتّحاد منشأ انتزاع الأمرين لا يقضي باتّحادهما بحسب الوجود الخارجي ليكون وجود منشأ انتزاعهما عين وجود الأمرين المذكورين في الخارج.

نعم غاية الأمر : أن يكون وجودهما تابعا لوجوده فإذا كان هناك شيئان موجودان في الخارج ولو بحسب الوجود الضعيف فأيّ مانع من قيام الضدّين بهما نظرا إلى تغاير محلّهما ، أقصى الأمر توقّف وجودهما على وجود ما ينتزع منه ولا ربط له بلزوم المانع المذكور. نعم يتمّ الكلام المذكور على قول من يرى عدم وجود الامور الاعتباريّة في الخارج أصلا ويجعل وجودها في الخارج بمعنى وجود ما ينتزع منه ، فيرجع التكليف بإيجادها عنده إلى التكليف بإيجاد ما ينتزع منه وحينئذ يتمّ المدّعى.

٧٩

ثانيها : أنّ التكاليف المتعلّقة بالطبائع المنتزعة من الأفعال إنّما يتعلّق حقيقة بتلك الأفعال الّتي ينتزع منها الطبائع المفروضة ، لا بمجرّد تلك الطبائع من حيث هي. فمفاد الأمر بالصلاة هو الإتيان بالفعل الّذي ينتزع منه تلك الطبيعة ، فالمطلوب هو نفس الحركات والسكنات ـ مثلا ـ الصادرة عن المكلّف نظرا إلى انتزاع الصلاة منها ، لا أنّ المأمور به هو تلك الامور المنتزعة من غير أن تكون نفس الأفعال الصادرة مطلوبة للآمر وإنّما تكون مطلوبة تبعا من جهة إيصالها إلى المطلوب ، نظرا إلى قيام المطلوب بها وتبعيّته لوجودها ، بل هي مطلوبة بعين مطلوبيّة الفعل المنتزع منها ، وفهم العرف أقوى شاهد على ذلك. ألا ترى أنّه لو قال «ايتني بأخي زيدا وبأبي عمرو» كان المفهوم منه هو الإتيان بالذات الّتي ثبت له المفهوم المذكور ـ أعني المضاف المشهوري دون المضاف الحقيقي ـ وحينئذ فنقول : إنّ ما ينتزع منه المأمور به والمنهيّ عنه أمر واحد في الخارج وقد عرفت تعلّق الطلب به فعلا وتركا فيلزم اجتماع الضدّين بالنسبة إليه حسب ما قرّرناه.

ثالثها : أنّ المفروض في محلّ البحث كون النسبة بين الطبيعتين هو العموم من وجه ، وقضيّة ذلك اجتماع الطبيعتين المفروضتين في المصداق ، كيف! ولو لم تجتمعا في المصداق وكان مصداق كلّ منهما مغايرا للآخر لكانت النسبة بينهما تباينا كلّيا هذا خلف. فتغاير كلّ من الطبيعتين للآخر بحسب الوجود بملاحظة ذاتها حسب ما قرّر لا ينافي اتّحادهما ولو بالعرض من بعض الوجوه ، ألا ترى أنّ الحيوان والأسود يصدقان على شيء واحد ويحملان عليه مع كون مفاد الحمل هو الاتّحاد في الوجود ، ولا ينافيه كون وجود ذلك المصداق في نفسه مغايرا لوجود السواد في نفسه ـ أعني الأسود بما هو أسود ـ فهناك جهة اتّحاد في الخارج وجهة مغايرة ، وإنّما يصحّ الحمل بملاحظة الجهة الاولى دون الثانية ولذا لا يصحّ حمل السواد على الجسم ويصحّ حمل الأسود عليه.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّ ما يتعلّق به الأمر والنهي من الماهيّات الملحوظة في المقام إنّما اعتبرت بالجهة الاولى ، إذ المفروض كون النسبة بين المأمور به

٨٠