هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

ودعوى كون التراجيح مبنيّة على الظنون دون التعبّد لا يراد به حصول الظنّ بالواقع ، بل المقصود كون الخبر المشتمل على الرجحان في حدّ ذاته أقرب إلى مطابقة الواقع ، فإنّه إذا كان أقوى من حيث الصدور أو من حيث الدلالة كان بالترجيح أحرى وإن كان مساويا لما يترجّح عليه في عدم إفادته الظنّ بالواقع إلّا أنّ جهات الشكّ في إصابة الواقع قد تتّحد وقد تتعدّد ، والجهات المتعدّدة قد تكون أقلّ وقد تكون أكثر ، وحصول الترجيح بين الوجوه المفروضة ظاهر مع اشتراك الكلّ في عدم إفادة الظنّ بالواقع ، وكون المكلّف مع ملاحظتها في مقام الشكّ في الإصابة نظر إلى حصول الجهة المشكّكة متّحدة كانت أو متكثّرة. ومن هنا يعلم إمكان حصول الترجيح بين الأخبار مع إفادتها للظنّ وسنفصّل القول في ذلك إن شاء الله في محلّه. وليس المقصود ممّا قرّرنا المنع من حصول الظنّ بالواقع كلّيا ، بل المراد عدم استلزامه له وعدم إناطة الحجّية بحصول المظنّة وإن حصل منه الظنّ بالواقع في بعض الأحيان. ويؤيّد ما ذكرناه أنّه قد يقوم في المقام أمارات ظنّية كالشهرة أو القياس أو عدم ظهور الخلاف ونحوها ممّا يفيد ظنّا بالحكم غير معتبر شرعا في مقابلة الخبر الصحيح ونحوه من الأدلّة المعتبرة. ولا شكّ حينئذ في عدم حصول الظنّ من الدليل لاستحالة تعلّق الظنّين بالمتقابلين في آن واحد عدم سقوط الدليل بذلك عن الحجّية ، والقول بأنّ قيام الدليل على عدم حجّية تلك الوجوه قاض بعدم حصول الظنّ منها كما يستفاد من بعض الأجلّة ممّا لا يعقل وجهه.

ـ ثالثها ـ

أنّ مدار حجّية الأدلّة الشرعيّة حصول العلم منها واليقين دون مجرّد الظنّ والتخمين ، سواء كانت مفيدة للعلم ابتداء أو بواسطة أو وسائط ، فلا عبرة بما إذا حصل منها الظنّ من حيث هو ظنّ من دون انتهائه إلى اليقين.

ويدلّ عليه العقل والنقل ، إذ من البيّن استقلال العقل في إيجاب دفع الضرر عن النفس سيّما المضارّ الاخرويّة لعظمها ودوامها ، فلابدّ من تحصيل الاطمئنان

٣٢١

بارتفاعها والأمن من ترتّبها ، ولا يحصل ذلك بمجرّد الظنّ ، لقيام الاحتمال الباعث على الخوف ، وأنّ الأخذ بطريق الظنّ ممّا يغلب فيه عدم الانطباق ويكثر فيه الخطأ فلا يؤمن مع الأخذ به من ترتّب الضرر.

كيف؟ ولو لا ذلك لما قامت الحجّة للأنبياء على الرعيّة ، إذ بمجرّد ادّعاء النبوّة ودعوى إقامة المعجزة لا يحصل إلّا خوف الضرر مع المخالفة وعدم الاستكشاف عن حقيقة حاله ، فلو لا حكم العقل إذن بوجوب ذلك لجاز لهم عدم الالتفات إلى كلامه وترك الظنّ مع معجزته فلا يتمّ الحجّة عليهم. والحاصل أنّ ذلك من الامور الواضحة الّتي تشهد بها الفطرة السليمة على سبيل الوضوح. ثمّ إنّ في عدّة من الآيات الكريمة دلالة عليه على ما قرّرناه من المنع من الأخذ بالظن كذلك.

وفي عدّة من الآيات الكريمة دلالة عليه.

والقول بورودها في الاصول دون الفروع فلا تدلّ على عدم جواز الاستناد إليها في الأحكام ، وأنّ الأخذ بذلك أخذ بالظنّ في عدم جواز الأخذ بالظنّ فيدور مدفوع.

أمّا الأوّل : فبأنّ جملة من تلك الآيات إنّما وردت في الفروع وإنّما المستفاد منها إعطاء القاعدة في عدم الاكتفاء بالظنّ في تحصيل الحقّ ، بل هي واردة في مقام الإنكار على الكفّار وذمّهم في اتّكالهم على الظنون والاحتجاج عليهم بحكم العقل بقبحه ، فهو استناد إلى ما هو مرتكز في العقول من عدم جواز الاعتماد على الظنّ والتخمين في امور الدين مع عظم خطرها وشدّة الضرر المتفرّع عليها ، فالمقصود إقامة الحجّة عليهم بمقتضى عقولهم لا بالنصّ المتوقّف على صدقه ليدور الاحتجاج ، ولا يكون وقع لإيراد الذمّ عليهم مع عدم ظهور قبح ما ارتكبوه إلّا من جهة نصّه (١) فيكون ذلك شاهدا شرعيّا على صحّة ما وجدناه من حكم العقل بقبح الأخذ بالظنّ ، فاحتمال طروّ التخصيص عليه ساقط جدّا مضافا إلى أخذه كبرى في القياس ، فلا يراد به إلّا الكلّية ليتمّ الاحتجاج.

__________________

(١) في «ف» و «ق» : ذمّه.

٣٢٢

وأمّا الثاني : فبعد تسليم عدم اقتضاء المقام نصوصيّتها في الدلالة بأنّ دلالة الظواهر على عدم حجّية الظنّ كافية في المقام ، إذ لا يخلو الواقع عن أحد الأمرين من حجّية وعدمها. وعلى التقديرين فالمطلوب ثابت ، إذ الثاني عين المقصود والأوّل قاض بصحّة الاستدلال (١) ، وأيضا كيف يمكن الحكم بالتعبّد بمجرّد الظنّ مع اقتضاء الظنّ عدم حجّيته؟ فلو كان الظنّ حجّة لم يكن حجّة لاندفاعه بنفسه ، وكون حصول الحجّية مقتضيا لعدمها.

وما يتوهّم حينئذ من لزوم مراعاة أقوى الظنّين من الظنّ المتعلّق بالحكم والمتعلّق بعدم حجّية ذلك الظنّ فاسد ، إذ لا معارضة بينهما لاختلاف متعلّقيهما ، فإنّ الأوّل إنّما قضى بثبوت الحكم على نحو غير مانع من النقيض ، والثاني إنّما قضى بعدم حجّية ذلك الظنّ كذلك وعدم الاعتداد به في الفتوى والعمل ، وأيّ منافاة بين ذينك الظنّين حتّى يلزم الأخذ بأقواهما؟ فلا معارض أصلا للظنّ القاضي بعدم حجّية الظنّ فلابدّ من الأخذ به على فرض حجّية الظنّ ولو كان أضعف من الأوّل بمراتب.

نعم إن دلّ دليل على حجّية الظنّ حصل المعارضة بين ذلك الدليل وهذه الظواهر ، وهو كلام آخر لا ربط له بالمقام.

ثمّ إنّ في الأخبار الكثيرة دلالة على وجوب تحصيل العلم وعدم الاكتفاء بغيره كالروايات الآمرة بالتعلّم ومعرفة الأحكام والدالّة على توقّف العمل على العلم ، والروايات المشتملة على النهي عن الحكم بغير العلم والأخذ بالظنّ ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع. ولا يبعد دعوى التواتر (٢) فيها بعد ملاحظة الجميع. وفي ملاحظة الطريقة الجارية بين العلماء من الصدر الأوّل إلى الآن من مطالبة الدليل على حجّية ما يدّعى من الظنون وعدم الاكتفاء بكونه مظنّة كفاية في ذلك ، فإنّه لا زالت العلماء مطبقة عليه في جميع الأعصار والأمصار. ومن ادّعى حجّية

__________________

(١) في «ف» : إذ الأوّل عين المقصود والثاني قاض بصحّة الاستدلال.

(٢) في «ف» و «ق» : التواتر المعنوي.

٣٢٣

مطلق الظنّ فإنّما يستند فيه إلى حجّة قطعيّة كيف؟ ولو استند فيه إلى الظنّ لدار.

فظهر ممّا قرّرنا أنّ المستفاد من العقل والنقل كتابا وسنّة وإجماعا عدم حجّية الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، نعم لو قام دليل قطعي ابتداء أو بواسطة على حجّيته كان حجّة وجاز الاستناد إليه وكان ذلك الظنّ خارجا عن القاعدة المذكورة.

فإن قلت : من المقرّر عدم قبول القواعد العقليّة للتخصيص ، فلو كان العقل مستقلّا في الحكم المذكور لم يمكن القول بحجّية شيء من الظنّون الخاصّة.

قلنا : لا نقول باستثناء ذلك من القاعدة المذكورة وإنّما نقول بخروجها عن موضوع تلك القاعدة.

وتوضيح ذلك أنّ مقتضى القاعدة المذكورة عدم حجّية الظنّ من حيث هو ظنّ إذا لم يلاحظ انتهاؤه إلى اليقين ، والمقصود في الاستثناء المذكور هو حجّية الظنون المنتهية إلى اليقين ، وليس أحدهما مندرجا في الآخر ، بل هما أمران متباينان ، فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة ولا قابلة للتخصيص ، والعقل والنقل متطابقان في الحكم بها من غير طريان تخصيص عليها. وكيف يتوهّم لزوم التخصيص في تلك القاعدة من جهة حجّية بعض الظنون ، مع أنّ الآخذ به بعد انتهائه إلى اليقين أخذ باليقين دون الظنّ؟

فإن قلت : إذا اخذ الظنّ في بعض مقدّمات المطلوب كانت النتيجة تابعة للأخسّ ، فكيف يدّعى كونها قطعيّة في المقام مع أنّ المفروض كون بعض مقدّماتها ظنّية؟

قلت : فرق بين أخذ القضيّة الظنّية في المقدّمات وأخذ الظنّ بها فيها ، إذ لا شكّ في كون الثاني من الامور المعلومة الوجدانيّة ، والمأخوذ في المقام إنّما هو الثاني دون الأوّل.

والحاصل : أنّ المدّعى عدم حجّية الظنّ من حيث هو ، والظنّ الّذي دلّ الدليل القاطع أو المنتهي إلى القطع على حجّيته ليس من هذا القبيل ، إذ ليس الحجّة حينئذ في الحقيقة هو ذلك الظنّ ، بل الدليل القاطع الدالّ عليه ، فيرجع الأمر حينئذ إلى

٣٢٤

العلم فكذا الحال لو قلنا بقيام الدليل القاطع على حجّية مطلق الظنّ ، فإنّ الحكم هناك إنّما يتبع ذلك الدليل القاطع لا مجرد الظنّ الحاصل المتعلّق بثبوت الحكم ، وهو ظاهر.

وربّما توهّم متوهّم حجّية الظنّ من حيث هو ظنّ من دون انتهائه إلى اليقين ، وهو ضعيف سخيف قد ظهر فساده ممّا بيّناه وربّما يؤول كلام قائله بما يرجع إلى ما ذكرناه.

ـ رابعها ـ

أنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة إلّا أن يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره ، أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه إرادة الشارع منّا في الظاهر وحكم به قطعا بتفريغ ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها ممّا جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم مطابقته للواقع ، أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل به شيء من العلم والظنّ (١) أصلا؟ وجهان ، والّذي يقتضيه التحقيق هو الثاني فإنّه القدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ولم يقض شيء من الأدلّة النقليّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الأدلّة الشرعيّة قائمة على خلاف ذلك ، إذ لم يبيّن الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع (٢) التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع. وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام كفاية في المقام ، إذ لم يوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه لجميع الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد

__________________

(١) في «ف» و «ق» : ولا الظنّ.

(٢) في «ق» : يقطع.

٣٢٥

الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به ، والقول بإفادة قول الثقة القطع بالنسبة إلى السامع منه بطريق المشافهة ، نظرا إلى أنّ العلم بعدالته والوقوف على أحواله يوجب العلم العادي بعدم اجترائه على الكذب كما هو معلوم عندنا بالنسبة إلى كثير من الأخبار العادية سيّما مع انضمام بعض القرائن القائمة مجازفة بيّنة ، إذ بعد فرض المعرفة بالعدالة بطريق اليقين مع عدم اعتبارها في الشرع المبين كيف يمكن دعوى القطع مع انفتاح أبواب السهو والنسيان وسوء الفهم ، سيّما بالنسبة إلى الأحكام البعيدة عن الأذهان كما نشاهد ذلك في أفهام العلماء فضلا عن العوامّ؟ مضافا إلى قيام احتمال النسخ في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ آن ، ومع ذلك لم يوجب على جميع أهل بلده التجسّس بما يفيد العلم بعده في كلّ زمان ، بل كانوا يبنون على الحكم الوارد إلى أن يصل إليهم نسخه ، هذا كلّه بالنسبة إلى البلدة الّتي فيها الرسول والإمام عليهما‌السلام فكيف بالنسبة إلى سائر الأماكن والبلدان سيّما الأقطار البعيدة والبلاد النائية؟

ومن الواضح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتفي منهم بالأخذ بالأخبار الواردة عليهم بتوسّط الثقات كما تدلّ عليه آية النفر والطريقة الجارية المستمرّة المقطوعة ، ولم يوجبصلى‌الله‌عليه‌وآله يوما على كلّ من لم يتمكّن العلم من المهاجرة ونحوها ، أو أخذ الأحكام على سبيل التواتر ونحوه. وكذا الحال في الأئمّة عليهم‌السلام وذلك أمر معلوم من ملاحظة أحوال السلف والرجوع إلى كتب الرجال وإنكاره يشبه إنكار الضروريّات ، وليس ذلك إلّا للاكتفاء بالأخذ بطرق ظنّية.

ودعوى حصول العلم بالواقع من الامور البعيدة خصوصا بالنسبة إلى البلاد النائية ، سيّما بعد ما كثرت الكذابة على النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم حتّى قام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيبا في ذلك ، ونادى به الأئمّة عليهم‌السلام كما يظهر من ملاحظة الأخبار.

وما يتراءى من دعوى السيّد وغيره إمكان حصول القطع بالأحكام في تلك الأعصار ممّا يقطع بخلافه ، ويشهد له شهادة الشيخ رحمه‌الله وغيره بامتناعه. والظاهر أنّ تلك الكلمات مؤوّلة بما لا يخالف ما قلناه ، لبعد تلك الدعوى من أضرابه. وممّا

٣٢٦

ينادي بعدم بناء الأمر على تحصيل القطع ملاحظة حال العوامّ مع المجتهدين ، فإنّ من البيّن عدم وجوب تحصيل القطع عليهم بفتاوى المجتهد على حسب المكنة ، بل يجوز لهم الأخذ عن الواسطة العادلة مع التمكّن من العلم بلا ريبة. وعليه جرت طريقة الشيعة في سائر الأزمنة ، بل الظاهر أنّه ممّا أطبقت عليه سائر الفرق أيضا وهل كان الحال في الرجوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام في ذلك العصر إلّا كحال العوام في هذه الأعصار في الرجوع إلى المجتهدين.

فبملاحظة جميع ما ذكرناه يحصل القطع بتجويز الشارع العمل بغير العلم في الجملة مع انفتاح طريق العلم ، سيّما مع ملاحظة ما في التكليف بالعلم في خصوصيّات الأحكام من الحرج التامّ بالنسبة إلى الخواصّ والعوامّ ، وهو ممّا لا يناسب هذه الشريعة السمحة السهلة الّتي رفع عنها الحرج والمشقّة ، ووضعت على كمال اليسر والسهولة. ويشهد بذلك أيضا ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام فإنّه اكتفى الشارع في إثباتها بطرق مخصوصة من غير التزام بتحصيل العلم بها بالخصوص لما فيه من الحرج والمشقّة في كثير من الصور. فإذا كان الحال في الموضوعات على الوجه المذكور مع أنّ تحصيل العلم بها أسهل فذلك بالنسبة إلى الأحكام أولى ، وأيضا من الواضح كون المقصود من الفقه هو العمل ، وتحصيل العلم به إنّما هو من جهة العلم بصحّة العمل وأدائه مطابقا للواقع.

ومن البيّن أنّ صحّة العمل كما يتوقّف على العلم بالحكم كذا يتوقّف على العلم بالموضوع ، فالاقتصار على خصوص العلم بالنسبة إلى الحكم لا يثمر العلم بصحّة العمل بالنظر إلى الواقع مع الاكتفاء بغيره في تحصيل الموضوع ، وليس المتحصّل للمكلّف حينئذ بالنسبة إلى العمل إلّا العلم بمطابقة العمل لظاهر الشريعة والقطع بالخروج عن العهدة في حكم الشارع ، فينبغي أن يكون ذلك هو المناط بالنسبة إلى العلمين.

فتحصّل ممّا قرّرنا كون العلم الّذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر شرعا لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو

٣٢٧

أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في الحكم الشرعي ، سواء حصل العلم بأدائها على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشرع وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها لمتن الواقع.

وبعبارة اخرى لا بدّ من المعرفة بالتكليف وأداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين من غير فرق بين الوجهين ولا ترتّب بينهما.

نعم لو لم يظهر طريق مقرّر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع مع إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقّف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطرق المقرّرة.

وظهر أيضا ممّا بيّنا تقرير الشارع طريقا إلى الواقع سوى العلم في معرفة الأحكام ولو مع انفتاح سبيل العلم ، وهي الأدلّة الشرعيّة ممّا لا يفيد العلم بالواقع حسبما يجيء تفصيل الكلام فيها في محلّها إن شاء الله.

ـ خامسها ـ

في بيان أنّ الحجّة في معرفة الأحكام الشرعيّة في زمن الغيبة وانقطاع اليد من الرجوع إلى أرباب العصمة وانسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة هل هي ظنّ المجتهد مطلقا من أيّ طريق حصل إلّا ما قام الدليل على عدم جواز الأخذ به بخصوصه من غير فرق بين الطرق المفيدة للظنّ ، أو أنّ هناك طرق مخصوصة هي الحجّة دون غيرها فيجب على المجتهد الأخذ بها دون ما عداها من الظنون الحاصلة من الطرق الّتي لم يقم على جواز الأخذ بها بخصوصها حجّة؟

وهذه المسألة وإن لم تكن معنونة في كتب الاصول ولا تعرّض لبيانها مستقلّة أحد من علماء المعقول والمنقول ، إلّا أنّه لابدّ من بنائهم فيها على أحد الوجهين واختيارهم لأحد المسلكين ويمكن استعلام مذهبهم من الرجوع إلى طريقتهم وكيفيّة استنباطهم وملاحظة احتجاجاتهم كما سنشير إليه إن شاء الله وكان كلّهم أو جلّهم كانوا قاطعين بأحد الوجهين المذكورين حيث لم يعنونوا لذلك بحثا ولا ذكروا فيه خلافا ولا فصّلوا فيه قولا مع ما يترتّب عليه من الثمرة العظيمة والفائدة

٣٢٨

المهمّة في استنباط الأحكام الفرعيّة ، ولمّا كانت تلك المسألة من امّهات المسائل الاصوليّة ، بل كان عليها أساس استنباط الأحكام الشرعيّة لم يكن بدّ من تفصيل الكلام فيها ، وإشباع القول في وجوهها ، وبيان أدلّتها ، وتميّز صحيح المذهب من المزيف منها.

فنقول : إنّ الذي يستفاد من كلام المعظم هو البناء على الوجه الثاني ، بل لا يبعد دعوى اتّفاقهم عليه حيث إنّه جرت طريقتهم على إثبات حجّية كلّ من الظنون الخاصّة بأدلّة مخصوصة ذكروها في الباب المعدّ له ولو بنوا على حجّية مطلق الظنّ لأثبتوا ذلك وقرّروه واعتنوا ببيانه.

ثمّ بنوا عليها تلك المسائل من غير أن يحتاجوا في إثبات حجّية كلّ منها إلى تجشّم ذكر الأدلّة ، بل كان المتوقّف على الدليل بعد تأصيل ذلك الأصل الأصيل هو بيان عدم الحجّية في ما لم يقولوا بحجّيته من الظنون ، مع أنّ الأمر بالعكس ، فإنّهم في بيان الحجج يفتقرون إلى الاستناد إلى الأدلّة لا في بيان عدم الحجّية ولم يعرف منهم الاستناد في الحكم بحجّية تلك الظنون إلى القاعدة المذكورة ، ولو قالوا بها لكان ذلك رأس الأدلّة المذكورة في كلامهم وأصلها المعوّل عليه عندهم.

نعم ربّما يوجد الاستناد إليه في كلام آحاد منهم في طيّ الأدلّة على سبيل الندرة كما في النهاية في بيان حجّية أخبار الآحاد ، وذلك ممّا لا يثبت به المذهب فإنّ طريقته قدس‌سره ضمّ المؤيّدات إلى الأدلّة والاستناد في كتبه إلى وجوه موهونة لا يقول بحجّيتها أحد من الفرقة ، وإنّما يأتي بها تأييدا للمرام أو من جهة إيراد الحجّة على المخالفين ممّن يقول بحجّيته في مثل ذلك.

ومن هنا توهّم بعض القاصرين ذهابه إلى حجّية مثل تلك الوجوه ففتح باب الطعن عليه وعلى نظائره بأنّهم يعملون بقياسات عاميّة واستحسانات عقليّة ، وليس الأمر كما توهّم ، بل ما يوجد من أمثال ذلك في كلامهم مبنيّ على أحد الوجهين المذكورين كما لا يخفى على من مارس كلماتهم ، فإسناد القول المذكور إلى العلّامة رحمه‌الله لما ذكر كما يستفاد من بعضهم ليس على ما ينبغي ، وكذا إسناده إلى

٣٢٩

صاحب المعالم نظرا إلى ذكر ذلك في طيّ الأدلّة على حجّية خبر الواحد وعدم تعرّضه للمناقشة فيه ، مع أنّ كلامه في دفع حجّية الشهرة وغيرها صريح في خلافه ، وكذا الحال في ملاحظة طريقته في العمل بالأخبار وكان مقصوده بالاحتجاج المذكور بيان حجّية الظنّ في الجملة ، وأنّ الظنّ الحاصل من خبر الواحد أولى بالحجّية من غيره فيتعيّن كونه حجّة.

وكيف كان ، فالقول بعدم حجّية الظنّ إلّا ما قام الدليل على حجّيته مصرّح به في كلام جماعة من القدماء والمتأخّرين ، فمن القدماء السيّدان والشيخ ذكروا ذلك عند بيان المنع من العمل بالقياس حيث استندوا بعدم ورود العمل به في الشريعة فلا يكون حجّة ، إذ الظنّ إنّما يكون حجّة مع قيام الدليل عليه. وقد يعزى القول بذلك إلى الحلّي والمحقّق ، ومن المتأخّرين المحقّق الأردبيلي وتلميذه السيّد وصاحب الذخيرة فيما حكي عنهم ، وبه نصّ صاحب الوافية حيث قال فيه بعد ذكر احتجاج القائل بحجّية الاستصحاب بأنّه مفيد للظنّ للبقاء.

وفيه : أنّه بناء على حجّية مطلق الظنّ وهو عندنا غير ثابت واختار ذلك جماعة ممّن عاصرناه من مشايخنا منهم الاستاذان الأفضلان تغمّدهما الله برحمته ، والمختار عند جماعة آخرين من أفاضل العصر هو حجّية الظنّ المطلق إلّا ما خرج بالدليل منهم المحقّق البهبهانيقدس‌سره وتلميذاه السيّدان الأفضلان صاحب الرياض وشارح الوافية وتلميذه الفاضل صاحب القوانين قدس‌سره ، ولا نعرف القول به صريحا لأحد ممن تقدّمهم.

نعم ربّما يستظهر ذلك من الشهيد في الذكرى بل العلّامة وصاحب المعالم حسب ما أشرنا إليه ، وقد عرفت ما فيه والظاهر أنّ طريقة الأصحاب مستقيمة على الأوّل ، ولذا لا ترى منهم الاتّكال على الشهرات ونحوها ممّا يقول به القائل بحجّية مطلق الظنّ ، بل جماعة منهم يصرّحون بخلافه حتّى أنّ الشهيد رحمه‌الله مع استقرابه حجّية الشهرة لا يعهد منه الاستناد إليها في المسائل مع كثرتها وحصولها في كثير من الخلافيّات. نعم ربّما يوجد نادرا في بعض كلماته الاستناد إليها

٣٣٠

ولا يعرف منه اتّكاله عليه ، بل الظاهر أنّه من قبيل ضمّ المؤيّدات إلى الأدلّة.

هذا وربّما يوجد في كلام بعضهم ممّن لا تحصيل له مخالفة القولين والبناء على فساد الوجهين بدعوى عدم حجّية الظنّ مطلقا في استنباط الأحكام وعدم انسداد سبيل العلم بالتكليف ما دام التكليف باقيا وأنّ الأخبار المعروفة الواردة عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم ممّا تداولته الشيعة قطعيّ الصدور والدلالة ، وأنّها كافية في بيان ما يرد علينا من الفروع المتجدّدة مفيدة للقطع بحكم الواقعة وهو من الأوهام الفاسدة الّتي لا يخفى وهنها على من له أدنى مسكة ولا علينا في المقام الإشارة إلى بيان وهنها وإبداء وجوه فسادها ، إذ ليس ذلك من الامور المهمّة ولا ممّا يحتاج إلى إعمال نظر ورويّة ولعلّنا نشير إليه في مباحث الاجتهاد والتقليد إن شاء الله وإنّما المعقود عليه البحث في المقام هو الكلام في تميّز الحقّ من القولين الأوّلين وبيان أدلّة الجانبين.

ثمّ إنّه يقوم في كلّ من القولين المذكورين وجهان : فيحتمل أن يراد من حجّية الظنّ مطلقا كون الحجّة بعد انسداد سبيل العلم بالواقع هو الظنّ بالواقع فيكون حجّية الأدلّة عند القائل به منوطة بالظنّ بالواقع ، بل لا تكون الحجّة عنده إذن إلّا نفس الظنّ ، فمع عدم حصول الظنّ من الدليل لمانع يمنع منه لا تنهض حجّة وإن لم يكن المانع المفروض حجّة (١) ، إذ منعه من حصول الظنّ إنّما يتبع الوجدان دون الحجّية ، وقضيّة عدم الحجّية عدم الاتّكال على الظنّ الحاصل المانع ولا ربط له بالمنع من حصول الظنّ منه. ويحتمل أن يراد به حجّية ما يفيد الظنّ في نفسه سواء حصل به الظنّ بالحكم فعلا لانتفاء ما يمنع من حصوله(٢) أو لم يحصل لحصول مانع منه ، والأوّل هو الّذي يقتضيه ظاهر بعض كلماتهم وتقتضيه أدلّتهم.

وأمّا الثاني فلا يفي به ما قرّروه من الأدلّة كما ستعرف إن شاء الله.

ويمكن أن يقال بحجّية الظنّ مطلقا سواء تعلّق بالواقع أو بالطريق الموصل

__________________

(١) في «ق» بإضافة : كالظنّ الحاصل من القياس في مقابل خبر الواحد.

(٢) في «ق» بإضافة : وذلك كالخبر الواحد المعارض بالقياس.

٣٣١

في حكم الشارع ، فلو قام دليل ظنّي على حجّية أمر خاصّ ـ كظاهر الكتاب ـ قام حجّة ولو لم يحصل منه الظنّ بالواقع لمانع منه ، وكان الأظهر بناء على القول المذكور هو ذلك ، فإنّه إذا قام الظنّ مقام العلم قضى بحجّية الظنّ المتعلّق بالطريق أيضا ، فإنّه أيضا من جملة الأحكام الشرعيّة.

إلّا أن يقال : إنّ المقصود حجّية الظنّ في مسائل الفروع بعد انسداد سبيل العلم بها دون ما يتعلّق بالاصول وبيان الطريق إلى استنباط الأحكام من مسائل الاصول ، فلا يندرج تحت الأصل المذكور ، وفيه تأمّل.

ويحتمل أيضا على القول الثاني أن يقال بحجّية الظنون الخاصّة ليكون الحجّة نفس الظنّ الحاصل من الأدلّة ، فيناط حجّية الأدلّة عنده بالوصف المذكور ، إلّا أنّه لا يوافقه بعض كلماتهم ، وأن يقال بحجّية طرق خاصّة وظنّيات مخصوصة أفادت الظنّ بالواقع أو لم تفده.

وهذا هو التحقيق في المقام ، إذ ليست حجّية الأدلّة الشرعيّة منوطة بحصول الظنّ منها بالواقع وإنّما هي طرق مقرّرة لإفادة الواقع على نحو الطرق المقرّرة للموضوعات في إجراء الأحكام المقرّرة لها والنسبة بين القولين على الوجهين الأوّلين عموم مطلق كما هو الحال في الوجه الثاني منهما في وجه. وكذا الحال في الاحتمال الثالث من الأوّل مع الثاني وكذا من الثاني لو قيل بأحد الأخيرين من الأوّل والأوّل من الثاني ، وفي عكسه يكون بينهما عموما من وجه.

هذا وقد يستشكل في القول الأوّل (١) بأنّه إذا كانت قضيّة حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم حجّية مطلق الظنّ وقيامه مقام العلم لزم القول به على الإطلاق ، فلا وجه لتخصيص بعض الظنون وإخراجه عن العموم المذكور لقيام الدليل عليه لما تقرّر من عدم ورود التخصيص على القواعد العقليّة وإنّما وروده على العمومات اللفظيّة والقواعد الشرعيّة ونحوها ، فكما أن لا تخصيص في الحكم بحجّية العلم فكذا ينبغي أن يكون الحال في الظنّ القائم مقامه بعد انسداد سبيله.

__________________

(١) في «ف» : القول ، وفي «ق» : القول الثاني.

٣٣٢

وأنت خبير بأنّ الإشكال المذكور مشترك الورود بين القولين فإنّ القائل بحجّية الظنون الخاصّة يقول بأصالة عدم حجّية الظنّ وأنّه لا يقوم شيء من الظنون حجّة في حكم العقل إلّا ما قام الدليل على حجّيته ، ففي ذلك أيضا التزام بالتخصيص في القاعدة العقليّة.

وقد عرفت الجواب عنه في ما مرّ ، وأنّه ليس ذلك من التخصيص في شيء وإنّما هو اختصاص في حكم العقل ، فإنّ مفاد حكم العقل هو عدم حجّية كلّ ظنّ لم يقم دليل على حجّيته ، فالمحكوم عليه بحكم العقل هو الظنّ الخالي عن الدليل لا مطلقا ، وكذا الحال في القول الثاني ، فإنّ المحكوم عليه بالحجّية هو الظنّ الّذي لم يقم دليل على عدم حجّيته ، والظنّ الّذي قام الدليل على عدم حجّيته خارج عن الموضوع لا أنّه يخرج عنه بعد حكم العقل بحجّية الظنّ مطلقا حتّى يكون تخصيصا في حكم العقل.

نعم هو تخصيص بالنسبة إلى ظاهر التعبير حيث يعبّر بلفظ عامّ ثمّ يخرج عنه ذلك كما هو الحال في التخصيصات الواردة على العمومات النقليّة ، إذ ليس ذلك إلّا بحسب ظاهر التعبير دون الواقع إلّا ما كان من التخصيص البدائي فإنّه تخصيص بحسب الواقع ، ولا يجري في حكم العقل ولا في شيء من التخصيصات الواردة في الشرع.

فظهر بما ذكرنا أنّ ما ذكر من امتناع التخصيص في الأحكام العقليّة إنّما يراد به التخصيص الواقعي ، وهو أيضا مستحيل في العمومات الشرعيّة ، والتخصيص في التعبير جائز في الصورتين ، إذ لا مانع من إبداء الحكم على وجه العموم ثمّ إيراد التخصيص عليه حتّى يكون الباقي هو المحكوم عليه بحكم العقل ، كما في المقام.

فظهر بذلك أنّه لا فرق بحسب الحقيقة بين ورود التخصيص على الحكم العقلي والشرعي غير أنّه لمّا كان المدار في الحكم الشرعي على ظواهر الألفاظ كان علينا الأخذ بالظاهر حتّى يتبيّن المخصّص بخلاف حكم العقل ، فإنّه إن قضى

٣٣٣

بالعموم لم يرد عليه التخصيص ، وإن لم يورد فلا تخصيص ، وإنّما يلحظ التخصيص بحسب تعبيرنا عن حكم العقل فهذا هو الفرق بينهما حيث حكموا بعدم جواز التخصيص في حكم العقل دون غيره ويستفاد من كلام بعض الأفاضل في الجواب عن الإيراد المذكور وجوه اخر موهونة :

أحدها : أنّا لا نلتزم بالتخصيص ، بل نقول بعد انسداد باب العلم بحجّية جميع الظنون ، وما دلّ على عدم حجّية القياس ونحوه فإنّما هو قبل انسداد باب العلم ، وأمّا بعده فلا فرق بين الظنّ الحاصل منه ومن غيره.

وأنت خبير بما فيه ، إذ المنع من العمل بالقياس في عصرنا وما شابهه من الإجماعيّات عند الشيعة بل لا يبعد دعوى الضرورة عليه فالتزام العمل به حينئذ ممّا لا يقول به أحد ، والظاهر أنّ المجيب لا يعمل به أيضا.

ثانيها : المنع من حصول الظنّ من القياس ونحوه وذلك علّة منع الشارع من الأخذ به ، وهو كما ترى ، إذ حصول الظنّ من القياس ونحوه من الامور الوجدانيّة الّتي لا مجال لإنكارها.

ثالثها : أنّ مورد القياس ونحوه لم يثبت انسداد باب العلم بالنسبة إلى مقتضاه ، فإنّا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل بمؤدّى القياس ، فيعلم أنّ حكم الله غيره وإن لم نعلمه أيّ شيء هو ، ففي تعيينه نرجع إلى سائر الأدلّة وإن كان مؤدّاها عين مؤدّاه.

وملخّص هذا الجواب خروج مورد القياس ونحوه عن محل الكلام ، فإنّ البحث في ما انسدّ فيه باب العلم والمفروض عدم انسداد باب العلم بالنسبة إليه فلا تخصيص. ويمكن أن يرجع ذلك أيضا إلى عدم إفادته الظنّ نظرا إلى قيام الدليل القاطع على عدم حجّيته فكيف يفيد الظنّ بمقتضاه مع قيام القاطع على خلاف ما يقتضيه؟ وفيه : أنّ الّذي لم ينسدّ فيه باب العلم هو حرمة العمل بالقياس لا عدم موافقة مؤدّاه للواقع ، فالأخذ به أخذ بغير العلم لا أخذ بخلاف الواقع ، فتفريعه العلم بكون حكم الله غير مؤدّى القياس على العلم الحاصل من الضرورة على حرمة العمل به إن أراد به حصول العلم من حرمة العمل بالقياس أنّ حكم الله

٣٣٤

بالنسبة إلينا عدم الاعتماد على القياس والاتّكال عليه في استنباط الحكم فلا يجوز لنا الأخذ بمؤدّاه من حيث إنّه مؤدّاه وإن جاز الأخذ به من حيث كونه مؤدّى دليل آخر ، فهو كذلك، إلّا أنّه لا ربط له بالجواب عن الإيراد المذكور ، فإنّ ذلك عين مفاد عدم حجّية القياس.

وحاصل الإيراد : أنّه إذا قضى العقل بعد انسداد سبيل العلم بالواقع بقيام الظنّ مقامه لم يتّجه عدم الاعتماد على الظنّ الحاصل من القياس ونحوه. ولا وجه لقيام الدليل على عدم الاعتداد به بعد قطع العقل بما ذكر ، وهو على حاله لا ربط لما ذكر بالجواب عنه وإن أراد أنّ العلم بحرمة العمل بالقياس قاضية بكون الحكم في الواقع غير ما دلّ عليه القياس فهو واضح الفساد. واعتبار كون الحكم مستفادا من القياس لا يقضي بتعدّد الحكم حتّى يقال : إنّ الحكم الواقعي من حيث كونه مستفادا من القياس غيره من حيث كونه مستفادا من دليل شرعي حتّى يعلم انتفاء الأوّل بعد العلم بحرمة العمل بالقياس ، وهو ظاهر.

ثمّ إنّه قد يورد على القول المذكور أيضا بأنّه إذا دلّ الدليل على حجّية الظنّ من حيث هو وقيامه مقام العلم فلا وجه لورود التخصيص عليه ، إذ المفروض كون المناط في الحجّية بعد انسداد سبيل العلم هو الرجحان الحاصل فيه ، فلا وجه لإخراج بعض الظنون عنه والحكم بعدم حجّيته مع حصول المناط المذكور في الجميع. وقد تخلّص عنه الفاضل المذكور بالوجوه المتقدّمة ، وقد عرفت ضعفها.

وأجاب أيضا بأنّه مستثنى من الأدلّة المفيدة للظنّ لا أنّ الظنّ الحاصل منه مستثنى من مطلق الظنّ وقال : إنّ تكليف ما لا يطاق وانسداد باب العلم من جهة الأدلّة المقتضية للعلم أو الظنّ المعلوم الحجّية مع بقاء التكليف يوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ في نفسه ، يعني مع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى.

وبالجملة : ما يدلّ على مراد الشارع ولو ظنّا ولكن لا من حيث إنّه يفيد الظنّ وهذا المعنى قابل للاستثناء فيقال : إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه إلّا القياس ، وبعد استثناء القياس إذا تعارض باقي الأدلّة المفيدة للظنّ فحينئذ يعتبر الظنّ النفس الأمري ويلاحظ القوّة والضعف.

٣٣٥

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ ما ذكروه من الأدلّة إنّما يفيد حجّية نفس الظنّ دون الامور الّتي من شأنها إفادة الظنّ وإن لم يحصل منها ظنّ ، ولو سلّم إفادة تلك الأدلّة حجّية تلك الامور فلا ريب أنّ حجّيتها إذا منوطة بالظنّ ، فلا تكون حجّة إلّا مع المناط المذكور ، ومتى وجد ذلك المناط حصلت الحجّية ، ولا ترتبط الحجّية على مقتضى تلك الأدلّة بشيء من خصوص تلك الموارد ، فلا وجه للتخلّف ، وحينئذ فأيّ فرق بين إيراد التخصيص على الظنّ أو الشيء المفيد له؟

نعم إن دلّ الدليل على حجّية ما من شأنه إفادة الظنّ وإن لم يحصل منه الظنّ كما قد يستفاد من ملاحظة طرق الاستدلال اتّجه الفرق ، إلّا أنّه لا يساعده الأدلّة الّتي قرّرها لحجّية مطلق الظنّ.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا حاجة في دفع الإيراد المذكور إلى شيء من الوجوه المذكورة، بل هو بيّن الاندفاع بعد ملاحظة ما سنقرّره إن شاء الله في تقرير دليلهم ، فإنّ قضيّة انسداد باب العلم وبقاء التكليف هو حجّية الظنّ في الجملة على سبيل القضيّة المهملة ، وإنّما تصير كلّية بملاحظة انتفاء المرجّح بين الظنون ، وقيام الدليل القاطع على عدم جواز الرجوع إلى بعض الظنون يكفي مرجّحا في المقام ، ومعه لا اقتضاء في الدليل المذكور لحجّيته أصلا ، فإنّه إنّما يقضي بحجّية الظنّ الّذي لم يقم دليل على عدم حجّيته حسب ما أشرنا إليه.

نعم يرد ذلك على غير الدليل المذكور من بعض أدلّتهم ، وفيه دلالة على فساد ذلك الدليل حسب ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله.

هذا ولنقدّم أوّلا حجج المختار حسب ما قرّرت في المقام ونذكر ما فيه من النقض والإبرام ، ثمّ نبيّن ما تيسّر لنا من وجوه الاحتجاج على ذلك المرام ، فنقول : قد احتجّوا على ذلك بوجوه :

ـ الأوّل ـ

الآيات والأخبار المأثورة الدالة على النهي عن العمل بالظنون ، أو المشتملة على ذمّ الأخذ بها ، الدالّة على قبح ذلك ، خرج منها ما خرج بالدليل ، وبقي غيره تحت الأصل المذكور.

٣٣٦

أمّا الآيات فمنها : قوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) ففي الفقرة الاولى منها دلالة على ذمّ الأخذ بالظنّ ، وفي الثانية حكم بعدم إيصاله إلى الواقع وعدم الاكتفاء به فتفيد المنع من الأخذ به وقبح الاتّكال عليه ، بل فيها إشارة إلى أنّ ذلك من الامور الواضحة المقرّرة في العقول حيث ذكره سبحانه في مقام الاحتجاج على الكفّار المنكرين للشريعة.

ومنها : قوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ)(٢) وفيها دلالة على ذمّ اتّباع الظنّ وقبحه عند الشرع ، بل العقل.

ونحوه قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ)(٣).

وقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)(٤).

ومنها : قوله تعالى في عداد ما حرّم الله سبحانه : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٥) فقد دلّ على المنع من القول في الشريعة بغير العلم سواء كان ظانّا أو شاكّا أو غيرهما.

ومنها : قوله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٦) وهو كسابقه دالّ على المنع من الأخذ بغير العلم سواء بناء على وجوب التأسّي أو لأصالة الاشتراك في التكاليف ، لانحصار الخواصّ في امور مخصوصة لم يذكر ذلك في جملتها ، أو لكون الخطاب له خطابا لامّته حسب ما ذكر في محلّه ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ذلك.

وأمّا الأخبار فهي مستفيضة في ذلك جدّا ، بل ربّما يدّعى تواترها كالأخبار الدالّة على وجوب تعلّم الأحكام فإنّها تفيد تعيّن تحصيل العلم بها ، وما دلّ من الروايات (٧) على عدم جواز الأخذ بغير العلم والعمل بغير العلم والإفتاء بدون العلم ،

__________________

(١) يونس : ٣٦.

(٢) النجم : ٢٨.

(٣) النجم : ٢٣.

(٤) النساء : ١٥٧.

(٥) الأعراف : ٣٣.

(٦) الإسراء : ٣٦.

(٧) وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٢٠ ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٣٣٧

وخصوص ما رواه المفضّل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة (١) وخبر تحف العقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا علمت فاقض ، وإذا ظننت فلا تقض» (٢).

ورواية مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الكذب» (٣) ، وخبر سليم بن قيس عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «ومن عمي نسي الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه ـ إلى أن قال ـ ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين» (٤) إلى غير ذلك من الأخبار ممّا يقف عليه المتتبّع في الآثار.

وقد اورد على الآيات المذكورة بوجوه :

منها : أنّ معظم تلك الآيات واردة في اصول الدين ، والمنع من العمل بالظنّ فيها من الامور المسلّمة عند المعظم ، ولا دلالة فيها على المنع من العمل بالظنّ في الفروع كما هو المدّعى.

وفيه : أنّ إطلاقها يعمّ الاصول والفروع فلا وجه للتخصيص ، وكون المقصود هنا خصوص الاصول غير ظاهر ، وورودها في شأن الكفّار الآخذين بظنونهم في اصول الدين لا يقضي باختصاصها بالاصول بناء على ما تقرّر عندنا من كونهم مكلّفين بالفروع ، بل قد ورد عدّة من الآيات في خصوص الفروع ممّا يحكم به الكفّار من الأحكام الباطلة. ومع تسليمه فالعبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، والقول باختصاص القاعدة المذكورة بالعمومات اللغويّة دون الإطلاقات ـ ومنها المفرد المحلّى فإنّ الدعوى المذكورة محلّ منع بالنسبة إليها لضعف دلالتها على العموم فتنصرف إلى المورد ـ ضعيف على إطلاقه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٢٥ ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٨.

(٢) تحف العقول : ص ٥٠.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٣٨ ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٤٢.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٢٥ ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٩.

٣٣٨

نعم إن كان المورد بحيث يصرف اللام إلى العهد صحّ ما ذكر ، وإلّا فلا وجه لتقييد الإطلاق بمجرّد كون المورد خاصّا. والظاهر أنّ القاعدة المذكورة في كلمات الاصوليين يعمّ العموم الوضعي وغيره ، ولذا مثّلوا له في المشهور بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه ... إلى آخره» بعد وقوع السؤال عن بئر بضاعة. ولم نجد هناك من ناقش في ذلك بما ذكر ، مضافا إلى عدّة من تلك الآيات قد وردت في مقام الاحتجاج الظاهر في عموم الحكم.

واستظهار كون اللام في الآية الاولى للعهد نظرا إلى تقدّم ذكر الظنّ ، أو لا على (١) وجه التنكير مرادا به الظنّ المتعلّق بالاصول وقد تقرّر عندهم كون النكرة المعادة (٢) معرفة عين الأوّل فيتعيّن اللام فيها للعهد موهون جدّا ، وسياق الآية كالصريح في خلافه. وورودها في مقام الاحتجاج ظاهر جدّا في إرادة العموم كما يعرف ذلك من ملاحظة نظائرها كما إذا قلت : فلان قتل مؤمنا متعمّدا ، وإنّ من قتل المؤمن متعمّدا كان مخلّدا في العذاب ، وفلان أعان ظالما ، ومن أعان الظالم سلّطه الله عليه ، إلى غير ذلك ، وهو ظاهر.

والحاصل : أنّ الظاهر عرفا من الآية الشريفة هو إرادة الاستغراق أو الجنس الراجع إليه دون العهد ، والاحتجاج المذكور مبنيّ على الظاهر ، وقيام الاحتمال المرجوح لا يهدم الاستدلال بالظواهر.

ومنها : أنّ مفاد هذه الآيات لا يزيد على الظنّ ، فلا يجوز الاستناد إليها في المقام :

أمّا أوّلا : فلأنّ هذه المسألة من عمدة مسائل الاصول فلا يصحّ الاتّكال فيها على مجرّد الظنّ.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قضيّة ظاهرها عدم حجّية ظواهرها ، فلو صحّ العمل بتلك الظواهر لم يصحّ العمل بها ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل.

ويدفعها : أنّ الظنّ الحاصل من ظاهر الكتاب من الظنون الّتي دلّ القاطع

__________________

(١) في «ف» : أو على.

(٢) في «ف» : المفادة.

٣٣٩

على حجّيتها ، فلا مانع من الاتّكال عليها. والقول بعدم جواز الاستناد إلى الظنّ في المسائل الاصوليّة ولو من الظنون المفروضة من الأغلاط كما مرّ الكلام فيه مرارا ، وقضاء ظاهرها بعدم حجّية ظاهرها إنّما يمنع من الاتّكال عليها لو لم يقم دليل على استثناء ظواهرها من الظاهر المذكور. وأمّا بعد قيام الدليل عليه كما هو مبنى الاحتجاج المذكور فلا مانع منه أصلا.

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ مفاد الظنون المذكورة عدم حجّية الظنّ ، فلو كان الظنّ حجّة لم يكن حجّة فليس المقصود من الاحتجاج بتلك الظواهر الاتّكال على الظنّ الحاصل منها في عدم حجّية الظنّ حتّى يرد أنّه إذا لم يصحّ الاتّكال على الظنّ لم يصحّ الاتّكال على الظنّ في ذلك أيضا ، بل المقصود أنّه لمّا قضى الدليل الظنّي بعدم حجّية الظنّ قضى ثبوت الحجّية بعدمها ، وما قضى وجوده بعدمه فهو باطل.

وقد يقال حينئذ : إنّ المدّعى حجّية الظنّ في الفروع ، وما دلّ على عدم حجّية الظنّ فإنّما هو في مسألة اصوليّة فلا يقضي القول بحجّيتها عدمها.

وفيه : أنّه يرجع الأمر في ذلك إلى الفروع ، إذ مآله إلى الظنّ بعدم ثبوت الحكم الفرعي في شأننا (١) من جهة الظنّ ، فلو كان الظنّ المتعلّق بالفروع حجّة لم يكن الظنّ بها حجّة ، فتأمّل.

ومنها : أنّ الظنّ المذكور في الآيات الشريفة لا يراد به العلم الراجح ، بل هو مرادف للتردّد والشكّ والتخمين ، وضعفه ظاهر ، إذ لا داعي لحمل الظنّ على ذلك مع بعده عن ظاهر اللفظ في العرف واللغة. والتزام التخصيص فيه لو حمل على معناه الظاهر نظرا إلى حجّية ظنون خاصّة قطعا بخلاف ما لو حمل على ذلك لا يقضي بالحمل عليه ، لوضوح ترجيح التخصيص ، مضافا إلى لزوم التخصيص مع الحمل عليه أيضا ، لجواز العمل في بعض صور الشكّ في الواقع كما إذا لم يفد البيّنة ظنّا بالواقع ، أو لم يحصل من الاستصحاب ظنّ به.

__________________

(١) في «ف» : شأنها.

٣٤٠