محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]
المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
المطبعة: مهر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨
بالمنكر ما وصفناه لما قدمناه وبيناه.
فيعلم أن ما تعلق به المخالف فيما ادعاه من فعل أبي بكر من لفظ القرآن على خلاف ما توهمه وظنه وأنه ليس من الخبر في شيء على ما بيناه.
وأما قولهم : إن أبا بكر كان من أهل السعة في الدنيا بظاهر القرآن فالقول فيه كالمتقدم سواء ومن بعد ذلك فإن الفضل والسعة والنقص والفقر من باب التضايف فقد يكون الإنسان من ذوي الفضل بالإضافة إلى من دونه من أهل الضائقة والفقر (١) ويكون مع ذلك مسكينا بالإضافة إلى من هو أوسع حالا منه وفقيرا إلى من هو محتاج إليه.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم ينكر وصف أبي بكر بالسعة عند إضافة حاله إلى مسطح وأنظاره من المضطرين بالفقر ومن لا معيشة له ولا عائدة عليه كما يكون السقف سماء لمن هو تحته وتحتا لمن هو فوقه ويكون الخفيف ثقيلا عند ما هو أخف منه وزنا والقصير طويلا بالإضافة إلى من هو أقصر منه وهذا ما لا يقدح في قول الشيعة ودفعها الناصبة عما ادعته لأبي بكر من الإحسان والإنفاق على النبي صلىاللهعليهوآله حسب ما تخرصوه من الكذب في ذلك وكابروا به العباد وأنكروا به ظاهر الحال وما جاء به التواتر من الأخبار ودل عليه صحيح النظر والاعتبار وهذا بين لمن تدبره
__________________
(١) في ب : الاضافة والفضل.
فصل
وقد روت الشيعة سبب نزول هذه الآية من كلام جرى بين بعض المهاجرين والأنصار فتظاهر المهاجرون عليهم وعلوا في الكلام فغضبت الأنصار من ذلك وآلت بينها أن لا تبر ذوي الحاجة من المهاجرين وأن تقطع معروفها عنهم فأنزل الله سبحانه هذه الآية فاتعظت الأنصار بها وعادت إلى بر القوم وتفقدهم وذكروا في ذلك حديثا طويلا وشرح جوابه أمرا بينا.
فإذا ثبت مذهبهم في ذلك سقط السؤال من أصله ولم يكن لأبي بكر فيه ذكر واستغني بذلك عن تكلف ما قدمناه إلا أنا قد تطوعنا على القوم بتسليم ما ادعوه وأوضحنا لهم عن بطلان ما تعلقوا به فيه استظهارا للحجة وإصدارا عن البيان والله الموفق للصواب
فصل آخر
ثم يقال لهم خبرونا عما ادعيتموه لأبي بكر من الفضل في الدنيا لو انضاف إلى التقوى ونزل القرآن أن تصريح الشهادة له به عودا بعد سدى هل كان موجبا لعصمته من الضلال في مستقبل الأحوال ودالا على صوابه في كل فعل وقول وأنه لا يجوز عليه الخطأ والنسيان وارتكاب الخلاف لله تعالى والعصيان؟
فإن ادعوا له بالعصمة من الآثام وأحالوا من أجله عليه الضلال في الاستقبال خرجوا عن الإجماع وتفردوا بالمقال بما لم يقبله
أحد من أهل الأديان وكابروا دلائل العقول وبرهان السمع ودفعوا الأخبار.
وقيل لهم : دلوا على صحة ما ادعيتموه من ذلك فلا يجدون شيئا يعتمدونه على كل حال.
وإن قالوا : ليس يجب له بالفضل والسعة وسائر ما عددناه وانضاف إليه ونطق به القرآن العصمة من الضلال بل جائز عليه الخطأ مع استحقاقه بجميعه ومقارفة الذنوب في الاستقبال.
قيل لهم : فهب أنا سلمنا لكم (١) الآن من تأويل الآية على ما اقترحتموه ما أنكرتم في ضلال الرجل فيما بعد من إنكاره النص على أمير المؤمنين عليهالسلام ودفعه عما أوجب الله تعالى عليه الإقرار به من الفرض وتغيير حاله من الفضل بالنقص إذ كانت العصمة مرتفعة عنه والخطأ جائز عليه والضلال عن الحق موهوم منه ومظنون به فلا يجدون حيلة في دفع ذلك ولا معتمدا في إنكاره وهذا مما تقدم معناه إنما ذكرته للتأكيد والبيان وهو مما لا محيص لهم عنه والحمد لله
__________________
(١) في ب ، ح : لهم.
مسألة أخرى
فإن قالوا أفليس قد آنس الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله بأبي بكر في خروجه (١) إلى المدينة للهجرة وسماه صاحبا له في محكم كتابه وثانيا لنبيه صلىاللهعليهوآله في سفره ومستقرا معه في الغار لنجاته فقال تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عليه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢) وهذه فضيلة جليلة يشهد بها القرآن فهل تجدون من الحجة مخرجا.
جواب
قيل لهم : أما خروج أبي بكر مع النبي صلىاللهعليهوآله فغير مدفوع وكونه في الغار معه غير مجحود واستحقاق اسم الصحبة معروف إلا أنه ليس في واحدة منها ولا في جميعها ما يظنون له من الفضل فلا تثبت
__________________
(١) في ب زيادة : من مكة.
(٢) سورة التوبة ٩ : ٤٠.
له منقبة في حجة سمع ولا عقل بل قد شهدت الآية التي تلوتموها في ذلك بزلل الرجل ودلت على نقصه وإنبات عن سوء أفعاله بما نحن موضحون عن وجهه إن شاء الله تعالى.
وأما ما ادعيتموه من أنس الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله فهو توهم منكم وظن يكشف عن بطلانه الاعتبار وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآله مؤيد بالملائكة المقربين الكرام والوحي ينزل عليه من الله تعالى حالا بحال. والسكينة معه في كل مكان وجبرئيل عليهالسلام آتيه بالقرآن وعصمته والتوفيق من الله تعالى والثقة بما وعده من النصر والظفر يرفع عنه الاستيحاش. فلا حاجة إلى أنيس سوى من ذكرنا لا سيما وبمنقوص عن منزلة الكمال خائف وجل يحتاج إلى التسكين والرفق والمداراة.
وقد نطق بصفته هذه صريح القرآن وأنبأ بمحنة النبي صلىاللهعليهوآله وما عالجه من تدبيره له بالتسكين والتشجيع وتلافي ما فرط منه لشدة جزعه وخوفه وقلقه كي لا يظهر منه ما يكون به عظيم الفساد حيث يقول سبحانه فيما أخبر به عن نبيه صلىاللهعليهوآله (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (١).
وبعد فلو كان لرسول الله صلىاللهعليهوآله مؤنس على ما ادعاه الجاهل لم يكن له بذلك فضل في الدين لأن الأنس قد يكون لأهل التقوى والإيمان بأمثالهم من أهل الإيمان وبأغيارهم من أهل الضلال والبهائم والشجر والجمادات بل ربما أنس العاقل بمن يخالفه في دينه
__________________
(١) سورة التوبة ٩ : ٤٠.
واستوحش ممن يوافقه وكان أنسه بعبده وإن كان ذميا أكثر من أنسه بعالم وفقيه وإن كان مهذبا ويأنس بوكيله أحيانا ولا يأنس برئيسه كما يأنس بزوجته أكثر من أنسه بوالدته ويأنس إلى الأجنبي فيما لا يأنس فيه إلى الأقرب منه وتأتي عليه الأحوال يرى أن التأنس ببعيره وفرسه أولى من التأنس بأخيه وابن عمه كما يختار المسافر استصحاب من يخبره بأيام الناس ويضرب له الأمثال وينشده الأشعار ويلهيه بالحديث عن الذكر وما يبهج الخواطر بالبال ولا يختار استصحاب أعبد الناس وأعرفهم بالأحكام ولا أقرأهم للقرآن وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر فضل بالأنس به ولو سلمناه ولم نعترض في بطلانه بما قدمناه وهذا بين لا إشكال فيه عند ذوي الألباب.
وأما كونه للنبي صلىاللهعليهوآله ثانيا فليس فيه أكثر من الأخبار بالعدد في الحال وقد يكون المؤمن في سفره ثاني كافر أو فاسق أو جاهل أو صبي أو ناقص كما يكون ثاني مؤمن وصالح وعالم وبالغ وكامل وهذا ما ليس فيه اشتباه فمن ظن به فضلا فليس من العقلاء.
وأما الصحبة فقد تكون بين المؤمن والكافر كما تكون بينه وبين المؤمن وقد يكون الصاحب فاسقا كما يكون برا تقيا ويكون أيضا بهيمة وطفلا فلا معتبر باستحقاقها فيما يوجب المدح أو الذم ويقتضي
__________________
(١) في أ : عن الفكر وما ينتج.
الفضل أو النقص.
قال الله تعالى فيما خبر به عن مؤمن وكافر (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (١) فوصف أحدهما بالإيمان والآخر بالكفر والطغيان وحكم لكل واحد منهما بصحبة الآخر على الحقيقة (٢) وظاهر البيان ولم يناف الصحبة اختلاف ما بينهما في الأديان.
وقال الله سبحانه مخاطبا الكفار الذين بهتوا نبيه صلىاللهعليهوآله وادعوا عليه الجنون والنقصان (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٣) فأضافه عليهالسلام إلى قومه بذكر الصحبة ولم يوجب ذلك لهم فضلا ولا بإقامتهم كفرا وذما فلا ينكر أن يضيف إليه عليهالسلام رجلا بذكر الصحبة (٤) وإن كان المضاف إليه كافرا ومنافقا وفاسقا كما أضافه إلى الكافرين بذكر الصحبة وهو رسول الله صلىاللهعليهوآله وسيد الأولين والآخرين ولم يوجب لهم فضلا ولا وفاقا (٥) في الدين ولا نفى عنهم بذلك نقصا ولا ضلالا عن الدين.
وقد ثبت أن إضافته إليهم بذكر الصحبة أوكد في معناها من
__________________
(١) سورة الكهف ١٨ : ٣٧ ، ٣٨.
(٢) (على الحقيقة) ليس في ب ، م.
(٣) سورة التكوير ٨١ : ٢٢ ، ٢٣.
(٤) (وإن كان المضاف .. بذكر الحصبة) ليس في ب ، ح ، م.
(٥) في أ : رفاقا.
إضافة أبي بكر بها لأن المضاف إليه أقوى في السبب من المضاف وهذا ظاهر البرهان.
فأما استحقاق الصبي اسم الصحبة من الكامل العاقل وإن لم يوجب ذلك له كمالا فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى الاشتهار بإفاضته على ألسن الناس العام والخاص ولسقوطه بكل لسان ...
وقد تكون البهائم صاحبا وذلك معروف في اللغة قال عبيد بن الأبرص
بل رب ماء أردت آجن |
|
سبيله خائف جديب |
قطعته غدوة مسيحا |
|
وصاحبي بادن خبوب |
يريد بصاحبه بعيره بلا اختلاف (١).
وقال أمية بن أبي الصلت
إن الحمار مع الحمار مطية |
|
فإذا خلوت به فبئس الصاحب (٢) |
وقال آخر :
زرت هندا وذاك بعد اجتناب |
|
ومعي صاحب كتوم اللسان (٣) |
يعني به السيف فسمى سيفه صاحبا.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر بذكر الصحبة فضيلة ولا كانت له منقبة على ما بيناه وشرحناه.
وأما حلوله مع النبي صلىاللهعليهوآله في الغار فهو كالمتقدم غير موجب له
__________________
(١) ديوان عبيد بن الابرص : ٢٧ ، وفيه بل رب ماء وردت آجن.
(٢ و ٣) كنز الفوائد للكراجكي ٢ : ٥٠.
فضلا ولا رافع عنه نقصا وذما وقد يحوي المكان البر والفاجر والمؤمن والكافر والكامل والناقص والحيوان والجماد والبهيمة والإنسان وقد ضم مسجد النبي صلىاللهعليهوآله الذي هو أشرف من الغار المؤمنين وأهل النفاق وحملت السفينة البهائم وأهل الإيمان من الناس ولا معتبر حينئذ بالمكان ومن اعتقد به فضلا لم يرجع في اعتقاده ذلك إلى حجة عقلية ولا عبارة ولا سمع ولا قياس ولم يحصل بذلك إلا على ارتكاب الجهالات.
فإن تعلقوا بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ مَعَنا) فقد تكون (مَعَنا) للواحد كما تكون للجماعة وتكون للموعظة والتخويف كما تكون للتسكين والتبشير وإذا احتملت هذه الأقسام لم تقتض فضلا إلا أن ينضم إليها دليل من غيرها وبرهان وليس مع التعلق بها أكثر من ظاهر الإسلام
فصل
فأما الحجج منها على ما يوجب نقص أبي بكر وذمه فهو قوله تعالى فيما أخبر به من نهي نبيه صلىاللهعليهوآله لأبي بكر عن الحزن في ذلك المكان فلا يخلو أن يكون ذلك منه على وجه الطاعة لله سبحانه وعليه لما نهاه النبي صلىاللهعليهوآله عنه ولا لفظ له في تركه لأنه صلىاللهعليهوآله لا ينهى عن طاعات ربه ولا يؤخر عن قربه.
__________________
(١) في ب ، ح ، م : اختلفت
ومن وصفه بذلك فقد قدح في نبوته وأخرجه عن الإيمان بالله تعالى وأدخله في جملة أعدائه وأهل مخالفته وذلك ضلال عظيم.
وإذا خرج أبو بكر بحزنه الذي كان منه في الغار على الاتفاق من طاعة الله تعالى فقد دخل به في معصية الله إذ ليس بين الطاعة والمعصية في أفعال العاقل الذاكر واسطة على تحقيق النظر ومن جعل بينهما قسما ثالثا وهو المباح لزمه فيه ما لزم في الطاعة إذ كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يحظر ما أباحه الله تعالى ولا يزجر عما شرعه الله.
وإذا صح أن أبا بكر كان عاصيا لله سبحانه بحزنه المجمع على وقوعه منه في الغار دل على استحقاقه الذم دون المدح وكانت الآية كاشفة عن نقصه بما بيّنّاه.
ومنها : أن الله سبحانه أخبر في هذه الآية أنه خص نبيه صلىاللهعليهوآله بالسكينة دون أبي بكر وهذا دليل على أن حاله غير مرضية لله تعالى إذ لو كان من أولياء الله وأهل محبته لعمته السكينة مع النبي صلىاللهعليهوآله في ذلك المقام كما عمت من كان معه صلىاللهعليهوآله ببدر وحنين ونزل القرآن فقال تعالى في هذه السورة (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (١).
__________________
(١) سورة التوبة ٩ : ٢٥ ، ٢٦.
وقال في سورة الفتح (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عليهمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).
وقال فيها أيضا (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢).
فدل عموم السكينة كل من حضر مع النبي صلىاللهعليهوآله من المؤمنين مقاما سوى الغار بما أنزل به القرآن على صلاح حال القوم وإخلاصهم لله تعالى واستحقاقهم الكرامة منه بالسكينة التي أكرم بها نبيه صلىاللهعليهوآله وأوضح بخصوص نبيه في الغار بالسكينة دون صاحبه في تلك الحال على ما ذكرناه عن خروجه من ولاية الله تعالى وارتكابه لما أوجب في العدل والحكمة الكرامة بالسكينة من قبائح الأعمال وهذا بين لم تحجب عنه العباد وقد استقصيت الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبي وخاصة كتاب (العيون والمحاسن) (٣) فإنني فرغت فيها الكلام واستوفيت ما فيه على التمام فلذلك خففت القول هاهنا وتحريت الاختصار وفيما أثبته كفاية إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) سورة الفتح ٤٨ : ١٨.
(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٦.
(٣) راجع الفصول المختارة من العيون والمحاسن ١ : ١٩ ـ ٢٤ ، بحار الانوار ١٠ : ٤١٨ ـ ٤٢٤ ، وانظر الاحتجاج ٢ : ٤٩٩ والشافي ٤ : ٢٥.
مسألة أخرى
فإن قالوا : إن الأمة مجمعة على أن رسول الله صلىاللهعليهوآله خص أبا بكر وعمر يوم بدر بالكون معه في العريش وصانهما عن البذل في الحرب وأشفق على حياتهما عن ضرب السيوف وفزع إليهما في الرأي والتدبير وهذا أمر أبين فضلا وأجل منقبة فقولوا في ذلك ما عندكم في معناه.
جواب
قيل لهم : ما أراكم تعتمدون في الفضائل إلا على الرذائل ولا تصلون المناقب إلا بذكر المثالب وذلك دليل خذلانكم وخزيكم في الدين وضلالكم.
أما كون أبي بكر وعمر مع رسول الله صلىاللهعليهوآله في العريش ببدر فلسنا ننكره لكنه لغير ما ظننتموه والأمر فيه أوضح من أن يلتبس بما توهمتموه وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآله لما علم من جبنهما عن الحروب وخوفهما من البراز للحتوف وجزعهما من لقاء الأبطال وضعف بصيرتها وعدم ثباتهما في القتال ما أوجب في الحكمة والدين والتدبير ـ
حبسهما في ذلك المكان ومنعهما من التعرض إلى القتال والاحتياط عليهما لأن لا يوقعا في تدبيره الفساد.
ولو علم صلىاللهعليهوآله منهما قوة في الجهاد وبصيرة في حرب أهل العناد ونية في الإصلاح والسداد لما حال بينهما وبين اكتساب الثواب ولا منعهما من التعرض لنيل المنازل العالية بجهاد الأعداء ولا اقتصر بهما على منازل القاعدين ولا أدخلهما في حكم المفضولين بما نطق به الذكر الحكيم حيث يقول سبحانه (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١).
ويؤكد ذلك أن الله تعالى أخبر عباده في كتابه بأنه (اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عليه حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).
فلا يخلو أن يكونا في جملة المؤمنين الذين نعتهم الله وأخبر عنهم بما ضمنه القرآن أو أن يكونا من غيرهم بخلاف صفاتهم التي جاء بها
__________________
(١) سورة النساء ٤ : ٩٥.
(٢) سورة التوبة ٩ : ١١١.
التنزيل فلو كانوا من جملة المؤمنين (١) لما منعهم رسول الله صلىاللهعليهوآله من الوفاء بشرط الله عليهم في القتال ولا حال بينهم وبين التوصل بالجهاد إلى ما وعد الله عليه أهل الإيمان من عظيم الثواب في محل النعيم والأجر الكبير الذي من ظفر به كان من الفائزين لأنه صلىاللهعليهوآله إنما بعث بالحث على أعمال الخيرات والاجتهاد في القرب والطاعات والترغيب في بذل النفوس في جهاد الأعداء وإقامة المفترضات.
ولما وجدناه قد منع هذين الرجلين من الجهاد وحبسهما عما ندب إليه خيار (٢) العباد دل على أنهما بخلاف صفات من اشترى الله تعالى نفسه بالجنة من أهل الإيمان وهذا واضح لذوي العقول والأذهان.
ويزيد ذلك بيانا انهزامهما مع المنهزمين في يوم أحد وفرارهما من مرحب يوم خيبر وكونهما من جملة المولين للأدبار في يوم الخندق وأنهما لم يثبتا لقرن قط ولا بارزا بطلا ولا أراقا في نصره الإسلام دما ولا احتملا في الذب عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ألما وكل ذلك يؤكد ما ذكرناه في معناه ويزيل عن ذوي الاعتبار الشبهات فيما ذكره أهل الضلالات.
وأما قولهم : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله صانهما عن البذل في الحرب وأشفق عليهما من ضرب السيف فهو أوهن كلام وأضعفه وذلك أنه صلىاللهعليهوآله عرض في ذلك اليوم عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله للحرب. وبذل إليها أخاه وابن عمه وصهره وأحب الخلق إليه أمير المؤمنين علي
__________________
(١) ((الذين نعتهم الله .. جملة المؤمنين)) ليس في ب ، ح ، م.
(٢) في ب ، ح ، م : حيال.
ابن أبي طالب عليهالسلام وابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رحمة الله عليه وأحباءه من الأخيار وخلصاءه من أهل الإيمان (١).
فكان عليهالسلام يقدم كل من عظمت منزلته عنده للجهاد معرضا له بذلك إلى أجل منازل الثواب ويرى أن تأخره عن ذلك حط له عن شيء من المقام إلا أن يكون بصفة من ذكرناه من المرتابين في الإيمان والشاكين في نعيم الجنان.
ولم يك عليهالسلام من أبناء الدنيا والداعين إليها وإلى التمسك بأعمال أهلها والترغيب عن حطامها فيتصور بما ذكره الجاهلون من الإشفاق على أحبته من الشهادة والمنع لهم ما يعقب لهم من الراحة ويحصل به الفضيلة ولو كان بهذه الصفة لخرج عن النبوة ولحق بأهل الكبر والجبرية وحاشاه صلىاللهعليهوآله من ذلك
فصل
على أنه يقال لهم : لو كان الأمر على ما ظننتموه في منع الرجلين من الجهاد كان سببه المحبة والإشفاق لأشفق عليهما من ذلك في خيبر ولم يعرضهما له حتى افتضحا بالهزيمة بين المسلمين وأبان عليهالسلام ذلك لأمته أجمعين عن حالهما في الظاهر وما كانا عليه في السر والباطن وسماهما فرارين وأخرجهما عن محبة الله تعالى حيث يقول عند
__________________
(١) في ح ، م : الاديان.
فرارهما : ((لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)) (١).
وقد بينا ما يقتضيه فيهما من فحوى هذا الكلام فيما تقدم ولا حاجة لنا إلى تكراره
فصل
وأما قولهم : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله إنما حبسهما عن القتال لحاجة منه إلى رأيهما في التدبير فإنه نظير ما سلف من جهلهم بل أفحش منه وذلك لأن النبي صلىاللهعليهوآله كان معصوما وكانا بالاتفاق غير معصومين وكان صلىاللهعليهوآله مؤيدا بالملائكة ولم يكونا مؤيدين.
وقد ثبت أن العاقل لا يستمد الرأي إلا ممن يعتقد فضله عليه ومتى استمد ممن يساويه أو يقاربه في معناه فلجواز عدوله عن صوابه بالغلط عن طريقه وما يلحقه من الآفات في النظر ويحول بينه وبين الحق فيه من الشبهات.
وإذا فسد القول بفضل أبي بكر وعمر على رسول الله صلىاللهعليهوآله في الرأي بل في كل شيء من الأشياء وبطل مساواتهما له ومقاربتهما إياه مع ما يبطل من جواز الغلط عليه ولحوق الآفات به لعصمته (٢) صلىاللهعليهوآله استحال مقال من زعم أنه كان محتاجا إليهما في الرأي
__________________
(١) تقدم مع تخريجاته في ص : ٣٤.
(٢) في أزيادة : ورأفته.
فصل
على أنه لو كان ممن يجوز عليه الخطأ في الدين والغلط في التدبير لكان ما يقع منه مستدركا بجبرئيل وميكائيل وأمثالهما من الملائكة عليهالسلام ولم يكله الله تعالى في شيء منه إلى رعيته ولا أحوجه فيه إلى أحد من أمته لما تقتضيه الحكمة في تولى حراسته وتهدئته وغناه بذلك عمن أحوجه الله سبحانه إليه من جميع بريته.
ولو جاز أن يلجئه الله تعالى إلى أحد من أمته في الرأي لجاز أن يضطر إليه في جميع معرفة الأحكام ولجعله تابعا لهم فيما يدركونه بالاجتهاد والقياس وهذا ما لا يذهب إليه مسلم فثبت ما بيناه من الغرض في حبس الرجلين عن القتال فإنه كما شرحناه وبينا وجهه وأوضحناه دون ما ظنه الجاهلون والحمد لله
فصل
ثم يقال لهم : خبرونا عن حبس رسول الله صلىاللهعليهوآله أبا بكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه وتدبيرهما الأمر معه أقلتم ذلك ظنا أو حدسا أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين؟
فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم فكفاهم بذلك خزيا في مقالهم وشناعة وقبحا وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه السمع والتوقيف فلا يجدون شيئا يتعلقون به من الوجهين جميعا.
ثم يقال لهم : أما العريش فكان من رأى الأنصار بلا اختلاف ولم يكن لأبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين مقال وأما المشورة فلم تكن فيه وإنما أشار في الأسرى بعد القتال واختلفا عند المشورة في الرأي.
وعدل رسول الله صلىاللهعليهوآله إذ ذاك عن رأى عمر بن الخطاب لمعرفته أنه صدر عن تراث بينه وبين القوم وقصد الشناعة (١) على النبي صلىاللهعليهوآله وشفاء غيظ بني عبد مناف ولم يرد بما قال وجه الله تعالى وصار إلى رأى أبي بكر لما أراد الله تعالى من المحنة لذلك.
فنزل القرآن بتخطئة صاحبكم وجاء الخبر عن علام الغيوب بخيانته في الدين وركونه إلى الدنيا وإرادته لحطامها وضعف بصيرته في الجهاد وأظهر منه ما كان يخفيه وكشف عن ضميره وفضحه الوحي بها ورد فيه حيث يقول الله سبحانه (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢).
وهذا يدل على أن النبي صلىاللهعليهوآله حينما استشارهما لم يكن لفقر منه في الرأي والتدبير إليهما وإنما كان لاستبراء أحوالهما والإظهار لباطنهما في النصيحة له أو ضدها كما أخبره الله سبحانه بتعريفه ذلك
__________________
(١) (الشناعة) ليس في ب.
(٢) سورة الانفال ٨ : ٦٧ ، ٦٨.
عند نطقهما في الأمور وكلامهما وغيرهما من أضرابهما فقال تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (١).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما ادعوه في العريش وكانت المشورة بعده من أوضح البرهان على نقص الرجلين دون فضلهما على ما قدمناه (٢).
__________________
(١) سورة محمد ٤٧ : ٣٠.
(٢) للتوسع راجع الفصول المختار ١ : ١٤ و ١٥ ، الشافي ٤ : ٤١٧ ، الغدير ٧ : ٢٠٧.