أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١
وأما من قال بالتفرقة بين الحسن ، والقبيح : قال فى الحسن : هو الفعل العارى عن جميع وجوه القبح. وقال فى القبح : هو ما ليس للقادر عليه فعله مع وقوعه على وجه يقتضي تقبيحه.
وهو فاسد من وجهين :
الأول : أنه مبنى على أن القبح وصف ذاتى للقبيح ، وسيأتى إبطاله (١).
الثانى : أنه ليس تعريف الحسن بأنه الّذي انتفت عنه جميع وجوه القبح أولى من تعريف القبح بأنه الّذي انتفت عنه جميع وجوه الحسن.
ثم اتفق القائلون بتحسين الأفعال وتقبيحها عقلا : على أن من فعل فعلا حسنا ، واستحق عليه ثناء ، وثوابا ؛ أو فعل فعلا قبيحا ، واستحق عليه ذما وعقابا ؛ أنه لا بد وأن يكون ذلك لصفة عائدة إلى نفس الفاعل يستحق بها الثواب ، والثناء ، أو الذم ، والعقاب ، غير الصفة الموجبة للتحسين ، والتقبيح ؛ وسيأتى إبطاله.
ومذهب أهل الحق من الأشاعرة (٢) وغيرهم :
أن الحسن ، والقبح ليس وصفا ذاتيا للحسن ، والقبيح ، ولا أن ذلك مما يدرك بضرورة العقل ، أو نظره ؛ بل إطلاق لفظ الحسن ، والقبيح عندهم باعتبارات غير حقيقية ؛ بل إضافية يمكن تغيرها ، وتبدلها بالنظر (٣) إلى الأشخاص ، والأزمان والأحوال وهى ثلاثة :
الأول : أن الأفعال تنقسم : إلى ما وافق الغرض ؛ فيسمى حسنا. وإلى ما خالف الغرض ؛ فيسمى قبيحا. وإلى ما لا يوافق ، ولا يخالف ؛ فيسمى عبثا.
__________________
(١) انظر ما سيأتى فى الصفحات التالية.
(٢) لتوضيح مذهب أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم ، وردهم على خصومهم بالتفصيل :
انظر اللمع للأشعرى ص ١١٧ ـ ١٢٢ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٢٥٨ ـ ٢٦٧ والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص ٧٣ ـ ٨١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٣٧٠ ـ ٣٩٦ والمحصل للرازى ص ١٤٧ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٨٤ على هامش المحصل.
ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ٢٣٣.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : انظر شرح الطوالع ص ١٩٥ ، ١٩٦ وشرح المواقف ٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٨ وشرح المقاصد ٢ / ١٠٩ ـ ١١٣.
(٣) فى ب (بالنسبة).
وبهذا الاعتبار قد يكون الفعل الواحد حسنا بالنسبة إلى من وافق غرضه. قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه : كقتل زيد مثلا ؛ فإنه قبيح بالنسبة إلى مواليه ، حسن بالنسبة إلى أعاديه : وهو أمر إضافى غير ذاتى. لا كالسواد ، والبياض ؛ فإنه لا يتصور أن يكون المحل أسود ، أبيض بالنسبة إلى شخصين.
الاعتبار الثانى : إطلاق الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ويدخل / فيه الواجبات ، والمندوبات ، وأفعال الله ـ تعالى ـ ويخرج منه المباحات ؛ لعدم ورود الشرع بالأمر بالثناء على فعلها ، وتركها.
ولو قيل بأن الحسن ما يجوز الثناء على فاعله ؛ لكان المباح حسنا ؛ لجواز الثناء على فاعله. وإطلاق القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام ، ويخرج منه المكروه ، كراهة التنزيه ، والمباح ؛ حيث أن الشارع لم يأمر بذم فاعله ؛ لكن المكروه وإن لم يكن قبيحا بهذا الاعتبار ؛ فليس حسنا باعتبار الثناء على فعله ؛ بل باعتبار أن لفاعله أن يفعله ، أو أنه موافق للغرض.
وإطلاق الحسن ، والقبح بهذا الاعتبار أيضا مما يختلف ، ويتبدل ؛ إذ لا مانع من ورود الشرع بوجوب الفعل فى حالة ، وتحريمه فى حالة ، وبوجوبه على شخص ، وتحريمه على آخر.
الاعتبار الثالث : إطلاق الحسن على ما لفاعله أن يفعله ، ويدخل فيه مع أفعال الله تعالى ـ والواجبات ، والمندوبات ؛ المباحات ، والمكروهات ، كراهة تنزيه ؛ غير أن إطلاق الحسن على المباح مختلف فيه بين أصحابنا.
فمنهم : من منع منه نظرا إلى أن الحسن : مقتضاه التحريض عليه ، والدعاء إليه ؛ وليس المباح كذلك.
ومنهم من سوغه : نظرا إلى أن من فعل مباحا ، لا يمتنع على واصفه أن يقول : فعل حسنا ، من غير نكير من أئمة المسلمين ، وأنه (١) لو لم يكن حسنا (١) ؛ لصح أن يقال لفاعل المباح. ما فعل حسنا ، وهو خلاف المعهود من اصطلاح الشرع.
__________________
(١) فى ب (ولو كان غير حسن).
وعلى هذا : فما لفاعله أن يفعله قد يصير ممنوعا منه بأن يرد الشرع بإباحة شيء فى حالة ، وتحريمه فى أخرى ؛ فلا يكون ذاتيا.
واتفقوا على أن فعل الله ـ تعالى ـ حسن بكل حال ، وأنه موصوف بذلك أبدا سرمدا ، وافق الغرض ، أو خالف. وإن (كان) (١) ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل بنسبة ، ولا إضافة ؛ لكن إن كان بعد ورود الشرع ؛ ففعله موصوف بكونه حسنا ؛ بالاعتبارين الأخيرين. وسواء كان واقعا ، أو متوقعا على أى حالة كان وضعه ، وإن كان قبل ورود الشرع ؛ فموصوف بكونه حسنا ، بالاعتبار الأخير منهما.
ولا يمكن أن يقال : إن افعال الله ـ تعالى ـ قبل ورود الشرع بالأمر بالثناء عليها حسنة. بمعنى أن الأمر بالثناء على أفعاله قبل ورود الشرع موجود بتقدير ورود الشرع ، كما تخيله بعض الأصحاب استنباطا / من تعلق الأمر بالمعدوم بتقدير وجوده. فإنا لو فرضنا عدم ورود الشرائع ، وعدم خطور تجويز ورودها بالبال ؛ لما خرجت أفعال الله ـ تعالى ـ عن اتصافها (٢) ، بكونها (٢) حسنة ، ولو كان الحكم بكونها حسنة متعلقا بتقدير ورود الشرع ؛ لما كانت أفعاله متصفة بكونها حسنة ؛ وهو خرق للإجماع.
وأما ما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع ؛ فموصوفة بالحسن ، والقبح باعتبار موافقة الأغراض ، ومخالفتها ، أو بمعنى أن لهم فعلها. لا بمعنى ورود الشرع بالثناء ، أو الذم.
وعلى هذا التفصيل يكون الكلام فى صفة أفعال أهل الجنة. بالحسن حالة وجودها ؛ لعدم ورود (٣) الشرع فى الآخرة.
وأما فى وقتنا هذا ؛ فهل يوصف ما يتوقع من أفعالهم فى الآخرة بالحسن شرعا فمتوقف على ورود الشرع به ؛ فإن ورد به فذاك. وإلا فلا.
وعلى ما حققناه من وصف ما سبق من أفعال الله على ورود الشرع بكونها حسنة شرعا ؛ لورود الشرع بالأمر بالثناء على ما مضى من أفعاله يكون التحقيق فى وصف ما
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) فى ب (كونها).
(٣) فى ب (وجود).
وقع من أفعال العباد قبل ورود الشرع بالحسن ، والقبح بتقدير ورود الشرع بالثناء ، أو الذم عليها. وإن كانت لا توصف بكونها حراما ، ولا واجبة ، ولا مندوبة ؛ فإن ذلك يتعلق بخطاب التكليف ؛ ولا تكليف بما مضى من الأفعال قبل ورود الشرع ، ولا يصير مكلفا بها بخطاب وجد بعد انقضائها. وهذا بخلاف ورود الأمر بالثناء ، أو الذم على ما مضى.
فإن قيل : إذا كان فعل الله ـ تعالى ـ حسنا بكل حال ، وأفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ عندكم ، وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها ؛ فهى فعل الله ـ تعالى ـ ؛ فتكون حسنة بكل حال. فكيف قضيتم على بعضها بالتقبيح؟
وقد اختلف أصحابنا فى ذلك :
فمنهم من قال : إن القدرة الحادثة مؤثرة فى المقدور ، ومقتضية له حالا.
ومنهم من قال : بالكسب من غير تأثير ، على ما يأتى تحقيق القول فيه. وعلى هذا فالحكم بالتقبيح إنما هو على فعله ، أو كسبه ، لا على فعل الله تعالى.
ولنا فى المسألة أنا نقول :
لو كان شيء من الأفعال قبيحا لذاته ، لم يخل : إما أن يكون المفهوم من كونه قبيحا ، هو نفس ذات ذلك الفعل ، أو زائد عليه.
لا جائز أن يكون هو (١) نفس ذات (١) الفعل : لثلاثة أوجه :
الأول : هو أنا قد نعقل / ذات الفعل ، ونجهل كونه قبيحا : كالكذب الّذي فيه نفع إلى أن نعرف قبحه (٢) بالنظر كما هو مذهبهم ؛ والمعلوم غير المجهول.
الوجه الثانى : أنه (٣) لو كان هو (٣) نفس ذات الفعل ؛ لكان يلزم أن ما حكم بكونه قبيحا ، أو يكون مماثله قبيحا ؛ ضرورة الاشتراك فى مفهوم الذات ، ويلزم من ذلك أن يكون القتل المستحق قبيحا ؛ ضرورة مماثلته لما هو قبيح فى ذاته ، وهو القتل الّذي ليس بمستحق.
__________________
(١) فى ب (نفس).
(٢) فى ب (نفعه).
(٣) فى ب (لو كان).
الوجه الثالث : أنا سنبين أن جميع أفعال العباد مخلوقه لله ـ تعالى ـ فلو كان مسمى القبيح هو ذات الفعل ، والقبيح على أصلهم ، لا يكون مخلوقا لله ـ تعالى ـ فلا يكون مخلوقا له ؛ وهو ممتنع كما يأتى.
وإن كان المفهوم من كونه قبيحا زائدا على ذات الفعل : فإما أن يكون صفة له ، أو لا يكون صفة له.
فإن لم يكن صفة له : فوصف العقل به يكون ممتنعا. وإلا لجاز اتصاف الجسم بحركة لا تقوم به ؛ وهو محال.
وإن كان صفة له : فإما أن تكون صفة ثبوتية ، أو لا ثبوتية.
لا جائز أن تكون صفة ثبوتية لوجهين :
الأول : أنه قد يكون صفة للعدم كما فى ترك الحسن الواجب. والترك عدم ، والثبوت لا يكون صفة للعدم.
الثانى : أنه يلزم منه قيام المعنى بالمعنى ؛ وهو ممتنع كما يأتى.
ولا جائز أن تكون عدمية ؛ لأن نقيض المفهوم من القبيح ، لا قبيح. ولا قبيح صفة للعدم ، وهو ترك الفعل القبيح ؛ فالقبيح لا يكون عدما.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بكون الفعل قبيحا لذاته ؛ فكان محالا.
فإن قيل : لا شك فى وصف الفعل بكونه ممكنا ، ومعلوما ، ومقدورا ، ومذكورا إلى غير ذلك من الأوصاف (١). وما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بهذه الصفات ؛ وذلك لأن [(٢) المفهوم من كون (٢)] الفعل ممكنا ، ومعلوما ، ومقدورا ، ومذكورا : إما أن يكون المفهوم منه هو نفس ذات الفعل ، أو زائدا عليه. والتقسيم : كالتقسيم ، والتقرير للمقدمات : كالتقرير إلى آخره ، وهو رفع لما علم الاتصاف به ضرورة ؛ فما هو الجواب عنه فى صورة الإلزام. هو الجواب عنه فى محل الاستدلال.
__________________
(١) فى ب (الصفات).
(٢) ساقط من أ.
قلنا : هذه الصفات إنما هى أمور اعتبارية ، وصفات وهمية تقديرية. يقدرها المقدر ، ويفرضها الفارض ، وليس لها مدلول هو فى نفس الأمر صفة ثبوتية للفعل ، ولا سلبية.
فإن قالوا : والمفهوم (١) من القبيح كذلك / ؛ فقد خرج القبيح عن أن يكون قبيحا لذاته ؛ وهو المطلوب.
ومن هذا المسلك يقتضي الاستدلال على أن الفعل لا يكون حسنا لذاته أيضا. وقد احتج الأصحاب فى المسألة بمسالك ضعيفة :
المسلك الأول :
أنهم قالوا : لو كان الكذب قبيحا لذاته ؛ فلو قال القائل : إن عشت ساعة أخرى كذبت. فعند حضور تلك الساعة. إن كذب ؛ فقد صار خبره الأول ـ صادقا. وإن صدق ؛ كذب خبره الأول.
وعند ذلك : فإما أن يكون الحسن منه فى تلك الساعة الصدق ، أو الكذب
فإن كان الصدق : فيلزمه الكذب فى الخبر الأول ؛ وهو قبيح. وما لزم منه القبيح ؛ فهو قبيح ، فيكون الحسن قبيحا.
وإن كان الحسن فيه (٢) الكذب : فليس الكذب قبيحا لذاته ؛ وهو ضعيف من ثلاثة أوجه :
الأول : هو أن لقائل أن يقول : ما المانع من أن يكون الصدق فى تلك الساعة هو الحسن؟ ولا نسلم أنه يلزم من ملازمة القبيح له أن يكون قبيحا. وليس العلم بذلك ضروريا ، وإن كان نظريا ؛ فلا بد من إثباته.
الثانى : سلمنا اتصاف ما لازمه القبح بالقبح ؛ ولكن ما المانع من كونه قبيحا من جهة ملازمة القبيح له؟ ومن كونه حسنا من جهة تعلقه بالمخبر عنه على ما هو به؟
وعلى هذا : فالفعل المطلق لا يوصف بكونه حسنا ، ولا قبيحا دون النظر إلى الوجوه والاعتبارات على ما سبق من مذهب أوائل المعتزلة ، وعند (٣) اختلاف الوجوه ، والاعتبارات ، فلا مانع من الحكم (٤).
__________________
(١) فى ب (المعلوم).
(٢) فى ب (هو).
(٣) فى ب (وهذا).
(٤) فى ب (الجمع).
الثالث : سلمنا امتناع ذلك ؛ ولكن ما المانع من الحكم على خبره بكونه قبيحا مطلقا.
أما بتقدير الصدق ؛ فلما يلزمه من القبيح.
وأما بتقدير الكذب ؛ فلكونه كذبا.
المسلك الثانى :
أنه لو قال القائل : زيد فى الدار. ولم يكن فيها ، فلو كان قبيحا عقلا ؛ فالمقتضى لقبحه : إما ذات هذه الألفاظ ، أو عدم كونه فى الدار ، أو المجموع ، أو أمر رابع.
لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كان خبره قبيحا ، وإن كان زيد فى الدار.
ولا جائز أن يقال بالثانى : لأن العدم لا يكون علة للأمر الثبوتى.
ولا جائز أن يقال بالثالث : فإن العدم لا يكون جزءا من علة الأمر الثبوتى.
وإن كان الرابع : فإما أن يكون ذلك المقتضى لازما لذلك القول مع عدم كون زيد فى الدار ، أو غير لازم (١).
فإن لم يكن لازما (٢) : أمكن وجود ذلك القول (٣). مع عدم زيد فى الدار ؛ ولا يكون / قبيحا.
وإن كان لازما : فإما لنفس القول ، أو لعدم كون زيد فى الدار ، أو لهما ، أو لأمر آخر.
فإن كان لازما لنفس اللفظ : لزم القبح ، وإن وجد زيد فى الدار.
وإن كان الثانى ، أو الثالث ؛ فهو ممتنع ؛ لما تقدم من أن العدم لا يكون علة ، ولا جزء علة للأمر الثبوتى.
وإن كان الرابع : فالكلام فيه كالكلام فى الأول ؛ ويلزم [منه] (٤) التسلسل.
ولقائل أن يقول :
__________________
(١) فى ب (ملازم).
(٢) فى ب (ملازما).
(٣) فى ب (الفعل).
(٤) ساقط من أ.
المحكوم بقبحه إنما هو ذلك اللفظ مشروطا بعدم زيد فى الدار ، والعدم وإن لم يكن علة مقتضية للأمر الثبوتى ، ولا جزء علة ، فلا يمتنع أن يكون شرطا. وعند ذلك : فما ذكر من لزوم المحال لا يكون لازما.
المسلك الثالث :
أنه لو كان الخبر الكاذب قبيحا عقلا ، فالمقتضى لقبحه : إما أن يكون صفة لمجموع حروفه ، أو لآحادها.
لا جائز أن يقال بالأول : لاستحالة وجود جملة حروفه معا ، وما لا وجود له امتنع أن يكون متصفا بصفة مقتضية لأمر ثبوتى ؛ لأن المقتضى للأمر الثبوتى لا بد وأن يكون ثبوتيا ، والأمر الثبوتى لا يكون صفة للعدم.
ولا جائز أن يقال بالثانى : لأن جهة اقتضاء القبح فى الخبر الكاذب إنما هو الكذب ، والكذب لا يقوم بكل واحد من آحاد الحروف ، وإلا كان كل حرف خبرا ؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول :
ما ذكرتموه إنما يصح أن لو كان تقبيح الأفعال وتحسينها بسبب اختصاصها بصفات (١) موجبة للتحسين ، والتقبيح ؛ وهو غير مسلم ؛ بل كون الفعل قبيحا ، أو حسنا إنما هو من الصفات النفسية : مثل كون الجوهر جوهرا ، والعرض عرضا ، ونحو ذلك ؛ وذلك لا يستدعى علة مقتضية له على ما سلف من إيضاح مذهب الأوائل من المعتزلة.
سلمنا ذلك ؛ ولكن ما المانع من أن يكون الحكم بالقبح على كل واحد من الحروف عند وجوده مشروطا؟
أما الحرف الأول : فبوجود باقى الحروف بعده. والأخير : بوجود الباقى قبله ، والمتوسط : بوجود السابق ، واللاحق.
والقول بأن الجهة المقتضية للقبح ، إنما هى الكذب. وهو فلا يقوم بكل (٢) واحد (٢) من آحاد الحروف ؛ فيلزم منه امتناع وجود الكذب ؛ لاستحالة اتصاف كل واحد من الحروف بتقدير وجوده بالكذب ، واستحالة اتصاف الجملة لتعذر اجتماعها ؛ وهو محال.
__________________
(١) فى ب (بصفة).
(٢) ساقط من ب.
وعلى هذا / فما هو الجواب فى صحة اتصاف الخبر بكونه كذبا ؛ هو الجواب فى صحة اتصافه بكونه قبيحا.
المسلك الرابع :
أنه لو كان قبح الكذب صفة حقيقية ، لما اختلفت باختلاف الأوضاع ، والاصطلاحات ، وقد اختلفت باختلاف الوضع ، والاصطلاحات ؛ فلا تكون صفة حقيقية.
أما المقدمة الأولى : فبيانها أن الألفاظ ، والأوضاع تابعة للمعانى والمسميات ، والأصل لا يتغير بالتابع ، ولهذا فإن معنى الجسم لما كان أمرا حقيقيا ؛ لم يختلف باختلاف أسمائه.
وأما المقدمة الثانية : فبيانها أن صفة القبح فى قول القائل : قام زيد ، مع عدم قيامه. قد يتغير بأن يجعل الواضع قوله : قام زيد مقام الأمر ، أو (١) النهى (١). أو غير ذلك من أقسام الكلام ، ويخرج ذلك اللفظ عن كونه قبيحا ؛ بل ولو تلفظ به من لا يعرف مدلوله لغة ؛ فإنه لا يوصف بصفة القبح. ولو كان القبح صفة حقيقية ؛ لما تغير بالجهل ، والمعرفة.
وهو ضعيف أيضا ، إذ لقائل أن يقول :
ما المانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطا بكونه موضوعا للخبر ، وعدم مطابقته للمخبر عنه مع علم (٢) المخبر به؟ وأنه مهما اختل شرط من هذه الشروط ؛ فقد خرج عن كونه قبيحا. كما خرج عن كونه كذبا.
والقبح فإنما هو صفة للكذب ؛ فيكون تابعا له فى الوجود ، والعدم.
المسلك الخامس :
أنه لو كان الكذب الّذي لا غرض فيه قبيحا لذاته ؛ لكان الكذب الّذي يستفاد به عصمة دم نبى ، أو ولى عن ظالم يقصد قتله قبيحا ؛ ضرورة كونه كذبا ، وليس كذلك ؛ بل هو حسن ؛ بل واجب يأثم بتركه (٣) إجماعا. ولو كان قبيحا لما كان واجبا.
__________________
(١) فى ب (والتمنى).
(٢) فى ب (العلم).
(٣) فى ب (تاركه).
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن الكذب فى الصورة المفروضة حسن [ولا واجب] (١) ؛ بل الواجب إنما هو دفع الهلاك عن النبي ، وتخليصه مع القدرة عليه ؛ وذلك ممكن بأن يأتى بصورة لفظ الخبر من غير قصد للإخبار ؛ فلا يكون كاذبا فيه فى نفس الأمر ، وإن كان كاذبا فى الظاهر. وإذا لم يكن الكذب متعينا فى الدفع كان الإتيان به قبيحا لا حسنا ، ولا واجبا.
وإن سلمنا تعذر ذكره دون قصد الإخبار ، غير أن الإخبار ممكن دون الكذب بطريق التعريض والتورية / وقصد الإخبار عن غير المسئول عنه.
وعلى هذا : فلا يكون كاذبا فى نفس الأمر ، ولهذا قال عليهالسلام «إنّ فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» (٢). وإذا لم يكن الكذب متعينا فى الدفع ؛ لم يكن واجبا ، ولا حسنا. نعم غايته أنه كاذب فى ظاهر الأمر ، دون باطنه ؛ فلا يكون كذبا ، ولا قبيحا فى نفسه.
سلمنا (٣) تعذر الدفع دون الكذب ؛ ولكن لا نسلم مع ذلك وجوبه ولا حسنه ؛ بل الواجب ، والحسن ما لازمه من دفع الهلاك عن النبي عليهالسلام.
ولا نسلم أن اللازم هو نفس الملزوم ؛ فاللازم (٤) واجب حسن (٤) ، والملزوم قبيح ، نعم غاية ما فيه أنه لا يفضى بتحريمه ولزوم الإثم له ؛ لأنه أمر شرعى ؛ فلا يمتنع انتفاؤه مع وجود ما يقتضيه لمانع هو أرجح من المقتضى.
وأما القبح : فصفة حقيقية لا تزول بالمانع ، وإن زال حكمها الشرعى.
المسلك السادس :
لو كان الظلم قبيحا بوجه عائد إليه ؛ للزم منه أمر ممتنع ؛ فيمتنع.
وبيان الملازمة من وجهين :
الأول : أنه يلزم منه تقدم المعلول على العلة.
__________________
(١) فى أ (لا واجب).
(٢) رواه ابن عدى والبيهقى فى السنن عن عمران بن حصين ، ورمز له السيوطى بالضعف «الجامع الصغير ج ١ حديث رقم ٢٣٣٢».
(٣) ساقط من ب.
(٤) فى ب (واللازم حسن واجب).
وبيان أن قبح الظلم متحقق قبل وجود الظلم. ولهذا فإنه ليس لفاعله أن يفعله. وإذا كان قبح الظلم متحققا قبل وجود الظلم ، فلو كان القبح معللا بجهة عائدة إلى الظلم ؛ لكان المعلول متقدما على علته ؛ وهو محال.
الثانى : أنه يلزم منه تعليل الوجود بالعدم ؛ وتعليل الوجود بالعدم ممتنع كما سبق.
وبيان ذلك : هو أن القبح صفة وجودية ؛ فإن نقيضه لا قبح ، ولا قبح صفة للعدم ؛ فيكون عدما ؛ فالقبح وجود.
وإذا كان وجوديا : فلو كان معللا بالظلم ؛ لكان العدم من جملة علته.
وبيانه أن مفهوم الظلم اضرار غير مستحق ، وكونه غير مستحق أمر عدمى ؛ فيكون داخلا فى العلة ؛ وهو محال.
وهو فاسد أيضا [فإن لقائل أن يقول] (١) : لا نسلم الملازمة.
[وقولكم] (٢) فى الوجه الأول : إن قبح الظلم متقدم على وجود الظلم غير مسلم ؛ إذ القبح صفة للظلم ، والصفة لا تتقدم على الموصوف ؛ بل المتقدم إنما هو حكم أهل العرف على ما سيوجد من الظلم بأنه بتقدير وجوده قبيح ، وليس فى ذلك ما يوجب تقدم قبح الظلم على الظلم ، أو حكم الشارع بشرعية الإثم [والمؤاخذة] (٣) على الظلم بتقدير وجوده ، والشرعية تكون سابقة أبدا على الأفعال / والشرعية من الشارع ليست صفة للفعل.
وقولكم فى الوجه الثانى : أنه يلزم منه تعليل الوجود بالعدم ، غير مسلم.
قولكم : القبح صفة ثبوتية ؛ ممنوع.
قولكم : إن نقيضه صفة للعدم.
قلنا : إن دل ذلك على كون النقيض عدما ؛ فالقبح أيضا صفة لترك الحسن الواجب ؛ فيكون عدما كما سبق.
__________________
(١) فى أ (فإن قيل للقائل).
(٢) فى أ (وقولهم).
(٣) فى أ (المؤاخذ).
وإن سلمنا أنه وجود ؛ ولكن لا نسلم أن العدم داخل فى علته.
قولكم : عدم الاستحقاق داخل فى مفهوم الظلم ؛ لا نسلم ذلك.
وإن سلمنا أنه ملازم للظلم ؛ ولكن لا يلزم أن يكون اللازم داخلا فى مفهوم الملزوم.
سلمنا أن عدم الاستحقاق داخل فى مفهوم الظلم ؛ ولكن ما المانع من أن تكون علة القبح من الظلم ما هو الأمر الوجودى فيه؟ ، ولكنه مشروط بالقيد العدمى ؛ فالقيد العدمى شرط لا جزء ، وعلة.
سلمنا امتناع التعليل بمفهوم الظلم ؛ ولكن لا يلزم من امتناع تعليل قبح الظلم بالظلم ، امتناع اتصافه بالظلم حقيقة. وإن لم يكن معلولا ، لا سيما ـ لشيء ما ، وذلك لأن قبح الظلم عندنا من الصفات النفسانية التى لا علة لها : ككون الجوهر جوهرا ، والسواد سوادا ، ونحوه.
المسلك السابع :
هو أن فعل العبد لو كان حسنا ، أو قبيحا لذاته حقيقة ؛ لكان مختارا فيه ، وليس مختارا ؛ فلا يكون حسنا ، ولا قبيحا.
أما بيان المقدمة الأولى : فلأن كل فعل لا يكون العبد مختارا فيه ؛ لا يكون موصوفا بهذه الصفات بالإجماع منا ، ومنهم.
وأما بيان المقدمة الثانية : فهو أنه عند وجود القدرة مع الداعى للعبد على الفعل : إما أن يكون الفعل واجبا : لا يسع تركه ، وإما (١) أنه غير واجب ؛ بل (١) يسع تركه.
فإن كان الأول : فهو مضطر إلى فعله من غير اختيار.
وإن كان الثانى : فإن توقف رجحان الفعل على الترك على مرجح ؛ فالكلام فى الفعل مع وجود ذلك المرجح : كالكلام فى الأول ، وهو تسلسل.
وإن لم يتوقف على مرجح : فإذا حصل كان حصوله اتفاقيا من غير مرجح ؛ فلا يكون العبد مختارا فيه أيضا.
__________________
(١) فى ب (أو غير واجب).
ولقائل أن يقول :
لا نسلم أن فعل العبد غير مختار فيه.
قولكم : إما أن يكون الفعل عند وجود القدرة ، والداعى واجبا ، أو لا يكون واجبا.
قلنا : القدرة الحادثة وإن كانت مخلوقة لله ـ تعالى ـ بالإجماع منا ومنكم ، غير أن تعلقها بالمقدور عندنا ، وإيجاد المقدور ، مستند إلى العبد.
وعلى هذا / فنقول : إن تعلقت القدرة بالفعل ؛ فهو واجب الحصول. وإن لم تتعلق به ؛ فهو غير واجب الحصول.
ووجوب الحصول بتقدير التعلق بدلا عن عدم التعلق ، لا يخرج العبد عن كونه مختارا ؛ لإمكان عدم التعلق بدلا عن التعلق. والاختيار بهذا التفسير هو المعتبر فى اتصاف فعل العبد بالحسن ، والقبح. ولو لا ذلك لكانت أفعال الرب تعالى : إما (١) اضطرارية (١) ، أو اتفاقية. وخرج عن أن يكون مختارا ؛ وهو خلاف الإجماع منا ، ومنكم.
وإن (٢) سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع اتصاف فعل العبد بالحسن ، والقبح العقلى ؛ فهو لازم عليكم فى الحسن ، والقبح الشرعى ؛ فإن من كان مضطرا إلى الفعل ، وقدرته غير مؤثرة فيه : كحركة المرتعش ، والنائم ، والمغمى عليه ؛ فإنه لا يوصف فعله بحسن ، ولا قبح شرعى.
فما هو جوابكم فى الحسن ، والقبح الشرعى ؛ هو جوابنا فى العقلى.
ثم وإن سلمنا دلالة ذلك فى أفعال العباد المختارين ؛ فهو غير جائز فى أفعال الله ـ تعالى ـ وإلا لزم أن يكون مضطرا إلى أفعاله ، أو أن يكون وقوع أفعاله اتفاقيا ؛ وهو محال.
وللخصوم (٣) شبه استدلالية ، وإلزامية :
أما الشبه الاستدلالية : فشبهتان :
__________________
(١) فى ب (اضطرارية).
(٢) فى ب (ولئن).
(٣) فى ب (وللخصم).
[الشبهة] (١) الأولى : أنهم قالوا : العقلاء مجمعون على قبح الكذب الّذي لا غرض فيه ، والجهل ، والكفران ، والظلم. وعلى حسن الصدق ، والعلم ، والإيمان ، والعدل. وأنه معلوم بالضرورة من غير إضافة إلى حالة دون حالة ، ولا عرف ، أو (٢) شريعة (٢). ولهذا قد يعتقد ذلك من لا يعرف العرف ، ولا يعتقد شريعة. كالبراهمة ، وغيرهم ؛ فدل [ذلك] (٣) على كون الحسن ، والقبح ذاتيا ، وأنه مدرك بضرورة العقل.
الشبهة الثانية : أنهم قالوا : من عنّ له تحصيل غرض ، واستوى فى تحصيله الصدق ، والكذب فى نظره ؛ مال إلى الصدق ، واثره قطعا ؛ وإن لم يكن عارفا بالعرف ، ولا معتقدا لشريعة. وليس ذلك إلا لحسنه فى نفسه ، وكذلك نعلم أن من رأى شخصا مشرفا على الهلاك وهو يقدر على إنقاذه ؛ فإنه يميل إلى إنقاذه ، وإن كان لا يرجو منه ثوابا ـ بأن لا يكون معتقدا للشرائع ، ولا مجازاة وشكرا ، بأن يكون المنقذ غير عالم به بأن يكون طفلا صغيرا ، أو مجنونا لا يعقل ، ولا ثم (٤) من يرى ذلك (٤) بحيث يتوقع منه الثناء ، والشكر ، ولا / له فيه غرض من نفع ، ولا دفع ضرر ؛ بل ربما كان يتضرر بالتعب (٥) ، والعنا (٥) ؛ فلم يبق إلا أن يكون ذلك لحسنه فى نفسه.
وأما الشبه الإلزامية : فعشر شبه :
الأولى : أنه لو كان السمع هو مدرك الحسن ، والقبح ؛ لما فرق العاقل قبل ورود الشرع بين من أحسن إليه وأساء ؛ وهو ممتنع قطعا.
الثانية : أنه لو لم يكن معنى الحسن ، والقبح مفهوما قبل ورود الشرع ؛ لما فهم ذلك (٦) عند وروده (٦) ؛ واللازم ممتنع.
الثالثة : أنه لو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة ، أو مأذونا فيها ؛ لما كان فعل الله ـ تعالى ـ حسنا ؛ إذ هو غير مأمور ، ولا مأذون.
__________________
(١) ساقط من أ.
(٢) فى ب (ولا شريعة).
(٣) ساقط من أ.
(٤) فى ب (والاثم من يراه).
(٥) فى ب (بالعنا والتعب).
(٦) فى ب (عند ورود الشرع).
الرابعة : أنه لو توقف معرفة الحسن والقبح ، على ورود الشرع ؛ لتوقف معرفة الوجوب على الشرع ، ولو توقف معرفة الوجوب على الشرع ؛ للزم منه إفحام الرسل على ما سبق فى قاعدة النظر (١).
الخامسة : أنه لو توقف معرفة الحسن ، والقبح على ورود الشرع ؛ لما كانت أفعال الله ـ تعالى ـ قبل ورود الشرع حسنة ؛ وهو خروج عن العقل ، والدين.
السادسة : لو كان لا معنى للحسن والقبح ، إلا ورود الشرع بالإطلاق والمنع ؛ لجاز من الله ـ تعالى ـ أن يأمر بالمعاصي ، وينهى عن العبادات.
السابعة : أنه لو كان الحسن ، والقبح متوقفا على ورود الشرع ؛ لجاز إظهار المعجزات على يد الكاذب فى رسالته ؛ وذلك مما يقدح فى تصحيح النبوات الثابتة.
الثامنة : أنه لو توقف معرفة الحسن ، والقبح على ورود الشرع ؛ لامتنع الحكم بنفى القبح عن الكذب فى حق الله ـ تعالى ـ ، والجهل عليه ؛ وهو ممتنع.
التاسعة : أنه لو توقف معرفة الحسن ، والقبح على ورود الشرع دون (٢) العقل ؛ لما حكم (٢) بهما من لم يعتقد الشرائع ، واللازم ممتنع ؛ فكذا الملزوم.
العاشرة : أنه لو توقف الحسن ، والقبح على ورود الشرع ؛ لامتنع تعليل شرع لأحكام ، والأفعال بالمصالح ، والمفاسد ، وفى ذلك سد باب القياس ، وتعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام ؛ ولم يقولوا به.
والجواب :
أما الشبهة الأولى الاستدلالية (٣) : فلا نسلم إجماع العقلاء على الحسن ، والقبح فيما قيل ؛ فإن من الملاحدة من لا يعتقد ذلك ؛ وهم من جملة العقلاء. كيف وإن من صور النزاع ، قبح إيلام البهائم من غير جرم ، ولا عوض ، ونحن لا نوافق عليه ؛ بل نقول : يحسن من الله ـ تعالى ـ إيلام البهائم من غير جريمة ولا عوض.
__________________
(١) انظر ل ٢٦ / ب وما بعدها.
(٢) فى ب (لم يحكم).
(٣) فى ب (عن الشبه الاستدلالية).
ثم وإن سلمنا اتفاق / العقلاء على ذلك ؛ ولكن لا نسلم أن مدرك العلم به الضرورة ؛ وبيانه من وجهين :
الأول : هو أن الضرورة لا معنى لها إلا ما لو خلى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوه (١) من غير التفات إلى (٢) نظر (٢) ، أو عرف متبع ؛ لوجد نفسه مصدقا به غير خال عنه : وذلك : كالعلم باستحالة اجتماع الضدين ، وأن الواحد أقل من الاثنين ، وأن الواحد فى آن واحد لا يكون فى مكانين وكما يجده الإنسان فى نفسه من الألم ، والغم ، والحزن ، والفرح ، وغير ذلك.
ولا يخفى أن ما مثل هذه الأشياء ليس كذلك ؛ فلا يكون العلم به ضروريا.
الثانى : [هو] (٣) أن العلم الضرورى لا ينازع فيه خلق لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب ، والمحال عادة ، ومن خالف ونفى كون العلم بهذه الأمور ضروريا بهذه المثابة ؛ فلا يكون ضروريا.
وربما قيل فى بيان امتناع الضرورة وجهان آخران.
الأول : هو أن الحكم بكون الكذب ، والظلم قبيحا قضية تصديقية ، والحكم التصديقى لا يمكن دون تصور مفرداته. فلو كان العلم به ضروريا ؛ لكان العلم بحقيقة الكذب ، والظلم ضروريا ؛ وليس كذلك.
وهو فاسد ؛ فإن القضية الضرورية : هى التى يصدّق العقل بها من غير توقف على أمر خارج غير تصور مفرداتها ؛ بل إذا تصورت مفرداتها بادر العقل بالنسبة الواجبة لها (٤) من غير توقف على أمر آخر. فكون معنى الظلم ، أو القبح غير معلوم بالضرورة ، لا ينافى أن تكون النسبة بين الظلم ، والقبح ـ بعد تصورهما ـ معلومة بالضرورة.
ولهذا فإنا نعلم استحالة الجمع بين السواد ، والبياض بالضرورة وإن كانت حقيقة السواد والبياض غير معلومة بالضرورة على (٥) ما يجده كل عاقل من نفسه.
__________________
(١) فى ب (النشو).
(٢) فى ب (إلى غير نظر).
(٣) ساقط من أ.
(٤) فى ب (إليها).
(٥) فى ب (كما يجده).
الثانى : هو أن الضرر لا يحكم بقبحه على مذهب المعتزلة ، حتى ينتفى عنه جميع وجوه الحسن ، وإلا فهو حسن.
ثم الوجوه التى يحسن الضرر لأجلها ، إنما يتوصل إليها عندهم بالنظر والاستدلال ، وما كان ثبوته نظريا ، فنفيه يكون نظريا ، فإذا كان قبح الضرر متوقفا على انتفاء وجوه الحسن ، ونفيها نظرى ؛ فالعلم بقبح الضرر نظرى. وهو غير صحيح أيضا ؛ فإنهم حيث قضوا بكون قبح الضرر ضروريا ، إنما قضوا به على وجه كلى مطلق : وهو أنّ الضّرر المجرد عن جهات النفع قبيح ، ودعوى العلم الضرورى بذلك ، لا ينافيه عدم العلم الضرورى بقبح الضرر فى آحاد الصور.
[وأما (١) إذا (١)] عرف دليل امتناع الضرورة ؛ فالاقتصار / على مجرد الدعوى لا يكون كافيا.
كيف وأنه قد لا تؤمن المعارضة بدعوى النقيض ، وإن تعرض (٢) للدلالة مع تعذرنا ؛ فقد بطلت دعوى (٣) الضرورة (٣) ؛ فإن الضرورى لا يكون نظريا.
وإن سلمنا أنه معلوم بالضرورة ؛ ولكن لا نسلم أن الحسن ، والقبح ذاتى للحسن ، والقبيح على ما بيناه.
قولهم : إن ذلك قد يكون مع قطع النظر عن التوابع ، والأعراض ، واختلاف الأحوال ، لا (٤) نسلم ذلك (٤) على ما سنبينه فى الشبهة الثانية.
وأما الشبهة الثانية : فمندفعة أيضا.
أما ما ذكروه من إيثار الصدق على الكذب فى الصورة المفروضة ؛ فهو استدلال على ما هو معلوم بالضرورة عندهم.
وهو إما أن يكون العلم به ضروريا فى نفس الأمر كما هو معتقدهم ؛ فلا معنى لإثباته بالنظر. وإن لم يكن ضروريا ؛ فقد بطل مذهبهم فى دعوى الضرورة. وإن سلمنا
__________________
(١) فى أ (وإذا).
(٢) فى ب (تعرضوا).
(٣) فى ب (الدعوى الضرورية).
(٤) فى ب (ممنوع).
إمكان الاستدلال فيه ؛ ولكن لا يخلو : إما أن يقال باستواء سلوك طريق الصدق ، والكذب فى العرف الشرعى ، والعقلى ، وموافقة (١) الغرض ومخالفته (١) ، نفيا وإثباتا ، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بالاستواء فى جميع هذه الجهات ؛ فلا نسلم صحة إيثار الصدق على الكذب.
وإن قيل بالتفاوت ؛ فقد بطل الاستدلال.
وما ذكروه من صورة إنقاذ المشرف على الهلاك ؛ فمندفع أيضا ؛ إذ جاز أن يكون الميل إلى ذلك لتحصيل غرض من شكر ، وثناء فى العاجل ، أو ثواب فى الآجل ، أو لما يلحقه من رقة الجنسية التى لا ينفك عنها طبع إنسان ما ، أو دفع وهم القبح فى حقه بأن يقدر نفسه هو المشرف على الهلاك ، ويقدر ذلك الغير معرضا عنه ، فإنه يستقبح إعراضه عنه ، فإذا أعرض هو عن إنقاذ ذلك الغير ، فيقدر (٢) فى نفسه تقبيح ذلك الغير إعراضه عنه (٣) ، فيدفع (٣) ذلك عن نفسه بالميل إلى الإنقاذ ؛ وإن (٤) قدر ذلك فى حق من لا (٥) يعتقد (٥) الثواب ، ولا يتوقع الثناء ، ولا هو ممن تلحقه رقة الجنسية بالنسبة إلى المشرف على الهلاك ، ولا يعرض لقبح الإعراض فى نفسه ، فلعل الميل إلى الإنقاذ بسبب سبق الوهم إلى العكس وهو اعتقاد أن الثناء ، والمدح مقارن لصورة الإنقاذ لما وجده من مقارنة صورة الإنقاذ للثناء والمدح ، فى بعض الصور.
فإن فرض فى شخص لا يستولى عليه هذا الوهم أيضا ؛ فلا نسلم أن مثل هذا الشخص يميل إلى الانقاذ / ؛ بل ربما كان ميله (عن) (٦) الإنقاذ أرجح ؛ لتضرره [به] (٧) من غير نفع عاجل ، ولا آجل ، ولا فيه فى معتقده مخالفة عرف شرعى ، ولا عقلى.
__________________
(١) فى ب (ومخالفة الغرض وموافقته).
(٢) فى ب (قدر).
(٣) فى ب (فمندفع).
(٤) فى ب (فإن).
(٥) فى ب (لا يعرف).
(٦) فى الأصل (إلى).
(٧) ساقط من أ.
ثم وإن سلمنا دلالة ذلك على التقبيح ، والتحسين فى أفعال العباد ؛ ولكن لا يلزم مثله فى أفعال الله ـ تعالى ـ مع أنها من صور النزاع ، إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد ؛ وهو متعذر كما سبق (١).
ولهذا فإن السيد لو ترك عبيده ، وإماءه يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم ، وقادر على منعهم ؛ لكان ذلك قبيحا منه ، وقد وجد مثل ذلك فى حق الله تعالى ـ بالنسبة إلى العبيد ، ولم يقبح منه ذلك.
فإن قيل : إنما يمكن تقبيح ذلك من الله ـ تعالى ـ أن لو كان قادرا على منع الخلق من المعاصى ؛ ولا نسلم أنه قادر عليه على ما هو مذهب النظام (٢).
فإن قلتم : إنه يقدر على ذلك بأن لا يخلق لهم القدرة على المعصية ؛ فإنما يصح أن لو كان هو الخالق لقدرهم ؛ وهو غير مسلم ، كما هو مذهب معمّر (٣).
وأيضا فإنه لا يخلو : إما أن يكون الرب ـ تعالى ـ عالما بأن من ارتكب الفواحش لا ينزجر ، أو لم (٤) يعلم (٤) منه ذلك.
لا جائز أن يقال بالثانى : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ جاهلا بعواقب الأمور ؛ وهو ممتنع.
وإن كان عالما بأنه لا ينزجر : فمنعه عن ارتكاب الفاحشة لا يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ بمعنى منعه من الإتيان بها ، وإلا لزم من عدم الإتيان بها أن يكون علم الرب ـ تعالى ـ جهلا ؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فيمن علم الله ـ تعالى ـ أنه لا ينزجر عن المعصية ، وأنه لا بد له من فعلها ؛ فلا يكون عدم زجرهم منه مستقيما.
قلنا : أما الإشكال الأول : فمندفع ، بما سنبينه من أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى.
__________________
(١) انظر ل ٤٠ / أ.
(٢) انظر الفرق بين الفرق ص ١٣٣ ففيها تفصيل لرأى النظام.
(٣) معمّر بن عباد السّلمى. معتزلى من الغلاة من أهل البصرة. سكن بغداد ، وناظر النظام. وهو من أعظم القدرية غلوا ، وكان زعيما لفرقة نسبت إليه هى (المعمّريّة) توفى سنة ٢١٥ ه.
(لسان الميزان ٦ : ٧١ والفرق بين الفرق ١٥١ ومقالات الإسلاميين ٧٨ والملل والنحل ٦٥) وانظر ما سيأتى فى الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة : الفرقة الرابعة عشرة : المعمرية ل ٢٤٥ / ب وما بعدها.
(٤) فى ب (أو لا).
وأما الإشكال الثانى : فهو بعينه لازم فى حق السيد ، فإنه إذا علم الله ـ تعالى ـ من عبيد السيد مع اطلاعه على ارتكابهم للفواحش أنه لا بد وأن تقع الفواحش منهم. وأنهم لا ينزجرون ؛ فلا يكون زجرهم من جهة السيد مقدورا له ؛ فترك ذلك لا يكون مستقبحا.
ومع ذلك فقد استقبح عرفا ، ولم يستقبح فى حق الغائب عرفا ؛ فافترقا.
والجواب عن الشبه الإلزامية :
أما الأولى : فلا ننكر أن العاقل قبل ورود الشرع يحسن الإحسان ، ويقبح الإساءة ؛ لكن لا نسلم أن مستند ذلك قبح الفعل ، وحسنه فى نفسه ؛ بل مستند ذلك ، وإن لم يكن هو الشرع ، فموافقة الغرض ، ومخالفته ، أو اتباع العرف العادى حتى أنه لو فرض انتفاء / ذلك ؛ فلا نسلم أن العاقل يحسن الإحسان ، ويقبح الإساءة.
وعن الشبهة الثانية : أنا لا ننكر أن حقيقة القبح معلومة قبل ورود الشرع ؛ لكن بمعنى مخالفة الغرض ، أو بمعنى أنه الّذي يرد الشرع فيه بالنهى والمنع من الفعل.
ولا نزاع فى ذلك وإنما النزاع فى كون الحسن ، والقبح ذاتيا لما وصف به من الأفعال ، وليس فى فهم معنى القبح بالاعتبار المذكور ما يوجب كونه ذاتيا ؛ لما وصف (١) به.
وعن الشبهة الثالثة : أنا (٢) لا ندعى أنه لا حسن إلا ما أمر به ، أو أذن فى فعله. حتى يقال : بأن أفعال الله ـ تعالى ـ ليست حسنة ، أو أن يكون مأمورا بها ، ومأذونا فيها ؛ بل ما أمر الشارع بفعله ، أو أذن فيه ؛ فهو حسن ، ولا ينعكس كنفسه ؛ بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقته (٣) للغرض (٣) ، أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله.
وبهذا الاعتبار كان فعل الله ـ تعالى ـ حسنا ؛ سواء وافق الغرض ، أو خالف.
وعن الشبهة الرابعة : ما مر وسبق (٤) فى وجوب النظر.
وعن الشبهة الخامسة : أن الحسن ، والقبح وإن كان قد يفسر بورود الشرع بالمنع والإطلاق ؛ فلا نسلم أنه لا حسن ، ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ما قيل ؛ بل الحسن ،
__________________
(١) فى ب (يوصف).
(٢) فى ب (أنه).
(٣) فى ب (موافقة الغرض).
(٤) ساقط من ب انظر ل ٢٩ / أوما بعدها. الرد على الإشكال العاشر.