أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]
المحقق: الدكتور محمّد كمال شبانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
ISBN: 977-341-066-8
الصفحات: ١٩٨
وهات ما تقول فى «جبل الفتح» (٤٦) :
١ ـ «جبل الفتح»
قال : فاتحة الكتاب من مصحف ذلك الاقليم ، ولطيفة السميع العليم ، وقصص المهارق (٤٧) ، وأفق البارق ، ومتحف هذا الوطن المباين للارض المفارق ، مأهل العقيق (٤٨) وبارق (٤٩) ، ومحط طارقها ، (١٠٢ : أ) بالفتح طارق. ارم البلاد (٥٠) التى لم يخلق مثله فيها ، وذو المناقب التى لا تحصرها الالسنة ولا توفيها.
حجزه البحر ، حتى لم يبق الا خصر ، فلا يناله ـ من غير تلك الفرصة ـ ضيق ولا حصر ، وأطل بأعلاه قصر ، وأظله فتح ـ من الله ـ ونصر. ساوق (٥١) سوره البحر فأعياه ، قد تهلل بالكلس محياه ، واستقبل الثغر الغريب فحياه. اطرد صنع الله فيه ، من عدو يكفيه ، ولطف يخفيه ، وداء عضال يشفيه. فهو خلوة العباد ، ومقام العاكف والباد ، ومسلحة من وراءه من العباد ، وشقة القلوب المسلمة والاكباد. هواؤه صحيح ، وثراه ـ بالخزين ـ شحيح ، وتجر الرباط فيه ربيح ، وحماه ـ للمال
__________________
(٤٦) جبل الفتح : هو جبل طارق «Gibraltar» نسبة الى فاتح اسبانيا (طارق بن زياد) ، وكان يسمى قبل الفتح «Calpe» بمعنى «تجويف» يتبع بريطانيا حاليا ، وتنازعها أسبانيا فى الاحقية ، وهذا خلاف قديم.
راجع : Jose Carlos de luna ـ Historia de Gibra ltar.
(٤٧) المهارق : جمع مهرق ، وهى الصحيفة.
(٤٨) العقيق : العتيق تقوله العرب لكل مسيل ماء شقه السيل فى الارض فأنهره ووسعه ، وفى بلاد العرب أربعة أعقة.
راجع : ياقوت الحموى ـ معجم البلدان ـ ج ١٤ ص ١٣٨ ، ص ١٣٩.
(٤٩) بارق ، ركن من أركان اليمامة ، وهو جبل ، كما يطلق أيضا على ماء بالعراق ، وهو الفاصل بين القادسية والبصرة من أعمال الكوفة ، وقد عناه المتنبى بقوله :
تذكرت ما بين العذيب وبارق |
|
مجر عوالينا ومجر السوابق |
راجع : ياقوت الحموى ـ معجم البلدان ـ ج ٢ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.
(٥٠) ارم : الارم ، ما يهتدى به من حجارة تنصب فى المفازة ، وجمعه آرام وأرؤم ، والمعنى : علم البلاد.
(٥١) ساوق : فاخر.
والحريم ـ غير مبيح ، ووصفه الحسن لا يشان بتقبيح. الا أنه ـ والله يقيه مما يتقيه ـ بعيد الاقطار ، ممار بالقطار (٥٢) ، كثير الرياح والامطار. مكتنف بالرمل المخلف ، والجوار المتلف. قليل المرافق ، (٥٣) معدوم المشاكل والمرافق. هزل الكراع (لعدم الازدراع ، حاسر الذراع ، للقراع) (٥٤) ، مرتزق من ظل الشراع. كورة دبر ، (٥٥) ومعتكف أزل وصبر ، وساكنه حى فى قبر (١٠٢ : ب).
هو الباب ان كان التزاور واللقيا |
|
وغوث وغيث للصريخ وللسقيا |
فان تطرق الايام فيه بحادث |
|
وأعزز به ـ قلنا : السلام على الدنيا |
٢ ـ «أسطبونة» (٥٦)
قلت : فاسطبونة؟
قال : ذهب رسمها ، وبقى اسمها ، وكانت مظنة النعم الغزيرة ، قبل حادث الجزيرة (٥٧).
__________________
(٥٢) القطار : السحاب الغزير القطر.
(٥٣) المرافق : أراد بالمرافق الاولى المنافع ، وبالثانية الآبار.
(٥٤) لعدم الازدراع : لعدم المرعى ، وما بين القوسين زيادة وجدناها فى نسختى (س ، ر).
(٥٥) كورة دبر : منزل النحل والزنانير ، وقد وردت فى نسختى (ر ، د) «حبر».
(٥٦) اسطبونة : بلدة تقع غرب مالقة ، على شاطئ البحر المتوسط ، وتعرف فى الاسبانية باسم «Estepana»
(٥٧) يقصد بحادث الجزيرة موقعه طريف ، وهى بالاسبانية (Batalla del Salado) حدثت بين النصارى من جهة وبين المغاربة والاندلسيين من جهة أخرى ، وتمخضت عن هزيمة المسلمين ، وسقوط كل من طريف والجزيرة الخضراء (٣٠ / ١٠ / ١٣٤٠ م جمادى الاولى ٧٤١ ه).
راجع : ابن خلدون فى «العبر» ج ٧ ص ٢٦١ ، ٢٦٢ ، والمقرى فى «نفح الطيب» ج ص ٣١٧ ، ٣١٨ ، وابن الخطيب فى اللمحة البدرية ص ٩٢ ، ٩٣ ، والسلاوى فى «الاستقصاء» ج ٢ ص ٦٥ ، ٦٦ ، ودكتور لويس سيكودى لوثينا» فى مجلة الاندلس ـ ملحق ١٩٤٩ م.
٣ ـ «مربلة» (٥٨)
قلت : فمربلة؟
قال : بلد التأذين على السردين ، ومحل الدعاء والتأمين ، لمطعم الحوت السمين ، وحدقاتها مغرس العنب العديم القرين ، الى قبة أرين (٥٩). الا أن مرساها غير أمين ، وعقارها غير ثمين ، ومعقلها تركبه الارض عن شمال ويمين (٦٠).
٤ ـ «سهيل» (٦١)
قلت : فسهيل؟
قال : حصن حصين ، يضيق عن مثله هند وصين ، ويقضى ـ بفضله ـ كل ذى عقل رصين ، سبب عزه متين ، ومادة قوته شعير وتين. قد علم أهله مشربهم ، وأمنوا مهربهم. وأسهلت بين يديه قراه ، وجاد بالسمك واديه وبالحب ثراه ، وعرف شأنه بأرض النوب (٦٢) ، ومنه يظهر سهيل من كواكب الجنوب. الا أن سواحله فل (٦٣) الغارة البحرية ، ومهبط
__________________
(٥٨) مربلة : مدينة متوسطة ، تقع غرب مالقة ، على مسافة ٦٠ كم منها ، تعرف فى الاسبانية باسم «Marbella»
(٥٩) فى نسخة (ر ، س ، ط) «قلت أن مرساها غير أمين» ، وقد أوردها كذلك المستشرق «سيمونيت» ، ولكن الصواب فى نسختنا.
(٦٠) فى نسخة (س ، ر) «عن شمال ويمين» بدل «من شمال ويمين».
(٦١) سهيل : ميناء على ساحل البحر المتوسط ، يعرف اليوم فى الاسبانية باسم Fuenjerola على مسافة ٢٨ كم شرقى مربلة.
(٦٢) ربما يقصد «بلاد النوبة» أقصى الجنوب بجمهورية مصر العربية ، وشمال السودان ، والتعبير كناية عن بعد صيت المدينة.
(٦٣) فى نسخة (ر ، س) «بل» بدل «فل».
السرية غير السرية ، الخليقة بالحذر الحرية ، مسرح السائمة الاميرية ، وخدامها (١٠٣ : أ) ـ كما علمت ـ (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)(٦٤).
٥ ـ مالقة (٦٥)
قلت : فمدينة مالقة؟
قال : وما القول (٦٦) فى الدرة الوسيطة ، وفردوس هذه البسيطة؟ أشهد لو كانت سورة لقرنت بها حذقة الاطعام (٦٧) ، أو يوما لكانت عيدا فى العام (٦٨) ، تبعث لها بالسلام مدينة السلام (٦٩) ، وتلقى لها يد الاستسلام محاسن بلاد الاسلام. أى دار ، وقطب مدار ، وهالة ابدار ، وكنز تحت جدار. قصبتها مضاعفة الاسوار ، مصاحبة للسنين مخالفة للادوار (٧٠) ، قد برزت فى أكمل الاوضاع وأجمل الاطوار. كرسى ملك عتيق ، ومدرج مسك فتيق ، وايوان أكاسرة ، ومرقب عقاب كاسرة ، ومجلى فاتنة حاسرة ، وصفقة غير خاسرة. فحماها منيع حريز ،
__________________
(٦٤) اقتباسا من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) سورة البينة ، آية : ٦.
(٦٥) مالقة : Malaga مدينة على ساحل البحر الابيض المتوسط ، جنوب شرق الاندلس ، يرجع تأسيسها الى الفنيقيين عام ١٢٠٠ ق. م ، حيث كانت تعرف باسم «Malaca» بمعنى : المملح ، نسبة الى الاسماك المملحة التى اشتهرت بها ، وتتوفر المدينة أيضا على أجود أنواع الفواكه ، ولها شهرة فى صناعة الفخارCeramica ، كانت عاصمة الحموديين الا دارسة أيام ملوك الطوائف ، كما كان بنو الاحمر يعتبرونها العاصمة الثانية بعد غرناطة.
راجع : المقرى فى «نفح الطيب» ج ١ ص ١٨٦ ، وياقوت الحموى فى «معجم البلدان» ج ١٧ ص ٣٦٧.
(٦٦) فى نسخة (ر ، س) «وما أقول» بدل «وما القول» وكلاهما بمعنى.
(٦٧) حذقة الطعام : الحفل الخاص بانتهاء الصبى من حفظ القرآن.
(٦٨) فى نسخة (ط ، س) «فى الايام» بدل «فى الطعام» فالتعبير فى نسختنا أعم.
(٦٩) مدينة السلام : بغداد.
(٧٠) فى نسخة (س ، ر) «مصاحبة السنين ، محالفة الادوار» ، فلعلها فى نسختنا أولى.
اضطبنت دار الاسطول ، وساوقت البحر بالطول ، وأسندت الى جبل الرحمة ظهرها ، واستقبلت ملعبها ونهرها ، ونشقت وردها الارج (١٠٣ : ب) وزهرها ، وعرفت قدرها ، فأغلت مهرها. وفتحت جفنها على الجفن غير الغضيض (٧٢) ، والعالم الثانى ما بين الاوج الى الحضيض.
دار العجائب المصنوعة ، والفواكه غير المقطوعة ولا الممنوعة ، حيث الاوانى تلقى لها يد الغلب صنائع حلب ، والحلل التى تلح صنعاء فيها بالطلب ، وتدعو الى الجلب ، الى الدست الرهيف ، ذى الورق الهيف. وكفى برمانها حقاق ياقوت ، وأمير قوت ، وزائر غير ممقوت. الى المواساة ، وتعدد الاساة ، واطعام الجائع والمساهمة فى الفجائع ، وأى خلق أسرى من استخلاص الاسرى ، تبرز منهم المخدرة حسرى ، سامحة بسواريها ولو كانا سوارى كسرى. الى المقبرة التى تسرح بها العين ، وتستهان ـ فى ترويض روضاتها ـ العين ، الى غللها المحكمة البنيان ، الماثلة كنجوم السماء للعيان ، وافتراض سكناها ـ أوان العصير ـ على الاعيان ، ووفور أولى المعارف والاديان.
(١٠٤ : أ) وأحسن ٧٣ الشعرفيماأنت قائله |
|
بيت يقال ـ اذا أنشدته ـ صدقا |
وعلى ذلك ، فطينها يشقى به قطينها ، وأزبالها تحيى بها سبالها ، وسروبها يستمد (٧٤) منها مشروبها ، فسحنها (٧٥) متغيرة ، وكواكب
__________________
(٧٢) اضطبنت : وافقت.
(٧٣) فى نسختى (س ، ط) «مما» بدل «فيما».
(٧٤) فى نسختى (ط ، د) «يستعمل» بدل «يستمد».
(٧٥) فى نسختى (ر ، س) «فسخهما ، فساحاتها» بدل «فسحنها» فلعلها فى نسختنا أولى.
أذهانها النيرة متحيرة ، وأقطارها جد شاسعة ، وأزقتها لزجة (٧٦) غير واسعة ، وآبارها تفسدها أزفارها ، وطعامها لا يقبل الاختزان ، ولا يحفظ الوزان ، وفقيرها لا يفارق الاحزان ، وجوعها ينفى به هجوعها ، تحث (٧٧) على الامواج أقواتها ، وتعلو على الموازين غير القسط أصواتها ، وأرحيتها تطرقها النوائب ، وتصيب أهدافها السهام الصوائب ، وتعد بها الجنائب ، وتستخدم فيها الصبا والجنائب ، وديارها الآهلة بالسكان قد صم بالنزائل صداها ، وأضحت بلاقع بما كسبت يداها ، وعين أعيانها أثر ، ورسم مجادتها قد دثر ، والدهر لا يقول لعا لمن عثر (٧٨) ، ولا ينظم شملا اذا انتثر. وكيف لا يتعلق الذام ، ببلد يكثر به الجذام! محلة بلواه آهلة ، والنفوس ـ بمعرة عدواه ـ جاهلة.
ثم تبسم عند انشراح صدر ، وتذكر (٧٩) قصة (١٠٤ : ب) الزبرقان بن بدر (٨٠).
تقول هذا مجاج النحل تمدحه |
|
وان ذممت تقل (٨١) قىء الزنابير |
مدح وذم ، وعين الشيء واحدة |
|
ان البيان يرى الظلماء كالنور (٨٢) |
__________________
(٧٦) فى نسخة (س) «حرجة».
(٧٧) فى نسخة (ط) «تحط» بدل «تحث».
(٧٨) مثل يضرب عند العرب ، ومعناه : أن الدهر لا يدعو لك بالانتعاش اذا عثرت.
(٧٩) فى نسخة (س) «وذكر» بدل «وتذكر».
(٨٠) تتلخص قصة الزبرقان بن بدر فى : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمرو ابن الاهتم عن الزبرقان بن بدر ، فقال : «مانع لحوزته ، مطاع فى أدنيه» فقال الزبرقان : أما أنه قد علم أكثر مما قال ، ولكنه حسدنى شرفى ، فقال عمرو : «أما لئن قال ما قال : فو الله ما علمته الا ضيق الصدر ، زمر المروءة ، لئيم الخال ، حديث الغنى» ، فلما رأى عمرو أنه قد خالف قوله الاول ، ورأى الانكار فى عينى الرسول ، قال : «يا رسول الله ، رضيت ، فقلت أحسن ما علمت ، وغضبت فقلت أقبح ما علمت ، وما كذبت فى الاولى ، ولقد صدقت فى الاخرى» فقال الرسول عند ذلك : «ان من البيان لسحرا».
أنظر : الجاحظ فى «البيان والتبيين». ج ١ ص ٥٢.
(٨١) فى نسخة (ط) «فقل».
(٨٢) فى نسخة (ط ، س) «فى النور» بدل «كالنور».
٦ ـ «بليش مالقة» (٨٣)
قلت : فبليش؟
قال : جادها المطر الصيب ، فنعم البلد الطيب ، حلى ونحر ، (وبر) ولوز وتين ، وسبب من الامن متين ، وبلد أمين ، وعقار ثمين ، وفواكه عن شمال ويمين ، وفلاحة مدعى انجابها لا يمين. الا أن التشاجر بها أنمى من الشجر ، والقلوب أقسى من الحجر ، ونفوس أهلها بينة الحسد والضجر ، وشأنها غيبة ونميمة ، وخبث (٨٤) مائها ـ على ما سوغ الله من آلائها ـ تميمة (٨٥).
٧ ـ «قمارش» (٨٦)
قلت فقمارش؟
قال : مودع الوفر ، ومحط السفر ، ومزاحم الفرقد (٨٧) والغفر (٨٨) ، حيث الماء المعين ، والقوت المعين. لا يخامر قلب
__________________
(٨٣) هى بالاسبانية «Velez Malaga» موقعها غرب مدينة مالقة على مسافة ٣٤ كم. وقد تحدث ابن بطوطة عنها فى «الرحلة» بما يؤيد وصف ابن الخطيب هنا (رحلة ابن بطوطة ج ٢ ص ١٨٧).
(٨٤) فى نسخة (ر ، س) «وخبيث».
(٨٥) التميمة : تجمع على تمائم ، وهى للاطفال مثلا ما يوضع على صدورهم أو جباههم من تعاويذ ، يعتقد أهلوهم أنها تقيهم شر الجوائح وعين الحسود ، قال الشاعر :
واذا المنية أنشبت أظفارها |
|
ألفيت كل تميمة لا تنفع |
والقصد فى موضوعنا : أن المؤلف يعلل لخبث ماء بليش ، بأنه تعويذة من حسد الحساد ، لما أنعم الله به عليها من النعم التى عددها.
(٨٦) قمارش : هى «Comares» احدى الحصون الهامة أيام مملكة غرناطة ، وتقع قربها.
(٨٧) الفرقد : البقر الوحشى.
(٨٨) الغفر : ولد الوعل.
الثائر به خطرة وجله ، الا من أجله. طالما فزعت اليه نفوس الملوك الاخائر بالذخائر ، وشقت عليه أكياس المرائر فى الضرائر. وبه الاعناب التى راق بها الجناب ، والزياتين ، واللوز والتين ، والحرث الذي له التمكين ، والمكان المكين. الا أنه عدم سهله (٨٩) ، وعظم جهله ، فلا يصلح فيه الا أهله.
٨ ـ «المنكب» (٩٠)
قلت : (١٠٥ : أ) فالمنكب؟
قال : مرفأ السفن ومحطها ، ومنزل عباد المسيح ومختطها. بلدة معقلها منيع ، وبردها صنيع ، ومحاسنها غير ذات تقنيع. والقصر المفتح الطيقان ، المحكم الاتقان ، والمسجد المشرف المكان ، والاثر المنبئ عن كان وكان ، كأنه مبرد واقف ، أو عمود فى يد مثاقف. قد أخذ من الدهر الامان ، وتشبه بصرح هامان (٩١) ، وأرهفت جوانبه بالصخر المنحوت ، وكاد أن يصل (ما) بين الحوت والحوت (٩٢). غصت
__________________
(٨٩) يرمى بهذه الكناية الى سوء خلق أهل البلد.
(٩٠) المنكب : مرفأ ساحلى مرتفع ، يقع جنوب شرق الاندلس بمقاطعة غرناطة ، يدعى الآن «Almunecar وقد نزل الامير الاموى عبد الرحمن بن معاوية بهذا الميناء عند دخوله الاندلس فى ربيع الاول ١٣٨ ه ـ سبتمبر ٧٥٥ م ، وهذا الامير هو الذي عرف بعدئذ بلقب «الداخل».
راجع : الادريسى فى «نزهة المشتاق» ـ ص ١٩٩ ـ نشر دوزى ١٨٦٦ م ، وكذا «الروض المعطار للحميرى ص ١٨٦.
(٩١) يرمى الى الصرح الذي أمر فرعون وزيره هامان بتشييده له ، فى قوله تعالى : «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من اله غيرى ، فأوقد لى يا هامان على الطين ، فاجعل لى صرحا لعلى أطلع الى اله موسى ، وانى لأظنه من الكاذبين» القصص : ٣٨.
(٩٢) يعنى بالحوت الاول : السمك ، وبالآخر : نجم ، كناية عن عظم ارتفاع القصر.
ـ بقصب السكر ـ أرضها ، واستوعب بها (٩٣) طولها وعرضها ، زبيبها فائق ، وجنابها رائق.
وقد مت ـ اليها ـ جبل الشوار (٩٤) بنسب الجوار. منشأ الاسطول ، بعدته (٩٥) غير ممطول ، وأمده لا يحتاج الى الطول. الا أن اسمها مظنة طيرة تشتنف (٩٦) ، فالتنكيب ـ عنها ـ يؤتنف (٩٧). وطرقها (٩٨) يمنع شر سلوكها من تردد ملوكها ، وهواؤها فاسد ، ووباؤها مستأسد ، وجارها حاسد. فاذا التهبت السماء ، وتغيرت بالسمائم (٩٩) المسميات والاسماء ، فأهلها ـ من أجداث بيوتهم ـ يخرجون (١٠٠) ، والى جبالها يعرجون. والودك اليها مجلوب ، والقمح بين أهلها مقلوب ، (١٠٥ : ب) والصبر ـ ان لم يبعثه البحر ـ مطلوب (١٠١) ، والحرباء ـ بعرائها ـ مصلوب (١٠٢) ، والحر ـ بدم الغريب ـ مطلوب (١٠٣).
__________________
(٩٣) فى نسخة (ر) «فيها» بدل «بها».
(٩٤) يقصد به جبل «Sierra del Cazulas»
راجع فى هذا كلا من الحميرى فى «الروض المعطار» ص ١١٢ ، وكذا :
«سيمونيت» فى تحقيقه ص ٤٧.
(٩٥) فى نسخة (ط) «فوعدها».
(٩٦) فى نسخة (س) «تستنف».
(٩٧) يؤتنف : يبتدئ.
(٩٨) فى نسختى (س ، ط) «وطريقها».
(٩٩) السمائم : الريح الحارة.
(١٠٠) اقتباسا من قوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) سورة المعارج ، آية : ٤٣.
(١٠١) لعله يقصد أن القمح هو الآخر يجلب من الخارج ، ثم يصرف بين أهل المدينة ، فان لم تأت به السفن فالصبر نافذ.
(١٠٢) لعل السبب لهذا شدة الحرارة ، كما أسلف ، ويبقى الاعتراض على تذكير «مصلوب» والحرباء مؤنثة ، وعلى هذا المرجع أنه يقصد بالحرباء قاطع الطريق العاتى ، بدليل ما بعده ، ويميل «سيمونيت» الى ذلك.
راجع : سيمونيت فى تحقيقه ص : ٤٧.
(١٠٣) ربما يرمى بذلك الى أن أهلها شرار يعترضون طريق الغريب ، بغية السلب ، ولو أدى بهم ذلك الى قتل الغريب ، ومن ثم يكون القصاص منهم.
٩ ـ «شلوبانية» (١٠٤)
قلت : فشلوبانية؟
قال : أختها الصغرى ، ولدتها التى يشغل بها المسافر ويغرى ، حصانة معقل ، ومرقب متوقل ، وغاية طائر ، وممتنع ثائر ، ومتنزه زائر ، تركب ـ بدنها ـ الجداول المرفوعة ، وتخترق ـ جهاتها ـ المذانب المفردة والمشفوعة ، ففى المصيف تلعب بالعقل الحصيف ، وفى الخريف تسفر عن الخصب والريف. وحوت هذه السواحل أغزر من رمله ، تغرى (١٠٥) القوافل الى البلاد بحمله (١٠٦) ، الى الخضر الباكرة ، والنعم الحامدة للرب الشاكرة. وكفى بمترايل (١٠٧) من بسيطها محلة مشهورة ، وعقيلة ممهورة ، ووداعة فى السهل غير مبهورة (١٠٨). جامعها حافل ، وفى حلة الحسن رافل. الا أن أرضها مستخلص السلطان بين الاوطان ، ورعيتها عديمة الاعيان ، مروعة على الاحيان. وتختص
__________________
(١٠٤) شلوبانية : بلدة على ساحل البحر الابيض المتوسط ، تبعد بمسافة ١٦ كلم شرق المنكب ، وتعرف فى الاسبانية باسم «Salobrena» تحيط بها الجبال من الشمال والغرب ، وبها حصن أندلسى من أهم الآثار الاندلسية ، وهو يشرف على المدينة من ناحية الشرق من ارتفاع شاهق ، وقد سقطت شلوبانية فى يد الاسبان فى نفس العام الذي سقطت فيه المنكب ، أى عام ١٤٨٩ م ، والى شلوبانية ينتسب امام النحو الاندلسى «أبو على الشلوبين» المتوفى باشبليلية عام ٦٤٥ ه (١٢٤٧ م).
(١٠٥) فى نسخة (س) «تغدو».
(١٠٦) فى نسخة (س) «تحمله».
(١٠٧) مدينة تسمى الآن «Motril» ، يبلغ تعداد سكانها حاليا ٠٠٠. ٥٠ نسمة تقريبا ، تبعد عن مالقة بنحو ١٠٧ كم ، كما تبعد عن مدينة غرناطة شرقا بنحو ٧٤ كم تجاه ساحل البحر الابيض المتوسط ، تشتهر بزراعة قصب السكر ، ولها أهمية اقتصادية بين مدن غرناطة ، حيث أنها مركز هام للمواصلات.
(١٠٨) غير مبهورة : غير مفضولة.
شلوبانية بمزية البنيان ، ولكنها غاب الحميات ، غير أمينة على الاقتيات ، ولا وسيمة الفتيان ولا الفتيات (١٠٩).
١٠ ـ «برجة» (١١٠)
قلت : فبرجة؟
قال : تصحيف وتحريف ، وتغيير فى تعريف (١١١). ما هى الا بهجة ناظر ، وشرك خاطر ، ونسيجة (١٠٦ : أ) عارض ماطر ، ودارين (١١٢) نفس عاطر. عقارها ثمين ، وحرمها أمين ، وحسنها باد وكمين ، عقود أعنابها قد قرطت آذان الميس (١١٣) والحور (١١٤) ، وعقائل أدواحها مبتسمة عن ثغور النور. وسيطها متواضع عن النجد ، مرتفع عن الغور ، وعينها سلسالة ، وسبائك (١١٥) المذانب منها مسالة ، تحمل الى كل جهة رسالة ، ودورها فى العراء مبثوثة (وركائب النواسم بينها محثوثة) ، لا تشكو بضيق الجوار ، واستكشاف العوار ، وتزاحم الزوار.
مياه وظلال ، وسحر حلال ، وخلق دمث كثراها ، ومحاسن متعددة كقراها ، ولطافة كنواسمها عند مسراها ، وأعيان ووجوه ، نجل العيون ،
__________________
(١٠٩) فى نسختى (ط ، س) «والفتيات» بدون «لا».
(١١٠) برجه : هى «Berja» تقع شرق الاندلس ، وتتبع اقليم المرية.
(١١١) يصح أن يكون اسم المدينة مصحف عن «بهجة» ومحرف عن «برج» ، وتقرأ معرفة «البرج» ، وهذا مقصد ابن الخطيب من تعبيره عنها.
(١١٢) دارين : مكان بالبحرين يجلب اليه المسك من الهند ، وينسب اليها. وقد ورد هذا المكان كثيرا فى الاشعار العربية ، قال بعضهم :
يمرون بالدهنا خفافا عيابهم |
|
ويرجعون من دارين بجر الحقائب |
(١١٣) الميس : نوع من الشجر. يوصف بضخامة الادواح والغصون.
(١١٤) الحور : نوع من الكروم ينهض على ساق.
(١١٥) فى نسخة (ط) «وسنابك».
بيض الوجوه ، غلتهم الحرير ، ومجادتهم غنية عن التقرير. الا أن متبوأها بسيط مطروق ، وقاعدتها فروق (١١٦) ، ووتدها مفروق (١١٧) ، ومعقلها خرب ، كأنه أحدب جرب ، ان لم ينقل اليه الماء ، برح به الظماء ، ولله در صاحبنا اذ يقول :
يا بسيطا بمعانى برجه |
|
أصبح الحسن به مشتهرا |
لا تحرك بفخار مقولا |
|
فلقد ألقمت منها حجرا |
والبر بها نزر الوجود ، واللحم تلوه وهما طيبتا الوجود ، والحرف (١٠٦ : ب) بها ذاوية العود ، والمسلك اليها بعيد الصعود.
١١ ـ «دلاية» (١١٨)
قلت : فدلاية؟
قال خير رعاية وولاية ، حرير ترفع عن الثمن ، وملح يستفد على الزمن ، ومسرح معروف ، وأرض ينبت بها جبن وخروف. الا أنها لسرايا العدو البحرى مجر العوالى ، ومحل الفتكات على التوالى ، فطريقها صوى (١١٩) ومشاهد ، والعارف ـ فى مثلها ـ زاهد.
__________________
(١١٦) قاعدتها فروق : أى أن أرضها عرضة للغارات ، التى تجعلها جزعة يتملكها الخوف.
(١١٧) وتدها مفروق : كناية عن أن مبانيها يفرقها نهر أو واد مثلا ، والتعبير اصطلاح عروضى ، والتورية واضحة.
(١١٨) دلاية : هى «Dalias» احدى القرى التابعة لولاية المرية ، تبعد بنحو ٩ كم جنوب شرق برجة.
(١١٩) صوى : ما يوضع فى الطرق من أحجار كعلامات ، وفى نسخ (س ، ط ، ر) «هوى». وقد أوردها «سيمونيت» هكذا ، ولعل الصواب فى نسختنا.
١٢ ـ «المرية» (١٢٠)
قلت : فمدينة المرية؟
قال : المرية هنية مرية ، بحرية برية ، أصيلة سرية ، معقل الشموخ والاباية ، ومعدن المال وعنصر الجباية ، وحبوة الاسطول (١٢١) ، غير المعلل بالنصر ولا الممطول ، ومحط التجار ، وكرم النجار ، ورعى الجار. ما شئت من أخلاق معسولة ، وسيوف من الجفون السود مسلولة ، وتكك محلولة ، وحضارة تعبق طيبا ، ووجوه لا تعرف تقطيبا ، ولم تزل ـ مع الظرف ـ دار نساك ؛ وخلوة اعتكاف وامساك.
__________________
(١٢٠) المرية «Almaria» مدينة كبيرة جنوب شرق الاندلس ، ومن أجمل الثغور والمدن الاندلسية ، وهى عاصمة الولاية المسماة ، بهذا الاسم ، يبلغ سكانها اليوم ٠٠٠. ٨٥ نسمة تقريبا ، وأهم صادراتها الحديد والرصاص والفاكهة ، وكانت فى العهد الاسلامى من أهم ثغور الاندلس الجنوبية ، بناها الخليفة الاموى عبد الرحمن الناصر عام ٣٤٤ ه ـ ٩٥٥ م ، وسقطت فى يد الاسبان فى فبراير ١٤٩٠ م (٨٩٥).
راجع : الروض المعطار للحميرى ص ١٨٣ ، ١٨٤ ، وكذلك ما ذكره المستشرق «زيبولد» بدائرة المعارف الاسلامية ، عن وضعية هذه المدينة فى العهد الاسلامى ص ٣١٩ (Zeybold ,Enc.ISI ,l ,P.٣١٩)
(١٢١) يقصد القاعدة التى هى مرسى الاسطول.
(١٢٢) فى نسختى (س ، ر) «وأنف» وهكذا ورد عند «سيمونيت» ، فلعل الصواب فى نسختنا ، اذ يرمى المؤلف بتعبيره هذا الى أن معظم اسم المدينة يعنى «المرارة» التى ذاقها العدو فانقلب عنها.