الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤
وإنّي على رسمي مقيم فإن أمت |
|
سأجعل للباكين رسمي موسما |
بكاك الحيا والريح شقّت جيوبها |
|
عليك وناح الرّعد باسمك معلما (١) |
ومزّق ثوب البرق واكتست الضّحى |
|
حدادا وقامت أنجم الجوّ أفحما (٢) |
وحار ابنك الإصباح وجدا فما اهتدى |
|
وغار أخوك البحر غيضا فما طمى |
وما حلّ بدر التمّ بعدك دارة |
|
ولا أظهرت شمس الظّهيرة مبسما |
قضى الله أن حطّوك عن ظهر أشقر |
|
بشمّ وأن أمطوك أشأم أدهما (٣) |
وكان قد انفكت عنه القيود ، فأشار إلى ذلك بقوله فيها :
قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت |
|
قيودك منهم بالمكارم أرحما |
عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا |
|
لقد كان منهم بالسّريرة أعلما |
سينجيك من نجّى من السّجن يوسفا |
|
ويؤويك من آوى المسيح بن مريما |
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم ، وانتثار نظامهم ، عدة مقطعات (٤) وقصائد ، هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد ، وقد اشتمل عليها جزء لطيف ، صدر عنه في هيئة تصنيف ، سماه «السلوك ، في وعظ الملوك» ووفد على المعتمد وهو بأغمات ، عدّة وفادات ، لم يخل في جميعها من إفادات ، وقال في إحداها : هذه وفادة وفاء ، لا وفادة اجتداء.
قال غير واحد : من النادر الغريب أنه نودي على جنازته (٥) «الصلاة على الغريب» بعد عظم سلطانه ، وسعة أوطانه ، وكثرة صقالبته وحبشانه ، وعظم أمره وشأنه ، فتبارك من له العزة والبقاء والدوام ، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام ، الذين لهم في الأدب حصة ، ولقضية المعتمد في صدورهم غصّة ، منهم البالغ في البلاغة الأمد ، شاعره أبو بحر عبد الصمد ، وكان به خصيصا ، وكم ألبسه من بره حلة وقميصا ، فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ماشا ، وجلب بها إلى أنفس الحاضرين بعد الأنس إيحاشا ، مطلعها : [الكامل]
ملك الملوك أسامع فأنادي |
|
أم قد عدتك عن السّماع عوادي |
__________________
(١) في ه «وباح الرعد».
(٢) في ه «واكتست الدجى» وفيها «وقامت أنجم الليل مأتما».
(٣) أمطوك : جعلوك تمتطي.
(٤) في ب ، ه «عدة مقطوعات».
(٥) في ب ، ه «نودي في جنازته».
ومنها :
لمّا خلت منك القصور ولم تكن |
|
فيها كما قد كنت في الأعياد |
قبّلت في هذا الثّرى لك خاضعا |
|
وجعلت قبرك موضع الإنشاد (١) |
فلما بلغ من إنشاده ، إلى مراده ، قبل الثرى ومرّغ جسمه وعفر خده ، فبكى كل من حضر وحذفه ذلك عن سرور العيد وصدّه ، إذ كانت هذه القصة يوم عيد ، فسبحان المبدىء المعيد.
ويحكى أن رجلا رأى في منامه أثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلا صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلا : [الرمل]
ربّ ركب قد أناخوا عيسهم |
|
في ذرا مجدهم حين بسق (٢) |
سكت الدّهر زمانا عنهم |
|
ثم أبكاهم دما حين نطق |
وعاش أبو بكر بن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفا بعد المعتمد ، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة ٤٨٩ ، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها : [الكامل]
ملك يروعك في حلى ريعانه |
|
راقت برونقه صفات زمانه |
وأين هذا من أمداحه في المعتمد؟!.
وتذكرت هنا من أهوال الداني أنه دخل على ابن عمار في مجلس ، فأراد أن يندر به وقال له : اجلس يا داني ، بغير ألف ، فقال له : نعم يا ابن عمار ، بغير ميم ، وهذا (٣) هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأر في المزاح.
ونظيره ـ وإن كان من باب آخر ـ أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط ، فكشفت وجهها ، وتكلمت بكلام لا يقتضيه الحياء ، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون الجبس والجيارين الصانعين للجير (٤) بإشبيلية ، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين ، وقال : يا ابن عمار الجيارين ، ففهم مراده ، وقال في الحال : يا مولاي والجباسين ، فلم يفهم الحاضرون المراد ، وتحيروا ، فسألوا ابن عمار ، فقال له المعتمد : لاتبعها منهم إلّا غالية ، وتفسيرها أن ابن عباد صحف «الحيا زين» بقوله الجيارين ، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت ، فقال له والجباسين وتصحيفه «والخنا شين» أي : هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها ، وهذا شأو لا يلحق.
__________________
(١) في ب «قبلت من هذا الثرى».
(٢) بسق : سما وارتفع. والعيس : النوق.
(٣) في ه «وهو الغاية في سرعة الجواب».
(٤) في ه «الصانعين للجيار».
ومن أخبار المعتمد أنه جلس يوما والبزاة تعرض عليه ، فاستحث الشعراء في وصفها ، فصنع ابن وهبون بديها : [الكامل]
للصّيد قبلك سنّة مأثورة |
|
لكنّها بك أبدع الأشياء |
تمضي البزاة وكلّما أمضيتها |
|
عاطيتها بخواطر الشّعراء |
فاستحسنهما ، وأسنى جائزته.
وذكر ابن بسّام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوما وقد حمل إليه حمول وافرة من قراريط الفضة ، فأمر له بكيسين منها ، وكان بين يديه تماثيل عنبر من جملتها جمل مرصّع بالذهب واللآلئ ، فقال له أبو العرب معرّضا : ما يحمل هذين الكيسين إلا جمل ، فتبسم المعتمد وأمر له به ، فقال أبو العرب بديها : [البسيط]
أهديتني جملا جونا شفعت به |
|
حملا من الفضّة البيضاء لو حملا (١) |
نتاج جودك في أعطان مكرمة |
|
لا قد تصرف من منع ولا عقلا (٢) |
فاعجب لشأني فشأني كلّه عجب |
|
رفّهتني فحملت الحمل والجملا |
وذكر الحجاري هذه القصة فقال : قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده ، وإحضار الطرائف الملوكية ، وكان في الجملة تمثال جمل من بلور ، وله عينان من ياقوتتين ، وقد حلى بنفائس الدر ، فأنشده أبو العرب قصيدة ، فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة ، فقال معرضا بذلك الجمل : ما يحمل هذه الصلة إلا جمل! فقال : خذ هذا الجمل ، فإنه حمال أثقال ، فارتجل شعرا منه :
رفّهتني فحملت الحمل والجملا
وذكر أن ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال ، فسارت بهذا الخبر الركائب ، وتهادته المشارق والمغارب.
وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره : [البسيط]
أزورهم وسواد اللّيل يشفع لي |
|
وأنثني وبياض الصّبح يغري بي |
فقال : ما قصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقدا خفيا ، ففكروا فيه ، فلما فكروا
__________________
(١) في ج «أجديتني جملا».
(٢) كذا في أ، ب ، ج ، ه.
قالوا له : ما وقفنا على شيء ، فقال : الليل لا يطابق إلا بالنهار [ولا يطابق بالصبح](١) لأن الليل كلي والصبح جزئي ، فتعجب الحاضرون ، وأثنوا على تدقيق انتقاده.
قال الصفدي : قلت : ليس هذا بنقد صحيح ، والصواب مع أبي الطيب ، لأنه قال : «أزورهم وسواد الليل يشفع لي» فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفا ممن يشي به ، فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة ، ودل عليه أهل النميمة والصبح أول ما يغري به قبل النهار ، وعادة الزائر المريب أن يزور ليلا ، وينصرف عند انفجار الصبح خوفا من الرقباء ، ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار ، ويمتلئ الأفق نورا ، فذكر الصبح هنا أولى من ذكر النهار ، والله أعلم ، انتهى.
قلت : كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي ، حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي (٢) ، ومن خطه نقلت ما صورته : هو ما انتقد عليه المعنى ، إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح ، فإن ذلك فاسد ، انتهى ، فحمدت الله على الموافقة ، انتهى.
وقال في بدائع البداءة (٣) : جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهرا ، وحلّى جيد كل غصن من الزهر جوهرا ، وبين يديه (٤) جارية تسقيه. وهي تقابل وجهها بنجم الكاس في راحة كالثريا ، تخجل (٥) الزهر بطيب العرف والريّا ، فاتفق أن لعب البرق بحسامه ، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه ، فارتاعت لخطفته ، وذعرت من خيفته ، فقال المعتمد بديها : [السريع]
روّعها البرق وفي كفّها |
|
برق من القهوة لمّاع |
عجبت منها وهي شمس الضّحى |
|
كيف من الأنوار ترتاع |
واستدعى (٦) عبد الجليل بن وهبون المرسي ، وأنشده البيت الأول مستجيزا ، فقال عبد الجليل : [السريع]
__________________
(١) ما بين المعقوفين ساقط من ب ، ه.
(٢) في نسخة عند ه «البدر السبكي».
(٣) انظر البدائع ١ / ١٠٠.
(٤) الذي في بدائع البداءة «وبين يديه جارية تخجل الزهر بطيب العرف والريا ، وتقابل بدر وجهها بشهاب الكأس في راحة الثريا ، فاتفق أن لعب البرق بحسامه ، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركاب ركامه» وهو أدق مما هنا.
(٥) في ب «وتخجل».
(٦) في ب ، ه «فاستدعى».
ولن أرى أعجب من آنس |
|
من مثل ما يمسك يرتاع (١) |
فاستحسنه ، وأمر له بجائزة.
قال ابن ظافر : وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد ، انتهى.
وقال ابن بسام (٢) : كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطىء بركة يقذف الماء ، وهو الذي يقول فيه عبد الجليل بن وهبون من بعض قصيدة : [الوافر]
ويفرغ فيه مثل النّصل بدع |
|
من الأفيال لا يشكو ملالا |
رعى رطب اللّجين فجاء صلدا |
|
تراه قلّما يخشى هزالا |
فجلس المعتمد يوما على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل ، وقد أوقدت شمعتان من جانبيه ، والوزير أبو بكر بن الملح عنده ، فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديها منها : [البسيط]
ومشعلين من الأضواء قد قرنا |
|
بالماء والماء بالدّولاب منزوف |
لاحا لعيني كالنّجمين بينهما |
|
خطّ المجرّة ممدود ومعطوف |
وقال أيضا : [البسيط]
كأنّما النّار فوق الشّمعتين سنا |
|
والماء من منفذ الأنبوب منسكب (٣) |
غمامة تحت جنح اللّيل هامعة |
|
في جانبيها خفاق البرق يضطرب (٤) |
وقال أيضا : [الطويل]
وأنبوب ماء بين نارين ضمّنا |
|
هدى لكؤوس الراح تحت الغياهب (٥) |
كأنّ اندفاع الماء بالماء حيّة |
|
يحرّكها في الماء لمع الحباحب (٦) |
وقال أيضا : [الطويل]
كأنّ سراجي شربهم في التظائها |
|
وأنبوب ماء الفيل في سيلانه |
كريم تولّى كبره من كليهما |
|
لئيمان في إنفاقه يعذلانه (٧) |
__________________
(١) في ب ، ه «ولن ترى أعجب من آنس».
(٢) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٣٧.
(٣) في ب ، ه «والماء من نفذ الأنبوب منسكب».
(٤) الهامعة : التي تسكب المطر.
(٥) في ب «هوى الكؤوس ...».
(٦) في نسخة «كأن اندفاع الماء بالنار».
(٧) يعذلانه : يلومانه.
ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أوّلها (١). [الطويل]
هو الدهر فاصبر للّذي أحدث الدّهر |
|
فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر |
ستصبر صبر اليأس أو صبر وحشة |
|
فلا تؤثر الوجه الذي معه الوزر (٢) |
وإنّ متاتي لم يضعه محمد |
|
خليفتك العدل الرّضي وابنك البرّ |
هو الظّافر الأعلى المؤيّد بالّذي |
|
له في الّذي وفّاه من صنعه سرّ (٣) |
له في اختصاصي ما رأيت وزداني |
|
مزية زلفى من نتائجها الفخر |
وأرغم في بري أنوف عصابة |
|
لقاؤهم جهم ولحظهم شزر |
إذا ما استوى في الدّست عاقد حبوة |
|
وقام سماطا حفله فلي الصّدر |
وفي نفسه العلياء لي متبوّأ |
|
يساجلني فيه السّماكان والنّسر |
ومنها :
لك الخير إنّ الرّزء كان غيابة |
|
طلعت لنا فيها كما طلع البدر (٤) |
فقرّت عيون كان أسخنها البكا |
|
وقرّت قلوب كان زلزلها الذّعر |
ومنها :
ولمّا قدمت الجيش بالأمر أشرقت |
|
إليك من الآمال آفاقها الغبر |
فقضّيت من فرض الصلاة لبانة |
|
فشيّعها نسك وقارنها طهر |
ومن قبل ما قدّمت مثنى نوافل |
|
يلاقي بها من صام من غيره فطر (٥) |
ورحت إلى القصر الذي غضّ طرفه |
|
بعيد التّسامي أن غدا غيره القصر |
وأجمل عن التّاوي العزاء فإن توى |
|
فإنّك لا الواني ولا الضّرع الغمر (٦) |
وما أعطت السّبعون قبل أولي الحجا |
|
من اللّبّ ما أعطاك عشروك والعمر |
__________________
(١) ديوان ابن زيدون ص ٥٦٢. مع التنبيه إلى أن هناك اختلاف في ترتيب الأبيات مع ب.
(٢) في ب «أو صبر حسبة».
(٣) في ه «له بالذي وافاه».
(٤) في ب «كان غياية».
(٥) في ب «يلاقي بها من صان من عوز فطر».
(٦) في ب «وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى».
ألست الّذي إن ضاق ذرع بحادث |
|
تبلّج منه الوجه واتّسع الصّدر |
فلا تهض الدّنيا جناحك بعده |
|
فمنك لمن هاضت نوائبها جبر |
ولا زلت موفور العديد بقرّة |
|
لعينك مشدودا بها ذلك الأزر |
حذارك من أن يعقب الرّزء فتنة |
|
يضيق بها عن مثل إيمانك العذر |
إذا أسف الثّكل اللّبيب فشفّه |
|
رأى أفدح الثّكلين أن يذهب الأجر (١) |
مصاب الّذي يأسى بموت ثوابه |
|
هو البرح لا الميت الّذي أحرز القبر |
حياة الورى نهج إلى الموت مهيع |
|
لهم فيه إيضاع كما يوضع السّفر (٢) |
ومنها :
إذا الموت أضحى قصد كلّ معمّر |
|
فإنّ سواء طال أو قصر العمر |
ألم تر أنّ الدّين ضيم ذماره |
|
فلم يغن أنصار عديدهم دثر |
بحيث استقلّ الملك ثاني عطفه |
|
وجرّر من أذياله العسكر المجر |
هو الضيم لو غير القضاء يرومه |
|
ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر |
إذا عثرت جرد العناجيج في القنا |
|
بليل عجاج ليس يصدعه فجر |
ومنها :
أعبّاد يا أوفى الملوك لقد عدا |
|
عليك زمان من سجيّته الغدر |
إلى أن قال بعد أبيات كثيرة :
ألا أيها المولى الوصول عبيده |
|
لقد رابنا أن يتلو الصّلة الهجر |
يغاديك داعينا السلام كعهده |
|
فما يسمع الداعي ولا يرفع السّتر |
أعتب علينا ذا وعن ذلك الرضا |
|
فتسمع أم بالمسمع المعتلي وقر (٣) |
ومنها :
وكيف بنسيان وقد ملأت يدي |
|
جسام أياد منك أيسرها الوفر |
__________________
(١) في ب «إذ آسف ...».
(٢) النهج : الطريق. والمهيع : الطريق الواسع البين. والإيضاع : الإسراع.
(٣) في ب ، ه «أعتب علينا زاد عن ذلك الرضا».
وإن كنت لم أشكر لك المنن التي |
|
تملّيتها تترى فلا بقي الكفر (١) |
فهل علم الشلو المقدّس أنّني |
|
مسوّغ حال حار في كنهها الدّهر (٢) |
فإنّك شمس في سماء رياسة |
|
تطلّع منها حولنا أنجم زهر (٣) |
شككنا فلم نثبت لأيام دهرنا |
|
بها وسن أم هزّ أعطافها سكر (٤) |
وما إن تغشّتها مغازلة الكرى |
|
وما إن تمشّت في معاطفها الخمر (٥) |
سوى نشوات من سجايا مملّك |
|
يصدّق في عليائها الخبر الخبر (٦) |
أرى الدهر إن يبطش فأنت يمينه |
|
وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر |
وكم سائل بالغيب عنك أجبته |
|
هناك الأيادي الشّفع والسودد الوتر (٧) |
هناك التّقى والعلم والحلم والنهى |
|
وبذل اللها والبأس والنظم والنثر (٨) |
همام إذا لاقى المناجز ردّه |
|
وإقباله خطر وإدباره حصر (٩) |
محاسن ما للروض سامره الندى |
|
رواء إذا نصت حلاها ولا نشر |
متى انتشقت لم تدر دارين مسكها |
|
حياء ولم يفخر بعنبره الشّحر (١٠) |
عطاء ولا منّ ، وحكم ولا هوى |
|
وحلم ، ولا عجز ، وعز ولا كبر |
قد استوفت النعماء فيك تمامها |
|
علينا فمنا الحمد لله والشّكر |
__________________
(١) في ب «تترى فأوبقني الكفر».
(٢) في ب «مسوّغ حال حار في كنهها الفكر». وفي ه «مسوغ حال ضلّ في كنهها الفكر».
(٣) في ب «تطلّع منهم حولنا ...» وزهر : جمع أزهر وزهراء وهو المنير المشرق ، الصافي اللون والأزهران الشمس والقمر.
(٤) أعطافها : جمع عطف ، وهو الجانب والطرف وعطفا كل شيء : جانباه وفي ب «أأيام دهرنا».
(٥) في الديوان «مفاصلها الخمر». ومعاطفها : جمع معطف وهو الرداء. والكرى : النوم.
(٦) الخبر : بفتحتين : وهو ما ينقل ويتحدث به ، والخبر ـ بضم فسكون : هو التجربة والاختبار ، ويقال : صدق الخبر الخبر ، أي أن الاختبار بالمشاهدة أثبت الخبر المسموع. ومن قولهم : ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري.
(٧) الشفع والوتر : الزوج والآحاد. وشفع الشيء : صيّره شفيعا ، أو زوجا ، وكان وترا فشفعه بآخر أي قرنه به.
والسودد : كرم المنصب والقدر الرفيع والسيادة ، وهنا أراد بالشفع العطاء بكلتي يديه ، والسودد : الوتر ، أي السيد صاحب السيادة الأوحد.
(٨) اللها : العطايا. وفي عجز بيت للشاعر ابن وهبون في حضرة المعتمد : تجيد العطايا واللها تفتح اللها.
(٩) المناجز : من فعل ناجز : أي قاتل وبارز. ومن قولهم «المحاجزة قبل المناجزة ، أي المسالمة وطلب الصلح قبل المعالجة في القتال.
(١٠) في ب ، ه «ولم تفخر بعنبرها الشحر».
وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا ، في قصوره البديعة التي منها المبارك والثريا (١) : [الكامل]
فز بالنجاح وأحرز الإقبالا |
|
وحز المنى وتنجّز الآمالا (٢) |
وليهنك التأييد والظفر اللّذا |
|
صدقاك في السمة العلية فالا |
يا أيها الملك الذي لولاه لم |
|
تجد العقول الناشدات كمالا |
أما الثريا فالثريا نسبة |
|
وإفادة وإنافة وجمالا |
قد شاقها الإغباب حتى إنها |
|
لو تستطيع سرت إليك خيالا (٣) |
رفّه ورودكها لتغنم راحة |
|
وأطل مزاركها لتنعم بالا |
وتأمل القصر المبارك وجنة |
|
قد وسطت فيها الثريا خالا |
وأدر هناك من المدام كؤوسها |
|
وأتمها وأشفها جريالا (٤) |
قصر يقرّ العين منه مصنع |
|
بهج الجوانب لو مشى لاختلالا |
لا زلت تفترش السرور حدائقا |
|
فيه وتلتحف النعيم ضلالا |
وأهدى إليه تفاحا ، واعتقد أن يكتب معه قطعة ، فبدأ بها ، ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ (٥) : [مجزوء الخفيف]
دونك الراح جامده |
|
وفدت خير وافده |
وجدت سوق ذو بها |
|
عندك اليوم كاسده |
فاستحالت إلى الجمو |
|
د وجاءت مكايده |
وكتب إلى المعتمد (٦) : [السريع]
يا أيها الظافر نلت المنى |
|
ولا أتانا فيك محذور |
إن الخلال الزهر قد ضمها |
|
ثوب عليك الدهر مزرور |
__________________
(١) انظر ديوان ابن زيدون ص ٥٢٠.
(٢) في ج ، ه «وأحرز الآمالا وخذ المنى» وفي ب «وخذ المنى».
(٣) الإغباب : مصدر أغبّ ، أي شرب أو زار يوما وترك يوما ، ومنه الحديث الشريف : «زر غبّا تزدد حبّا».
(٤) الجريال : حمرة الخمرة.
(٥) الديوان ص ٢٢٤.
(٦) الديوان ص ٦١٦.
لا زال للمجد الذي شدته |
|
ربع بتعميرك معمور |
وافاك نظم لي في طيّه |
|
معنى معمّى اللفظ مستور |
مرامه يصعب ما لم يبح |
|
بالسر قمريّ وشحرور |
وذكر أبياتا فيها أسماء طيور عمّى بها عن بيت طيره فيها ، والبيت المطير فيه : [مجزوء الخفيف]
أنت إن تغز ظافر |
|
فليطع من ينافر |
ففكه المعتمد وجاوبه : [السريع]
يا خير من يلحظه ناظري |
|
شهادة ما شانها زور |
ومن إذا خطب دجا ليله |
|
لاح به من رأيه نور |
جاءتني الطير التي سرها |
|
نظم به قلبي مسرور |
شعر هو السحر فلا تنكروا |
|
أنّي به ما عشت مسحور |
اللفظ والقرطاس إن شبّها |
|
قيل هما مسك وكافور |
هوى لحسن الطير من فكرتي |
|
صقر فولّى وهو مقهور |
ولاح لي بيت فؤادي له |
|
دأبا على ودك مقصور |
حظك من شكري يا سيدي |
|
حظ نما لي منك موفور (١) |
قصرت في نظمي فاعذر فمن |
|
ضاهاك في التقصير معذور |
فأنت إن تنظم وتنثر فقد |
|
أعوز منظوم ومنثور |
لا يعدكم روض من الح |
|
ظ في الإكرام والترفيع ممطور |
فكتب إليه ابن زيدون (٢) : [السريع]
حظّي من نعماك موفور |
|
وذنب دهري بك مغفور |
|
||
وجانبي إن رامه أزمة |
|
حجر لدى ظلك محجور |
يا ابن الذي سرب الهدى آمن |
|
منذ انبرى يحميه مخفور |
وآمر الدهر الذي لم يزل |
|
يصغي إليه منه مأمور |
__________________
(١) في ب ، ه «حظ تمالا».
(٢) ديوان ابن زيدون ص ٦٢٠.
ألبس منك الدهر أسنى الحلى |
|
بظافر منحاه منصور |
قام وفي المأثور يا من له |
|
مجد مع الأيام مأثور (١) |
عبدك إن أكثر من شكره |
|
فهو بما توليه مكثور |
إن تعف عن تقصيره منعما |
|
فاليسر أن يقبل معسور |
إن حلال السحر إن صغته |
|
في صحف الأنفس مسطور |
نظم زهاني منه إذ جاءني |
|
علق عظيم القدر مذخور (٢) |
لا غرو أن أفتن إذ لا حظت |
|
فكري منه أعين حور |
تنم عن معناه ألفاظه |
|
كما وشى بالراح بلّور |
جهلت إذ عارضته غير أن |
|
لا بد أن ينفث مصدور |
يا آل عباد موالاتكم |
|
زاك من الأعمال مبرور (٣) |
إن الذي يرجو موازاتكم |
|
من المناوين لمغرور |
مكانه منكم كما انحطّ عن |
|
منزلة المرفوع مجرور |
لا زلتم في غبطة ما انجلى |
|
عن فلق الإصباح ديجور (٤) |
ولا يزل يجري بما شئتم |
|
أعماركم لله مقدور (٥) |
وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فكّ معمى كتب (٦) به إليه ابن زيدون ما صورته : [المجتث]
العين بعدك تقذى |
|
بكلّ شيء تراه |
فليجل شخصك عنها |
|
ما بالغيب جناه |
وقد قدمنا من كلام أبي الوليد بن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية.
رجع إلى بني عباد :
__________________
(١) في ب «يا مروي المأثور يا من له مجد ...».
(٢) العلق : الشيء الثمين الذي تعلقه النفس.
(٣) في ج ، ه «ذاك من الأعمال».
(٤) الديجور : الظلمة.
(٥) أعماركم : منصوبة على الظرفية.
(٦) في ه «بعد أن فك المعمى الذي كتب به إليه ابن زيدون».
قال ابن حمديس : لما قدمت وافدا على المعتمد بن عباد استدعاني وقال : افتح الطاق ، فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه ، وواقده يفتحهما تارة ويسدّهما أخرى ، ثم أدام سد أحدهما ، وفتح آخر ، فحين تأملتهما قال لي : أجز : [المنسرح]
انظر هما في الظلام قد نجما
فقلت : كما رنا في الدّجنّة الأسد
فقال : يفتح عينيه ثمّ يطبقها
فقلت : فعل امرئ في جفونه رمد
فقال : فابتزّه الدهر نور واحدة
فقلت : وهل نجا من صروفه أحد
فاستحسن ذلك وأطربه ، وأمر لي بجائزة ، وألزمني الخدمة.
وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله : [الوافر]
أراك ركبت في الأهوال بحرا |
|
عظيما ليس يؤمن من خطوبه |
تسيّر فلكه شرقا وغربا |
|
وتدفع من صباه إلى جنوبه |
وأصعب من ركوب البحر عندي |
|
أمور ألجأتك إلى ركوبه |
ولغيره : [المجتث]
إنّ ابن آدم طين |
|
والبحر ماء يذيبه |
لو لا الّذي فيه يتلى |
|
ما جاز عندي ركوبه (١) |
وقال ابن حمديس في هذا المعنى : [المجتث]
لا أركب البحر ، أخشى |
|
عليّ منه المعاطب |
طين أنا وهو ماء |
|
والطّين في الماء ذائب |
__________________
(١) في ه «لو لا الذي جاء يتلى».
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى :
قال ابن بسام (١) : أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر بن الإشبيلي ، قال : حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر بن عمار (٢) ، فلما دارت الكأس ، وتمكن الأنس ، وغنيت أصواتا ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب ، فارتجل يخاطب الرشيد : [البسيط]
ما ضرّ أن قيل إسحاق وموصله |
|
ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق |
أنت الرشيد فدع من قد سمعت به |
|
وإن تشابه أخلاق وأعراق |
لله درّك داركها مشعشعة |
|
واحضر بساقيك ما قامت بنا ساق |
وكان الرشيد هذا أحد أولاد المعتمد النجبا ، وله أخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من أمرها عجبا ، وكذلك إخوته ، وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم ، وأمهم اعتماد الملقبة بالرّميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع ، واقتضت المناسبة ذكر أمر (٣) بني عباد ، فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى ، فنقول :
قال ابن سعيد في بعض مصنفاته : كان المعتمد كثيرا ما يأنس بها ، ويستظرف نوادرها ، ولم تكن لها معرفة بالغناء ، وإنما كانت مليحة الوجه ، حسنة الحديث ، حلوة النادر ، كثيرة الفكاهة ، لها في كل ذلك نوادر محكية ، وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن ، وهي أبدع منها ملحا ، وأحسن افتنانا ، وأجل منصبا ، وكان أبوها أمير قرطبة ، ويلقب بالمستكفي بالله ، وأخبار أبي الوليد بن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة ، انتهى ملخصا.
ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها «ولا يوم الطين» وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين ، فاشتهت المشي في الطين ، فأمر المعتمد ، فسحقت أشياء من الطيب ، وذرّت في ساحة القصر حتى عمته ، ثم نصبت الغرابيل ، وصبّ فيها ماء الورد على أخلاط الطيب ، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين ، وخاضتها مع جواريها ، وغاضبها في بعض
__________________
(١) بدائع البداءة ج ٢ ص ١٢٩.
(٢) في ب «أبو بكر بن عمار».
(٣) في ه «واقتضت المناسبة بعض ما ذكرناه من أمر بني عباد».
الأيام ، فأقسمت أنها لم تر منه خيرا قط ، فقال : ولا يوم الطين؟ فاستحيت واعتذرت ، وهذا مصداق قول نبينا صلى الله عليه وسلم في حق النساء «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط».
قلت : ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته : [البسيط]
يطأن في الطّين والأقدام حافية |
|
كأنّها لم تطأ مسكا وكافورا |
ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما جرت به عادة الملوك من ذرّ الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم ، زيادة في التنعم.
وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال (١) : وأول عيد أخذه ـ يعني المعتمد ـ بأغمات وهو سارح ، وما غير الشجون له مسارح (٢) ، ولازي إلّا حالة الخمول ، واستحالة المأمول ، فدخل إليه ، من يسليه ويسلم عليه (٣) ، وفيهم بناته وعليهن أطمار (٤) ، كأنها كسوف وهن أقمار ، يبكين عند التساؤل ، ويبدين الخشوع بعد التخايل ، والضياع قد غير صورهن ، وحير نظرهن ، وأقدامهن حافية ، وآثار نعيمهن عافية ، فقال : [البسيط]
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا |
|
فساءك العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار جائعة |
|
يغزلن للنّاس ما يملكن قطميرا (٥) |
برزن نحوك للتّسليم خاشعة |
|
أبصارهنّ حسيرات مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام حافية |
|
كأنّها لم تطأ مسكا وكافورا |
لا خدّ إلا تشكّى الجدب ظاهره |
|
وليس إلّا مع الأنفاس ممطورا |
أفطرت في العيد لا عادت مساءته |
|
فكان فطرك للأكباد تفطيرا (٦) |
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا |
|
فردّك الدهر منهيّا ومأمورا |
من بات بعدك في ملك يسرّ به |
|
فإنّما بات بالأحلام مغرورا |
__________________
(١) القلائد ص ٢٥.
(٢) في ب ، ج «وما غير الشجون له مبارح».
(٣) في ب ، ه «فدخل عليه من بنيه ، من يسلم عليه ويهنيه».
(٤) الأطمار : جمع طمر ، وهو الثوب البالي.
(٥) القطمير : الشيء الهين القليل الحقير.
(٦) في أ«لا عادت إساءته» وهي جملة دعائية. وتفطيرا : مصدر فطّر ، أي شقّ.
وقال الفتح أيضا (١) : ولما نقل المعتمد من بلاده ، وأعرى من طارفه وتلاده ، وحمل في السفين ، وأحلّ في العدوة محلّ الدفين ، تندبه منابره وأعواده ، ولا يدنو منه زوّاره ولا عوّاده ، بقي أسفا تتصعد زفراته ، وتطرد اطراد المذانب (٢) عبراته ، لا يخلو بمؤانس ، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس (٣) ، ولما لم يجد سلوا ، ولم يؤمّل دنوا ، ولم ير وجه مسرة مجلوّا ، تذكر منازله فشاقته ، وتصور بهجتها فراقته ، وتخيل استيحاش أوطانه ، وإجهاش قصره إلى قطّانه ، وإظلام جوه من أقماره ، وخلوه من حرّاسه وسمّاره ، فقال : [البسيط]
بكى المبارك في إثر ابن عباّد |
|
بكى على إثر غزلان وآساد |
بكت ثرياه لاغمّت كواكبها |
|
بمثل نوء الثريّا الرّائح الغادي |
بكى الوحيد ، بكى الزاهي وقبته |
|
والنهر والتاج ، كل ذله بادي |
ماء السماء على أفيائه درر |
|
يا لجّة البحر دومي ذات إزباد (٤) |
وفي ذلك يقول ابن اللبانة : [البسيط]
أستودع الله أرضا عندما وضحت |
|
بشائر الصّبح فيها بدّلت حلكا (٥) |
كان المؤيّد بستانا بساحتها |
|
يجني النعيم وفي عليائها فلكا |
في أمره لملوك الدّهر معتبر |
|
فليس يغترّ ذو ملك بما ملكا |
نبكيه من جبل خرّت قواعده |
|
فكلّ من كان في بطحائه هلكا |
وكان القصر (٦) الزاهي من أجمل المواضع لديه وأبهاها ، وأحبها إليه وأشهاها ، لإطلاله على النهر ، وإشرافه على القصر ، وجماله في العيون ، واشتماله بالزهر والزيتون (٧) ، وكان له به من الطرب ، والعيش المزري بحلاوة الضّرب (٨) ، ما لم يكن بحلب لبني حمدان ، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان ، وكان كثيرا ما يدير به راحه ، ويجعل فيه انشراحه ، فلما
__________________
(١) القلائد ص ٣.
(٢) المذانب : الدلاء.
(٣) العرين : مأوى السباع. والمكانس : مأوى الظباء.
(٤) في ه «ماء السماء على أبنائه درر».
(٥) الحلك : الظلمة.
(٦) في ه «الحصن الزاهي» وفي القلائد «الحصن الزاهر».
(٧) في القلائد «بالشجر والزيتون».
(٨) الضّرب ـ بالتحريك : العسل الأبيض الغليظ.
امتد الزمان إليه بعدوانه ، وسد عليه أبواب سلوانه ، لم يحنّ إلا إليه ، ولم يتمن غير الحلول لديه (١) ، فقال : [الطويل]
غريب بأرض المغربين أسير |
|
سيبكي عليه منبر وسرير |
وتندبه البيض الصوارم والقنا |
|
وينهلّ دمع بينهنّ غزير |
مضى زمن والملك مستأنس به |
|
وأصبح منه اليوم وهو نفور |
برأي من الدهر المضلّل فاسد |
|
متى صلحت للصّالحين دهور |
أذلّ بني ماء السّماء زمانهم |
|
وذلّ بني ماء السّماء كبير |
فيا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة |
|
أمامي وخلفي روضة وغدير |
بمنبتة الزيتون مورثة العلا |
|
تغنّي حمام أو ترنّ طيور |
بزاهرها السّامي الّذي جاده الحيا |
|
تشير الثريّا نحونا ونشير |
ويلحظنا الزّاهي وسعد سعوده |
|
غيورين والصّبّ المحبّ غيور |
تراه عسيرا لا يسيرا مناله |
|
ألا كلّ ما شاء الإله يسير |
وقال الحجاري في «المسهب» إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة ، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس ، وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثّمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم ، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك ، فخرج بها إلى قصر الزهراء (٢) على نهر إشبيلية ، وقعد على الراح ، فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات : [الكامل]
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم |
|
ولووا عمائمهم على الأقمار |
وتقلّدوا يوم الوغى هندية |
|
أمضى إذا انتضيت من الأقدار (٣) |
إن خوّفوك لقيت كل كريهة |
|
أو أمّنوك حللت دار قرار |
فوقع في قلبه أنها عرّضت بساداتها ، فلم يملك غضبه ، ورمى بها في النهر ، فهلكت ، انتهى ، فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقا للجارية في قولها :
إن خوّفوك لقيت كلّ كريهة
__________________
(١) في ه «ولم يتمن الحلول إلا لديه».
(٢) في ب ، ه «إلى قصر الزاهر».
(٣) الوغى : الحرب ، وانتضيت : سلت. والهندية : السيوف.
وحصره جيوش لمتونة الملثمين حتى أخذوه قهرا ، وسيق إلى أمير المسلمين ، والقصة (١) مشهورة.
وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته (٢) : ولما تم في الملك أمده ، وأراد الله تعالى أن تخر عمده ، وتنقرض أيامه ، وتتقوض عن عراص الملك خيامه (٣) ، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته ، وظاهرته فساطيطه ومظلاته ، وبعد ما نثرت حصونه وقلاعه ، وسعّرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه ، وأخذت عليه الفروج والمضايق ، وانثنت (٤) إليه الموانع والعوائق ، وطرقته طوارقها بالإضرار ، وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار (٥) ، وهو ساه بروض ونسيم ، لاه براح ومحيا وسيم ، زاه بفتاة تنادمه ، ناه عن هدم أنس هو هادمه ، لا يصيخ إلى نبأة سمعه ، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه ، وقد ولى المدامة ملامه ، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه ، وتلك الجيوش تجوس خلاله ، وتقلص ظلاله ، وحين اشتد حصاره ، وعجز عن المدافعة أنصاره ، ودلّس (٦) عليه ولاته ، وكثرت أدواؤه وعلّاته ، فتح باب الفرج ، وقد لفح شواظ الهرج ، فدخلت عليه من المرابطين زمره ، واشتعلت من التغلب جمره ، تأجج اضطرامها ، وسهل بها إيقاد الفتنة (٧) وإضرامها ، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا عن مفاضته (٨) ، جامحا كالمهر قبل رياضته ، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته ، وظهروا على البلد من أكثر جهاته ، وسيفه في يده يتلمّظ للطّلى والهام ، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام ، فرماه أحد الداخلين برمح تخطّاه ، وجاوز مطاه (٩) ، فبادره بضربة أذهبت نفسه ، وأغربت شمسه ، ولقي ثانيا فضربه وقسمه ، وخاض حشا ذلك الداء وحسمه ، فاجلوا عنه ، وولوا فرارا منه ، فأمر بالباب فسد ، وبنى منه ما هد ، ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها ، وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها ، وفي ذلك يقول عندما خلع ، وأودع من المكروه ما أودع : [مجزوء الكامل]
إن يسلب القوم العدى |
|
ملكي وتسلمني الجموع |
فالقلب بين ضلوعه |
|
لم تسلم القلب الضّلوع |
قد رمت يوم نزالهم |
|
أن لا تحصّنني الدّروع |
__________________
(١) في ه «والقضية مشهورة».
(٢) انظر القلائد ص ٢١.
(٣) العراص : جمع عرصة ، وهي ساحة الدار.
(٤) في ب ، ه «وثنت».
(٥) الديمة ، السحابة الممطرة. والمدرار : الغزيرة الماء.
(٦) دلّس عليه : أتاه بغير الصحيح.
(٧) في القلائد «إيقاد البقية وإخدامها».
(٨) في ب ، ه «حاسرا من مفاضته» والمفاضة : الدرع.
(٩) جاوز مطاه : جاوز مطيته.
وبرزت ليس سوى القمي |
|
ص على الحشا شيء دفوع |
أجلي تأخّر لم يكن |
|
بهواي ذلي والخشوع (١) |
ما سرت قط إلى القتا |
|
ل وكان من أملي الرجوع |
شيم الألى أنا منهم |
|
والأصل تتبعه الفروع |
وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب ، ثم ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات.
ومن حكايات مجالس أنسه أيام ملكه ، قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه ، ما حكاه الفتح (٢) عن ذخر الدولة أنه دخل عليه في دار المزينية والزهر يحسد إشراق مجلسه ، والدر يحكي اتّساق تأنسه ، وقد رددت الطير شدوها ، وجودت (٣) طربها ولهوها ، وجدّدت كلفها وشجوها ، والغصون قد التحفت بسندسها ، والأزهار تحيي بطيب تنفسها ، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها ، وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها (٤) ، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب ، ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب ، وقد توشح وكأن الثريا وشاحه ، وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه ، فكلما (٥) ناوله الكأس خامرته سوره ، وتخيل أن الشمس تهديه نوره ، فقال المعتمد [المنسرح] :
لله ساق مهفهف غنج |
|
قد قام يسقي فجاء بالعجب |
أهدى لنا من لطيف حكمته |
|
في جامد الماء ذائب الذّهب |
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن بن اليسع (٦) ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب ، ولم يبد فيه غير نجم ثاقب ، فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول ، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول ، بعد أن وصى بما خلف ، وودع من تخلف ، فلما مثل بين يديه آنسه ، وأزال توجّسه ، وقال له : خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي ، وكفكفت (٧) فيه غرب دموعي ، بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها ، لا يجول قلبها ولا خلخالها (٨) ، وقد قلت في يوم وداعها ، عند تفطر كبدي وانصداعها [الطويل] :
__________________
(١) في ج «يهواه ذلي والخضوع». وفي ب «بهواي ذلي والخضوع».
(٢) القلائد ص ٩.
(٣) في ب «وجددت».
(٤) آذار ونيسان : من الشهور الرومية.
(٥) في ج «فلما».
(٦) في ب «أبا الحسن بن أليسع».
(٧) في ب ، ه «وكففت فيه غرب دموعي».
(٨) القلب : السوار.
ولمّا التقينا للوداع غديّة |
|
وقد خفقت في ساحة القصر رايات |
بكينا دما حتّى كأنّ عيوننا |
|
لجري الدّموع الحمر منها جراحات (١) |
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي وأبرأتني من توجّعي ومكنتني من رضابها ، وفتنتني بدلالها وخضابها ، فقلت : [الطويل]
أباح لطيفي طيفها الخدّ والنّهدا |
|
فعضّ بها تفّاحة واجتنى وردا (٢) |
ولو قدرت زارت على حال يقظة |
|
ولكن حجاب البين ما بيننا مدّا |
أما وجدت عنّا الشّجون معرّجا |
|
ولا وجدت منّا خطوب النّوى بدّا |
سقى الله صوب القطر أمّ عبيدة |
|
كما قد سقت قلبي على حرّه بردا |
هي الظّبي جيدا ، والغزالة مقلة ، |
|
وروض الربا عرفا ، وغصن النّقا قدّا |
فكرر استجادته ، وأكثر استعادته ، فأمر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه.
قال الفتح (٣) : وأخبرني ابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه ، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه ، فسقاه الساقي وحيّاه ، وسفر له الأنس عن مونق محيّاه ، فقام للمعتمد مادحا ، وعلى دوحة تلك النعماء صادحا ، فاستجاد قوله ، وأفاض عليه طوله ، فصدر وقد امتلأت يداه ، وغمره جوده ونداه ، فلما حل بمنزله وافاه رسوله بقطيع وكاس من بلار ، قد أترعا بصرف العقار ، ومعهما : [الكامل]
جاءتك ليلا في ثياب نهار |
|
من نورها وغلالة البلّار |
كالمشتري قد لفّ من مرّيخه |
|
إذ لفّه في الماء جذوة نار |
لطف الجمود لذا وذا فتألّفا |
|
لم يلق ضد ضده بنفار |
يتحيّر الراءون في نعتيهما |
|
أصفاء ماء أم صفاء دراري |
وقال الفتح أيضا : وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه ، وأوقد فيها أضواءه ، وهو على البحيرة (٤) الكبرى ، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا ، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا ، وقد أرجت نوافج الند (٥) ، وماست معاطف الرّند ، وحسد النسيم
__________________
(١) في ه «تجري الدموع الحمر منها جراحات».
(٢) في ه «فعض به تفاحة».
(٣) القلائد ص ٦.
(٤) في ج «الحيرة الكبرى».
(٥) في ج «نوافح» بالمهملة. والنوافج : جمع نافجة ، وهي وعاء المسك.
الروض فوشى بأسراره ، وأفشى حديث (١) آسه وعراره ، ومشى مختالا بين لبّات النّور وأزراره (٢) ، وهو وجم ، ودمعه منسجم ، وزفراته تترجم عن غرامه ، وتجمجم عن تعذر مرامه (٣) ، فلما نظر إليه استدناه وقربه ، وشكا إليه من الهجران ما استغربه ، وأنشده : [المتقارب]
أيا نفس لا تجزعي واصبري |
|
وإلا فإنّ الهوى متلف |
حبيب جفاك وقلب عصاك |
|
ولاح لحاك ولا منصف |
شجون منعن الجفون الكرى |
|
وعوّضنها أدمعا تنزف |
فانصرف ولم يعلمه بقصته ، ولا كشف له عن غصّته ، انتهى.
وقال الفتح أيضا : أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة قد ثنى (٤) السرور منامها ، وامتطى الحبور غاربها وسنامها (٥) ، وراع الأنس فؤادها ، وستر بياض الأماني سوادها ، وغازل نسيم الروض زوارها وعوّادها ، ونور السراج (٦) قد قلّص أذيالها ، ومحا من لجين الأرض نيالها ، والمجلس مكتس بالمعالي ، وصوت المثاني والمثالث عالي ، والبدر قد كمل ، والتحف بضوئه القصر واشتمل ، وتزين بسناه وتجمل ، فقال المعتمد : [الكامل]
ولقد شربت الرّاح يسطع نورها |
|
والليل قد مدّ الظلام رداء |
حتى تبدّى البدر في جوزائه |
|
ملكا تناهى بهجة وبهاء |
وتناهضت زهر النجوم يحفّه |
|
لألاؤها فاستكمل اللألاء |
لما أراد تنزها في غربه |
|
جعل المظلة فوقه الجوزاء (٧) |
وترى الكواكب كالمواكب حوله |
|
رفعت ثريّاها عليه لواء |
وحكيته في الأرض بين كواكب |
|
وكواعب جمعت سنا وسناء (٨) |
إن نشرت تلك الدروع حنادسا |
|
ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء |
وإذا تغنت هذه في مزهر |
|
لم تأل تلك على التّريك غناء |
__________________
(١) في ه «أحاديث آسه وعراره».
(٢) النّور : الزهر الابيض.
(٣) في ه «عن غرام» و «تعذر مرام».
(٤) في ج «قد امتنى السرور منامها».
(٥) الحبور : السرور. والغارب : الكاهل.
(٦) في ب ، ه «ونور السّرج» وهو جمع سراج.
(٧) في ج «لما أراد تنزها في غربة».
(٨) السنا : الضوء الشديد. والسناء : العلوّ والرفعة.