الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
فاعمر له ربع ادّكا |
|
رك في العشيّة والغداه |
واكحل به طرف اعتبا |
|
رك طول أيام الحياه |
قبل ارتكاض النفس ما |
|
بين الترائب واللهاه |
فيقال هذا جعفر |
|
رهن بما كسبت يداه |
عصفت به ريح المنو |
|
ن فصيّرته كما تراه |
فضعوه في أكفانه |
|
ودعوه يجني ما جناه |
وتمتّعوا بمتاعه الم |
|
حزون واحووا ما حواه |
يا منظرا مستبشعا |
|
بلغ الكتاب به مداه |
لقّيت فيه بشارة |
|
تشفي فؤادي من جواه |
ولقيت بعدك خير من |
|
نبّاه ربي واجتباه (١) |
في دار خفض ما اشتهت |
|
نفس المقيم بها أتاه |
وقال في المطمح : إنه كهل الطريقة ، وفتى الحقيقة ، تدرّع الصيانة ، وبرع في الورع والديانة ، وتماسك عن الدنيا عفافا ، وما تماسك التماسا بأهلها والتفافا ، فاعتقل النّهى (٢) ، وتنقّل في مراتبها حتى استقرّ فيها في السّها (٣) ، وعطّل أيام الشباب ، ومطل فيها سعاد وزينب والرّباب ، إلّا ساعات وقفها على المدام ، وعطفها إلى النّدام ، حتى تخلّى عن ذلك واتّرك ، وأدرك من المعلومات ما أدرك ، وتعرّى من الشبهات ، وسرى إلى الرشد مستيقظا من تلك السّنات (٤) ، وله تصرّف في شتى الفنون ، وتقدّم في معرفة المفروض والمسنون ، وأمّا الأدب فلم يجاره في ميدانه أحد ، ولا استولى على إحسانه فيه حصر ولا حدّ ، وجدّه أبو الحجاج الأعلم هو خلّد منه ما خلّد ، ومنه تقلّد ما تقلّد ، وقد أثبتّ لأبي الفضل هذا ما يسقيك ماء الفضل زلالا ، ويريك سحر البيان حلالا ، فمن ذلك ما كتب به إليّ ، وقد مرت على شنت مرية بعد ما رحل عنها وانتقل ، واعتقل من نوانا (٥) وبيننا ما اعتقل ، وشنت مرية هذه داره ، وبها
__________________
(١) اجتباه : اختاره.
(٢) اعتقل النهى : أي لبس التعقل.
(٣) السها : كوكب خفي من بنات نعش الكرى.
(٤) السنات ـ بكسر السين ـ جمع سنة وهي النوم أو أوله خاصة.
(٥) في ه : «واعتقل من ثوانا».
كمل خلاله وإبداره ، وفيها استقضي ، وشيم مضاؤه وانتضي ، فالتقينا بها على ظهر ، وتعاطينا ذكر ذلك الدهر ، فجددت من شوقه ، ما كان قد شبّ على (١) طوقه ، فرامني على الإقامة ، وسامني على ذلك بكلّ كرامة ، فأبيت إلّا النوى ، وانثنيت عن الثّوى ، فودعني ، ودفع إليّ تلك القطعة حين شيّعني : [الكامل]
بشراي أطلعت السعود على |
|
آفاق أنسي بدرها كملا |
وكسا أديم الأرض منه سنا |
|
فكست بسائطها به حللا |
إيه أبا نصر ، وكم زمن |
|
قصر ادكارك عندي الأملا |
هل تذكرن والعهد يخجلني |
|
هل تذكرن أيامنا الأولا |
أيام نعثر في أعنّتنا |
|
ونجرّ من أبرادنا خيلا |
ونحلّ روض الأنس مؤتنقا |
|
وتحلّ شمس مرادنا الحملا (٢) |
ونرى ليالينا مساعفة |
|
تدعو رفاقتنا لنا الجفلى (٣) |
زمن نقول على تذكره |
|
ما تمّ حتى قيل قد رحلا |
عرضت لزورتكم وما عرضت |
|
إلّا لتمحق كلّ ما فعلا |
ووافيته عشية من العشايا أيام ائتلافنا ، وعودنا إلى مجلس الطلب واختلافنا ، فرأيته مستشرفا متطلّعا ، يرتاد موضعا يقيم به لثغور الأنس مرتشفا ولثديه مرتضعا ، فحين مقلني (٤) ، تقلّدني إليه واعتقلني ، وملنا إلى روضة قد سندس الربيع في بساطها ، ودبّج الزهر درانك أوساطها ، وأشعرت النفوس فيها بسرورها وانبساطها ، فأقمنا بها نتعاطى كؤوس أخبار ، ونتهادى أحاديث جهابذة وأحبار ، إلى أن نثر زعفران العشي ، وأذهب الأنس خوف العالم الوحشي ، فقمت وقام ، وعوّج الرعب من ألسنتنا ما كان استقام ، وقال : [الكامل]
وعشيّة كالسيف إلّا حدّه |
|
بسط الربيع بها لنعلي خدّه |
عاطيت كأس الأنس فيها واحدا |
|
ما ضرّه إن كان جمعا وحده |
__________________
(١) في ب : «شب عن طوقه».
(٢) الحمل : برج في السماء.
(٣) في ب ، ه : «تدعو إلى رفقنا الجفلى».
والجفلى : الدعوة العامة التي لا ينتقي صاحبها من يدعو.
(٤) مقلني : نظرني.
وتنزّه يوما بحديقة من حدائق الحضرة قد اطّرد نهرها ، وتوقّد زهرها ، والريح يسقطه فينظم بلبّة الماء ، ويتبسّم به فتخاله كصفحة خضرة السماء ، فقال : [الكامل]
انظر إلى الأزهار كيف تطلّعت |
|
بسماوة الروض المجود نجوما |
وتساقطت فكأنّ مسترقا دنا |
|
للسّمع فانقضّت عليه رجوما (١) |
وإلى مسيل الماء قد رقمت به |
|
صنع الرياح من الحباب رقوما |
ترمي الرياح لها نثير أزاهر |
|
فتمدّه في شاطئيه رقيما (٢) |
وله يصف قلم يراعة ، وبرع في صفته أعظم براعة : [الكامل]
ومهفهف ذلق صليب المكسر |
|
سبب لنيل المطلب المتعذّر |
متألّق تنبيك صفرة لونه |
|
بقديم صحبته لآل الأصفر |
ما ضرّه أن كان كعب يراعة |
|
وبحكمه اطّردت كعوب السّمهري (٣) |
وله عندما شارف الكهولة ، واستأنف قطع صبوة (٤) كانت موصولة : [الكامل]
أمّا أنا فقد ارعويت عن الصّبا |
|
وعضضت من ندم عليه بناني |
فأطعت نصّاحي وربّ نصيحة |
|
جاؤوا بها فلججت في العصيان |
أيام أسحب من ذيول شبيبتي |
|
مرحا وأعثر في فضول عناني |
وأجلّ كأسي أن ترى موضوعة |
|
فعلى يدي أو في يدي ندماني |
أيام أحيا بالغواني والغنا |
|
وأموت بين الراح والريحان |
في فتية فرضوا اتّصال هواهم |
|
فمناهم دنّ من الأدنان (٥) |
هزّت علاهم أريحيّات الصّبا |
|
فهي النسيم وهم غصون البان |
من كلّ مخلوع الأعنّة لم يبل |
|
في غيّه بمصارف الأزمان (٦) |
إلى أن قال : ومن نثره يصف فرسا : انظر إليه سليم الأديم ، كريم القديم ، كأنما نشأ بين الغبراء واليحموم (٧) ، نجم إذا بدا ، ووهم إذا عدا ، يستقبل بغزال ، ويستدبر برال ، ويتحلّى
__________________
(١) رجوم : جمع رجم ، وهو اسم ما يرجم به.
(٢) في ب ، ه : «ترمي الرياح لها نثيرا زهره».
والرقيم : المرقوم.
(٣) السمهري : الرمح.
(٤) في ب ، ه : «واستأنف قطع صرة».
(٥) الدنّ : برميل الخمر وجمعها أدنان.
(٦) لم يبل : أي لم يبال ولم يهتم ، ولم يكترث.
(٧) في ج : «بين الغبراء والنجوم».
بشيات (١) تقسيمات الجمال.
وله يصف سرجا : بزة جياد ، ومركب أجواد ، جميل الظاهر ، رحيب ما بين القادمة والآخر ، كأنما قدّ من الخدود أديمه ، واختصّ بإتقان الحبك تقويمه.
وله في وصف لجام : متناسب الأشلاء ، صريح الانتماء ، إلى ثريّا السماء ، فكلّه نكال ، وسائره جمال.
وله في وصف رمح : مطّرد الكعوب ، صحيح اتّصال الغالب والمغلوب ، أخ ينوب كلّما استنيب ويصيب.
وله في وصف قميص : كافوريّ الأديم ، بابليّ الرسوم ، تباشر منه الجسوم ، ما يباشر (٢) الروض من النسيم.
وله في وصف بغل : مترف النسب (٣) ، مستخبر الشرف ، آمن الكبب ، إن ركب امتنع اعتماله ، أو وكب (٤) استقلّ به أخواله.
وله في وصف حمار : وثيق المفاصل ، عتيق النهضة إذا ونت المراسل ، انتهى ببعض اختصار.
وقال الأديب الشاعر أبو عمر (٥) يوسف بن هارون الكندي ، المعروف بالرمادي : [الكامل]
أومى لتقبيل البساط خنوعا |
|
فوضعت خدّي في التراب خضوعا (٦) |
ما كان مذهبه الخنوع لعبده |
|
إلّا زيادة قلبه تقطيعا |
قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلّما |
|
يمنن عليّ بردّه مصدوعا |
العبد قد يعصي ، وأحلف أنني |
|
ما كنت إلّا سامعا ومطيعا |
مولاي يحيى في حياة كاسمه |
|
وأنا أموت صبابة وولوعا |
لا تنكروا غيث الدموع فكلّ ما |
|
ينحلّ من جسمي يكون دموعا |
__________________
(١) في ه : «بشتات».
(٢) في ه : «على ما يباشر الروض من النسيم».
(٣) في ب : «مقرف النسب».
(٤) في ب ، ه : «أو ركب استقل الخ ..».
وركب : مشى.
(٥) في ج : «أبو عمرو».
(٦) أومى : أراد «أومأ».
والرمادي المذكور عرّف به غير واحد ، منهم الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس» وقال (١) : أظن أن أحد آبائه كان من أهل الرمادة وهي موضع بالمغرب ، وهو قرطبي ، كثير الشعر ، سريع القول ، مشهور عند الخاصّة والعامة هنالك ، لسلوكه في فنون من المنظوم والمنثور مسالك ، حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون : فتح الشعر بكندة ، وختم بكندة ، يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هارون ، على أنّ في كون المتنبي من كندة القبيلة كلاما مشهورا (٢).
وأخذ أبو عمر بن عبد البر عن الرمادي هذا قطعة من شعره ، وضمّنها بعض تأليفه.
قال ابن حيان : توفي الرمادي سنة ٤٠٣ (٣) ، وذكر ابن سعيد في «المغرب» أن الرمادي اكتسب صناعة الأدب من شيخه أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس ، وهو القائل رحمه الله تعالى : [الخفيف]
لا تلمني على الوقوف بدار |
|
أهلها صيّروا السقام ضجيعي |
جعلوا لي إلى هواهم سبيلا |
|
ثم سدّوا عليّ باب الرجوع |
وروى الرمادي عن أبي عليّ كتاب «النوادر» ومدح أبا علي بقصيدة كما أشرنا إليه في غير هذا الموضع.
وقال في المطمح (٤) : إنه شاعر مفلق ، انفرج له من الصناعة المغلق ، وومض له برقها المؤتلق. وسال بها طبعه كالماء المندفق ، فأجمع على تفضيله المختلف والمتّفق ، فتارة يحزن وأخرى يسهل ، وفي كلتاهما (٥) بالبديع يعلّ وينهل ، فاشتهر عند الخاصّة والعامّة بانطباعه في الفريقين ، وإبداعه في الطريقين ، وكان هو وأبو الطيب متعاصرين ، وعلى الصناعة متغايرين ، وكلاهما من كندة ، وما منها إلّا من اقتدح في الإحسان زنده ، وتمادى بأبي عمر (٦) ، طلق العمر ، حتى أفرده صاحبه ونديمه ، وهريق شبابه واستشن أديمه ، ففارق تلك الأيام وبهجتها ، وأدرك الفتنة فخاض لجّتها ، وأقام فرقا (٧) من هيجانها شرقا بأشجانها ، ولحقته فيها فاقة
__________________
(١) انظر الجذوة ص ٣٤٦.
(٢) وخلاصة ذلك أن المتنبي نسب إلى كندة ـ حي من أحياء الوكوفة ـ لا إلى قبيلة كندة.
(٣) في ه : «سنة ٤١٣».
(٤) انظر المطمح ص ٦٩.
(٥) في ب : «وفى كلتيهما».
(٦) في ج : «بأبي عمرو».
(٧) فرقا من هيجانها : خوفا من هيجانها.
نهكته (١) ، وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته ، وقد أثبتّ من محاسنه ما يعجبك سرده ، ولا يمكنك نقده ، فمن ذلك قوله : [البسيط]
شطّت نواهم بشمس في هوادجهم |
|
لو لا تلألؤها في ليلهنّ عشوا (٢) |
شكت محاسنها عيني وقد غدرت |
|
لأنها بضمير القلب تنخمش (٣) |
شعر ووجه تبارى في اختلافهما |
|
بحسن هذا وذاك الروم والحبش |
شككت في سقمي منها أفي فرشي |
|
منها تنكست وإلّا الطيف والفرش (٤) |
إلى أن قال : وكان كلفا بفتى نصراني استسهل لباس زنّاره ، والخلود معه في ناره وخلع بروده لمسوحه ، وتسوغ الأخذ عن مسيحه (٥) ، وراح في بيعته ، وغدا من شيعته ، ولم يشرب نصيبه ، حتى حطّ عليه صليبه ، فقال : [الوافر]
أدرها مثل ريقك ثم صلّب |
|
كعادتهم على وهمي وكاسي (٦) |
فيقضي ما أمرت به اجتلابا |
|
لمسروري وزاد خضوع راسي |
وله في مثله : [مجزوء الكامل]
ورأيت فوق النّحر در |
|
عا فاقعا من زعفران |
فزجرته لونا سقا |
|
مي بالنوى والزّجر شاني |
يا من نأى عنّي كما |
|
تنأى العيون الفرقدان |
فأرى بعيني الفرقدي |
|
ن ولا أراه ولا يراني |
لا قدّرت لك أوبة |
|
حتى يؤوب القارظان (٧) |
هل ثم إلّا الموت فر |
|
دا لا تكون منيّتان |
وله أيضا : [الخفيف]
__________________
(١) الفاقة : الفقر والحاجة.
(٢) شطت : بعدت. وعشوا : أصيبوا بالعشي ، وهو ضعف في البصر لا يرى المصاب به ليلا.
(٣) في ب : «تنجمش».
(٤) في ب : «منها نكست».
(٥) في أ : «وتشرع في صبيحه».
(٦) في ه : «كعادتهم على وجهي وكاسي».
(٧) الأوبة : الرجوع.
اشرب الكاس يا نصير وهات |
|
إنّ هذا النهار من حسناتي |
بأبي غرّة ترى الشخص فيها |
|
في صفاء أصفى من المرآة |
تنزح الناس نحوها بازدحام |
|
كازدحام الحجيج في عرفات (١) |
هاتها يا نصير إنّا اجتمعنا |
|
بقلوب في الدين مختلفات |
إنما نحن في مجالس لهو |
|
نشرب الراح ثم أنت مواتي |
فإذا ما انقضت ديانة ذا الله |
|
واعتمدنا مواضع الصلوات |
لو مضى الدهر دون راح وقصف |
|
لعددنا هذا من السيئات |
وشاعت عنه أشعار في دولة الخلافة وأهلها ، سدّد إليهم صائبات نبلها ، وسقاهم كؤوس نهلها ، أوغرت عليه الصّدور ، ونعرت (٢) عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور ، فسجنه الخليفة دهرا ، وأسكنه من النكبة وعرا ، فاستعطفه أثناء ذلك واستلطفه ، وأجناه كل زهر من الإحسان وأقطفه ، فما أصغى إليه ، ولا ألغى موجدته عليه (٣) ، وله في السجن أشعار صرّح فيها ببثّه ، وأفصح فيها عن جلّ الخطب لفقد صبره ونكثه ، فمن ذلك قوله : [الطويل]
لك الأمن من شجو يزيد تشوقي
ومنها :
فوافوا بنا الزهراء في حال خالع ال |
|
أئمّة لاستيفائهم في التوثّق |
وحولي من أهل التأدّب مأتم |
|
ولا جؤذر إلّا بثوب مشقّق |
فلو أنّ في عيني الحمام كروضها |
|
وإن كان في ألوانه غير مشفق |
ونادى حمامي مهجتي لتقلقلت |
|
فهلّا أجابت وهو عندي بمحنق (٤) |
أعينيّ إن كانت لدمعك فضلة |
|
تثبّت صبري ساعة فتدفّقي (٥) |
فلو ساعدت قالت أمن قلّة الأسى |
|
تنقت دموعي أم من البحر تستقي (٦) |
__________________
(١) في ب : «تنزع الناس نحوها».
(٢) في ب : «ونفرت عليه». وفي ه : «وتعرت عليه».
ونعرت عليه المنايا : صاحت وصوّتت.
(٣) الموجدة : الغضب.
(٤) في ب ، ه : «وهو عندي لمحنق».
(٥) في ب ، ه : «إن كانت لدمعي فضلة».
(٦) في ب ، ه : «أمن عدة الأسى».
ومنها :
وقالت تظنّ الدهر يجمع بيننا |
|
فقلت لها من لي بظنّ محقّق |
ولكنني فيما زجرت بمقلتي |
|
زجرت اجتماع الشمل بعد التفرّق |
فقد كانت الأشفار في مثل بعدنا |
|
فلمّا التقت بالطيف قالت سنلتقي |
أباكية يوما ولم يأت وقته |
|
سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي (١) |
إلى أن قال : وله أيضا : [الطويل]
على كمدي تهمي السحاب وتذرف |
|
ومن جزعي تبكي الحمام وتهتف (٢) |
كأنّ السحاب الواكفات غواسلي |
|
وتلك على فقدي نوائح هتّف |
ألا ظعنت ليلى وبان قطينها |
|
ولكنني باق فلوموا وعنّفوا |
وآنست في وجه الصباح لبينها |
|
نحولا كأنّ الصبح مثلي مدنف (٣) |
وأقرب عهد رشفة بلّت الحشا |
|
فعاد شتاء باردا وهو صيّف |
وكانت على خوف فولّت كأنها |
|
من الرّدف في قيد الخلاخل ترسف |
وله : [السريع]
قبّلته قدّام قسّيسه |
|
شربت كاسات بتقديسه |
يقرع قلبي عند ذكري له |
|
من فرط شوقي قرع ناقوسه |
وسجن معه غلام من أولاد العبيديّ (٤) فيه مجال ، وفي نفس متأمّله من لوعته أوجال ، فكتب يخاطب الموكل بالسجن بقطعة منها : [الطويل]
حبيسك ممّن أتلف الحبّ عقله |
|
ويلذع قلبي حرقة دونها الجمر (٥) |
هلال وفي غير السماء طلوعه |
|
وريم ولكن ليس مسكنه القفر |
تأمّلت عينيه فخامرني السكر |
|
ولا شكّ في أنّ العيون هي الخمر |
أناطقه كيما يقول ، وإنما |
|
أناطقه عمدا لينتثر الدّرّ |
أنا عبده وهو المليك كما اسمه |
|
فلي منه شطر كامل وله شطر |
انتهى باختصار.
__________________
(١) في ه : «ولم يأن وقته».
(٢) في ب ، ه : «على كبري».
(٣) المدنف : الذي أضناه المرض.
(٤) في ب ، ه : «من أولاد العبيد».
(٥) في ب ، ه : «جليسك من أتلف الحب قلبه».
وقال محمد بن هانىء (١) : [الخفيف]
قد مررنا على مغانيك تلك |
|
فرأينا بها مشابه منك |
عارضتنا المها الخرائد سربا |
|
عند أجراعها فلم نسل عنك (٢) |
لا يرع للمها بذكرك سرب |
|
أشبهتك في الوصف إن لم تكنك |
كن عذيري لقد رأيت معاجي |
|
يوم تبكي بالجزع ولهى وأبكي |
بحنين مرجّع وتشكّ |
|
وأنين موجع كتشكّي |
وقال صاحب المطمح في حقّه : الأديب أبو القاسم محمد بن هانىء ، ذخر خطير ، وروض أدب مطير ، غاص في طلب الغريب حتى أخرج درّه المكنون ، وبهرج بافتنانه فيه كلّ الفنون ، وله نظم تتمنّى الثريا أن تتوّج به وتتقلّد ، ويودّ البدر أن يكتب ما اخترع فيه وولّد ، زهت به الأندلس وتاهت ، وحاسنت ببدائعه الأشمس (٣) وباهت ، فحسد المغرب فيه المشرق ، وغصّ به من بالعراق وشرق ، غير أنه نبت به أكنافها ، وشمخت عليه آنافها ، وبرئت منه ، وزويت الخيرات (٤) فيها عنه ، لأنه سلك مسلك المعرّي ، وتجرّد من التدين وعري ، وأبدى الغلوّ ، وتعدّى الحقّ المجلوّ ، فمجّته الأنفس ، وأزعجته الأندلس ، فخرج على غير اختيار ، وما عرّج على هذه الديار ، إلى أن وصل الزاب واتّصل بجعفر بن الأندلسية ، مأوى تلك الجنسية ، فناهيك من سعد ورد عليه فكرع ، ومن باب ولج فيه وما قرع ، فاسترجع عنده شبابه ، وانتجع وبله وربابه ، وتلقّاه بتأهيل ورحب ، وسقاه صوب تلك السّحب ، فأفرط في مدحه فيه في الغلوّ وزاد ، وفرّغ (٥) عنده تلك المزاد ، ولم يتورّع ، ولا ثناه ذو ورع ، وله بدائع يتحيّر فيها ويحار ، ويخال لرقّتها أنها أسحار ، فإنه اعتمد التهذيب والتحرير ، واتّبع في أغراضه الفرزدق مع جرير ، وأما تشبيهاته فخرق فيها المعتاد ، وما شاء منها اقتاد ، وقد أثبتّ له ما تحنّ له الأسماع ، ولا تتمكّن منه الأطماع ، فمن ذلك قوله : [الطويل]
__________________
(١) انظر المطمح ص ٧٤ ـ ٧٧
(٢) في ب : «المها الخواذل» وفي ج : «المها الجوادل».
والخرائد : جمع خريدة وهي البكر التي لم تمسس ، أو الخفرة الطويلة السكوت ، الخافضة الصوت ، والأجراع جمع جرعة ، وهي الرملة الطيبة المنبت لا وعوث فيها ، أو الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل.
(٣) في ه : «الشموس».
(٤) في ه : «وزويت الخطوة فيها عنه».
(٥) في ج : «وقرع عنده تلك المزاد» تصحيف.
والمزاد : جمع مزادة وهي الراوية.
أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا |
|
وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا |
وبات لنا ساق يقوم على الدّجى |
|
بشمعة صبح لا تقطّ ولا تطفا |
أغنّ غضيض خفّف اللّين قدّه |
|
وثقّلت الصهباء أجفانه الوطفا |
ولم يبق إرعاش المدام له يدا |
|
ولم يبق إعنات التثنّي له عطفا |
نزيف نضاه السكر إلّا ارتجاجة |
|
إذا كلّ عنها الخصر حمّلها الرّدفا |
يقولون حقف فوقه خيزرانة |
|
أما يعرفون الخيزرانة والحقفا (١) |
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا |
|
وقدّت لنا الأزهار من جلدها لحفا (٢) |
فمن كبد توحي إلى كبد هوى |
|
ومن شفة تؤوي إلى شفة رشفا (٣) |
ومنها :
كأنّ السّماكين اللّذين تراهما |
|
على لبدتيه ضامنان له حتفا |
فذا رامح يهوي إليه سنانه |
|
وذا أعزل قد عضّ أنمله لهفا (٤) |
كأنّ سهيلا في مطالع أفقه |
|
مفارق إلف لم يجد بعده إلفا |
كأنّ بني نعش ونعشا مطافل |
|
بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا (٥) |
كأنّ سهاها عاشق بين عوّد |
|
فآونة يبدو وآونة يخفى |
كأنّ قدامى النّسر والنّسر واقع |
|
قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا (٦) |
كأنّ أخاه حين حوّم طائر |
|
أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا |
كأنّ ظلام الليل إذ مال ميلة |
|
صريع مدام بات يشربها صرفا |
كأنّ عمود الصبح خاقان معشر |
|
من الترك نادى بالنجاشيّ فاستخفى (٧) |
__________________
(١) الحقف : المعوج من الرمل.
(٢) في ه : «وقدت لنا الظلماء».
(٣) في ب : «تومي إلى شفة رشعا».
(٤) الرامح : المتسلح بالرمح. والأعزل : الخالي من السلاح.
(٥) مطافل : جمع مطفل ، وهي ذات الطفل من الإنس والوحش : والمهمه : الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها.
والخشف ـ بكسر الجيم وسكون الجيم ـ ولد الظبي أول مشيه.
(٦) في ه : «نهض فلم تسم الخوافي له ضعفا» وفي الديوان «به ضعفا».
(٧) في ه : «خاقان عسكر».
كأن لواء الشمس غرة جعفر |
|
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا |
وله أيضا : [الكامل]
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر |
|
وأمدّكم فلق الصباح المسفر (١) |
وجنيتم ثمر الوقائع يانعا |
|
بالنصر من ورق الحديد الأخضر (٢) |
أبني العوالي السمهريّة والسيو |
|
ف المشرفيّة والعديد الأكثر |
من منكم الملك المطاع كأنه |
|
تحت السوابغ تبّع في حمير (٣) |
جيش تعدّ له الليوث وفوقها |
|
كالغيل من قصب الوشيج الأخضر (٤) |
وكأنما سلب القشاعم ريشها |
|
ممّا يشقّ من العجاج الأكدر (٥) |
لحق القبول مع الدّبور وسار في |
|
جمع الهرقل وعزمة الإسكندر |
في فتية صدأ الحديد لباسهم |
|
في عبقريّ البيض جنّة عبقر |
وكفاه من حبّ السماحة أنه |
|
منها بموضع مقلة من محجر |
ومنها :
نعماؤه من رحمة ، ولباسه |
|
من جنّة ، وعطاؤه من كوثر (٦) |
وله أيضا من قصيدة في جعفر بن علي : [الطويل]
ألا أيها الوادي المقدّس بالندى |
|
وأهل الندى قلبي إليك مشوق (٧) |
ويا أيها القصر المنيف قبابه |
|
على الزاب لا يسدد إليك طريق |
ويا ملك الزاب الرفيع عماده |
|
بقيت لجمع المجد وهو فريق |
فما أنس لا أنس الأمير إذا غدا |
|
يروع بحور ملكه ويروق (٨) |
__________________
(١) فتقت : أراد خلطت ومزجت.
(٢) في ب : «من علق الحديد الأحمر». وفي ج «من علو الحديد الأحمر». وقد أثبتنا ما في أ، والمطمح.
(٣) السوابغ : الدروع.
(٤) الغيل : الشجر الملتف. والوشيج : عرق الشجر.
(٥) القشاعم : النسور. والعجاج : الغبار.
(٦) الجنة : الدرع.
(٧) في الديوان «المقدس بالطوى».
(٨) في ب : «تروع بحورا فلكه وتروق».
فللجود مجرى من صفيحة وجهه |
|
إذا كان من ذاك الجبين شروق (١) |
وهزّته للمجد حتى كأنما |
|
جرت في سجاياه العذاب رحيق |
أما وأبي تلك الشمائل إنها |
|
دليل على أنّ النّجار عتيق (٢) |
فكيف بصبر النفس عنه ودونه |
|
من الأرض مغبّرّ الفجاج عميق (٣) |
فكن كيف شاء الناس أو شئت دائما |
|
فليس لهذا الملك غيرك فوق |
ولا تشكر الدنيا على نيل رتبة |
|
فما نلتها إلّا وأنت حقيق |
وله من أخرى : [الطويل]
خليليّ ، أين الزاب مني وجعفر |
|
وجنّات عدن بنت عنها وكوثر |
فقبلي نأى عن جنّة الخلد آدم |
|
فلما راقه من جانب الأرض منظر |
لقد سرّني أني أمرّ بباله |
|
فيخبرني عنه بذلك مخبر (٤) |
وقد ساءني أني أراه ببلدة |
|
بها منسك منه عظيم ومشعر |
وقد كان لي منه شفيع مشفّع |
|
به يمحص الله الذنوب ويغفر |
أتى الناس أفواجا إليك كأنما |
|
من الزاب بيت أو من الزاب محشر |
فأنت لمن قد مزّق الله شمله |
|
ومعشره والأهل أهل ومعشر |
وله أيضا : [الطويل]
ألا طرقتنا والنجوم ركود |
|
وفي الحيّ أيقاظ ونحن هجود (٥) |
وقد أعجل الفجر الملمّع خطوها |
|
وفي أخريات الليل منه عمود |
سرت عاطلا غضبى على الدّرّ وحده |
|
ولم يدر نحر ما دهاه وجيد (٦) |
فما برحت إلّا ومن سلك أدمعي |
|
قلائد في لبّاتها وعقود |
ويا حسنها في يوم نضّت سوالفا |
|
تروغ إلى أترابها وتحيد (٧) |
ألم يأتها أنّا كبرنا عن الصّبا |
|
وأنا بلينا والزمان جديد |
ولا كالليالي ما لهنّ مواثق |
|
ولا كالغواني ما لهنّ عهود |
__________________
(١) في ب : «ولا الجود يجري من صفحة وجهه».
(٢) النجار : الأصل.
(٣) في ب : «من الأرض مغتر الفجاج».
(٤) في ج : «فيخبره عني بذلك مخبر».
(٥) في ب ، ه : «وهنّ هجود» وهجود : نائمون.
(٦) في ج «على الدهر وحده».
(٧) في ب «تريع إلى أترابها».
ولا كالمعزّ ابن النبيّ خليفة |
|
له الله بالفخر المبين شهيد |
وله من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن رمان : [الطويل]
قفا بي فلا مسرى سرينا ولا نسري |
|
وإلّا نرى مشي القطا الوارد الكدر (١) |
قفا نتبيّن أين ذا البرق منهم |
|
ومن أين تأتي الريح طيبة النّشر |
لعلّ ثرى الوادي الذي كنت مرّة |
|
أزورهم فيه تضوّع للسّفر |
وإلّا فما واد يسيل بعنبر |
|
وإلّا فما تدري الركاب ولا ندري |
أكلّ كناس بالصريم تظنّه |
|
كناس الظباء الدّعج والشّدن العفر (٢) |
وهل عجبوا أني أسائل عنهم |
|
وهم بين أحناء الجوانح والصّدر |
وهل علموا أني أيمّم أرضهم |
|
ومالي بها غير التعسّف من خبر |
ولي سكن تأتي الحوادث دونه |
|
فيبعد عن عيني ويقرب من فكري |
إذا ذكرته النفس جاشت بذكره |
|
كما عثر الساقي بجام من الخمر |
فلا تسألاني عن زماني الذي خلا |
|
فوالعصر إني قبل يحيى لفي خسر |
|
||
وآليت لا أعطي الزمان مقادتي |
|
على مثل يحيى ثم أغضي على الوتر |
حنيني إليه ظاعنا ومخيّما |
|
وليس حنين الطير إلّا إلى الوكر (٣) |
وله من قصيدة : [الكامل]
فتكات طرفك أم سيوف أبيك |
|
وكؤوس خمرك أم مراشف فيك |
أجلاد مرهفة وفتك محاجر |
|
لا أنت راحمة ولا أهلوك |
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده |
|
أكذا يجوز الحكم في ناديك |
عيناك أم مغناك موعدنا ، وفي |
|
وادي الكرى ألقاك أم واديك (٤) |
__________________
(١) ورد هذا البيت في ه ، والديوان هكذا :
قفا فلأمر ما سرينا وما نسري |
|
وإلا فمشيا فوق مشي القطا الكدري |
(٢) الكناس : مسكن الظباء. والدعج : جمع أدعج وهو ذو العين الواسعة الشديدة السواد. والشدن : جمع شادن ، وهو ولد الغزال.
والعفر : جمع أعفر ، وهو الغزال الذي تعلو بياضه حمرة.
(٣) ظاعنا : مرتحلا.
(٤) في ج : «عيناي أم مغناك موعدنا على وادي الكرى ..».
وله أيضا : [الكامل]
أحبب بهاتيك القباب قبابا |
|
لا بالحداة ولا الركاب ركابا |
فيها قلوب العاشقين تخالها |
|
عنما بأيدي البيض أو عنّابا (١) |
والله لو لا أن يعنّفني الهوى |
|
ويقول بعض العاذلين تصابى (٢) |
لكسرت دملجها بضيق عناقها |
|
ورشفت من فيها البرود رضابا (٣) |
بنتم فلو لا أن أغيّر لمّتي |
|
عبثا وألقاكم عليّ غضابا |
لخضبت شيبا في مفارق لمتي |
|
ومحوت محو النّقس عنه شبابا (٤) |
وخضبت مبيضّ الحداد عليكم |
|
لو أنني أجد البياض خضابا |
وإذا أردت على المشيب وفادة |
|
فاحثث مطيّك دونه الأحقابا |
فلتأخذنّ من الزمان حمامة |
|
ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا (٥) |
ومنها :
قد طيّب الأقطار طيب ثنائه |
|
من أجل ذا نجد الثغور عذابا |
لم تدنني أرض إليك وإنما |
|
جئت السماء ففتحت أبوابا |
ورأيت حولي وفد كلّ قبيلة |
|
حتّى توهّمت العراق الزبا |
أرض وطئت الدّرّ من رضراضها |
|
والمسك تربا والرياض جنابا (٦) |
ورأيت أجبل أرضها منقادة |
|
فحسبتها مدّت إليك رقابا |
سدّ الإمام بك الثغور وقبله |
|
هزم النبيّ بقومك الأحزابا (٧) |
وقال ابن هانىء يصف الأسطول : [الطويل]
معطّفة الأعناق نحو متونها |
|
كما نبّهت أيدي الحواة الأفاعيا (٨) |
__________________
(١) العنم : شجرة صغيرة دائمة الخضرة لها ثمر أحمر يتخذ للصباغ.
(٢) في ه : «يسفهني الهوى». وتصابى : مال إلى الصبا والجهل.
(٣) الدملج : سوار يحيط بالعضد.
(٤) في ه «لخططت شيبا في عذاري كاذبا والنقس : الحبر.
(٥) في ب : «ولتبعثنّ إلى الزمان».
(٦) في ه ، والديوان : «وطئت الدر رضراضا بها».
(٧) في ب ، ه : «سد الإمام بها الثغور وقبلها».
(٨) الحواة : جمع حاوي ، وهو الذي يجمع الحيات.
إذا ما وردن الماء شوقا لبرده |
|
صدرن ولم يشربن غرفا صواديا |
إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة |
|
ترى عقربا منها على الماء ماشيا |
وقال الأديب أبو عمر أحمد بن فرج الجيّاني رحمه الله تعالى (١) : [الوافر]
وطائعة الوصال عدوت عنها |
|
وما الشيطان فيها بالمطاع |
بدت في الليل ساترة ظلام ال |
|
دّياجي منه سافرة القناع (٢) |
وما من لحظة إلّا وفيها |
|
إلى فتن القلوب لها دواعي |
فملّكت النّهى جمحات شوقي |
|
لأجري بالعفاف على طباعي (٣) |
وبتّ بها مبيت الطفل يظما |
|
فيمنعه الفطام عن الرّضاع |
كذاك الروض ليس به لمثلي |
|
سوى نظر وشمّ من متاع |
ولست من السوائم مهملات |
|
فأتّخذ الرياض من المراعي |
وقال : [مخلع البسيط]
للروض حسن فقف عليه |
|
واصرف عنان الهوى إليه |
أما ترى نرجسا نضيرا |
|
يرنو إليه بمقلتيه |
نشر حبيبي على رباه |
|
وصفرتي فوق وجنتيه |
وقال : [الطويل]
بمهلكة يستهلك الحمد عفوها |
|
ويترك شمل العزم وهو مبدّد |
ترى عاصف الأرواح فيها كأنها |
|
من الأين تمشي ظالع أو مقيّد (٤) |
وقال في المطمح : محرز الخصل ، مبرّز في كل معنى وفصل ، متميز بالإحسان ، منتم إلى فئة البيان ، ذكي الخلد مع قوة العارضة ، والمنّة الناهضة ، حضر مجلس بعض القضاة وكان مشتهر (٥) الضّبط ، منتصرا (٦) لمن انبسط فيه بعض البسط ، حتى إنّ أهله لا يتكلّمون فيه إلّا
__________________
(١) انظر المطمح ص ٨٠.
(٢) في ه : «ساترة ظلام الليالي وهي سافرة القناع». وفي المطمح «ساترة دياجي ظلام الليل».
(٣) في أ : «فملكت النهى حجاج شوقي».
(٤) الأرواح : جمع ريح ، والأين : الإعياء.
والظالع : الذي يميل في مشيته ، الأعرج.
(٥) في ه : «مشهور الضبط».
(٦) في ب : «منتهرا لمن انبسط» وفي ج : «مشهرا لمن نبسط».
رمزا ، ولا يخاطبون إلّا إيماء فلا تسمع لهم ركزا ، فكلّم فيه خصما له كلاما استطال به عليه لفضل بيانه ، وطلاقة لسانه ، ففارق عادة المجلس في رفض الأنفه ، وخفض الحجّة المؤتنفة ، وهزّ عطفه وحسر عن ساعده ، وأشار بيده ، مادا بها لوجه خصمه ، خارجا عن حدّ المجلس ورسمه ، فهمّ الأعوان بتقويمه وتثقيفه ، ووزعهم رهبة منه وخشية ، حتى تناوله القاضي بنفسه ، وقال له : مهلا ، عافاك الله ، اخفض صوتك ، واقبض يدك ، ولا تفارق مركزك ، ولا تعد حقّك ، وأقصر عن إدلالك ، فقال له : مهلا يا قاضي ، أمن المخدّرات أنا فأخفض صوتي وأستر يدي (١) ، وأغطي معاصمي لديك؟ أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك؟ وذلك لم يجعله الله تعالى إلّا لرسوله عليه الصلاة والسلام ، لقول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢] ـ إلى قوله : (تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢] ولست به ولا كرامة ، وقد ذكر الله تعالى أنّ النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لا يعدله مقام ، ولا يشبه انتقامه انتقام ، فقال تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [ورة النحل ، الآية : ١١١] ـ إلى قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة النحل ، الآية: ١١١] لقد تعديت طورك ، وعلوت في منزلك ، وإنما البيان ، بعبارة اللسان ، وبالنطق يستبين الحقّ من الباطل ، ولا بدّ في الخصام ، من إفصاح الكلام. وقام وانصرف. فبهت القاضي ، ولم يحر جوابا ، وكان في الدولة صدرا من أعيانها ، وناسق درر تبيانها ، نفق (٢) في سوقها وصنّف ، وقرّط محاسنها وشنّف ، وله الكتاب الرائق ، المسمّى بالحدائق ، وأدركه في الدولة سعي ، ورفض له فيها الرّعي ، واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو ، ولم يشبّ كدر حاله صفو ، حتى قضى معتقلا ، ونعي للنائبات نعيا مثكلا ، وله في السجن أشعار كثيرة ، وأقوال مبدعات منيرة ، فمن ذلك ما أنشده ابن حزم يصف خيالا طرقه ، بعد ما أسهره الوجد وأرّقه : [الوافر]
بأيّهما أنا في الشّكر بادي |
|
بشكر الطّيف أم شكر الرقاد (٣) |
سرى وازداد في أملي ولكن |
|
عففت فلم أجد منه مرادي |
وما في النوم من حرج ولكن |
|
جريت من العفاف على اعتيادي |
وقال الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن الحدّاد (٤) : [البسيط]
يا غائبا ، خطرات القلب محضره |
|
الصّبر بعدك شيء لست أقدره |
__________________
(١) في ه : «ولا أشير بيدي».
(٢) في ب : «ونفق في سوقها».
(٣) في ه : «بأيهما أنا في الشكر نادي» والرقاد : النوم.
(٤) انظر المطمح ص ٨٠ ـ ٨٣.
تركت قلبي وأشواقي تفطّره |
|
ودمع عيني وأحداقي تحدّره |
لو كنت تبصر في تدمير حالتنا |
|
إذن لأشفقت مما كنت تبصره |
فالعين دونك لا تحلى بلذّتها |
|
والدّهر بعدك لا يصفو تكدّره |
أخفي اشتياقي وما أطويه من أسف |
|
عن البرية والأنفاس تظهره |
قال في المطمح : هو شاعر مادح ، وعلى أيك الندى صادح ، لم ينطقه إلّا معن أو صمادح ، فلم يرم مثواهما (١) ، ولم ينتجع سواهما ، واقتصر على المرية ، واختصر قطع المهامه وخوض البرّيّة (٢) ، فعكف فيها ينثر درره في ذلك المنتدى ، ويرشف أبدا ثغور ذلك النّدى ، مع تميّزه بالعلم ، وتحيّزه إلى فئة الوقار والحلم ، وانتمائه إلى آية سلف ، ومذهبه مذاهب أهل الشّرف ، وكان له لسن ورواء (٣) يشهدان له بالنباهة ، ويقلّدان كاهله ما شاء من الوجاهة ، وقد أثبتّ له بعض ما قذفه من درره ، وفاه به من محاسن غرره ؛ فمن ذلك قوله : [الطويل]
إلى الموت رجعى بعد حين فإن أمت |
|
فقد خلّدت خلد الزمان مناقبي |
وذكراي في الآفاق طيبا كأنها |
|
بكلّ لسان طيب عذراء كاعب (٤) |
ففي أيّ علم لم تبرّز سوابقي |
|
وفي أيّ فنّ لم تبرّز كتائبي |
وحضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبّانة فأنشد فيه قصيدا أبرز به من عرا الإحسان ما لم ينفصم واستمرّ فيها يكمل (٥) بدائعها وقوافيها ، فإذا هو قد أغار على قصيد ابن الحداد الذي أوّله : [الكامل]
عج بالحمى حيث الظّباء العين (٦)
فقال ابن الحداد مرتجلا : [الكامل]
حاشا لعدلك يا ابن معن أن يرى |
|
في سلك غيري درّي المكنون |
وإليكها تشكو استلاب مطيّها : |
|
عج بالحمى حيث الظّباء العين |
__________________
(١) رام المكان يريمه : أقام به وثبت.
(٢) المهامه : جمع مهمه ، وهي الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها. والبرية : الصحراء.
(٣) الرواء : حسن المنظر.
(٤) في ب ، ه : «وذكري في الآفاق طار كأنه».
والكاعب : الفتاة كعب ثدياها.
(٥) في ب ، ه : «يستكمل بدائعها».
(٦) في المطمح «حيث الخماص العين».
فاحكم لها واقطع لسانا لا يدا |
|
فلسان من سرق القريض يمين |
وله : [مجزوء الكامل]
إنّ المدامع والزّفير |
|
قد أعلنا ما في الضّمير |
فعلام أخفي ظاهرا |
|
سقمي عليّ به ظهير |
هب لي الرّضا من ساخط |
|
قلبي بساحته الأسير (١) |
وله أيضا : [مجزوء الرمل]
أيّها الواصل هجري |
|
أنا في هجران صبري |
ليت شعري أيّ نفع |
|
لك في إدمان ضرّي |
وله أيضا : [البسيط]
يا مشبه الملك الجعديّ تسمية |
|
ومخجل القمر البدريّ أنوارا |
وله : [الطويل]
تطالبني نفسي بما فيه صونها |
|
فأعصي ، ويسطو شوقها فأطيعها |
ووالله ما يخفى عليّ ضلالها |
|
ولكنها تهوى فلا أستطيعها (٢) |
وقال : [الطويل]
بخافقة القرطين قلبك خافق |
|
وعن خرس القلبين دمعك ناطق |
وفي مشرق الصّدغين للبدر مغرب |
|
وللفكر إظلام وللعين شارق (٣) |
وبين حصا الياقوت ماء وسامة |
|
محلّأة عنه الظّباء السوابق (٤) |
وحشو قباب الرّقم أحوى مقرطق |
|
كما آس روض عطفه والقراطق |
انتهى باختصار.
وقال الأسعد بن بليطة : [الطويل]
__________________
(١) في ه : «قلبي براحته الأسير».
(٢) في ه : «ولكنها تأبى فلا أستطيعها».
(٣) في ب : «وللفكر حالات ..». وفي ه «وللفكر حالات وللعين سارق».
(٤) الوسامة : الحسن والجمال. وفي ب : «محلأة» بالحاء المهملة ..
برامة ريم زارني بعدما شطّا |
|
تقنّصته بالحلم في الشّطّ فاشتطّا |
رعى من أفانين الهوى ثمر الحشا |
|
جنيا ولم يرع العهود ولا الشرطا |
خيال لمرقوم غرير برامة |
|
تأوبني بالرقمتين لدى الأرطى (١) |
فألثمني من خدّها روضة الجنى |
|
وألذعني من صدغها حية رقطا (٢) |
وباتت ذراعاها نجادا لعاتقي |
|
إذا التقتا بالحلي غنى لها لغطا (٣) |
وسلّ اهتصاري غصنها من مخصّر |
|
طواه الضنى طيّ الطوامير فامتطّا |
وقد غاب كحل الليل في دمع فجره |
|
إلى أن تبدّى الصبح في اللّمّة الشمطا |
ومنها في وصف الديك :
وقام لها ينعى الدجى ذو شقيقة |
|
يدير لنا من عين أجفانه سقطا (٤) |
إذا صاح أصخى سمعه لأذانه |
|
وبادر ضربا من قوادمه الإبطا (٥) |
كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه |
|
وناطت عليه كفّ مارية القرطا |
سبى حلّة الطاووس حسن لباسها |
|
ولم يكفه حتى سبى المشية البطّا |
ومن غزلها :
غلاميّة جاءت وقد جعل الدجى |
|
لخاتم فيها فصّ غالية خطّا |
فقلت أحاجيها بما في جفونها |
|
وما في الشفاه اللّعس من حسنها المعطى (٦) |
مخمرة العينين من غير سكرة |
|
متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا (٧) |
أرى نكهة المسواك في حمرة اللّمى |
|
وشاربك المخضرّ بالمسك قد خطّا |
عسى قزح قبّلته فإخاله |
|
على الشفة اللمياء قد جاء مختطّا |
وقال في المطمح في تحلية الأسعد : إنه سرد البدائع أحسن السّرد ، وافترس المعاني كالأسد الورد (٨) وأبرز درر المحاسن من صدفها ، وحاز من فخر الإجادة وشرفها (٩) ، ومدح ملوكا طوّقهم من مدائحه قلائد ، وزفّ إليهم منها خرائد ، وجلاها عليهم كواعب ، بالألباب
__________________
(١) الأرطى شجر له ثمر كالعناب.
(٢) في ب ، ج : «فأكسبني من خدها».
(٣) في ب : «إذا التقاها الحلي غنى لها الغطا».
(٤) السّقط من كل شيء : جانبه.
(٥) في ب : «إذا صاح أصغى».
(٦) اللعس : سواد مستحسن في باطن الشفة.
(٧) في ب ، ه : «محيرة العينين من غيره سكرة».
والإسفنط : الخمر.
(٨) الورد : الأسد الشجاع.
(٩) في ب ، ه : «وحاز من بحر الإجادة وشرفها».
لواعب ، فأسالت العوارف ، وما تقلّص له من الحظوة ظلّ وارف ، وقد أثبتّ له ما يعترف بحقّه ، ويعرف به مقدار سبقه ، فمن ذلك قوله : [الكامل]
لو كنت شاهدنا عشية أمسنا |
|
والمزن يبكينا بعيني مذنب |
والشمس قد مدّت أديم شعاعها |
|
في الأرض تجنح غير أن لم تغرب |
وقوله : [الكامل]
وتلذّ تعذيبي كأنّك خلتني |
|
عودا فليس يطيب ما لم يحرق |
وهو مأخوذ من قول ابن زيدون : [الطويل]
تظنوني كالعود حقّا وإنما |
|
تطيب لكم أنفاسه حين يحرق |
انتهى ببعض اختصار (١).
وقال الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء ، وهو كما في المطمح : من فحول الشعراء ، وأئمتهم الكبراء ، وكان منتجعا بشعره ، مسترجعا من صرف (٢) دهره ، وكانت له همّة أطالت همّه ، وأكثرت كمده وغمّه : [الطويل]
يؤرّقني الليل الذي أنا نائمه |
|
فتجهل ما ألقى وطرفك عالمه (٣) |
وفي الهودج المرقوم وجه طوى الغشا |
|
عن الحسن فيه الحسن قد حار راقمه (٤) |
إذا شاء وقفا أرسل الحسن فرعه |
|
يضلّهم عن منهج القصد فاحمه |
أظلما رأوا تقليده الدّرّ أم زروا |
|
بتلك اللآلي أنهنّ تمائمه |
__________________
(١) انظر المطمح ص ٨٤.
(٢) في ب ، ه : «مسترجعا من صروف دهره».
(٣) في ه : «وطرفي عالمه».
(٤) في ب ، ه : «وردت البيت كما يلي :
وفي الهودج المرقوم وجه طوى الحشا |
|
عن الحزن فيه الحسن قد حار راقمه |