الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
علم ثنى العالمين عنك كما |
|
ثنى عن الشمس من يلاحظها |
وقد أتتني فديت شاغلة |
|
للنفس أن قلت فاظ فائظها (١) |
فأوضحنها تفز بنادرة |
|
قد بهظ الأوّلين باهظها |
فأجابه الزبيدي ، وضمّن شعره الشاهد على ذلك : [الطويل]
أتاني كتاب من كريم مكرّم |
|
فنفّس عن نفس تكاد تفيظ |
فسرّ جميع الأولياء وروده |
|
وسيء رجال آخرون وغيظوا |
لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه |
|
لديّ سواه والكريم حفيظ |
وباحثت عن فاظت وقبلي قالها |
|
رجال لديهم في العلوم حظوظ |
روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا |
|
مقال أبي الغياظ وهو مغيظ |
وسميت غياظا ولست بغائظ |
|
عدوّا ولكن للصديق تغيظ |
فلا رحم الرحمن روحك حيّة |
|
ولا هي في الأرواح حين تفيظ |
قلت : وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفى أن اجتنابه المطلوب ، على أنه قد يقال «فاضت نفسه» بالضاد ، كما ذكره ابن السكيت في خلل «الألفاظ» له (٢) ، والله أعلم.
وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم بن فهد (٣) : [الطويل]
أبا مسلم ، إنّ الفتى بجنابه |
|
ومقوله ، لا بالمراكب واللبس |
وليست ثياب المرء تغني قلامة |
|
إذا كان مقصورا على قصر النفس (٤) |
وليس يفيد العلم والحلم والحجا |
|
أبا مسلم طول القعود على الكرسي |
وقال ، وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى أهله بإشبيلية ولم يأذن له ، فكتب إلى جاريته سلمى : [مخلع البسيط]
ويحك يا سلم ، لا تراعي |
|
لا بدّ للبين من زماع (٥) |
__________________
(١) في ب : «إن قلت».
(٢) كذا في أصول النفح ، ولابن السكيت كتاب اسمه «الألفاظ» وقد يكون هو المراد.
(٣) انظر الجذوة ص ٤٣.
(٤) القلامة : قصاصة الظفر.
(٥) الزّماع : الرعدة أو شبهها تأخذ الإنسان إذا هم بأمر.
لا تحسبيني صبرت إلّا |
|
كصبر ميت على النّزاع |
ما خلق الله من عذاب |
|
أشدّ من وقفة الوداع |
ما بينها والحمام فرق |
|
لو لا المناحات والنواعي (١) |
إن يفترق شملنا وشيكا |
|
من بعد ما كان ذا اجتماع |
فكلّ شمل إلى افتراق |
|
وكلّ شعب إلى انصداع |
وكلّ قرب إلى بعاد |
|
وكلّ وصل إلى انقطاع |
واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر بن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة ٥٨١ ، فتذاكروا محبوبا لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم ، فقالوا : ليقل كلّ واحد منكم (٢) شيئا فيه ، فقال سهل بن مالك : [الكامل]
لمّا حططت بسبتة قتب النّوى |
|
والقلب يرجو أن يحوّل حاله (٣) |
والجوّ مصقول الأديم كأنما |
|
يبدي الخفيّ من الأمور صقاله |
عاينت من بلد الجزيرة مكنسا |
|
والبحر يمنع أن يصاد غزاله (٤) |
كالشكل في المرآة تبصره وقد |
|
قربت مسافته وعزّ مناله |
فقال الجماعة : والله لا يقول أحد منا بعد هذا شيئا.
ولمّا قرأ أبو محمد عبد الله بن مطروح البلنسي صداق إملاك ، وغيّر فيه حال القراءة لفظة «غير» برفع ما كان منصوبا أو بالعكس ، أنشد بديها بعد الفراغ معتذرا عن لحنه : [مخلعالبسيط]
غيرت غيرا فصرت عيرا |
|
وهكذا من يجدّ سيرا (٥) |
فأجابه الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي ، وكان إلى جانبه ، بديهة : [مخلع البسيط]
ما أنت مما يظنّ فيه |
|
بذاك جهل فظنّ خيرا (٦) |
__________________
(١) الحمام : الموت.
(٢) في ه : «كل واحد منا».
(٣) في القدح : «ولما أنخت بسبتة قتب النوى».
والقتب : الرحل الصغير.
(٤) المكنس والكناس : مسكن الظباء.
(٥) العير ـ بفتح العين وسكون الياء : الحمار الأليف أو الوحشيّ.
(٦) في ه : «ما أنت ممن يظنّ منه».
ووقف أبو أمية بن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين ، فكتب في ورقة «أبو أمية بالباب» ودفع الورقة لخادم الأستاذ ، فلمّا نظر إليها الأستاذ نوّن تاء أمية ، ولمن يزد على ذلك ، وأمر الخادم بدفع الورقة إليه ، فلمّا نظر فيها أبو أمية انصرف ، علما منه أن الأستاذ صرفه ، فانظر إلى فطنة الشيخ والتلميذ ، مع أنّ الشيخ منسوب إلى التغفّل في غير العلم.
ومن حكايات أهل الأندلس في العفو أنّ المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنّحلي البطليوسي ، ثم إنّ النّحلي سار إلى إشبيلية ، فمدح المعتضد بن عباد بشعر قال فيه : [المتقارب]
أباد ابن عبّاد البربرا |
|
وأفنى ابن معن دجاج القرى |
ونسي ما قاله ، حتى حلّ بالمريّة ، فأحضره ابن صمادح لمنادمته ، وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير دجاج ، فقال النّحلي : يا مولاي ، ما عندكم في المرية لحم غير الدجاج؟ فقال :
إنما أردنا أن نكذبك (١) في قولك :
وأفنى ابن معن دجاج القرى
فطار سكر النحلي ، وجعل يعتذر ، فقال له : خفّض عليك ، إنما ينفق مثلك بمثل هذا ، وإنما العتب على من سمعه فاحتمل (٢) منك في حقّ من هو في نصابه ، ثم أحسن إليه ، وخاف النّحلي ، ففرّ من المرية ، ثم ندم فكتب إلى المعتصم : [المتقارب]
رضا ابن صمادح فارقته |
|
فلم يرضني بعده العالم |
وكانت مريّته جنّة |
|
فجئت بما جاءه آدم |
فما زال يتفقّده بالإحسان على بعد دياره ، وخروجه عن اختياره ، انتهى.
وقال في بلنسية أبو عبد الله الرصافي ، وقد خرج منها صغيرا : [الطويل]
بلادي التي ريشت قويدمتي بها |
|
فريخا وآوتني قرارتها وكرا (٣) |
مهادي ولين العيش في ريّق الصّبا |
|
أبى الله أن أنسى اعتيادي بها خيرا |
__________________
(١) في ب ، ه : «أردت أن أكذبك».
(٢) في ب ، ه : «فاحتمله منك».
(٣) في ه : «ريشت قديدمتي بها» تحريف.
والقويدمة : مصغر قادمة.
وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي (١) : [الوافر]
وفاة المرء سرّ لم يكاشف |
|
ولم تثبت حقيقته درايه |
سيفنى كلّ ذي شبح ونفس |
|
وتلتحق النهاية بالبدايه |
وينصدع الجميع إلى صدوع |
|
تعود به البريّة كالبرايه (٢) |
كأنّ مصائب الدنيا سهام |
|
لها الأيام أغراض الرمايه |
فنل ما شئت إنّ الفقر بدء |
|
وعش ما شئت إنّ الموت غايه (٣) |
وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي ، وهو من رجال الذخيرة : [البسيط]
أمطيت عزمك منه متن سابحة |
|
خلت الحباب على لبّاتها لببا (٤) |
تبدو على الموج أحيانا ويضمرها |
|
كالعيس تعتسف الأهضاب والكثبا (٥) |
وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي (٦) : [الطويل]
وما الأنس بالناس الذين عهدتهم |
|
بأنس ولكن فقد رؤيتهم أنس |
إذا سلمت نفسي وديني منهم |
|
فحسبي أنّ العرض مني لهم ترس |
وقال محمد بن حرب (٧) : [مجزوء الكامل]
طوبى لروضة جنّة |
|
لك قد نويت ورودها |
نظمت على لبّاتها |
|
أيدي الغمام عقودها |
وسقت بماء الورد وال |
|
مسك الفتيت صعيدها (٨) |
والطير تشدو في الغصو |
|
ن المائدات قصيدها |
وتعير سمع المستعي |
|
ر نظيمها ونشيدها |
__________________
(١) انظر المغرب ج ١ ص ٣٥٢.
(٢) البراية ـ بضم الباء ـ النحاتة المتساقطة من الشيء الذي نحت أو بري.
(٣) في ب : «إن الفقر حدّ».
(٤) اللبب : ما يشد من سيور السرج في صدر الدابة ليمنع تأخر السرج أو الرحل.
(٥) في ب : «كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا».
وفي ه : «كالأيم يعتسف الأهضام والكثبا».
(٦) في أ : «الجيلي». وفي ه : «الحبلي» وقد أثبتناه كما في ب والجذوة.
(٧) انظر الجذوة ص ٨٥.
(٨) الصعيد : التراب.
وكان في دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة (١) ، وكان يهدي وردها كلّ عام إلى عارض الجيش أحمد بن سعيد ، فغاب العارض سنة ، فقال : [مجزوء الرمل]
قال لي الورد وقد لا |
|
حظته في روضتيه |
وهو قد أينع طيبا |
|
جمع الحسن لديه |
أين مولاي الذي قد |
|
كنت تهديني إليه |
قلت غاب العام فايأس |
|
أن ترى بين يديه |
فبدا يذبل حتى |
|
ظهر الحزن عليه |
وقال أحمد بن أفلح (٢) : [البسيط]
ما أستريح إلى حال فأحمدها |
|
بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا |
|
||
إن كان لي أرب في العيش بعدكم |
|
فلا قضيت إذن من حبّكم أربا |
وقال أحمد بن تليد (٣) الكاتب : [السريع]
لم أرض بالذّلّ وإن قلّا |
|
والحرّ لا يحتمل الذّلّا |
يا ربّ خلّ كان لي خامل |
|
صار إلى العزّة ماخلا (٤) |
حرّمت إلمامي على بابه |
|
ووصله لم أره حلّا |
تأبى عليّ النفس من أن أرى |
|
يوما على مستثقل كلّا (٥) |
وقال إسحاق بن المنادي (٦) ، وقد أهدى له من يهواه تفاحة : [الوافر]
مجال العين في ورد الخدود |
|
يذكّر طيب جنّات الخلود |
وآرجة من التفاح تزهو |
|
بطيب النشر والحسن الفريد (٧) |
أقول لها فضحت المسك طيبا |
|
فقالت لي بطيب أبي الوليد |
__________________
(١) انظر ترجمته في الجذوة ص ٩٠.
(٢) في أ : «محمد بن أفلح».
(٣) في ه : «أحمد بن تلميذ» تحريف. انظر الجذوة ص ١١١.
(٤) في ب : «صار إلى العزة فاحولّا».
(٥) الكلّ ـ بفتح الكاف : العالة على غيره.
(٦) في أ : «إسحاق بن المنادم». وصوبناه من ب.
(٧) الآرجة : من الأريجة : أي الريح الطيبة.
وقال غالب بن عبد الله الثّغري (١) : [البسيط]
يا راحلا عن سواد المقلتين إلى |
|
سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا |
غدا كجسم وأنت الروح فيه فما |
|
ينفكّ مرتحلا ما دمت مرتحلا (٢) |
وللفراق جوى لو مرّ أبرده |
|
من بعد فرقتكم بالماء لاشتعلا (٣) |
وقال الوزير أبو الحسن ابن الإمام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة : [البسيط]
يا حضرة الملك ما أشهاك لي وطنا |
|
لو لا ضروب بلاء فيك مصبوب |
ماء زعاق وجوّ كلّه كدر |
|
وأكلة من بذنجان ابن معيوب (٤) |
وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء بن زهر ، يزعم الناس أنه سمّ ابن باجة لعداوته لابن زهر في باذنجان.
ولمّا بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم قصره بسلا وشيّده وصفته الشعراء ، وهنّته به ، ودعت له ، وكان بالحضرة حينئذ الوزير أبو عامر بن الحمارة ، ولم يكن أعدّ شيئا ، فأفكر قليلا ثم قال : [البسيط]
يا أوحد الناس قد شيّدت واحدة |
|
فحلّ فيها حلول الشمس في الحمل (٥) |
فما كدارك في الدنيا لذي أمل |
|
ولا كدارك في الأخرى لذي عمل |
وفيهم يقول ابن بقي في موشحته الشهيرة التي آخرها :
إن جئت أرض سلا |
|
تلقاك بالمكارم فيدان (٦) |
هم سطور العلا |
|
ويوسف بن القاسم عنوان |
وكان محمد بن عبادة بالمرية ، ومعه ابن القابلة السبتي ، فنظر إلى غلام وسيم يسبح ، وقد تعلّق بسفينة (٧) ، فقال ابن عبادة : [السريع]
انظر إلى البدر الذي لاح لك
__________________
(١) انظر الجذوة ص ٣٠٦.
(٢) في ه : «ما دام مرتحلا».
(٣) الجوى : النار.
(٤) في ه : «ماء زعاف».
(٥) في ب ، ه : «يا واحد الناس» وفيهما «محلّ الشمس في الحمل».
(٦) في ب : «تلقا لها بالمكارم فتيان».
(٧) في ب : «تعلق بمركب».
فقال ابن القابلة : [السريع]
في وسط اللّجّة تحت الحلك
قد جعل الماء مكان السما |
|
واتّخذ الفلك مكان الفلك |
وقال ابن خروف ، ويروى لغيره : [السريع]
أيتها النفس إليه اذهبي |
|
فحبّه المشهور من مذهبي |
مفضّض الثغر له شامة |
|
مسكيّة في خدّه المذهب |
أيأسني التوبة من حبّه |
|
طلوعه شمسا من المغرب |
واجتمع في بستان واحد ثلاثة من شعراء الأندلس ، وهم : ابن خفاجة ، وابن عائشة وابن الزقاق ، فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك (١) : [مخلع البسيط]
لله نوريّة المحيّا (٢) |
|
تحمل ناريّة الحميّا |
درنا بها تحت ظلّ دوح |
|
قد راق مرأى وطاب ريّا |
تجسّم النّور فيه نورا |
|
فكلّ غصن به ثريّا (٣) |
وقال ابن عائشة : [مخلع البسيط]
ودوحة قد علت سماء |
|
تطلع أزهارها نجوما |
هفا نسيم الصّبا علينا |
|
فخلتها أرسلت رجوما (٤) |
كأنما الأفق غار لمّا |
|
بدت فأغرى بها النسيما |
وقال ابن الزقاق (٥) : [الخفيف]
ورياض من الشقائق أضحت |
|
يتهادى بها نسيم الرياح |
زرتها والغمام يجلد منها |
|
زهرات تفوق لون الراح |
قلت ما ذنبها؟ فقال مجيبا |
|
سرقت حمرة الخدود الملاح |
وقال الأديب أبو الحسن بن زنون : وقع بيدي ـ وأنا أسير بقيجاطة (٦) ، أعادها الله تعالى
__________________
(١) ديوان ابن خفاجة ص ٧٢.
(٢) في ه : «تحمل نارية المحيا» وليس بشيء.
(٣) النّور ـ بفتح النون ـ الزهر الأبيض.
(٤) في ه : «هفا نسيم الصبا عليها».
(٥) انظر ديوانه ص ١٢٥.
(٦) قيجاطة : من أعمال جيان ، وكانت مدينة نزهة خصيبة.
دار إسلام! ـ كتاب ترجمته «كتاب التحف والطرف» لابن عفيون فوجدت فيه : قال الحسين بن الضحاك : [البسيط]
ما كان أحوجني يوما إلى رجل |
|
في وسطه ألف دينار على فرس |
في كفّه حربة يفري الدروع بها |
|
وصارم مرهف الحدّين كالقبس |
فلو رجعت ولم أظفر بمهجته |
|
وقد خضبت ذباب الصارم الشكس |
فلا اغتبطت بعيش وابتليت بما |
|
يحول بيني وبين الشادن الأنس (١) |
ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال : [البسيط]
ما كان أحوجني يوما إلى خنث |
|
حلو الشمائل في باق من الغلس (٢) |
في كفّه قهوة يسبي النفوس بها |
|
محكّم الطّرف للألباب مختلس (٣) |
فلو رجعت ولم أظفر بتكّته |
|
وقد رويت من الصهباء كالقبس |
فلا هنيت بعيش وابتليت بما |
|
يكون منه صدود الشادن الأنس |
هذا ألذّ وأشهى من منى رجل |
|
في وسطه ألف دينار على فرس |
ووقف على ذلك الوزير أبو عامر بن ينّق فقال : [البسيط]
ما كان أحوجني يوما إلى رجل |
|
يردّد الذكر في باق من الغلس |
في حلقه غنّة يشفي النفوس بها |
|
وفي الحشا زفرة مشبوبة القبس |
فلو رجعت ولم أوثر تلاوته |
|
على سماع غناء الشادن الأنس |
فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت |
|
بي النجائب قصد البيت ذي القدس (٤) |
ولا أسلت لقبر المصطفى مقلا |
|
تبكي عليه بهامي الدمع منبجس (٥) |
قال ابن زنون : فوقفت على ذلك (٦) ، فقلت : وكلّ ينفق ممّا عنده ، ومن عجائب صنعه تعالى أنه (٧) عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك إليّ ، وحلّ قيودي ، وأخرجني إلى بلاد المسلمين ، وهي : [البسيط]
__________________
(١) الشادن : ولد الغزال.
(٢) الخنث : من فيه لين النساء وتثنّيهنّ.
(٣) القهوة : الخمر.
(٤) النجائب : جمع نجيبة ، وهي الناقة السريعة.
وفي ب : «بي النجائب قصد البيت والقدس».
وفي ه «قصد البيت في القدس».
(٥) في ب : «ولا أسلت بقبر المصطفى مقلا».
وفي ه : «ولا أسلت بغير المصطفى مقلا».
(٦) في ب : «فوقفت على ذلك ـ يقول ابن زنون ـ فقلت :».
(٧) في ب : «ومن عجائب الله أنه ...».
ما كان أحوجني يوما إلى رجل |
|
يأتي فينبهني في فحمة الغلس |
يفكّ قيدي وغلّي غير مرتقب |
|
ولا مبال من الحجّاب والحرس |
وقوله لي تأنيسا وتسلية |
|
هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي |
فلو جبنت ولم أقبل مقالته |
|
وأمتطي الطّرف وثبا فعل مفترس |
إذن خلعت لباس المجد من عنقي |
|
وصار حظّي منه حظّ مختلس |
وأخلفتني أمانيّ التي طمحت |
|
نفسي إليها وإحساني لكلّ مسي |
وقال أبو بكر بن حبيش ، وقد زاره بعض أودّائه في يوم عيد فطر : [السريع]
أكلّ ذا الإجمال في ذا الجمال |
|
الله أستحفظ ذاك الكمال |
يا مالكا بالبرّ رقّي أما |
|
يكفيك أن تملكني بالوصال |
سرت إلى ربعي زورا كما |
|
سرى إلى المهجور طيف الخيال |
العيد لي وحدي بين الورى |
|
حقا لأني قد رأيت الهلال |
صومي مقبول وبرهانه |
|
أني أدخلت جنان الوصال |
وقال أبو بكر بن يوسف اللخمي ، وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد : [مخلع البسيط]
يا عائدي وهو أصل ما بي |
|
أفديك من ممرض طبيب |
أصميت لمّا رميت قلبي |
|
بسهم ألحاظك المصيب (١) |
وجئتني منكرا لسقمي |
|
وتلك من عادة الحبيب |
يا ساعة قد غفرت فيها |
|
ما كان للدهر من ذنوب |
ما كان في فضلها مثال |
|
لو لم تكن جلسة الخطيب (٢) |
وخاطب أبو زيد بن أبي العافية أبا عبد الله بن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت : [الوافر]
وكيف يفيق ذو صبر قصير |
|
حليف وساوس حول طوال |
يعرّض له بطوله وحوله ، ولصاحبه أبي محمد بن بلال بقصره ، فراجعه أبو عبد الله
__________________
(١) أصميت لما رميت : أي أصبت برميك مقتلا.
(٢) في ب ، ه : «ما كان فضلها مقال».
المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه ، وكان أبو زيد أصابه جرب كثير : [الوافر]
أجل يا نافث السّحر الحلال |
|
أتاني منك نظم كاللآلي |
يروقك أوّلا لفظا ومعنى |
|
ويلدغ آخرا لدغ الصّلال (١) |
تعرّض فيه أنك ذو مطال |
|
حليف وساوس حول طوال |
كأنك لم تجرّب قطّ خلقا |
|
ولم تعرف بتجربة الليالي |
أأنسيت التجارب إذ تجاري |
|
بهنّ الجربياء مع الشمال (٢) |
فلا تغفل عن التجريب يوما |
|
ولو أعطيت فيه جراب مال |
وجرّب جار بيتك واختبره |
|
وجرّ برجله إن كان قالي |
وجار بنيك لا تستحي منه |
|
ومن نجّار بابك لاتبال |
وأجر ببالك الجرباء تبصر |
|
نجوم الأفق تجري بانتقال |
وجرّب أهل جربة تلف قوما |
|
أبوا لبس الجوارب والنعال |
تجارا باعة تجروا بزيت |
|
تسمّوا بالتّجار بغير مال |
إذا سمعوا بتمر في جريب |
|
جروا ببطالة التمر البوالي (٣) |
إذا جرّبت هذا الخلق أبدى |
|
لك التجريب أجربة خوالي |
ترى بالنّجح دهرا جرّ بؤسا |
|
عليك وجار بالنّوب الثقال |
وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية ، وصلّوا خلف إمام بمسجد قرية ، فأخطأ في قراءته ، وسها في صلاته ، فلمّا خرج أحدهم كتب على حائط المسجد : [المجتث]
يا خجلتي لصلاة |
|
صلّيتها خلف خلف (٤) |
فلما خرج الثاني كتب تحته :
أغضّ عنها حياء |
|
من المهيمن طرفي |
فلما خرج الثالث كتب تحته :
فليس تقبل منّا |
|
لو أنها ألف ألف |
__________________
(١) الصلال : جمع صل وهو الثعبان.
(٢) الجربياء : ريح الشمال الباردة.
(٣) في ب ، ه : «جروا ببطاء ذي التمر البوالي».
(٤) في أ : «صليتها خلف جلف» والخلف : المتخلف الذي لا خير فيه.
وقال أبو إسحاق بن خفيف (١) الأندلسي في أحدب أخذ مع صبي في خلوة فضربا ، وطيف بهما ، والأحدب على عنق الصبي : [مجزوء الوافر]
رأيت اليوم محمولا |
|
وأعجب منه من حمله |
جمال الناس تحملهم |
|
وهذا حامل جمله |
وقال أبو الصلت الأندلسي : [الطويل]
وقائلة : ما بال مثلك خاملا |
|
أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز |
فقلت لها : ذنبي إلى القوم أنني |
|
لما لم يحوزوه من المجد حائز |
وكتب بعض المغاربة لأبي العباس بن مضاء يذكره بحاله : [مخلع البسيط]
يا غارسا لي ثمار مجد |
|
سقيتها العذب من زلالك |
أخاف من زهرها سقوطا |
|
إن لم يكن سقيها ببالك |
وكتب الكاتب أبو عبد الله القرطبي مستنجزا وعدا : [الوافر]
أبا عبد الإله وعدت وعدا |
|
فأنجز تربح الشكر الجزيلا |
ولا تمطل فإنّ المطل يمحو |
|
من الإحسان رونقه الصقيلا |
إذا كان الجميل يحبّ طبعا |
|
فإني أكره الصبر الجميلا |
وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب : [الرمل]
ليس يا مولاي لي من جابر |
|
إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا (٢) |
غير صكّ أحمر تكتب لي |
|
فيه يمناك اعتناء صحّ هذا |
وقال أبو الحسن بن الزقاق في غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت (٣) : [الطويل]
وحبّب يوم السبت عندي أنني |
|
ينادمني فيه الذي أنا أحببت |
ومن أعجب الأشياء أني مسلم |
|
حنيف ولكن خير أيامي السبت |
__________________
(١) في أ : «حفيف».
(٢) جذاذا : قطعا.
(٣) انظر ديوان ابن الزقاق ص ١١٣.
وقال أبو حيان : [المتقارب]
ويعجبني رشف تلك الشفاه |
|
وعضّ الخدود وهصر القوام |
محاسن فاقت قضيب الأراك |
|
وورد الرياض وكأس المدام (١) |
وكتب أحد الأدباء بمرسية إلى فتى وسيم من أعيانها كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقّه عليه ، بأبيات في غرض ، فراجعه عنه أبو العباس بن سعد بقوله : [الكامل]
ما للمحبّ لديّ غير صبابة |
|
تقضي عليه ولوعة وغرام |
فدع الطماعة واسترح باليأس من |
|
وصل عليك إلى الممات حرام |
وقال السميسر : [مخلع البسيط]
قرابة السوء شرّ داء |
|
فاحمل أذاهم تعش حميدا |
ومن تكن قرحة بفيه |
|
يصبر على مصّه الصديدا (٢) |
وقال ابن خفاجة (٣) : [الرمل]
إنّ للجنّة بالأندلس |
|
مجتلى عين وريّا نفس |
فسنا صبحتها من شنب |
|
ودجا ليلتها من لعس (٤) |
فإذا ما هبّت الريح صبا |
|
صحت : واشوقي إلى الأندلس |
وقال بعض الأندلسيين ممّن لم يحضرني اسمه الآن : [الطويل]
إذا صال ذو ودّ بودّ صديقه |
|
فيا أيها الخلّ المصاحب لي صل بي |
فإني مثل الماء لينا لصاحبي |
|
وناهيك للأعداء من رجل صلب |
وقال أبو يحيى بن هشام القرطبي : [مخلع البسيط]
وخائط رائع جمالا |
|
وصاله غاية اقتراحي |
تنعم منه الخيوط فتلا |
|
بين أقاح وبين راح |
تراه في السلم ذا طعان |
|
بنافذات بلا جراح |
__________________
(١) في ب ، ه : «محاسن فاتت قضيب الأرام».
(٢) الصديد : القيح يفسد به الجرح.
(٣) انظر ديوان ابن خفاجة ص ١٣٦.
(٤) اللعس : سواد مستحسن في باطن الشفة.
حلّته أشبهت فؤادي |
|
لكثرة الوخز في النواحي (١) |
تقطّع الثوب راحتاه |
|
كصنع ألحاظه الملاح |
فقبله ما رأيت بدرا |
|
ممزّقا بردة الصباح |
وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البلنسي (٢) : [الطويل]
غصبت الثريّا في البعاد مكانها |
|
وأودعت في عينيّ صادق نوئها |
وفي كلّ حال لم تزالي بخيلة |
|
فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها |
قال ابن الأبار : أنشد مؤلف «قلائد العقيان» هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري ، وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما ، والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي (٣) المسمى ب «هداية المعتسف ، في المؤتلف والمختلف» انتهى.
وأبو جعفر بن عبد الولي المذكور أحرقه القنبيطور ـ لعنه الله تعالى! ـ حين تغلّبه بالروم على بلنسية. قال ابن الأبار : وذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، وقيل : إنّ إحراقه كان سنة تسعين وأربعمائة ، انتهى.
وقال أبو العباس القيجاطي فيما أنشده له ابن الطيلسان (٤) : [المجتث]
ليس الخمول بعار |
|
على امرئ ذي جلال |
فليلة القدر تخفى |
|
وتلك خير الليالي |
وقال أبو محمد بن جحاف (٥) المعافري البلنسي : [المتقارب]
أقول وقد خوّفوني القران |
|
وما هو من شرّه كائن |
ذنوبي أخاف وأمّا القران |
|
فإني من شرّه آمن |
وأبوه أبو أحمد هو المحرّق ببلنسية كما ذكرناه في غير هذا الموضع.
وقال أبو العباس المالقي (٦). [الطويل]
وبين ضلوعي للصبابة لوعة |
|
بحكم الهوى تقضي عليّ ولا أقضي |
جنى ناظري منها على القلب ما جنى |
|
فيا من رأى بعضا يعين على بعض |
__________________
(١) في ب ، ه : «حلقته أشبهت فؤادي».
(٢) انظر التكملة ص ٢٤.
(٣) في ج : «مستوفاة من تأليفي».
(٤) انظر التكملة ص ٤٦.
(٥) انظر التكملة ص ٥٦.
(٦) انظر التكملة ص ٦٩.
ودخل أبو القاسم بن عبد المنعم ، وكان أزرق وسيما ، ومعه أبو عبد الله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة ، على صاحب كتاب «مشاحذ الأفكار ، في مآخذ النّظّار» فقال ابن قوشترة : [الكامل]
عابوه بالزّرق الذي بجفونه |
|
والماء أزرق والسّنان كذلكا (١) |
فقال الشاطبي : [الكامل]
والماء يهدي للنفوس حياتها |
|
والرمح يشرع للمنون مسالكا |
فقال أبو بكر بن طاهر صاحب كتاب «المشاحذ» : [الكامل]
وكذاك في أجفانه سبب الردى |
|
لكن أرى طيب الحياة هنالكا |
وهذا من بارع الإجازة ، وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني ، رحمهم الله تعالى وسامحهم!
وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري «آمنا أن يعززا (٢) بثالث» ما نصّه : قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما ، وهو قول بعض الفضلاء : [السريع]
ما الأمة اللّكعاء بين الورى |
|
كمسلم حرّ أتى ملأمه (٣) |
فمه إذا استجديت من قول لا |
|
فالحرّ لا يملأ منها فمه |
ثم قال : وبخامس وسادس :
انقدّ مهوى أزره فانثنى |
|
مه يا عذولي في الذي انقدّ مه |
مندمة قتل المعنّى فلا |
|
ترسل سهام اللحظ تأمن دمه |
قلت : رأيت في المغرب في هذا المعنى ما ينيّف على سبعين بيتا كلّها مساجلة لبيتي الحريري ، رحمه لله تعالى!
__________________
(١) السّنان : الرمح.
(٢) يعززا بثالث : يعضدا ويقويا ، وأراد أنه يعتقد أنه لا يستطيع أحد أن يأتي لهما بنظير ، وبيتا الحريري هما قوله في المقامة الحلبية من مقاماته وهما : في التنزيل العزيز : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤].
(٣) اللكعاء : الحمفاء.
وقال أبو بكر بن عبادة (١) الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد بن زيدون : [الخفيف]
أيّ ركن من الرياسة هيضا |
|
وجموم من المكارم غيضا |
حملوه من بلدة نحو أخرى |
|
كي يوافوا به ثراه الأريضا (٢) |
مثل حمل السحاب ماء طبيبا |
|
لتداوي به مكانا مريضا |
وكان المذكور توفي في ضيعة له ، ونقل تابوته إلى قرطبة فدفن في الرّبض سنة ٤٠٥ ، وولد سنة ٣٠٤.
وقال أبو بكر بن قزمان صاحب الموشحات : [الوافر]
وعهدي بالشباب وحسن قدّي |
|
حكى ألف ابن مقلة في الكتاب |
فصرت اليوم منحنيا كأني |
|
أفتّش في التراب على شبابي |
وقال : [السريع]
يا ربّ يوم زارني فيه من |
|
أطلع من غرّته كوكبا |
ذو شفة لمياء معسولة |
|
ينشع من خدّيه ماء الصبا (٣) |
قلت له هب لي بها قبلة |
|
فقال لي مبتسما مرحبا |
فذقت شيئا لم أذق مثله |
|
لله ما أحلى وما أعذبا |
أسعدني الله بإسعاده |
|
يا شقوتي يا شقوتي لو أبى |
قال لسان الدين : كان ابن قزمان نسيج وحده أدبا وظرفا ولوذعية وشهرة ؛ قال ابن عبد الملك : كان أديبا بارعا ، حلو الكلام ، مليح النثر (٤) ، مبرزا في نظم الزجل ، قال لسان الدين : وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكّم فيها ألقاب البديع ، وتنفسح لكثير ممّا يضيق على الشاعر سلوكه ، وبلغ فيها أبو بكر ، رحمه الله تعالى ، مبلغا حجره الله عمّن سواه ، فهو آيتها المعجزة ، وحجّتها البالغة ، وفارسها المعلم ، والمبتدىء فيها والمتمّم.
وقال الفتح في حقّه (٥) : مبرز في البيان ، ومحرز للسّبق عند تسابق الأعيان ، اشتمل عليه
__________________
(١) في ب ، ه : «أبو بكر عبادة». بدون كلمة «بن».
(٢) ثراه الأريض : أي ثراه المعجب للعين.
(٣) اللمى : سمرة مستحسنة في باطن الشفة. وينشع ، بشربة ماء : بغيث بها.
(٤) في ب ، ه : «مليح التندير».
(٥) انظر القلائد ص ١٨٧.
المتوكل على الله فرقّاه إلى مجالس ، وكساه ملابس ، فامتطى أسمى الرتب وتبوّأها ، ونال أسنى الخطط وما تملأها ، وقد أثبتّ له ما يعلم به رفيع قدره ، ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره ، كقوله : [الكامل]
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا |
|
فوق العوالي السّمر زرق نطاف |
وتجلّلوا الغدران من ماذيّهم |
|
مرتجّة إلّا على الأكناف (١) |
والماذي : العسل ، والنّطاف : جمع النّطفة وهي الماء الصافي قل أو كثر.
وقال الفقيه أبو بكر بن القوطية صاحب «الأفعال» في اللغة والغريب ، في زمن الربيع : [الكامل]
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره |
|
فاخضرّ شاربه وطرّ عذاره |
ورنت حدائقه وزرّر نبته |
|
وتعطّرت أنواره وثماره (٢) |
واهتز ذابل كل ماء قرارة |
|
لما أتى متطلعا آذاره |
وتعمّمت صلع الرّبا بنباته |
|
وترنّمت من عجبها أطياره (٣) |
وقال في المطمح في حقّ ابن القوطية المذكور (٤) : إنه ممّن له سلف. وثنيّة كلّها شرف ، وهو أحد المجتهدين في الطلب ، والمشتهرين بالعلم والأدب ، والمنتدبين للعلم والتصنيف ، والمرتّبين له بحسن الترتيب والتأليف ، وكان له شعر نبيه ، وأكثره أوصاف وتشبيه ، انتهى.
وقال القاضي الأجلّ يونس بن عبد الله بن مغيث (٥) : [الطويل]
أتوا حسبة إذ قيل جدّ نحوله |
|
فلم يبق من لحم عليه ولا عظم (٦) |
فعادوا قميصا في فراش فلم يروا |
|
ولا لمسوا شيئا يدلّ على جسم (٧) |
طواه الهوى في ثوب سقم من الضنى |
|
وليس بمحسوس بعين ولاوهم |
وقال في المطمح فيه : إنه قاضي الجماعة بقرطبة ، فاضل ، ورع ، مبرز في النسّاك والزهّاد ، دائم الأرق في التخشّع والسّهاد ، مع التحقّق بالعلم والتميز بحمله (٨) ، والتحيز إلى فئة
__________________
(١) في ب ، ه : «إلا على الأكتاف».
والماذي : العسل الأبيض.
(٢) في ج : «ودنت حدائقه».
(٣) في ب ، ه : «وترنمت من عجمة أطياره».
(٤) انظر المطمح ص ٥٨.
(٥) انظر المطمح ص ٥٩.
(٦) كذا في ب ، ه. وفي أ : «أتوا حسه».
(٧) فعادوا : أي من العيادة ـ وهي زيارة المريض.
(٨) في ب : «والتمييز بجمله» وفي ه : «والتمييز بفضله».
الورع وأهله ، وله تآليف في التصوّف والزهد ، منها «كتاب المنقطعين إلى الله» و «كتاب المجتهدين» وأشعار في هذا المعنى ، منها قوله : [الوافر]
فررت إليك من ظلمي لنفسي |
|
وأوحشني العباد وأنت أنسي |
قصدت إليك منقطعا غريبا |
|
لتؤنس وحدتي في قعر رمسي (١) |
وللعظمى من الحاجات عندي |
|
قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي |
ولمّا أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدّم إلى أبي محمد والده بالكون في صحبته ، ومسايرته في غزوته ، فاعتذر بعذر يجده ، وألم لا ينجده ، فقال له الحكم : إن ضمن له أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة ، وجازيته أفضل المجازاة ، فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر ، فزعم أنه رجل مزور ، وأن ذلك الموضع ممتنع على من يلمّ به ويزور ، فألفّه بدار الملك المطلّة على النهر ، وأكمله فيما دون شهر ، وتوفي والمستنصر بعد في غزاته (٢).
وقال ابن سيده صاحب «المحكم» يخاطب إقبال الدولة : [الطويل]
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى |
|
سبيل؟ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا |
قال في المطمح : الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده إمام في اللغة والعربية ، وهمام في الفئة الأدبية ، وله في ذلك أوضاع ، لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع ، حرّرها تحريرا ، وأعاد طرف الذكاء بها قريرا ، وكان منقطعا إلى الموفّق صاحب دانية ، وبها أدرك أمانيه ، ووجد تجرّده للعلم وفراغه ، وتفرّد (٣) بتلك الإراغة ، ولا سيما كتابه المسمى بالمحكم ، فإنه أبدع كتاب وأحكم ، ولمّا مات الموفّق رائش جناحه ، ومثبت غرره وأوضاحه ، خاف من ابنه إقبال الدولة ، وأطاف به مكروها بعض من كان حوله ، إذ أهل الطلب كحيات مساورة ، ففرّ إلى بعض الأعمال المجاورة ، وكتب إليه منها مستعطفا : [الطويل]
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى |
|
سبيل؟ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا |
فتنضى هموم طلّحته خطوبها |
|
ولا غاربا يبقين منه ولا متنا (٤) |
__________________
(١) الرمس : القبر.
(٢) في الأصول : «وتوفي المستنصر إذ ذاك» وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه ، وهو في ب.
(٣) في ه «وتفرده بتلك الإراغة» والإراغة : الإرادة ، والطلب.
(٤) طلّحته : أتعبته ، وأعيته.
غريب نأى أهلوه عنه وشفّه |
|
هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا |
فيا ملك الأملاك ، إني محلأ |
|
عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى (١) |
تحققت مكروها فأقبلت شاكيا |
|
لعمري أمأذون لعبدك أن يعنى |
وإن تتأكّد في دمي لك نيّة |
|
فإني بسيف لا أحبّ له جفنا (٢) |
إذا ما غدا من حرّ سيفك باردا |
|
فقدما غدا من برد نعماكم سخنا |
وهل هي إلّا ساعة ثم بعدها |
|
ستقرع ما عمّرت من ندم سنّا |
ومالي من دهري حياة ألذّها |
|
فتجعلها نعمى عليّ وتمتنّا |
إذا ميتة أرضتك عنا فهاتها |
|
حبيب إلينا ما رضيت به عنّا |
وقال الفقيه أبو محمد غانم بن الوليد الأندلسي المخزومي المالقي (٣) : [البسيط]
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة |
|
سمّ الخياط مجال للمحبّين |
ولا تسامح بغيضا في معاشرة |
|
فقلّما تسع الدنيا بغيضين |
وله : [السريع]
الصبر أولى بوقار الفتى |
|
من قلق يهتك ستر الوقار |
من لزم الصبر على حالة |
|
كان على أيامه بالخيار |
وقال في المطمح فيه : إنه عالم متفرّس ، وفقيه مدرّس ، وأستاذ متجرد (٤) ، وإمام لأهل الأندلس مجوّد ، وأما الأدب فكان جلّ شرعته ، وهو رأس بغيته ، مع فضل وحسن طريقة ، وجدّ في جميع الأمور وحقيقة ، انتهى.
وقال المحدّث الحافظ أبو عمر بن عبد البر يوصي ابنه بمقصورة : [الطويل]
تجاف عن الدنيا وهوّن لقدرها |
|
ووفّ سبيل الدين بالعروة الوثقى (٥) |
وسارع بتقوى الله سرّا وجهرة |
|
فلا ذمّة أقوى هديت من التقوى |
ولا تنس شكر الله في كلّ نعمة |
|
يمنّ بها فالشكر مستجاب النّعمى |
__________________
(١) محلأ : ممنوع. ويذاد : يدافع.
(٢) في ب : «فإني سيف لا أحب له جفنا».
(٣) انظر المطمح ص ٦٠.
(٤) في ه ، والمطمح : «وأستاذ مجوّد» وبذلك يتكرر لفظ الفاصلتين.
(٥) في ه : «وخذ في سبيل الدين».
فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقل |
|
فإنّ طريق الحق أبلج لا يخفى (١) |
وشحّ بأيام بقين قلائل |
|
وعمر قصير لا يدوم ولا يبقى |
ألم تر أنّ العمر يمضي مولّيا |
|
فجدّته تبلى ومدته تفنى |
نخوض ونلهو غفلة وجهالة |
|
وننشر أعمالا وأعمارنا تطوى |
|
||
تواصلنا فيه الحوادث بالردى |
|
وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى |
عجبت لنفس تبصر الحقّ بيّنا |
|
لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى |
وتسعى لما فيه عليها مضرّة |
|
وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى |
ذنوبي أخشاها ولست بآيس |
|
وربّي أهل أن يخاف وأن يرجى |
وإن كان ربي غافرا ذنب من يشا |
|
فإني لا أدري أأكرم أم أخزى |
وقال في المطمح : الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر ، إمام الأندلس وعالمها ، الذي التاحت به معالمها (٢) ، صحّح المتن والسند ، وميّز المرسل من المسند ، وفرّق بين الموصل (٣) والقاطع ، وكسا الملّة منه نور ساطع ، حصر الرواة ، وأحصى الضعفاء منهم والثقات ، وجدّ في تصحيح السقيم ، وجدد منه ما كان كالكهف والرّقيم ، مع معاناة العلل (٤) ، وإرهاف ذلك العلل ، والتنبيه والتوقيف ، والإتقان والتثقيف ، وشرح المقفل ، واستدراك المغفل ، وله فنون هي للشريعة رتاج ، وفي مفرق الملّة تاج ، أشهرت للحديث ظبا ، وفرعت لمعرفته ربا ، وهبّت لتفهّمه شمال (٥) وصبا ، وشفت منه وصبا ، وكان ثقة ، والأنفس على تفضيله متّفقة ، وأما أدبه فلا تعبر لجّته ، ولا تدحض حجّته ، وله شعر لم نجد منه إلّا ما نفث به أنفة ، وأقصى فيه عن معرفة ، فمن ذلك قوله ـ وقد دخل إشبيلية فلم يلق فيها مبرّة ، ولم يلق (٦) من أهلها تهلل أسرّة ، فأقام بها حتى أخلقه مقامه ، وأطبقه اغتمامه ، فارتحل وقال : [الطويل]
تنكّر من كنّا نسرّ بقربه |
|
وعاد زغاقا بعدما كان سلسلا (٧) |
__________________
(١) أبلج : مشرق ، مضيء.
(٢) التاحت معالمها : تلألأت.
(٣) في ب ، ه : «الموصول».
(٤) في ب ، ه : «مع معلنات العلل».
(٥) في ه : «والمطمح : «شمالا وصبا» والشمال والصبا ريحان ناعمتان.
(٦) في ه : «ولم ير».
(٧) في ب : «وعاد زعافا» وفي ه : «وصار زعافا».
وحقّ لجار لم يوافقه جاره |
|
ولا لاءمته الدار أن يتحوّلا |
بليت بحمص والمقام ببلدة |
|
طويلا لعمري مخلق يورث البلى |
إذا هان حرّ عند قوم أتاهم |
|
ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا |
ولم تضرب الأمثال إلّا لعالم |
|
وما عوتب الإنسان إلّا ليعقلا |
وقال الفقيه أبو بكر بن أبي الدوس (١) : [الطويل]
إليك أبا يحيى مددت يد المنى |
|
وقدما غدت عن جود غيرك تقبض |
وكانت كنور العين يلمع بالدجا |
|
فلمّا دعاه الصبح لبّاه ينهض |
وقال في المطمح : إنه من أبدع الناس خطّا ، وأصحهم نقلا وضبطا ، اشتهر بالإقراء ، واقتصر بذلك على الأمراء ، ولم ينحطّ لسواهم ، ومطل الناس بذلك ولواهم ، وكان كثير التحوّل ، عظيم التجوّل ، لا يستقرّ في بلد ، ولا يستظهر على حرمانه بجلد ، فقذفته النوى ، وطردته عن كل ثوى (٢) ، ثم استقرّ آخر عمره بأغماث ، وبها مات ، وكان له شعر بديع يصونه أبدا ، ولا يمدّ به يدا.
أخبرني من دخل عليه بالمريّة فرآه في غاية الإملاق ، وهو في ثياب أخلاق (٣) ، وقد توارى في منزله تواري المذنب ، وقعد عن الناس قعود مجتنب ، فلمّا علم ما هو فيه ، وترفّعه عمّن يجتديه ، عاتبه في ذلك الاعتزال ، وآخذه حتى استنزله بغيض الإنزال (٤) ، وقال له : هلا كتبت إلى المعتصم ، فما في ذلك ما يصم (٥) ، فكتب إليه : إليك أبا يحيى مددت يد المنى ـ البيتين ، انتهى.
وقال الفقيه القاضي الفاضل أبو الفضل بن الأعلم ، حين أقلع وأناب ، وودع ذلك الجناب ، وتزهد وتنسّك ، وتمسّك من طاعة الله بما تمسّك ، وتذكّر يوما يتجرّد من أمله ، وينفرد فيه بعمله: [مجزوء الكامل]
الموت يشغل ذكره |
|
عن كلّ معلوم سواه (٦) |
__________________
(١) في ج : «بن أبي الدودس» وهو خطأ انظر ترجمته في المطمح ٦٣.
(٢) الثوى : الإقامة ، وأصله الثواء.
(٣) الإملاق : الفقر. ثياب أخلاق : باليات.
(٤) في ب ، ه : «بفيض الاستنزال».
(٥) يصم : يعيب.
(٦) في ه : «عن كل مأمول سواه».