الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
فقال : لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفّه؟ فقلت : إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله : [الطويل]
ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (١)
وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك ، فتألّقت غرّته ، وبدت مسرّته ، وقال : إنّا لله على أن لم يعنّا الزمان على مكافأة مثلك.
قال : وكنت ممّن زاره بسجنه بأغمات ، وحملتني شدّة الحميّة له والامتعاض (٢) لما حلّ به أن كتبت على حائط سجنه متمثّلا : [الطويل]
فإن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه |
|
ولا تسجنوا معروفه في القبائل |
ثم تفقدت الكتابة بعد أيام ، فوجدت تحت البيت : لذلك سجنّاه : [الطويل]
ومن يجعل الضّرغام في الصّيد بازه |
|
تصيّده الضّرغام فيما تصيّدا (٣) |
فما أدري من جاوب بذلك ، ثم عدت له ووجدته قد محي ، وأعلمت بذلك ابن عبّاد ، فقال : صدق المجاوب ، وأنا الجاني على نفسه ، والحافر بيده لرمسه ، ولمّا أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع ، فارتجلت : [السريع]
آليت لا أقبل إحسانكم |
|
والدّهر فيما قد عراكم مسي (٤) |
ففي الذي أسلفتم غنية |
|
وإن يكن عندكم قد نسي |
قال : وفيه أقول من قصيدة : [السريع]
يا طالب الإنصاف من دهره |
|
طلبت أمرا غير معتاد |
فلو يكون العدل في طبعه |
|
لما عدا ملك ابن عبّاد |
وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه «الحديقة» وأنشد لنفسه فيه (٥) : [السريع]
وشادن ينصف من نفسه |
|
أمّنني من سطوة الدهر |
__________________
(١) البيت لذي الرمة ، وهو :
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى |
|
ولا زال منهلا بجرعائك القطر |
(٢) الامتعاض : الغضب والتوجع.
(٣) الضرغام : الأسد. والباز : من أنواع الصقور.
(٤) آليت : حلفت.
(٥) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٤.
ينام للشّرب على جنبه |
|
ويصرف الذّنب إلى الخمر |
وله في فرس : [الوافر]
ومستبق يحار الطّرف فيه |
|
ويسلم في الكفاح من الجماح |
كأنّ أديمه ليل بهيم |
|
تحجّل باليسير من الصباح (١) |
إذا احتدم التسابق صار جرما |
|
تقلّب بين أجنحة الرياح |
وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية ، وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز (٢) : [الطويل]
ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي |
|
عهدت من النّعمى لديكم بلا جهد |
فو الله مذ فارقتكم ما تخلّصت |
|
من الدهر عندي ساعة دون ما كدّ |
فمنّوا بإذن كي أطير إليكم |
|
فلا عار في شوق إلى المال والمجد (٣) |
ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات ، فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصدا ضرره ، وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ ، فقال : والله لقد ذكرتني أمره ، ولقد أحسن الدلالة على حاله ، فإنّ الرجل كريم ، وعلينا موضع اللوم ، لا عليه ، وو الله لأوسعنّه مالا ووجدا بقدر وسعي ، ثم أخذ في الإحسان إليه حتى برّ يمينه رحمه الله تعالى : [الخفيف]
هكذا هكذا تكون المعالي |
|
طرق الجدّ غير طرق المزاح |
ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس ، فنقول :
قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب «أخبار الشعراء (٤)» : [البسيط]
وروضة من رياض الحزن حالفها |
|
طلّ أطلّت به في أفقها الحلل |
|
||
كأنما الورد فيما بينها ملك |
|
موف ونوّارها من حوله خول (٥) |
__________________
(١) أديمه : جلده.
(٢) انظر ترجمته في الجذوة ص ٨٨.
(٣) في ه : «فلا عار في شوقي إلى المال والمجد».
(٤) انظر ترجمته في الجذوة ص ١٣٩.
(٥) الخول : الخدم.
وكان في مدة الناصر ، وأدخل عليه يوما ليذاكره ، فاستحسنه ، وأمره بالتزام بنيه ليؤدّبهم بحسن أدبه ، ويتخلّقوا بخلقه ، فاستعفى من ذلك ، وقال : إنّ الفتيان لا يتعلّمون إلّا بشدّة الضبط والقيد والإغلاظ ، وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني ، وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر.
قالوا : وكان يتعشّق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام ، وله فيه : [المجتث]
متّع بوجهك جفني |
|
يا كوكبا فوق غصن |
يا من تحجّب حتى |
|
عن كلّ فكر وأذن |
وخامر الخوف فيه |
|
فما يمر بذهن (١) |
فليس للطّرف والقل |
|
ب غير دمع وحزن |
فإنني ذو ذنوب |
|
وأنت جنّة عدن |
وقال أخوه أحمد بن هشام : [الطويل]
قطعت الليالي بارتجاء وصالكم |
|
وما نلت منكم غير متّصل الهجر |
وما كنت أدري ما التصبّر قبلكم |
|
فعلّمتموني كيف أقوى على الصبر |
وما كنت ممّن يعلق الصبر فكره |
|
ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر |
ومن حكاياتهم في علوّ الهمة : أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنه حضر مجلسا فيه القائد أحمد بن أبي عبدة ، وهو غلام ، فاستخبره القائد ، فرآه بعيدا من الأدب والظّرف ، ورأى له ذهنا قابلا للصلاح ، فقال : أيّ سيف لو كانت عليه حلية؟ فقامت من هذه الكلمة قيامته ، وثابت له همّة ملوكيّة عطف بها على الأدب والتعلّم (٢) ، إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولا ، فحضر بعد ذلك معه ، وجالا في مضمار الأدب ، فرأى ابن أبي عبدة جوادا لا يشقّ غباره (٣) ، فقال : ما هذا؟ أين هذا مما كان؟ فقال : إن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا ، فقال : والله إنّ هذه حلية تليق بهذا السيف ، فجزاك الله عن همّتك خيرا!.
ثم قال له : سر ، إنّ لي عليك حقا إذ بعثتك على التأدّب والتميز ، فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري ، وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء (٤) غيري عليّ ، فقال : لك ذلك وزيادة.
__________________
(١) في ب ، ه : «فما يجول بذهن».
(٢) في ه : «على الأدب والتعليم».
(٣) لا يشق غباره : أي لا يسبق ولا يجارى.
(٤) الإرباء : الزيادة ، من الفعل أربى.
وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيىء الخلق في أول أمره ، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة ، مفرط القلق ممّا يقال في جانبه ، معاقبا على ذلك من (١) يقدر على معاقبته ، مكثر التشكّي ممّن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن ، فطال ذلك على الأمير ، فقال لوكيل خاصّ به عارف بالقيام بما يكلّفه به : الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني (٢) فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر ، وأوصاه بالاجتهاد فيه ، ففرغ منه ، وعاد إليه ، فقال له : تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه ، ولا تترك أحدا من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره ، ولا يتكلّم معه البتّة ، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له : هكذا أمر أبوك ، فتولّى الثقة ذلك على ما أمر به ، ولمّا حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده ، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه (٣) ، ونظر إلى ما سلبه من الملك ضجر ، فقال للثقة : عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنّس بهم ، فقال له الثقة : إنّ الأمير أمر أن لا يصلك أحد وأن تبقى وحدك لتستريح ممّا يرفع لك أصحابك من الوشاية ، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك (٤) وتأديبه ، فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه : أني قد توحّشت في هذا الموضع توحّشا ما عليه من مزيد ، وعدمت فيه من كنت آنس إليه ، وأصبحت مسلوب العزّ فقيد الأمر والنهي ، فإن كان ذلك عقابا لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه ، ضارع إليه في عفوه وصفحه : [الطويل]
وإنّ أمير المؤمنين وفعله |
|
لكالدهر ، لا عار بما فعل الدهر |
فلمّا وقف الأمير على رقعته ، وعلم أنّ الأدب بلغ به حقّه ، استدعاه فقال له : وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحّش الانفراد في ذلك الموضع ، وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك ، وإن كان لك ذنب يترتّب عليه أن تطول سكناك في ذلك المكان ، وما فعلت ذلك عقابا لك ، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل ، فأردنا راحتك بأن نحجب (٥) عنك سماع كلام من يرفع لك وينمّ ، حتى تستريح منهم ، فقال له : سماع ما كنت أضجر منه أخفّ عليّ من التوحّد والتوحّش والتخلّي ممّا أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي ، فقال له : فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته ، وعوّل على أن تسمع كأنك لم تسمع ،
__________________
(١) في ب ، ه : «معاقبا على ذلك لمن يقدر على معاقبته» وما أثبتناه أقوى.
(٢) في ه : «نبني فيه».
(٣) في أ : «يستريح معه».
(٤) المحنة : الاختبار والابتلاء.
(٥) في ه : «بأن يحجب عنك».
وترى كأنك لم تر ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو تكاشفتم ما تدافنتم» ، واعلم أنك أقرب الناس إليّ وأحبّهم فيّ ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار عليّ ، وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك ، مما (١) لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني ، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها ، وإنك لذو همّة ومطمح ، ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل ، ويبدل العقاب بالثواب ، ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب ، ويصبر من الشخص على ما يسوء ، فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر ، ولقد يخف عليّ اليوم من قاسيت من فعله وقوله ، ما لو قطعتهم (٢) عضوا عضوا لما ارتكبوه مني ما شفيت منهم غيظي (٣) ، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال ، لا سيما عند الاقتدار ، أولى ، ونظرت إلى جميع من حولي ممّن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض ، ونظرت إلى المسيء يعود محسنا ، والمحسن يعود مسيئا ، وصرت أندم على من سبق له منه عقاب ، ولا أندم على من سبق له مني ثواب ، فالزم يا بنيّ معالي الأمور ، وإن جماعها في التغاضي ، ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب ، ولا يقرب منه جانب ، ولا ينال ما تترقى إليه همّته ، ولا يظفر بأمله ، ولا يجد معينا حين يحتاج إليه ، فقبّل المنذر يده ، وانصرف ، ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلق بالخلق الجميل ، وبلغ ما أوصاه به أبوه ، ورفع قدره.
ومن شعره في ابن عمّ له : [الطويل]
ومولى أبى إلّا أذاي وإنني |
|
لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد |
توددته فازداد بعدا وبغضة |
|
وهل نافع عند الحسود التودّد |
وقوله : [المجتث]
خالف عدوّك فيما |
|
أتاك فيه لينصح |
فإنما يبتغي أن |
|
تنام عنه فيربح (٤) |
ومن كرم نفسه أنّ أحد التجار أهدى له جارية بارعة الحسن ، واسمها طرب ، ولها صنعة في الغناء حسنة ، فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه ، فقال
__________________
(١) في ب ، ه : «ما لو أطلعني الله عليه».
(٢) في ب : «ولو قطعتهم».
(٣) في ب ، ه : «ما شفيت فيهم غيظي».
(٤) في ب ، ه :
فإنما ينبغي أن |
|
تنام عنه فتربح |
لأحد خدّامه : ما ترى أن ندفع لهذا التاجر عوضا عن هذه الجارية التي وقعت منّا أحسن موقع؟ فقال : تقدّر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها ، فقوّمت بخمسمائة دينار ، فقال المنذر للخديم : ما عندك فيما ندفع له؟ فقال : الخمسمائة ، فقال : إن هذا للؤم ، رجل أهدى لنا جارية ، فوقعت منّا موقع استحسان ، نقابله بثمنها ، ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا ، فقال له : إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء ، وأقلّ القليل يقنعهم ، فقال : وإنّا كرماء سمحاء ، فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه ، فادفع له ألف دينار ، واشكره على كونه خصّنا بها ، وأعلمه بأنها وقعت منّا موقع رضا.
وفيها يقول : [المنسرح]
ليس يفيد السرور والطرب |
|
إن لم تقابل لواحظي طرب |
أبهت في الكأس لست أشربها |
|
والفكر بين الضلوع يلتهب (١) |
يعجب مني معاشر جهلوا |
|
ولو رأوا حسنها لما عجبوا |
وقال له أبوه يوما : إنّ فيك لتيها مفرطا ، فقال له : حقّ لفرع أنت أصله أن يعلو ، فقال له : يا بنيّ ، إن العيون تمجّ التّيّاه (٢) ، والقلوب تنفر عنه (٣) ، فقال : يا أبي ، لي من العزّ والنسب وعلوّ المكان والسلطان ما يجمّل عن ذلك ، وإني لم أر العيون إلّا مقبلة عليّ ، ولا الأسماع إلّا مصغية إليّ ، وإنّ لهذا السلطان رونقا يرنّقه (٤) التبذل ، وعلوا يخفضه الانبساط ، ولا يصونه ويشرفه إلّا التيه والانقباض ، وإنّ هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون (٥) به الرجل منّا ، فإن رأوه راجحا عرفوا له قدر رجاحته ، وإن رأوه ناقصا عاملوه بنقصه ، وصيّروا تواضعه صغرا ، وتخضّعه خسّة ، فقال له أبوه : لله أنت! فابق وما رأيت.
وكان له أخ أديب أيضا اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط ، ومن شعره : [المجتث]
أفنيت عمري في الشّر |
|
ب والوجوه الملاح |
ولم أضيّع أصيلا |
|
ولا اطلاع صباح |
__________________
(١) أبهت : أدهش ، أتحيّر.
(٢) في ب ، ه : «تمج التائه» والتياه : صيغة مبالغة من اسم الفاعل تائه على وزن فعّال ، أي كثير التيه والعجب.
(٣) في ه : «تنحرف عنه».
(٤) يرنقه : يكدره.
(٥) يسبرون الرجل منا : يخبرونه ليعرفوا عمقه ، ومنه : سبر الجرح.
أحيي الليالي سهدا |
|
في نشوة ومراح (١) |
ولست أسمع ما ذا |
|
يقول داعي الفلاح (٢) |
والعياذ بالله من هذا الكلام ، وحاكي الكفر ليس بكافر.
وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال : إني قلته وأنا لا أعقل ، ولا أعلم أنه يحفظ عني ، وأنا أستغفر الله تعالى منه ، والذي يغفر الفعل أكرم من أن يعاقب على القول.
ومن جيد شعره له : [الخفيف]
يا أخي ، فرّقت صروف الليالي |
|
بيننا غير زورة الأحلام |
فغدونا بعد ائتلاف وقرب |
|
نتناجى بألسن الأقلام |
وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان : [الطويل]
أحبّك يا ريحان ما عشت دائما |
|
ولو لامني في حبّك الإنس والجان |
ولولاك لم أهو الظلام وسهده |
|
ولا حبّبت لي في ذرا الدار غربان |
وما أعشق الريحان إلّا لأنه |
|
شريكك في اسم فيه قلبي هيمان |
على أنه لم يكمل الظرف مجلس |
|
إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان |
وله فيه : [الطويل]
إذا أنا مازحت الحبيب فإنما |
|
قصدت شفاء الهمّ في ذلك المزح |
فما العيش إلّا أن أراه مضاحكا |
|
كما ضحك الليل البهيم عن الصبح (٣) |
وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن (٤) : [الوافر]
إذا أنا لم أجد يوما وقومي |
|
لهم في الجود آثار عظام |
فمن يرجى لتشييد المعالي |
|
إذا قعدت عن الخير الكرام |
ومدحه بعض الشعراء ، فأمر له بمال جزيل ، فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر ، فقال أحد خدام يعقوب : هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه؟ فقال الأمير : يا هذا ، إن كان الله تعالى خلقك مجبولا على كره ربّ الصنائع فاجر على ما جبلت عليه في نفسك ، ولا تكن
__________________
(١) السهد : القلق والسهر.
(٢) داعي الفلاح : أراد المؤذن.
(٣) الليل البهيم : الشديد السواد.
(٤) انظر الحلة ج ١ ص ١٢٤.
كالأجرب يعدي غيره ، وإنّ هذا الرجل (١) قصدنا قبل ، فكان منّا له ما أنس به وحمله على العودة ، وقد ظنّ فينا خيرا ، فلا نخيب ظنّه ، والحديث أبدا يحفظ القديم ، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر ، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده ، ويديم نعمنا حتى نجد ما ننعم به عليه ، ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه ، ولا يبلينا بجليس مثلك يقبض أيدينا عن إسداء الأيادي (٢) ، وأمر الشاعر بما كان أمر له به قبل ، وأوصاه بالعود عند حلول ذلك الأوان ما دام العمر.
وقال أخوهم الخامس الأمير محمد بن الأمير عبد الرحمن (٣) لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة : هل لك أمل نبلغك إياه؟ فقال : لم يبق لي أمل إلّا أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك ، فأعجب ذلك الأمير ، وقال : ما مالت إليك نفسي من باطل ، وكان كل واحد منهما يهيم بالآخر ، وفي ذلك يقول أبان : [البسيط]
يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف |
|
تون لو ابصرته ما كنت تلحاني (٤) |
من مازجت روحه روحي وشاطرني |
|
يا حسنه حين أهواه ويهواني |
وكان للأمير محمد بن الأمير عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء : القاسم ، والمطرف ، ومسلمة ، ولهم أخ رابع اسمه عثمان.
فمن نظم القاسم (٥) في عثمان أخيه ، وقد زاره فاستسقاه ماء ، فأبطأ عليه غلامه لعلّة لم يقبلها القاسم : [البسيط]
الماء في دار عثمان له ثمن |
|
والخبز شيء له شأن من الشّان |
فاسلح على كل عثمان مررت به |
|
غير الخليفة عثمان بن عفان |
وله : [مخلع البسيط]
شغلت بالكيمياء دهري |
|
فلم أفد غير كلّ خسر |
إتعاب فكر ، خداع عقل |
|
فساد مال ، ضياع عمر |
__________________
(١) في ه : «وإن هذا رجل قصدنا ...».
(٢) إسداء الأيادي : إعطاء المعروف ، الإحسان.
(٣) انظر ترجمته في الحلة ج ١ ص ١١٩.
(٤) يلحاني : يلومني.
(٥) انظر الحلة ج ١ ص ١٢٧.
وقال شقيقه المطرف (١) ، ويعرف بابن غزلان ، وهي أمه ، وكانت مغنية بديعة محسنة عوّادة أديبة : [المنسرح]
هل أتّكي مشرفا على نهر |
|
أرمي بطرفي إليه من قصري |
عند أخ لو دهته حادثة |
|
أعطيته ما أحبّ من عمري |
وقال أخوهما مسلمة (٢) : [الخفيف]
إنّ شيبا وصبوة لمحال |
|
أو لم يأن أن يكون زوال |
فدع النفس عن مزاح ولهو |
|
تلك حال مضت وجاءتك حال |
وكان يقول : إني لا أفارق إلّا من اختار مفارقتي ، ومن خادعني انخدعت له ، وأريته أني غير فطن بخداعه ، ليعجبه أمره ، وأدخل عليه مسرّة بنفسه ورأيه.
وقال محمد بن الأمير المنذر بن الأمير محمد في جاريته الأراكة : [المجتث]
قل للأراكة قد زا |
|
د بالدنوّ اشتياقي |
وهاج ما بي إليها |
|
تمثّلي للعناق |
وإنني وبقلبي |
|
جمر جرى في المآقي |
طويت ما بي ليوم |
|
يكون فيه التلاقي |
فإن أعد لاجتماع |
|
حرّمت يوم افتراق |
لا يعرف الشوق إلّا |
|
من ذاق طعم الفراق |
وقال عبد الله بن الناصر (٣) ، وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسمينا أبيض وأصفر ، وكتب معه : [الكامل]
مولاي قد أرسلت نحوك تحفة |
|
بمراد ما أبغيه منك تذكّر |
من ياسمين كاللّجين تبرّجت |
|
بيضا وصفرا والسّماح يعبّر (٤) |
فأجابه بما نصّه : [السريع]
__________________
(١) انظر ترجمته في الحلة السيراء ١ / ١٢٨.
(٢) انظر المقتبس ص ٢١١.
(٣) انظر الجذوة ص ٢٤٤. والمغرب ج ١ ص ١٨٢.
(٤) اللجين : الفضة ، وتبرجت : تزينت.
أتاك تفسيري ولمّا يحل |
|
منّي على أضغاث أحلام (١) |
اجعله رسما دائما زائرا |
|
مني ومنك غرّة العام (٢) |
وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق دنانير ودراهم ، فقال ابن فرج : [الخفيف]
قد سمعنا بجود كعب وحاتم |
|
ما سمعنا جودا مدى العمر لازم (٣) |
فدعائي بأن تدوم دعاء |
|
لي ما زال طول ما عشت دائم |
ما سمعنا كمثل هذا اختراعا |
|
هكذا هكذا تكون المكارم |
تشبه هذه الحكاية حكاية اتّفقت لبعض ملوك إفريقية ، وذلك أنّ رجلا أهدى لي في قادوس وردا أحمر وأبيض ، فأمر أن يملأ له دراهم ، فقالت له جارية من جواريه : إن رأى الأمير أن يلوّن ما أعطاه ، حتى يوافق ما أهداه ، فاستحسن ذلك الأمير ، وأمر أن يملأ دنانير ودراهم.
وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء ، فمرّا بجميل ، فمال عبد الله بطرفه إلى وجهه (٤) ، وظهر ذلك لمسايره ، فتبسّم ، ففهم عبد الله تبسمه (٥) ، فقال : إنّ هذه الوجوه الحسان خلّابة ، ولكنّا لا نتغلغل في نظرها ، ولا ندّعي العفّة عنها بالجملة ، وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى ، فقال له الفقيه : احتجّ لروحك بما شئت ، فقال : أو ما هي حجّة تقبل؟ فقال الفقيه : يقبلها من رقّ طبعه ، وكاد يضيق عن الصبر وسعه ، فقال : وأراك شريكا لي ، فقال : ولو لا ذلك للمتك ، فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد : [المنسرح]
أفدي الذي مرّ بي فمال له |
|
لحظي ولكن ثنيته غصبا |
ما ذاك إلّا مخاف منتقد |
|
فالله يعفو ويغفر الذّنبا |
فقال له الفقيه : إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه ، ولا تنسب إليّ ما نسبت ، فتبسّم عبد الله وقال : ولا هذا كلّه ، وقال له : إنّ مثلك في الفقهاء لمعدوم ، فقال له : ما كنت إلّا أديبا ، ولكنّي لمّا رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به ، فقال له : ومن عقل المرء أن لا يفني عمره فيما لا ينفقه عصره.
وكان عبد الله المذكور يسمّى الزاهد ، فبايع قوما على قتل والده الناصر وأخيه الحكم
__________________
(١) في ب ، ه : «ولما يحل عني على أضغاث أحلام».
(٢) في ب ، ه : «منك ومني غرة العام».
(٣) كعب : هو كعب بن مامة الإيادي. وحاتم : هو حاتم الطائي ، وهما مضرب المثل في الكرم.
(٤) في ب ، ه : «على وجهه».
(٥) في ب ، ه : «ففيهم عبد الله عنه».
المستنصر ولي العهد ، فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، فذبح بين يديه رحمة الله تعالى!.
وقال أخوه أبو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر (١) ، وقد دخل ابن له الكتّاب ، فكتب أول لوح ، فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس ، ومعه : [مجزوء الرمل]
هاك يا مولاي خطّا |
|
مطّه في اللوح مطّا |
ابن سبع في سنيه |
|
لم يطق للوح ضبطا |
دمت يا مولاي حتى |
|
يلد ابن ابنك سبطا (٢) |
وله : [الرمل]
زارني من همت فيه سحرا |
|
يتهادى كنسيم السّحر |
أقبس الصبح ضياء ساطعا |
|
فأضا والفجر لم ينفجر (٣) |
واستعار الروض منه نفحة |
|
بثّها بين الصّبا والزّهر |
أيها الطالع بدرا نيرا |
|
لا حللت الدهر إلّا بصري |
وكان مغرى مغرما بالخمر والغناء ، فقطع الخمر ، فبلغه أنّ المستنصر لمّا بلغه تركه للخمر قال : الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته ، ودلّه على ما نريد منه ، ثم قال : لو ترك الغناء لكمل خيره ، فقال : والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها ، ثم قال (٤) : [الخفيف]
أنا في صحّة وجاه ونعمى |
|
هي تدعو لهذه الألحان |
وكذا الطير في الحدائق تشدو |
|
للذي سرّ نفسه بالقيان |
وقال أخوه محمد بن الناصر لمّا قدم أخوهما المستنصر من غزوة (٥) : [الطويل]
قدمت بحمد الله أسعد مقدم |
|
وضدّك أضحى لليدين وللفم (٦) |
__________________
(١) انظر ترجمته في الجذوة ص ٢٧٠.
(٢) السبط : ولد الابن والابنة.
(٣) فأضا : أصلها : فأضاء ، فحذف الهمزة ، وهو جائز.
(٤) انظر المغرب ص ١٨٤.
(٥) ترجمة محمد بن الناصر في المغرب ج ١ ص ١٨٤.
(٦) أضحى لليدين وللفم : أي خرّ صريعا.
لقد حزت فيها السّبق إذ كنت أهله |
|
كما حاز «بسم الله» فضل التقدّم (١) |
وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر (٢) فقال الحجاري فيه : إنه لم يكن في ولد الناصر ممّن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه ، وكتب إلى العزيز صاحب مصر : [الطويل]
ألسنا بني مروان كيف تبدّلت |
|
بنا الحال أو دارت علينا الدوائر |
إذا ولد المولود منّا تهلّلت |
|
له الأرض واهتزّت إليه المنابر |
وكان جواب العزيز له : أمّا بعد ، فإنك عرفتنا فهجوتنا ، ولو عرفناك لهجوناك (٣).
وله في الصّنوبر : [المجتث]
إنّ الصنوبر حصن |
|
لديه حرز وباس |
خفّت من اجل إرها |
|
ب من عداه تراس |
كأنما هو ضدّ |
|
لما حواه الرياس |
وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرياس على صورة قشور الصنوبر إلّا أنّ تلك ناتئة وهذه محفورة ، وقال : [الطويل]
أتاني وقد خطّ العذار بخدّه |
|
كما خطّ في ظهر الصحيفة عنوان |
تزاحمت الألحاظ في وجناته |
|
فشقّت عليه للشقائق أردان |
وزدت غراما حين لاح كأنما |
|
تفتّح بين الورد والآس سوسان |
وقال : [الطويل]
لئن كنت خلّاع العذار بشادن |
|
وكأس فإني غير نزر المواهب (٤) |
وإنّي لطعّان إذا اشتجر القنا |
|
ومقحم طرفي في صدور الكتائب (٥) |
وإني إذا لم ترض نفسي بمنزل |
|
وجاش بصدري الفكر جمّ المذاهب |
__________________
(١) استفاده من أن لفظ «بسم الله» يقدم على أي شيء.
(٢) انظر ترجمته في الحلة ج ١ ص ٢٠٨. والمغرب ج ١ ص ١٨٥.
(٣) في ب ، ه : «علمتنا فهجوتنا ولو علمناك لهجوناك».
(٤) خلع العذار : تهتك ومجن. والشادن : ولد الغزال ، وأراد الفتاة الجميلة.
(٥) اشتجر القنا : تشابكت الرماح.
جليد يؤود الصّخر لو أنّ صبره |
|
كصبري ، على ما نابني ، للنوائب (١) |
وأسري إلى أن يحسب الليل أنني |
|
لطول مسيري فيه بعض الكواكب |
وأمّا ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس ، بملاحة شعره وحسن تشبيهه.
ومن شعره القصيدة المشهورة : [الرمل]
غصن يهتزّ في دعص نقا |
|
يجتني منه فؤادي حرقا |
سال لام الصّدغ في صفحته |
|
سيلان التّبر وافى الورقا |
فتناهى الحسن فيه إنما |
|
يحسن الغصن إذا ما أورقا |
ومنها :
أصبحت شمسا وفوه مغربا |
|
ويد الساقي المحيّي مشرقا (٢) |
فإذا ما غربت في فمه |
|
تركت في الخدّ منه شفقا |
ومنها :
وكأنّ الورد يعلوه النّدى |
|
وجنة المحبوب تندى عرقا |
قالوا : وهذا النمط قد فاق به (٣) أهل عصره ، ويظنّ أنه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذا بمجامع القلوب من قوله : [الكامل]
ودّعت من أهوى أصيلا ، ليتني |
|
ذقت الحمام ولا أذوق نواه |
فوجدت حتى الشمس تشكو وجده |
|
والورق تندب شجوها بهواه (٤) |
وعلى الأصائل رقّة من بعده |
|
فكأنها تلقى الذي ألقاه |
وغدا النسيم مبلّغا ما بيننا |
|
فلذاك رقّ هوى وطاب شذاه |
ما الروض قد مزجت به أنداؤه |
|
سحرا بأطيب من شذا ذكراه |
والزهر مبسمه ونكهته الصّبا |
|
والورد أخضله الندى خدّاه |
__________________
(١) يؤود الصخر : يعجز ويضعف. والنوائب : المصائب.
(٢) أي أصبحت الخمر شمسا وفم الشادن مغربا ... الخ.
(٣) في ه : «فات به أهل عصره».
(٤) الوجد : الحزن. والورق : الحمائم. والشجو : الحزن والهم.
فلذاك أولع بالرياض لأنها |
|
أبدا تذكّرني بمن أهواه |
ولله قوله : [الخفيف]
وعشيّ كأنه صبح عيد |
|
جامع بين بهجة وشحوب |
هبّ فيه النسيم مثل محبّ |
|
مستعيرا شمائل المحبوب |
ظلت فيه ما بين شمسين هذي |
|
في طلوع وهذه في غروب |
وتدلّت شمس الأصيل ولكن |
|
شمسنا لم تزل بأعلى الجنوب (١) |
ربّ هذا خلقته من بديع |
|
من رأى الشمس أطلعت في قضيب |
أي وقت قد أسعف الدهر فيه |
|
وأجابت به المنى عن قريب |
قد قطعناه نشوة ووصالا |
|
وملأناه من كبار الذنوب |
حين وجه السعود بالبشر طلق |
|
ليس فيه أمارة للقطوب |
ضيّع الله من يضيّع وقتا |
|
قد خلا من مكدّر ورقيب |
وبات عند أحد رؤساء بني مروان ، فقدّم إليه ذلك الرئيس (٢) قدحا من فضّة فيه راح أصفر (٣) ، وقال : اشرب وصف فداك ابن عمك ، فقام إجلالا وشرب صائحا بسروره ، ثم قال:الدواة والقرطاس ، فأحضرا ، وكتب : [السريع]
اشرب هنيئا لا عداك الطرب |
|
شرب كريم في العلا منتخب |
وافاك بالراح وقد ألبست |
|
برد أصيل معلما بالحبب |
في قدح لم يك يسقى به |
|
غير أولي المجد وأهل الحسب |
ما جار إذ سقّاك من كفّه |
|
في جامد الفضّة ذوب الذهب |
فقم على رأسك برا به |
|
واشرب على ذكراه طول الحقب (٤) |
ويحكى أنه لمّا قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور بن أبي عامر مدة ، إلى أن رأى في منامه النبيّ ، صلى الله عليه وسلم ، يأمره بإطلاقه ، فأطلقه ، فمن أجل ذلك عرف بالطليق.
وقال أحمد بن سلمان بن أحمد بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لمّا
__________________
(١) في ب : «بأعلى الجيوب».
(٢) في ه : «ذلك الرائس».
(٣) الراح : الخمر.
(٤) الحقب : جمع حقبة ، وهي الفترة من الزمن.
عاداه علماء عصره (١) : [المجتث]
لمّا تحلّى بخلق |
|
كالمسك أو نشر عود (٢) |
نجل الكرام ابن حزم |
|
وقام في العلم عودي (٣) |
فتواه جدّد ديني |
|
جدواه أورق عودي |
وله في أبي عامر بن المظفر بن أبي عامر من قصيدة يمدحه بها : [الخفيف]
بأبي عامر وصلت حبالي |
|
فزماني به زمان سعيد |
فمتى زدت فيه ودا وشكرا |
|
فنداه وقد تناهى يزيد |
كيف لي وصفه وفي كلّ يوم |
|
منه في المكرمات معنى جديد |
وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان بن سراج : [الطويل]
وكم من حديث للنبيّ أبانه |
|
وألبسه من حسن منطقه وشيا |
وكم مصعب للنحو قد راض صعبه |
|
فعاد ذلولا بعد ما كان قد أعيا (٤) |
وقال عبيد الله بن محمد المهدي ، وهو من حسنات بني مروان ، ويعرف بالأقرع : [الطويل]
أقول لآمالي ستبلغ إن بدا |
|
محيّا ابن عطّاف ونعم المؤمّل |
فقالت دعاني كلّ يوم تعلّل |
|
فقلت لها إن لاح يفنى التعلّل |
لئن كان مني كلّ حين ترحّل |
|
فإني إن أحلل به لست أرحل |
فتى ترد الآمال في بحر جوده |
|
وليس على نعمى سواه المعوّل |
وقال هذه في الوزير ابن عطّاف ، فضنّ عليه حتى برجع الجواب (٥) ، فكتب إليه بقصيدة منها : [الرمل]
أيها الممكن من قدرته |
|
لا يراك الله إلّا محسنا |
__________________
(١) انظر ترجمته في الجذوة ص ١١٦.
(٢) النشر : طيب الرائحة. والعود : البخور.
(٣) عودي : فعل ماضي مبني للمجهول من الفعل عادى.
(٤) أعياه : أعجزه.
(٥) في ج ، ه : «يرجع الجواب» والأفضل ما أثبتناه. ورجع الجواب : ردّه.
إنما المرء بما قدّمه |
|
فتخيّر بين ذمّ وثنا |
لا تكن بالدهر ، غرا وإذا |
|
كنت فانظر فعله في ملكنا |
كلّ ما خوّلت منه ذاهب |
|
إنما تصحب منه الكفنا (١) |
مدّ كفا نحو كفّ طالما |
|
أمطرت منه السحاب الهتنا (٢) |
أو أرحني بجواب مؤيس |
|
فمطال البرّ من شرّ العنا |
فلم يعطه شيئا ، وكان له كاتب فتحيّل في خمسين درهما فأعطاها له ، فلما سمع الوزير بذلك طرده ، وقال له : من أنت حتى تحمّل نفسك هذا وتعطيه؟ قال : فو الله ما لبث إلّا قليلا حتى مات الوزير ، وتزوّج الكاتب بزوجته ، وسكن في داره ، وتخوّل في نعمته ، فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره : [الطويل]
أيا دار ، قولي أين ساكنك الذي |
|
أبى لؤمه أن يترك الشّكر خالدا |
تسمّى وزيرا والوزارة سبّة |
|
لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا |
وولّى ولكن ليس يبرح ذمّه |
|
فها هو قد أرضى عدوّا وناقدا |
وأضحى وكيل كان يأنف فعله |
|
نزيلك في الحوض الممنّع واردا |
جزاء بإحسان لذا وإساءة |
|
لذاك ، وساع ورّث الحمد قاعدا |
والمثل السائر في هذا «ربّ ساع لقاعد».
وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر ، وكان في غاية الجمال ، ويلقّب بالغزال : [الكامل]
قدم الربيع عليك بعد مغيب |
|
فتلقّه بسلافة وحبيب (٣) |
فصل جديد فلتجدّد حالة |
|
يأتي الزمان بها على المرغوب |
الجوّ طلق فالقه بطلاقة |
|
وإذا تقطّب فالقه بقطوب (٤) |
لله أيام ظفرت بها ومن |
|
أهواه منقاد بغير رقيب |
__________________
(١) في ب : «والذي تصحب منه الكفنا».
(٢) السحاب الهتن : السحاب الممطر المنسكب.
(٣) السّلافة : بضم السين ـ الخمر.
(٤) القطوب : العبوس.
وله : [الكامل]
لي في كفالات الرماح لو أنها |
|
وفّت ضمان يبلغ الآمالا (١) |
وكّلت دهري في اقتضاء ضمانها |
|
ضنّا به أن لا يحول فحالا (٢) |
وكان مولعا بالفكاهة والنادر ، محبّا للظرفاء (٣) ، وكان يلتزم خدمته المضحك المشهور بالزرافة ، ويحضر معه ، ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسّموا اثنين اثنين ، كل شخص ورفيقه ، فقال سليمان : ومن يكون رفيقي؟ فقال له المضحك : يا مولاي ، وهل يكون رفيق الغزال إلّا الزرافة؟ فضحك منه على عادته.
ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره ، وقد أطلّ عذاره ، فقال له : ما تطلب الزرافة؟ فقال : ترعى الحشيش ، وأشار إلى عذاره ، فقال له : اعزب لعنك الله!
ومرّ سليمان به يوما وهو سكران ، وقد أوقف ذكره وجعل يقول له : ما ذا رأيت في القيام في هذا الزمان؟ أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل؟ والله إنك سيىء الرأي! فقال له سليمان : وبم لقبت هذا الثائر؟ فقال : يا مولاي ، بصفته القائم ، فقال : ويحتاج إلى خاتم؟ فقال : نعم ، ويكون خاتم سليمان ، فقال له : أخزاك الله! إنّ الكلام معك لفضيحة.
وقال سعيد بن محمد المرواني (٤) ، وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدّة لكلام بلغه عنه ، فدخل والمجلس غاصّ (٥) ، وأنشد : [السريع]
مولاي مولاي ، أما آن أن |
|
تريحني بالله من هجركا |
وكيف بالهجر وأنّى به |
|
ولم أزل أسبح في بحركا (٦) |
فضحك ابن أبي عامر على ما كان يظهره من الوقار ، وقام وعانقه ، وعفا عنه ، وخلع عليه (٧).
__________________
(١) يريد : لي ضمان يبلغ الآمال في كفالات الرماح لو أنها وفت.
(٢) حال : تحول من حال إلى أخرى.
(٣) في ب ، ه : «محبا في الظرفاء».
(٤) انظر المغرب ج ١ ص ١٩٢.
(٥) والمجلس غاص : أين ممتلئ بالناس.
(٦) وأنى به : ومن أي لي به.
(٧) كان سبب ضحك ابن أبي عامر لأن سعيدا كان يلقب «البلينة» أي الحوت ، فلما قال : «ولم أزل أسبح» ، ضحك.
وله : [الكامل]
والبدر في جوّ السماء قد انطوى |
|
طرفاه حتى عاد مثل الزّورق |
فتراه من تحت المحاق كأنما |
|
غرق الكثير وبعضه لم يغرق |
وهو مأخوذ من قول ابن المعتز : [الكامل]
وانظر إليه كزورق من فضّة |
|
قد أثقلته حمولة من عنبر |
وقال قاسم بن محمد المرواني (١) يستعطف المنصور بن أبي عامر ، وقد سجنه لقول صدر عنه : [الكامل]
ناشدتك الله العظيم وحقّه |
|
في عبدك المتوسّل المتحرّم |
بوسائل المدح المعاد نشيدها |
|
في كلّ مجمع موكب أو موسم |
لا تستبح مني حمى أرعاكه |
|
يا من يرى في الله أحمى محتمي |
وقال الأصم المرواني (٢) يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضا بائية أبي تمام : [البسيط]
السيف أصدق أنباء من الكتب
بقصيدة طويلة منها : [البسيط]
ما للعدا جنّة أوقى من الهرب |
|
أين المفرّ وخيل الله في الطلب (٣) |
وأين يذهب من في رأس شاهقة |
|
إذا رمته سماء الله بالشّهب |
ومنها :
وطود طارق قد حلّ الإمام به |
|
كالطّور كان لموسى أيمن الرّتب |
لو يعرف الطّود ما غشّاه من كرم |
|
لم يبسط النور فيه الكفّ للسّحب |
ولو تيقّن بأسا حلّ ذروته |
|
لصار كالعين من خوف ومن رهب |
منه يعاود هذا الفتح ثانية |
|
أضعاف ما حدّثوا في سالف الحقب |
ويلبس الدين غضا ثوب عزّته |
|
كأنّ أيام بدر عنه لم تغب |
__________________
(١) انظر الجذوة ص ٣١٠.
(٢) انظر زاد المسافر ص ٨٤.
(٣) الجنة ـ بضم الجيم ـ الوقاية ، السلاح الواقي ، الترس.
وقال في نارنجة : [البسيط]
وبنت أيك دنا من لثمها قزح |
|
فصار منه على أرجائها أثر (١) |
يبدو لعينيك منها منظر عجب |
|
زبرجد ونضار صاغه المطر (٢) |
كأنّ موسى نبيّ الله أقبسه |
|
نارا وجرّ عليها كفّه الخضر |
وقال : [السريع]
وشادن قلت له صف لنا |
|
بستاننا هذا ونارنجنا |
فقال لي بستانكم جنّة |
|
ومن جنى النارنج نارا جنى |
وقال في زلباني (٣) : [الكامل]
لله سفّاح بدا لي مسحرا |
|
فأفاد علم الكيميا بيمينه (٤) |
ذهّبت فضّة خدّه بلواحظي |
|
وكذاك تفعل ناره بعجينه |
وقال ، وقد نزل في فندق لا يليق بمثله : [مخلع البسيط]
يا هذه لا تفنّديني |
|
أن صرت في منزل هجين (٥) |
فليس قبح المحلّ ممّا |
|
يقدح في منصبي وديني (٦) |
فالشمس علويّة ولكن |
|
تغرب في حمأة وطين (٧) |
وقال أحمد المرواني : [الوافر]
حلفت بمن رمى فأصاب قلبي |
|
وقلّبه على جمر الصدود |
لقد أودى تذكّره بقلبي |
|
ولست أشكّ أنّ النفس تودي (٨) |
فقيد وهو موجود بقلبي |
|
فواعجبا لموجود فقيد (٩) |
__________________
(١) في ه : «فصار منها على أرجائها أثر».
(٢) الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرد.
والنضار : الذهب.
(٣) الزلباني : أراد : قالي الزلابية.
(٤) في ه : «فأفاد من علم الكيمياء بحسنه». ولا تتم قافيته مع البيت الثاني.
(٥) لا تفنديني : لا تخطئي رأيي.
(٦) يقدح في منصبي : يعيب فيه.
(٧) الحمأة : قطعة من الحمأ ، وهو الطين الأسود المنتن.
(٨) في ب ، ه : «لقد أودى تذكره بجسمي».
(٩) في ب ، ه : «بموجود فقيد».
وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه : [الطويل]
نأى من به كان السرور مواصلا |
|
وأسلم قلبي للصّبابة والفكر |
ومنها :
لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت |
|
وجوههم عني ولا فسحة العمر |
وقال سليمان بن عبد الملك الأموي : [الوافر]
وذي جدل أطال القول منه |
|
بلا معنى وقد خفي الصواب |
فقلت أجيبه فازداد ردا |
|
فقلت له قد ازدحم الجواب |
ولم أر غير صمتي من مريح |
|
إذا ما لم يفد فيه الخطاب |
وقال أبو يزيد بن العاصي : [الخفيف]
عابه الحاسد الذي لام فيه |
|
أن رأى فوق خدّه جدريّا |
إنما وجهه هلال تمام |
|
جعلوا برقعا عليه الثّريّا |
وله : [الطويل]
إذا شئت أن يصفو صديقك فاطّرح |
|
نزاع الذي يبديه في الهزل والجدّ |
وإن كنت من أخلاقه في جهنّم |
|
فأنزله من مثواك في جنّة الخلد |
إلى أن يتيح الله من لطف صنعه |
|
فراقا جميلا فاجعل العذر في البعد |
وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله تعالى!.
ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة ، فنقول :
أمر أبو الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره (١) : [السريع]
قالت لي النّفس أتاك الرّدى |
|
وأنت في بحر الخطايا مقيم |
هلا ادّخرت الزاد قلت اقصري |
|
لا يحمل الزاد لدار الكريم |
وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع.
__________________
(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٥٤.