الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
وقد استشرتك في الحديث فهل ترى |
|
أن يدخل الغربان وكر الهيثم (١) |
وله (٢) : [البسيط]
يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة |
|
باب الغنيّ ، كذا حكم المقادير |
وإنما الناس أمثال الفراش فهم |
|
بحيث تبدو مصابيح الدنانير |
وله : [البسيط]
عندي لفقدك أوجال أبيت بها |
|
كأنني واضع كفّي على قبس |
ولا ملامة إن لم أهد نيّره |
|
حتى تمدّ إليها كفّ مقتبس |
قد كنت أودع سرّ الشوق في طرس |
|
لكنني خفت أن يعدو على الطّرس |
وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه : [الكامل]
قف بالكثيب لغيرك التأنيب |
|
إنّ الكثيب هوى لنا محبوب (٣) |
يا راحلين لنا عليكم وقفة |
|
ولكم علينا دمعنا المسكوب |
تخلى الديار من المحبّة والهوى |
|
أبدا وتعمر أضلع وقلوب |
وقال ارتجالا في وصف فرس أصفر : [الوافر]
أطرف فات طرفي أم شهاب |
|
هفا كالبرق ضرّمه التهاب |
أعار الصبح صفحته نقابا |
|
ففرّ به وصحّ له النقاب |
فمهما حثّ خال الصبح وافى |
|
ليطلب ما استعار فما يصاب |
إذا ما انقضّ كلّ النجم عنه |
|
وضلّت عن مسالكه السحاب |
فيا عجبا له فضل الدراري |
|
فكيف أذال أربعه التراب (٤) |
سل الأرواح عن أقصى مداه |
|
فعند الريح قد يلفى الجواب (٥) |
وقال أبو عمر الطلمنكي : دخلت مرسية ، فتشبّث بي أهلها يسمعون (٦) عليّ الغريب
__________________
(١) الهيثم : الصقر ، وفرخ النسر ، وفرخ العقاب. وجمعه هياثم.
(٢) انظر القدح ص ١٥٩.
(٣) الهوى هنا : المحبوب من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول.
(٤) أذال : امتهن.
(٥) في أ : «سل الأرواح عن أدنى مداه».
(٦) في ب ، ه : «يسمعوا».
المصنّف ، فقلت : انظروا من يقرأ لكم ، وأمسكت أنا كتابي ، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده ، فقرأه عليّ من أوّله إلى آخره ، فعجبت من حفظه ، وكان أعمى ابن أعمى.
وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده ، وهو صاحب كتاب «المحكم».
ومن نظمه ممّا كتب به إلى ابن الموفّق : [الطويل]
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى |
|
سبيل فإنّ الأمن في ذاك واليمنا |
ومنها :
ضحيت فهل في برد ظلّك نومة |
|
لذي كبد حرّى وذي مقلة وسنى |
وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، وعمره نحو الستين ، رحمه الله تعالى!
ومن حكاياتهم في حبّ العلم أنّ المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبّار كثير الأدب ، جمّ المعرفة ، محبّا لأهل العلم ، جمّاعة للكتب ، ذا خزانة عظيمة ، لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة ، قاله ابن حيان.
وقال ابن بسام (١) : كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع ، وله التصنيف الرائق ، والتأليف الفائق ، المترجم ب «التذكرة» والمشتهر أيضا اسمه بالكتاب المظفّري ، في خمسين مجلّدا ، يشتمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وخبر وجميع ما يختصّ به علم الأدب ، أبقاه للناس خالدا ، وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة.
وكان يحضر العلماء للمذاكرة ، فيفيد ويستفيد ، رحمه الله تعالى!
ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب «السماء والعالم» الذي ألّفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة ، وهو مائة مجلّد ، رأيت بعضه بفاس ، وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ، رحمه الله تعالى!.
ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم (٢) ، وأجوبة بديهية مسكتة ، والظّرف فيهم والأدب كالغريزة ، حتى في صبيانهم ويهودهم ، فضلا عن علمائهم وأكابرهم.
__________________
(١) انظر الذخيرة ج ٢ ص ٢٥٥.
(٢) في ه : «مجاورتهم» بالجيم ، محرفا.
ولنذكر جملة من ذكر الجلّة فنقول :
حكي عن عالم ألمريّة القاضي أبي الحسن مختار الرعيني ، وكان فيه حلاوة ولوذعية (١) ووقار وسكون ، أنه استدعاه يوما زهير ملك المريّة من مجلس حكمه ، فجاءه يمشي مشية قاض قليلا قليلا ، فاستعجله رسول زهير ، فلم يعجل ، فلمّا دخل عليه قال له : يا فقيه ، ما هذا البطء؟ فتأخّر إلى باب المجلس ، وطلب عصا ، وشمّر ثيابه ، فقال له زهير : ما هذا؟ قال : هذا يليق باستعجال الحاجب لي ، فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولّاني الشرطة ، فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله.
وهذا القاضي هو القائل ـ وقد دخل حمّاما فجلس بإزائه عاميّ أساء الأدب عليه ـ : [الطويل]
ألا لعن الحمّام دارا فإنه |
|
سواء به ذو العلم والجهل في القدر |
تضيع به الآداب حتى كأنها |
|
مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر |
وروي أنّ المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه ـ وكانت فيه فطنة ولوذعيّة ـ أبطأ خروجه يوما إلى تلامذته ، فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت ، وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان ، وكان ابن الفراء كثير الميل إليه ، فلمّا خرج قال له : يا أستاذ ، عملت نصف بيت ، وأريد أن تتمّه ، فقال : ما هو؟ فقال : [المتقارب]
ألا بأبي شادن أوطف (٢)
فقال الأستاذ ابن الفراء بديها : [المتقارب]
إذا كان وردك لا يقطف |
|
وثغر ثناياك لا يرشف |
فأيّ اضطرار بنا أن نقول : |
|
ألا بأبي شادن أوطف |
وهذا ابن الفراء هو القائل (٣) : [مجزوء الخفيف]
قيل لي : قد تبدّلا |
|
فاسل عنه كما سلا |
لك سمع وناظر |
|
وفؤاد فقلت : لا |
__________________
(١) لوذعية : ذكاء متوقد.
(٢) الأوطف : الكثير شعر الحاجبين والعينين ، مؤنثه وطفاء ، وجمعه وطف.
(٣) انظر زاد المسافر ص ١٠٠.
قيل : غال وصاله |
|
قلت : لمّا غلا حلا |
أيّها العاذل الذي |
|
بعذابي توكّلا |
عد صحيحا مسلّما |
|
لا تعيّر فتبتلى |
وتذكّرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه ، «روضة التعريف ، بالحب الشريف» (١) :
[مجزوء الخفيف]
قلت للساخر الذي |
|
رفع الأنف فاعتلى (٢) |
أنت لم تأمن الهوى |
|
لا تعيّر فتبتلى |
ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله : [المتقارب]
شكوت إليه بفرط الدّنف |
|
فأنكر من قصّتي ما عرف (٣) |
وقال الشهود على المدّعي |
|
وأمّا أنا فعليّ الحلف |
فجئنا إلى الحاكم الألمعيّ |
|
قاضي المجون وشيخ الطّرف |
وكان بصيرا بشرع الهوى |
|
ويعلم من أين أكل الكتف |
فقلت : له إقض ما بيننا |
|
فقال الشهود على ما تصف |
فقلت له شهدت أدمعي |
|
فقال إذا شهدت تنتصف |
ففاضت دموعي من حينها |
|
كفيض السحاب إذا ما يكف (٤) |
فحرّك رأسا إلينا وقال |
|
دعوا يا مهاتيك هذا الصلف |
كذا تقتلون مشاهيرنا |
|
إذا مات هذا فأين الخلف |
وأوما إلى الورد أن يجتنى |
|
وأوما إلى الرّيق أن يرتشف |
فلمّا رآه حبيبي معي |
|
ولم يختلف بيننا مختلف |
أزال العناد فعانقته |
|
كأني لام وحبّي ألف |
فظلت أعاتبه في الجفا |
|
فقال عفا الله عمّا سلف |
وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية ـ وكان أعرج ـ أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية ، فصادف (٥) جماعة في مركب ، وكان ذلك بقرب الأضحى ، فقال بعضهم له : بكم هذا
__________________
(١) في أ : «روضة التعريف ، بالحسب الشريف».
(٢) في ب ، ه : «واعتلى».
(٣) الدنف : المرض الشديد.
(٤) وكف يكف : سال.
(٥) في ه : «فصادفه جماعة».
الخروف؟ وأشار إلى ولده ، فقال له الزهري : ما هو للبيع ، فقال : بكم هذا التيس (١)؟ وأشار إلى الشيخ الزهري ، فرفع رجله العرجاء وقال : هو معيب لا يجزئ في الضحيّة ، فضحك كل من حضر ، وعجبوا من لطف خلقه.
وركب مرّة هذا النهر مع الباجي يوم خميس ، فلمّا أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة ، والباجي حاضر قدّامه ، فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محلّ الحدث ، وأخرج لسانه ، فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة ، يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد ، رحمه الله تعالى!
ومرّ العالم أبو القاسم بن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنّة لأحد الأعيان فيها ورد ، فوقف بالباب وكتب إليه : [الخفيف]
شاعر قد أتاك يبغي أباه |
|
عند ما اشتاق حسنه وشذاه (٢) |
وهو بالباب مصغيا لجواب |
|
يرتضيه النّدى فماذا تراه (٣) |
فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد ، فبادر من جنّته إليه ، وأقسم في النزول عليه ، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه.
وحكي أن أبا الحسين (٤) سليمان بن الطراوة نحويّ المرية حضر مع ندماء ، وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه ، فلمّا بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب ، وأبدى القطوب ، فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه ، ويا بردها على كل كبده ، ثم قال بديها : [السريع]
يشربها الشيخ وأمثاله |
|
وكلّ من تحمد أفعاله |
والبكر إن لم يستطع صولة |
|
تلقى على البازل أثقاله (٥) |
ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام والكأس (٦) في يده فقال : [الوافر]
__________________
(١) في ه : «فبكم هذا التيس».
(٢) في ب ، ه : «شاعر قد عراك يبغي أباه».
(٣) في ج : «يرتضي بالندى» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ه.
(٤) في أ، ج «أبا الحسن».
(٥) في ه : «والبكر إن لم يستطع رحله» والبكر ، بفتح الباء سكون الكاف : الفتي من الجمال. والبازل : الذي طلعت نابه من الإبل.
ويشير الشاعر في هذا البيت إلى قول الشاعر :
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن |
|
لم يستطع صولة البزل القناعيس |
(٦) في ب ، ه : «بكأس في يده».
ألا بأبي وغير أبي غزال |
|
أتى وبراحه للشرب راح |
|
||
فقال منادمي في الحسن صفه |
|
فقلت الشمس جاء بها الصباح |
وقال فيمن جاء بالراح : [الطويل]
ولمّا رأيت الصبح لاح بخدّه |
|
دعوتهم رفقا تلح لكم الشمس |
وأطلعها مثل الغزالة وهو كال |
|
غزال فتمّ الطيب واكتمل الأنس |
وقال ، وقد شرب ليلة في القمر (١) : [الطويل]
شربنا بمصباح السماء مدامة |
|
بشاطي غدير والأزاهر تنفح (٢) |
وظلّ جهول يرقب الصبح ضلّة |
|
ومن أكؤس لم يبرح الليل يصبح (٣) |
وكان (٤) عبد الله بن الحاج المعروف بمدغلّيس صاحب الموشّحات يشرب مع ندماء ظراف في جنّة بهجة ، فجاءتهم ورقة من ثقيل يرغب في الإذن ، وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس : [مجزوء الرمل]
سيّدي هذا مكان |
|
لا يرى فيه بلحيه |
غير تيس مصفعانيّ |
|
له بالصّفع كديه |
أوله ابن شافع في |
|
ه فيلقى بالتّحيّه (٥) |
أيها القابل أقبل |
|
سائقا تلك المطيّه (٦) |
وكان مدغلّيس هذا مشهورا بالانطباع والصنعة في الأزجال ، خليفة ابن قزمان في زمانه ، وكان أهل الأندلس يقولون : ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء ، ومدغلّيس بمنزلة أبي تمام ، بالنظر إلى الانطباع والصناعة ، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى ، ومدغلّيس ملتفت للفظ ، وكان أديبا معربا لكلامه مثل ابن قزمان ، ولكنه لمّا رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه.
ومن شعره قوله : [المجتث]
ما ضرّكم لو كتبتم |
|
حرفا ولو باليسار |
__________________
(١) في ب : «وقد شرب ليلة القمر».
(٢) تنفح : تنشر العطر.
(٣) في ب ، ه : «ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح».
(٤) في ب ، ه : «وكان أبو عبد الله بن الحاج».
(٥) في ب ، ه : «أيها القابل بادر».
(٦) في ب ، ه : «أيها القابل بادر».
إذ أنتم نور عيني |
|
ومطلبي واختياري |
وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله (١) محمد بن عبد الله بن الفراء ـ المذكور قبل هذا بقريب ـ الضرير ، في صبيّ كان يقرأ عليه النحو ، اسمه حسن ، وهو غاية الجمال ـ بعد أن سأله : كيف تقول إذا تعجّبت من حسنك؟ فقال أقول : ما أحسني ـ [السريع]
يا حسنا ما لك لم تحسن |
|
إلى نفوس بالهوى متعبه |
رقمت بالورد وبالسوسن |
|
صفحة خدّ بالسنا مذهبه |
وقد أبى صدغك أن أجتني |
|
منه وقد ألدغني عقربه |
يا حسنه إذ قال ما أحسني |
|
ويا لذاك اللفظ ما أعذبه |
ففوّق السهم ولم يخطني |
|
وإذ رآني ميّتا أعجبه |
وقال كم عاش وكم حبّني |
|
وحبّه إياي قد عذّبه |
يرحمه الله على أنني |
|
قتلي له لم أدر ما أوجبه |
وقد كان (٢) ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة ، ذكره ابن غالب في «فرحة الأنفس ، في فضلاء العصر من الأندلس» وكان شاعرا مجيدا ، يعلّم بألمرية القرآن والنحو واللغة ، وكانت فيه فطنة ولوذعية ، وذكاء وألمعيّة ، خرق بها العوائد.
وحكي أنّ قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس ، واختبره في ذلك بحكاية طويلة.
وذكره صفوان في «زاد المسافر» ووصفه بالخطيب.
وجدّه القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد ، ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في «المغرب» ، ولمّا كتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى أهل ألمرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه [ما صورته :](٣) فما ذكره أمير المسلمين من افتضاء المعونة وتأخّري عن ذلك ، وأنّ الباجي ، وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأنّ عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه ، اقتضاها ، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضجيعه في قبره ، ولا يشكّ في عدله ، فليس أمير المسلمين بصاحب
__________________
(١) زيادة في ب ، ه.
(٢) في ب ، ه : «وهذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة».
(٣) ما بين حاصرتين ساقط من ب.
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بضجيعه في قبره ، ولا من لا يشكّ في عدله ، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل ، فالله تعالى سائلهم عن تقلّدهم فيك ، وما اقتضاها عمر ، رضي الله تعالى عنه ، حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم ، فلتدخل (١) المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين ، وحينئذ تستوجب ذلك ، والسلام ، انتهى.
وأمّا ابن الفراء الأخفش بن ميمون (٢) الذي ذكره الحجاري في «المسهب» فليس هو من هؤلاء ، بل هو من حصن القبداق (٣) من أعمال قلعة بني سعيد ، وتأدّب في قرطبة ، ثم عاد إلى حضرة غرناطة ، واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي ، وهو القائل : [البسيط]
صابح محيّاه تلق النّجح في الأمل |
|
وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل |
ما إن يلاقي خليل فيه من خلل |
|
وكلّما حال صرف الدهر لم يحل |
وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة ، ومن هجاء المنفتل (٤) له قوله : [مجزوء الرمل]
لابن ميمون قريض |
|
زمهرير البرد فيه |
فإذا ما قال شعرا |
|
نفقت سوق أبيه |
ولمّا وفد على المرية مدح رفيع الدولة بن المعتصم بن صمادح بشعر ، فقال له بعض من أراد ضرّه : يا سيدي ، لا تقرب هذا اللعين ، فإنه قال في اليهودي : [الطويل]
ولكنّ عندي للوفاء شريعة |
|
تركت بها الإسلام يبكي على الكفر |
فقال رفيع الدولة : هذا والله هو الحرّ الذي ينبغي أن يصطنع ، فلو لا وفاؤه ما بكى كافرا بعد موته ، وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلما في حياته. فقال فيه المنفتل (٥) : [المجتث]
إن كنت أخفش عين |
|
فإنّ قلبك أعمى |
فكيف تنثر نثرا |
|
وكيف تنظم نظما |
ومن شعر الأخفش المذكور قوله : [الطويل]
__________________
(١) في ب : «فتدخل المسجد».
(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ١٨٢.
(٣) في ب : «القبداق».
(٤) في ه : «ومن هجائه المنفتل له» وليس بشيء.
(٥) انظر المغرب ج ٢ ص ١٨٤.
إذا زرتكم غبّا فلم ألق بالبرّ |
|
وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذّكر |
فإني إذن أولى الورى بفراقكم |
|
ولا سيّما بعد التجلّد والصّبر |
ولمّا وفد على المنصور بن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغسّاني البجالي (١) اتّهم برهق في دينه ، فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي ، والطليق غلام وسيم ، وكان ابن مسعود كلفا به يومئذ وفيه يقول : [البسيط]
غدوت في السجن خدنا لابن يعقوب |
|
وكنت أحسب هذا في التكاذيب |
رامت عداتي تعذيبي وما شعرت |
|
أنّ الذي فعلوه ضدّ تعذيبي |
راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها |
|
فكان ذلك إدنائي وتقريبي |
لم يعلموا أنّ سجني لا أبا لهم |
|
قد كان غاية مأمولي ومرغوبي |
وسجن ابن مسعود (٢) والطليق قبله ، ووقع بينه وبين الطليق ، وعاد المدح هجاء ، فقال فيه : [السريع]
ولي جليس قربه منّي |
|
بعد الأماني كذبا عنّي |
قد قذيت من لحظه مقلتي |
|
وقرّحت من لفظه أذني |
هوّن لي في السجن من قربه |
|
أشدّ في السجن من السجن (٣) |
لو أنّ خلقا كان ضدّا له |
|
زاد على يوسف في الحسن |
إذا ارتمى فكري في وجهه |
|
سلّط إبطيه على ذهني |
كأنما يجلس من ذا وذا |
|
بين كنيفين من النّتن |
وقال يخاطب المنصور من السجن : [السريع]
دعوت لمّا عيل صبري فهل |
|
يسمع دعواي المليك الحليم |
مولاي مولاي ، ألا عطفة |
|
تذهب عني بالعذاب الأليم |
إن كنت أضمرت الذي زخرفوا |
|
عنّي فدعني للقدير الرحيم |
فعنده نزّاعة للشّوى |
|
وعنده الفردوس ذات النعيم |
__________________
(١) انظر الجذوة ص ٨٦.
(٢) في ب ، ه : «وانطلق ابن مسعود والطليق قبله».
(٣) في ب ، ه : «راهنني في السجن من قربه».
وركب بعض أهل المريّة في وادي إشبيلية ، فمرّ على طاقة من طاقات شنتبوس ، وهو يغنّي:
خلين من واد ومن قوارب |
|
ومن نزاها في شنتبوس (١) |
غرس الحبق الذي في داري |
|
أحبّ عندي من العروس (٢) |
فأخرجت رأسها جارية وقالت له : من أي بلد أنت يا من غنّى؟ فقال : من ألمرية ، فقالت : وما أعجبك في بلدك حتى تفضّله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفا أحرش؟ وهذا من أحسن تعييب ، وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية ، فإنّ وجهها النهر العذب ، وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب ، لا تقع العين إلّا على خضرة في أيام الفرج ، وأين إشبيلية من المرية. وفي ألمرية يقول السميسر شاعرها : [الخفيف]
بئس دار المرية اليوم دارا |
|
ليس فيها لساكن ما يحبّ |
بلدة لا تمار إلّا بريح |
|
ربّما قد تهبّ أو لا تهبّ |
يشير إلى أنّ مرافقها مجلوبة ، وأن الميرة تأتيها في البحر من برّ العدوة ، وفيها يقول أيضأ :[المجتث]
قالوا المرية فيها |
|
نظافة قلت إيه |
كأنها طست تبر |
|
ويبصق الدم فيه |
وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي (٣) ، أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخ ضخم الجثّة مستثقل ، فقال البياسي (٤) : [مجزوء الخفيف]
اسقني الكأس صاحيه |
|
ودع الشيخ ـ ناحيه (٥) |
فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي : [مجزوء الخفيف]
إن تكن ساقيا له |
|
ليس ترويه ساقيه |
وحكي أنّ العالي إدريس الحمودي لمّا عاد إلى ملكه بمالقة وبّخ قاضيها الفقيه أبا
__________________
(١) في ب ، ه : «خلين من واد».
(٢) في أ، ج ، ه «الفردوس» والتصويب من ب. والعروس أحد متنزهات إشبيلية.
(٣) في ه : «وحضر مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي».
(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٤٢٧.
(٥) في ب ، ه : «اسقني الكأس ضاحيه».
علي بن حسّون ، وقال له : كيف بايعت عدويّ من بعدي وصحبته؟ فقال : وكيف تركت أنت ملكك لعدوّك؟ فقال : ضرورة القدرة حملتني على ذلك ، فقال : وأنا أيضا حصلت في يد من لا يسعني (١) إلّا طاعته.
ومن نظم القاضي المذكور : [السريع]
رفعت من دهري إلى جائر |
|
ويبتغي العدل بأحكامي |
أضحت به أملاكه مثل أش |
|
كال خيال طوع أيامي |
هذا لما أبرم ذا ناقض |
|
كأنّهم في حكم أحلام |
وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي قاضي مالقة جرى ـ كما قال الحجاري ـ في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح ، إلى أن دعاه النذير ، فاهتدى منه بسراج منير ، وأحلّته تلك الرجعة ، فيما شاء من الرفعة.
وقال بعض معاشريه : كنت أماشيه زمن الشباب ، فكلّما مررنا على امرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير فيه (٢) الألباب ، أمال إليها طرفه ، ولم ينح عنها صرفه ، ثم سايرته بعد لمّا رجع عن ذلك واقتصر ، فرأيته يغضّ البصر ، ويخلي الطريق معرضا إلى ناحية ، متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية (٣) ، فقلت له في ذلك ، فقال : [الخفيف]
ذاك وقت قضيت فيه غرامي |
|
من شبابي في سترة الإظلام |
ثم لمّا بدا الصباح لعيني |
|
من مشيبي ودّعته بسلام |
ومن شعره في صباه : [البسيط]
لا ترتجوا رجعتي باللوم عن غرض |
|
ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس |
طلبتم ردّ قلبي عن صبابته |
|
ومن يردّ عنان الجامح الشرس |
ولمّا أقصر باطله ، وعرّيت أفراس الصبا ورواحله (٤) ، قال : [الطويل]
__________________
(١) في ه : «في يد لا تسعني».
(٢) في ب ، ه : «إلى أن تحير الألباب».
(٣) في ج : «ولو حكمت الشمس ضاحية».
(٤) أخذ هذا من قول زهير بن أبي سلمة المزني في مطلع قصيدة :
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله |
|
وعرّي أفراس الصبا ورواحله |
ولمّا بدا شيبي عففت عن الهوى |
|
كما يهتدي حلف السّرى بنجوم (١) |
وفارقت أشياع الصبابة والطّلا |
|
وملت إلى أهلي علا وعلوم (٢) |
ولمّا تألّب بنو حسّون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله بن الفخار ، وطلع في حقّه إلى حضرة الإمامة مراكش ، وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين ، وهو قد غصّ بأربابه ، وقال : إنه لمقام كريم ، نبدأ فيه بحمد الله على الدنوّ منه ، ونصلّي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم ، أمّا بعد ، فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمؤمنين أميرا (٣) ، وجعلك للدين الحنيفي نصيرا وظهيرا ، ونفزع إليك ممّا دهمنا في حماك ، ونبثّ إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظلّ علاك ، ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين ، ويصاب بضيم من ادّرع بحصنه الحصين ، شكوى قمت بها بين يديك في حقّ أمرك الذي عضده مؤيّده ، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده ، وإنّ قاضيك ابن الوحيدي الذي قدّمته في مالقة للأحكام ، ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام ، لم يزل يدلّ على حسن اختيارك بحسن سيرته ، ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته ، ما علمنا عليه من سوء ، ولا درينا له موقف خزي ، ولم يزل جاريا على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرّضت بنو حسّون إلى الطعم في أحكامه ، والهدّ من أعلامه ، ولم يعلموا أنّ اهتضام المقدّم ، راجع على المقدّم ، بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصمّوا ، وفعلوا وأمضوا ما به همّوأ : [الخفيف]
وإلى السّحب يرفع الكفّ من قد |
|
جفّ عنه مسيل عين ونهر |
فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه.
ومن شعر ابن الفخار المذكور ، ويعرف بابن نصف الربض ، قوله : [الطويل]
أمستنكر شيب المفارق في الصّبا |
|
وهل ينكر النّور المفتّح في الغصن (٤) |
أظنّ طلاب المجد شيّب مفرقي |
|
وإن كنت في إحدى وعشرين من سنّي |
وقوله : [المتقارب]
__________________
(١) في ب ، ه : «ولما بدا شيبي عطفت على الهدى». والسري : السير ليلا.
(٢) الصبابة : رقة الحب. والطلا : الهوى.
(٣) في ب ، ه : «للمسلمين أميرا».
(٤) النّور : نوع من الزهر الأبيض.
أقلّ عتابك إنّ الكريم |
|
يجازي على حبّه بالقلى (١) |
وخلّ اجتنابك إنّ الزمان |
|
يمرّ بتكديره ما حلا |
وواصل أخاك بعلّاته |
|
فقد يلبس الثوب بعد البلى |
وقلّ كالذي قاله شاعر |
|
نبيل وحقّك أن تنبلا |
إذا ما خليل أسا مرّة |
|
وقد كان فيما مضى مجملا (٢) |
ذكرت المقدّم من فعله |
|
فلم يفسد الآخر الأوّلا |
ولمّا وفد أبو الفضل بن شرف (٣) من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته القافية (٤) : [الرمل]
مطل الليل بوعد الفلق |
|
وتشكّى النجم طول الأرق |
ضربت ريح الصّبا مسك الدّجى |
|
فاستفاد الروض طيب العبق |
وألاح الفجر خدّا خجلا |
|
جال من رشح النّدى في عرق |
جاوز الليل إلى أنجمه |
|
فتساقطن سقوط الورق |
واستفاض الصبح فيه فيضة |
|
أيقن النجم لها بالغرق |
فانجلى ذاك السنا عن حلك |
|
وانمحى ذاك الدجى عن شفق |
بأبي بعد الكرى طيف سرى |
|
طارقا عن سكن لم يطرق |
زارني والليل ناع سدفه |
|
وهو مطلوب بباقي الرّمق |
ودموع الطّلّ تمريها الصّبا |
|
وجفون الروض غرقى الحدق (٥) |
فتأتّى في إزار ثابت |
|
وتثنّى في وشاح قلق |
وتجلّى وجهه عن شعره |
|
فتجلّى فلق عن غسق |
نهب الصبح دجى ليلته |
|
فحبا الخدّ ببعض الشفق |
سلبت عيناه حدّي سيفه |
|
وتحلّى خدّه بالرونق |
__________________
(١) القلى : البغض.
(٢) أسا : أصلها أساء ، وحذف الشاعر الهمزة لضرورة الوزن ، وهذا جائز.
(٣) في ج : «بن شرف بن برجة» محرفا.
(٤) في ب ، ه : «قصيدته الفائقة» وزاد في ب : «وهي». انظر القصيدة في الذخيرة ج ٣ ص ٢٧٧.
(٥) تمريها : تسيل ماءها.
وامتطى من طرفه ذا خبب |
|
يلثم الغبراء إن لم يعنق (١) |
أشوس الطرف علته نخوة |
|
يتهادى كالغزال الخرق |
لو تمطّى بين أسراب المها |
|
نازعته في الحشا والعنق |
حسرت دهمته عن غرّة |
|
كشفت ظلماؤها عن يقق (٢) |
لبست أعطافه ثوب الدجى |
|
وتحلّى خدّه باليقق |
وانبرى تحسبه أجفل عن |
|
لسعة أو جنّة أو أولق |
مدركا بالمهل ما لا ينتهي |
|
لاحقا بالرفق ما لم يلحق |
ذو رضا مستتر في غضب |
|
ذو وقار منطو في خرق |
وعلى خدّ كعضب أبيض |
|
أذن مثل سنان أزرق |
كلّما نصّبها مستمعا |
|
بدت الشّهب إلى مسترق |
حاذرت منه شبا خطّيّة |
|
لا يجيد الخطّ ما لم يمشق |
كلّما شامت عذاري خدّه |
|
خفقت خفق فؤاد فرق (٣) |
في ذرا ظمآن فيه هيف |
|
لم يدعه للقضيب المورق |
يتلقّاني بكفّ مصقع |
|
يقتفي شأو عذار مفلق |
إن يدر دورة طرف يلتمح |
|
أو يجل جول لسان ينطق |
عصفت ريح على أنبوبه |
|
وجرت أكعبه في زئبق |
كلّما قلّبه باعد عن |
|
متن ملساء كمثل البرق |
جمع السّرد قوى أزرارها |
|
فتآخذن بعهد موثق |
أوجبت في الحرب من وخز القنا |
|
فتوارت حلقا في حلق |
كلّما دارت بها أبصارها |
|
صوّرت منها مثال الحدق |
زلّ عنه متن مصقول القوى |
|
يرتمي في مائها بالحرق |
لو نضا وهو عليه ثوبه |
|
لتعرّى عن شواظ محرق (٤) |
أكهب من هبوات أخضر |
|
من فرند أحمر من علق (٥) |
__________________
(١) الخبب ، والعنق : ضربان من السير.
(٢) اليقق : البياض.
(٣) في ب : «فؤاد الفرق».
(٤) الشواظ : لهب لا دخان له.
(٥) أكهب : أغبر مائل للسواد.
وارتوت صفحاه حتى خلته |
|
بحيا منّ لكفّيك سقي |
يا بني معن لقد ظلّت بكم |
|
شجر لولاكم لم تورق |
لو سقي حسّان إحسانكم |
|
ما بكى ندمانه في جلّق (١) |
أو دنا الطائيّ من حيّكم |
|
ما حدا البرق لربع الأبرق |
أبدعوا في الفضل حتى كلّفوا |
|
كاهل الأيام ما لم يطق |
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه ، وحسده بعض من حضر ، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم ، فقال له : من أي أنت؟ قال : أنا من الشرف في الدرجة العالية ، وإن كانت البادية عليّ بادية ، ولا أنكر حالي ، ولا أعرف بخالي ، فمات ابن أخت غانم خجلا ، وشمت به كلّ من حضر.
وابن شرف المذكور (٢) هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي ؛ ولد ببرجة ، وقيل : إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين ، ومن نظمه قوله : [الطويل]
رأى الحسن ما في خدّه من بدائع |
|
فأعجبه ما ضمّ منه وحرّفا |
وقال لقد ألفيت فيه نوادرا |
|
فقلت له لا بل غريبا مصنّفا (٣) |
وقوله : [مخلع البسيط]
قد وقف الشكر بي لديكم |
|
فلست أقوى على الوفاده |
ونلت أقصى المراد منكم |
|
فصرت أخشى من الزياده |
وقوله : [المتقارب]
إذا ما عدوّك يوما سما |
|
إلى رتبة لم تطق نقضها |
فقبّل ولا تأنفن كفّه |
|
إذا أنت لم تستطع عضّها |
وقوله ، وقد تقدّم به على كل شاعر : [البسيط]
__________________
(١) جلق : دمشق. وحسان : هو حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان قبل الإسلام شاعر الغساسنة في الشام.
(٢) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٣٠ ، والقلائد ص ٢٥٢.
(٣) ورّى بكتاب النوادر وكتاب الغريب المصنف.
لم يبق للجور في أيامهم أثر |
|
غير الذي في عيون الغيد من حور (١) |
وأوّل هذه القصيدة قوله :
قامت تجرّ ذيول العصب والحبر |
|
ضعيفة الخصر والميثاق والنظر (٢) |
وكان قد قصر أمداحه على المعتصم ، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات ، فوفد عليه مرّة يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها ، وأنشده الرائية التي مرّ مطلعها إلى أن بلغ قوله :
لم يبق للجور
البيت.
فقال له : كم في القرية التي تحرث فيها؟ فقال : فيها نحو خمسين بيتا ، فقال له : أنا أسوّغك جميعها لهذا البيت الواحد ، ثم وقّع له بها ، وعزل عنها نظر كلّ وال.
وله ابن فيلسوف شاعر مثله ، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل (٣) المذكور ، وهو القائل : [الخفيف]
وكريم أجارني من زمان |
|
لم يكن من خطوبه لي بدّ (٤) |
منشد كلّما أقول تناهى |
|
ما لمن يبتغي المكارم حدّ |
وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر (٥) ؛ من أعيان مالقة ، متفنّن في علوم شتّى ، إلّا أنّ الغالب عليه علم اللغة ، وكان قد رحل من مالقة إلى المرية ، فحلّ عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية ، وهو القائل في ابن شرف الطمذكور : [الكامل]
قولوا لشاعر برجة هل جاء من |
|
أرض العراق فحاز طبع البحتري |
__________________
(١) في ب : «إلّا الذي في عيون ..».
(٢) العصب : نوع من الثياب المخططة. والحبر : نوع من الثياب القطنية أو الكتانية المخططة اشتهرت باليمن.
(٣) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٣٢.
(٤) أجارني : حماني.
(٥) انظر ترجمته في المغرب ج ١ ص ٤٣٣. وبغية الوعاة في طبقات النحاة ، وهو من علماء مالقة من أهل المائة السادسة ، متفنن في علوم شتى إلا أن الأغلب عليه علم اللغة وفيه أكثر تآليفه. (انظر بغية الوعاة ج ١ ص ٢٤٧).
وافى بأشعار تضجّ بكفّه |
|
وتقول : هل أعزى لمن لم يشعر |
يا جعفرا ، ردّ القريض لأهله |
|
واترك مباراة لتلك الأبحر (١) |
لا تزعمن ما لم تكن أهلا له |
|
هذا الرّضاب لغير فيك الأبخر |
وذكره ابن اليسع في معربه وقال : إنه حدثه بداره في مالقة وهو ابن مائة سنة ، وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة ، وله تآليف منها «شرح كتاب النبات» لأبي حنيفة الدّينوري ، في ستين مجلّدا ، وغير ذلك.
وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي ، نسب إليه لشهرة ذكره ، وعلوّ قدره.
ولمّا قرأ العالم الشهير أبو محمد بن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد بن ضابط النحوي المالقي ، جرى بين يديه ذكر الشعر ، وكان قد ضجر منه ، فقال : [المجتث]
الشعر خطّة خسف
فقال ابن عبدون معرّضا به حين كان مستجديا بالشعر (٢) ، وكان إذ ذاك شيخا : [المجثت]
لكلّ طالب عرف
للشيخ عيبة عيب |
|
وللفتى ظرف ظرف |
وابن ضابط هو القائل في المظفر بن الأفطس (٣) : [الطويل]
نظمنا لك الشعر البديع لأننا |
|
علمنا بأنّ الشعر عندك ينفق |
فإن كنت منّي بامتداح مظفّرا |
|
فإني في قصدي إليك موفّق |
ودخل غانم المخزومي السابق ذكره ، وهو من رجال الذخيرة ، على الملك بن حبّوس صاحب غرناطة ، فوسّع له على ضيق كان في المجلس ، فقال : [البسيط]
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة |
|
سمّ الخياط مجال للمحبّين |
ولا تسامح بغيضا في معاشرة |
|
فقلّما تسع الدنيا بغيضين |
وهو القائل : [الطويل]
__________________
(١) القريض : الشعر.
(٢) في ب : «مستجديا بالنظم».
(٣) انظر التكملة ص ٤٠٧.
وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحا |
|
فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا |
وقد كنت في مدحيك سحبان وائل |
|
فها أنا من فرط التأسّف باقلا (١) |
وله أيضا : [السريع]
الصبر أولى بوقار الفتى |
|
من ملك يهتك ستر الوقار |
من لزم الصبر على حالة |
|
كان على أيّامه بالخيار |
وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله بن السراج ، وقد قدم من سفر(٢): [البسيط]
يا من أقلّب طرفي في محاسنه |
|
فلا أرى مثله في الناس إنسانا |
لو كنت تعلم ما لقيت بعدك ما |
|
شربت كأسا ولا استحسنت ريحانا |
فورد عليه من حينه وقال : أردت مجاوبتك ، فخفت أن أبطئ ، وصنعت الجواب في الطريق : [البسيط]
يا من إذا ما سقتني الراح راحته |
|
أهدت إليّ بها روحا وريحانا |
من لم يكن في صباح السبت يأخذها |
|
فليس عندي بحكم الظرف إنسانا |
فكن على حسن هذا اليوم مصطبحا |
|
مذاكرا حسنا فيه وإحسانا |
وفي البساتين إن ضاق المحلّ بنا |
|
مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا |
ووفد أبو علي الحسن بن كسرين المالقي (٣) الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ، فأنشده قصيدة طار مطلعها في الأقطار ، كلّ مطار ، وهو : [الكامل]
قسما بحمص إنه لعظيم |
|
فهي المقام وأنت إبراهيم |
ووصف الشاعر عطاء المالقي غادة جعلت على رأسها تاجا فقال : [السريع]
وذات تاج رصّعوا دوره |
|
فزاد في لألائها باللآل |
كأنها شمس وقد توّجت |
|
بأنجم الجوزاء فوق الهلال |
__________________
(١) سحبان وائل : مضرب المقل في الفصاحة ، وباقل ؛ مضرب المثل في العي والفهاهة.
(٢) انظر المغرب ج ١ ص ٤٣٦.
(٣) انظر التكملة ص ٢٦٤.
قد اشتكى الخلخال منها إلى |
|
سوارها فاشتبها في المقال (١) |
وأجريا ذكر الوشاح الذي |
|
لمّا يزل من خصرها في مجال |
فقال : لم أرض بما نلته |
|
وليتني مثلكما لا أزال |
أغصّ بالخصر وأعيا به |
|
كغصّ ظمآن بماء زلال |
وإنما الدهر بغير الرّضا |
|
يقضي فكلّ غير راض بحال |
وهو القائل : [مجزوء الخفيف]
سل بحمّامنا الذي |
|
كلّ عن شكره فمي (٢) |
كم أراني بقربه |
|
جنّة في جهنّم |
وكان يحضر حلقة الإمام السّهيلي وضيء الوجه من تلامذته ، فانقطع لعارض ، فخرج السهيلي مارّا في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه ، فوجد قناة تصلح ، فمنعته من المرور ، فرجع وسلك طريقا آخر ، فمرّ على دار تلميذه الوضيء ، فقال له بعض أصحابه ممازحا بعبوره على منزله ، فقال : نعم ، وأنشد ارتجالا : [المتقارب]
جعلت طريقي على بابه |
|
ومالي على بابه من طريق |
وعاديت من أجله جيرتي |
|
وآخيت من لم يكن لي صديق |
فإن كان قتلي حلالا لكم |
|
فسيروا بروحي سيرا رفيق |
وأبو القاسم السّهيلي مشهور ، عرّف به ابن خلكان وغيره ، ويكنى أيضا بأبي زيد ، وهو صاحب كتاب «الروض الأنف» وغيره.
واجتاز على سهيل وقد خربه العدوّ لمّا أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه ، وكان غائبا عنهم ، فاستأجر من أركبه دابّة ، وأتى به إليه ، فوقف بإزائه ، وأنشد (٣) : [الكامل]
يا دار ، أين البيض والآرام؟ |
|
أم أين جيران عليّ كرام |
راب المحبّ من المنازل أنه |
|
حيّا فلم يرجع إليه سلام (٤) |
__________________
(١) في ه : «الخلخال منها إلى سرارها».
(٢) لكلّ : عجز ، وأراد أنه فوق قدرة الواصفين على وصفه.
(٣) انظر المغرب ج ١ ص ٣٧٠.
(٤) رابه : أوقعه في الشك.
لمّا أجابني الصّدى عنهم ولم |
|
يلج المسامع للحبيب كلام |
طارحت ورق حمامها مترنّما |
|
بمقال صبّ والدموع سجام |
(يا دار ما فعلت بك الأيام |
|
ضامتك والأيام ليس تضام) |
وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي : [المتقارب]
عفا الله عنّي فإنّي امرؤ |
|
أتيت السلامة من بابها |
على أنّ عندي لمن هاجني |
|
كنائن غصّت بنشّابها (١) |
ولو كنت أرمي بها مسلما |
|
لكان السهيليّ أولى بها |
وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وزرت قبره بها مرارا سنة عشر وألف ، وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدّة ، ولازم القاضي أبا بكر بن العربي وابن الطراوة ، وعنه أخذ لسان العرب ، وكان ضريرا.
ومن شعره أيضا لما قال : «كيف أمسيت» مكان «كيف أصبحت» (٢) : [الطويل]
لئن قلت صبحا كيف أمسيت مخطئا |
|
فما أنا في ذاك الخطا بملوم (٣) |
طلعت وأفقي مظلم لفراقكم |
|
فخلتك بدرا والمساء همومي |
وحكي أنّ الوزير الكاتب أبا الفضل بن حسداي الإسلامي السرقسطي ، وهو من رجال الذخيرة ، عشق جارية ذهبت بلبّه ، وغلبت على قلبه ، فجنّ بها جنونه ، وخلع عليها دينه ، وعلم بذلك صاحبها (٤) فزفّها إليه ، وجعل زمامها في يديه ، فتحامى (٥) عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظنّ الناس أنّ إسلامه كان من أجلها ، فحسن ذكره ، وخفي على كثير من الناس أمره ، ومن شعره قوله : [الطويل]
وأطربنا غيم يمازج شمسه |
|
فيستر طورا بالسحاب ويكشف |
ترى قزحا في الجوّ يفتح قوسه |
|
مكبّا على قطن من الثّلج يندف |
وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلّد ، فدخل الوزير الكاتب أبو الفضل بن الدباغ
__________________
(١) الكنائن : جمع كنانة ، وهي جعبة السهام.
(٢) في ب ، ه : «كيف أمسيت» موضع «كيف أصبحت».
(٣) الخطا : الخطأ ـ مهموز ، وخفف الهمزة وهو جائز.
(٤) في ب ، ه : «وعلم بذلك صاحبه».
(٥) في ب ، ه : «فتجافى عن موضعه».