الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
وتزهّدوا حتى أصابوا فرصة |
|
في أخذ مال مساجد وكنائس |
وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا.
وقال ـ فيما أظن ـ الفقيه الكاتب المحدّث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي ، وقد تكرّر ذكره في هذا الكتاب في مواضع : [الطويل]
لقد غضبت حتى على السّمط نخوة |
|
فلم تتقلّد غير مبسمها سمطا |
وأنكرت الشّيب الملمّ بلمّتي |
|
ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا (١) |
وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقّه : كاتب مشهور ، وشاعر مذكور ، كتب عن ولاة بلنسية ، وورد رسولا حين أخذ النصارى بمخنّق تلك الجهات ، وأنشد قصيدته السينية : [البسيط]
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا |
|
إنّ السبيل إلى منجاتها درسا |
وعارضه جمع من الشعراء ما بين مخطئ ومحروم ، وأغري الناس بحفظها إغراء بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم (٢) ، إلّا أنّ أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة ، فقلصت عنه تلك النعمة ، وأخر عن تلك العناية ، وارتحل إلى بجاية ، وهو الآن بها عاطل من الرّتب ، خال من حلى الأدب ، مشتغل بالتصنيف في فنونه ، متنفّل منه بواجبه ومسنونه ، ولي معه مجالسات آنق من الشباب ، وأبهج من الروض عند نزول السحاب (٣) ، ومما أنشدنيه من شعره : [الكامل]
يا حبّذا بحديقة دولاب |
|
سكنت إلى حركاته الألباب (٤) |
غنّى ولم يطرب وسقّى وهو لم |
|
يشرب ومنه العود والأكواب |
لو يدّعي لطف الهواء أو الهوى |
|
ما كنت في تصديقه أرتاب |
وكأنه ممّا شدا مستهزئ |
|
وكأنه ممّا بكى ندّاب |
وكأنه بنثاره ومداره |
|
فلك كواكبه لها أذناب |
__________________
(١) اللمّة : الشعر الذي يتجاوز شحمة الأذن. والوخط : مصدر وخط الشيب ، أي خالط البياض السواد.
(٢) لقد افتخر بنو تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم حتى قال فيهم الشاعر :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة |
|
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم |
(٣) في ب : «غبّ نزول السحاب».
(٤) في ه : «سكنت إلى حركاتها الألباب».
وقال أبو المعالي القيجاطي : [السريع]
فقلت يا ربعهم أين من |
|
أحببته فيك وأين النديم |
فقال عهد قد غدا شمله |
|
كمثل ما ينثر درّ نظيم (١) |
وقال أبو عمرو بن الحكم القبطلي ، وقبطلة : من أعمال وادي إشبيلية : [مخلع البسيط]
كم أقطع الدهر بالمطال؟ |
|
ساءت وحقّ الإله حالي |
رحلت أبغي بكم نجاحا |
|
فلم تفيدوا سوى ارتحالي |
وعدتم ألف ألف وعد |
|
لكنني عدت بالمحال |
وقال أبو عمران القلعي : [الوافر]
طلعت عليّ والأحوال سود |
|
كما طلع الصباح على الظلام |
فقل لي كيف لا أوليك شعري |
|
وإخلاص التحيّة والسلام |
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي : [مجزوء الرمل]
أنا سكران ولكن |
|
من هوى ذاك الفلاني |
كلّما رمت سلوّا |
|
لم يزل بين عياني |
وقال : [الوافر]
حبيبي ما لصبّك من مراد |
|
سوى أن لا تدوم على البعاد |
وإن كان ابتعادك بعد هذا |
|
مقيما فالسلام على فؤادي (٢) |
قال ابن سعيد : وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار ، لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار ، مع أخلاق كريمة ، وآداب كانسكاب الدّيمة (٣) ، انتهى.
وقال ابن سعيد : في أبي بكر محمد بن عمار البرجي ، كاتب ابن هود ، القائل :
لمن يشهد حربا تحت رايات ابن هود.
__________________
(١) أراد : تفرقوا كالعقد المنثور بعد الشمل.
(٢) في ه : «فإن يدم ابتعادك بعد هذا».
(٣) الديمة : المطر الدائم الذي لا ينقطع.
إلخ : [مجزوء الرمل]
يا ابن عمار لقد أح |
|
ييت لي ذاك السّميّا |
في حلى نظم ونثر |
|
علّقا في مسمعيّا (١) |
ولقد حزت مكانا |
|
من ذرى الملك عليّا |
مثل ما قد حاز لكن |
|
عش بنعماك هنيّا |
وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد (٢) :[السريع]
يا أبدع الخلق بلا مرية |
|
وجهك فيه فتنة الناظرين |
لا سيما إذ نلتقي خطرة |
|
فيغلب الورد على الياسمين |
طوبى لمن قد زرته خاليا |
|
فمتّع النفس ولو بعد حين |
من ذلك الثغر الذي ورده |
|
ما زال فيه لذة الشاربين |
وما حوى ذاك الإزار الذي |
|
لم يعد عنه أمل الزائرين |
وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به ، وكان مروره على داره.
وحكي (٣) عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينارا ، ومرّت أيام ثم صادفه عند داره ، فقال له : أتريد أن أزورك ثانية؟ فقال له : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، وهذا الجواب ـ على ما فيه من قلة الأدب ، وهتك حجاب الشريعة ـ من أشدّ الأجوبة إصابة للغرض ، والله تعالى يسمح له ، فقد قال ابن سعيد في حقّه : إن بيته بإشبيلية من أجلّ البيوت ، ولم يزل له مع تقلّب الزمان ظهور وخفوت ، وكان أديبا شاعرا ذوّاقا لأطراف العلوم ، انتهى.
ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس ـ مع البلاغة والبراعة ـ أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب (٤) ، وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر ، من عمل بلنسية ، وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن ، ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلّب على الأندلس ، وربما استوزره في بعض الأحيان. وقال ابن سعيد (٥) : وهو ممّن كان والدي يكثر مجالسته ، ولم أستفد منه إلّا ما كنت أحفظه في مجالسته (٦) ، وكان شديد التهوّر ، كثير الطيش ، ذاهبا بنفسه كلّ مذهب ، سمعته مرّة وهو في محفل يقول : تقيمون القيامة لحبيب (٧) والبحتري والمتنبي ،
__________________
(١) في ه : «علقا من مسمعي».
(٢) انظر القدح ص ١١٢.
(٣) في ب : «وحكى».
(٤) انظر ترجمته في القدح ص ١١٤.
(٥) في ب : «قال ابن سعيد». سقطت الواو.
(٦) في ه : «احفظ في مجالسته».
(٧) حبيب : هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور.
وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه؟ فأهوى له شخص له قحة وإقدام ، فقال : يا أبا جعفر ، فأرنا برهان ذلك ، ما أظنك تعني إلّا نفسك ، فقال : نعم ، ولم لا؟ وأنا الذي أقول ما لم يتنبّه (١) إليه متقدّم ، ولا يهتدي لمثله متأخّر : [السريع]
يا هل ترى أظرف من يومنا |
|
قلّد جيد الأفق طوق العقيق |
وأنطق الورق بعيدانها |
|
مرقصة كلّ قضيب وريق |
والشمس لا تشرب خمر الندى |
|
في الأرض إلّا بكؤوس الشقيق |
فلم ينصفوه في الاستحسان ، وردّوه في الغيظ إلى أضيق مكان ، فقلت له : يا سيدي ، هذا هو السحر الحلال ، فبالله إلّا ما زدتني (٢) من هذا النمط ، فقال : [الوافر]
أدرها فالسماء بدت عروسا |
|
مضمّخة الملابس بالغوالي |
وخدّ الروض حمّره أصيل |
|
وجفن النهر كحّل بالظّلال |
وجيد الغصن يشرق في لآل |
|
تضيء بهنّ أكناف الليالي |
فقلت : زد وعد ، فعاد والارتياح قد ملك عطفه ، والتّيه قد رفع أنفه ، فقال : [السريع]
لله نهر عندما زرته |
|
عاين طرفي منه سحرا حلال |
إذ أصبح الطّلّ به ليلة |
|
وجال فيه الغصن شبه الخيال (٣) |
فقلت : زد ، فأنشد : [الوافر]
ولمّا ماج بحر الليل بيني |
|
وبينكم وقد جدّدت ذكرا |
أراد لقاءكم إنسان عيني |
|
فمدّ له المنام عليه جسرا |
فقلت : إيه ، فقال : [الوافر]
ولمّا أن رأى إنسان عيني |
|
بصحن الخدّ منه غريق ماء |
أقام له العذار عليه جسرا |
|
كما مدّ الظلام على الضياء |
فقلت : أعد ، فأعاد ، وقال : حسبك لئلّا تكثر عليك المعاني ، فلا تقوم بحقّ قيمتها ، وأنشد : [الكامل]
__________________
(١) في ه : «ما لم ينته إليه متقدم».
(٢) في ه : «إلا ما زدتنا».
(٣) في ه : «إذ صبح الظل به ليلة».
هات المدام إذا رأيت شبيهها |
|
في الأفق يا فردا بغير شبيه |
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله |
|
فغدت تخاصمه الحمائم فيه |
ثم قال : وكان قد تهتّك في غلام لابن هود ، ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج ، وفيه يقول : [الوافر]
ألفت الحرب حتى علّمتني |
|
مقارعة الحوادث والخطوب |
ولم أك عالما وأبيك حربا |
|
بغير لواحظ الرشأ الرّبيب (١) |
فها أنا بين تلك وبين هذي |
|
مصاب من عدوّ أو حبيب |
ولمّا هرب العلج (٢) إلى سبتة أحسن إليه القائم بها أبو العباس الينشتي (٣) فلم يقنع بذلك الإحسان ، وكان يأتي بما يوغر صدره ، فقال يوما في مجلسه : رميت مرة بقوس ، فبلغ السهم إلى كذا ، فقال ابن طلحة لشخص بجانبه : لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا ، فشعر بقوله ، فأسرّها في نفسه ، ثم بلغه أنه هجاه بقوله : [الوافر]
سمعنا بالموفّق فارتحلنا |
|
وشافعنا له حسب وعلم |
ورمت يدا أقبّلها وأخرى |
|
أعيش بفضلها أبدا وأسمو |
فأنشدنا لسان الحال فيه |
|
يد شلا وأمر لا يتمّ |
فزاد في حنقه (٤) ، وبقي مترصدا له الغوائل ، فحفظت عنه أبيات قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان ، وهي : [الوافر]
يقول أخو الفضول وقد رآنا |
|
على الإيمان يغلبنا المجون |
أتنتهكون شهر الصوم هلّا |
|
حماه منكم عقل ودين |
فقلت اصحب سوانا ، نحن قوم |
|
زنادقة مذاهبنا فنون |
تدين بكل دين غير دين الرّع |
|
اع فما به أبدا ندين |
بحيّ على الصّبوح الدّهر ندعو |
|
وإبليس يقول لنا أمين (٥) |
__________________
(١) الرشأ : ولد الغزالة الذي قوي ومشى مع أمه. والربيب مثله.
(٢) في ب ، ه : «ولما هرب بالعلج».
(٣) كذا في ج ، وفي ه : «أبو العباس السبتي». وفي أ«أبو العباس البنتي» وقد صوبناه من ب.
(٤) حنقه : غضبه.
(٥) في ج : بحي على الصبوح الزهر ندعو» محرفا.
فيا شهر الصيام إليك عنّا |
|
إليك ففيك أكفر ما نكون (١) |
فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال ، وأظهر أنه يرضي العامة بقتله ، فقتله ، وذلك سنة ٦٣١ ، انتهى. وحاكي الكفر ليس بكافر ، والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر.
وقال محمد بن أحمد الإشبيلي بن البناء : [الطويل]
كأنك من جنس الكواكب كنت لم |
|
يفتك طلوعا حالها وتواريا |
تجلّيت من شرق تروق تلألؤا |
|
فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا |
ولمّا أمر المستنصر الموحّدي بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه ، وضرب بإشبيلية خمسمائة ، فمات ، وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه ، ثم صلب ، قال ابنه أبو الربيع (٢) يرثيه:[البسيط]
جهلا لمثلك أن يبكي لما قدرا |
|
وأن يقول أسى : يا ليته قبرا |
فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه |
|
وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا |
ومنها :
ضاقت به الأرض ممّا كان حمّلها |
|
من الأيادي فملّت شلوه شلوه ضجرا (٣) |
وعزّ جسمك أن يحظى به كفن |
|
فما تسربل إلّا الشمس والقمرا |
وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى (٤) : [الرمل]
يا أبا عمران دعني والذي |
|
لم يمل بي خاطري إلّا إليه |
ما نديمي غير من يخدمني |
|
لا الذي يجلسني بين يديه |
يرفع الكلفة عنّي ويرى |
|
أنها واجبة منّي عليه |
وقال ابن غالب الكاتب بمالقة (٥) : [الكامل]
__________________
(١) في ه : «ففيك أكفر ما يكون».
(٢) في ه : «قال ابنه الربيع يرثيه».
(٣) الشلو : القطعة من اللحم وجمعه أشلاء.
(٤) انظر القدح ص ١٢٦.
(٥) انظر القدح ص ١٢٨.
لا تخش قولا قد عقدت الألسنا |
|
وابعث خيالك قد سحرت الأعينا |
واعطف عليّ فإنّ روحي زاهق |
|
وانظر إليّ بنظرة إن أمكنا |
لا يخدعنّك أن تراني لابسا |
|
ثوبي فقد أصبحت فيه مكفّنا |
ما زال سحرك يستميل خواطري |
|
بأرقّ من ماء الصفاء وألينا |
حتى غدوت ببحر حبّ زاخر |
|
فرمت بي الأمواج في شطّ الضّنا (١) |
وقال : [الكامل]
ما للنسيم لدى الأصيل عليلا |
|
أتراه يشكو زفرة وغليلا |
جرّ الذّيول على ديار أحبّتي |
|
فأتى يجرّ من السّقام ذيولا |
وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة : [السريع]
أهواك يا بدر وأهوى الذي |
|
يعذلني فيك وأهوى الرقيب |
والجار والدار ومن حلّها |
|
وكلّ من مرّ بها من قريب |
ما إن تنصّرت ولكنّني |
|
أقول بالتثليث قولا غريب |
يطابق الألحان والكاس إذ |
|
تبسم عجبا والغزال الربيب (٢) |
وكان أبو أمية بن عفير (٣) قاضي إشبيلية ـ مع براعته ، وتقدّمه في العلوم الشرعية ـ أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية ، وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال ، وعدم المناظر له في ذلك المجال ، قال ابن سعيد : رأيته كثيرا ما يصنع القصائد والمقطّعات ، وهو يتحدّث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات ، ومن شعره : [مخلع البسيط]
ديارهم صاح نصب عيني |
|
وليس لي وصلة إليها (٤) |
إلّا سلامي لدى ابتعاد |
|
من بعد سكّانها عليها |
وقوله رحمه الله تعالى : [الوافر]
ووجه تغرق الأبصار فيه |
|
ولكن يترك الأرواح هيما |
__________________
(١) الضّنا : المرض والهزال.
(٢) في ب : «تطابق الألحان».
(٣) في ج : «ابن غفير» والتصويب من أ، ب ، ه ، والقدح ص ١٣٢.
(٤) في ه : «ديارهم هي نصب عيني». وفي القدح «ديارهم تلك نصب عيني».
أتاني ثم حيّاني حبيب |
|
به وأباحني الخدّ الرّقيما |
فمرّ لنا مجون في فنون |
|
سلكت به الصراط المستقيما |
قلت : أما مجرّد الارتجال فأمر عن الكثير صادر ، وأما كونه مع التحدّث أو فصل الخصومات فهو نادر ، وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر.
ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر ، إذ قال (١) : بتّ ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيّدات القصور ، بالانخفاض والقصور ، وشهدت له ساميات البروج ، بالاعتلاء ، والعروج ، قد ابيضّت حيطانه ، وطاب استيطانه ، وابتهج به سكانه وقطّانه ، والبدر قد محا خضاب الظّلماء ، محياه (٢) في زرقة قناع السماء ، وكسا الجدران ثيابا من فضّة ، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضّه ، والروض قد ابتسم محيّاه ، ووشت بأسرار محاسنه ريّاه ، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميّلها ، وغصبها مباسم نورها فقبّلها ، وعندنا مغنّ قد وقع على تفضيله الإجماع ، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع ، إن بدا فالشمس طالعة ، وإن شدا فالورق (٣) ساجعة ، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه ، وقابله فقلنا البدر قابل عيّوقه ، وهو يغار عليه من النسيم كلّما خفق وهبّ ، ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشّى بالذهب ، ويديم حرقته وسهده ، ويبذل في إلطافه طاقته وجهده ، فتارة يضمّخه بخلوقه ، وتارة يحلّيه بعقيقه ، وآونة يكسوه أثواب شقيقه ، فلم نزل (٤) كذلك حتى نعس طرف المصباح ، واستيقظ نائم الصباح ، فصنعت بديها في المجلس ، وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتفعت على أيام الأعياد ، كارتفاع الرءوس على الأجياد (٥) ، بل فضلت ليلات الدهر ، كفضل البدر على النجوم الزّهر : [الخفيف]
غبت عني يا ابن المؤيد في وق |
|
ت شهيّ يلهي المحبّ المشوقا |
ليلة ظلّ بدرها يلبس الجد |
|
ران ثوبا مفضّضا مرموقا |
وغدا الطّلّ فيه ينثر كافو |
|
را فيعلو مسك التراب السّحيقا |
__________________
(١) انظر بدائع البداءة ج ٢ ، ص ٢٠٦.
(٢) في ب : «وجلا محياه ..».
(٣) الورق : جمع ورقاء ، وهي الحمامة التي يميل لونها إلى الخضرة.
(٤) في ج : «فلم يزل كذلك».
(٥) الأجياد : جمع جيد ، وهو العنق.
وتبدّى النسيم يعتنق الأغ |
|
صان لمّا سرى عناقا رفيقا |
بتّ فيها منادما لصديق |
|
ظلّ بين الأنام خلّا صدوقا |
هو مثل الهلال وجها صبيحا |
|
ومثال النسيم ذهنا رقيقا |
وغزال كالبدر وجها وغصن ال |
|
بان قدّا والخمرة الصّرف ريقا |
مظهر للعيون ردفا مهيلا |
|
وحشا ناحلا وقدّا رشيقا |
إن تغنّى سمعت ، داود أو لا |
|
ح تأمّلت يوسف الصدّيقا |
وإذا قابل السراج رأينا |
|
منه بدرا يقابل العيّوقا (١) |
وأظنّ الصباح هام بمرآ |
|
ه فأبدى قلبا حريقا خفوقا |
هو نجم ما لاح في الجدر كافو |
|
ر بياض إلّا كساه خلوقا |
ما بدا نرجس الكواكب إلّا |
|
قام من نومه يرينا الشقيقا (٢) |
وإذا ما بدت جواهرها في ال |
|
جوّ أبدى في الأرض منهم عقيقا |
فغدونا تحت الدجى نتعاطى |
|
من رقيق الآداب خمرا رحيقا (٣) |
وجعلنا ريحاننا طيب ذكرا |
|
ك فخلناه عنبرا مفتوقا |
ذاك وقت لولا مغيبك عنه |
|
كان بالمدح والثناء خليقا |
قال : فأجاب عنها من الوزن دون الروي : [الخفيف]
قد أتتني من الجمال قصيد |
|
يا لها من قصيدة غرّاء |
جمعت رقّة الهواء وطيب ال |
|
مسك في سبكها وصفو الماء |
فأرتنا طباعه وشذاه |
|
والذي حاز ذهنه من ذكاء |
سيدي هل جمعت فيها اللآلي |
|
يا أخا المجد أم نجوم السماء |
أفحمتني حسنا وحقّ أيادي |
|
ك التي لا تعدّ بالإحصاء |
فتركت الجواب والله عجزا |
|
فابسط العذر فيه يا مولائي |
هل يسامي الثرى الثريّا وأنّى |
|
يدّعي النجم فرط نور ذكاء (٤) |
__________________
(١) العيّوق : نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا ولا يتقدمها.
(٢) في ب : «قام في قومه يرينا الشقيقا».
(٣) الخمر الرقيق : الخمر الصافية. وقد جاء في ج : «خمرا رقيقا» ، وليس بشيء.
(٤) ذكاء ، بضم الذال : الشمس.
رجع إلى أهل الأندلس :
وقال ابن السماك (١) : [البسيط]
إياك أن تكثر الإخوان مغتنما |
|
في كلّ يوم إلى أن يكثر العدد |
في واحد منهم تصفي الوداد له |
|
من التكاليف ما يفنى به الجلد |
وله : [الطويل]
تحنّ ركابي نحو أرض وما لها |
|
وما لي من ذاك الحنين سوى الهمّ |
وكم راغب في موضع لا يناله |
|
وأمسيت منه مثل يونس في اليمّ |
بهذا قضى الرحمن في كلّ ساخط |
|
يموت على كره ويحيا على رغم |
ولمّا قام الباجي بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود ، وأبدل شعاره الأسود العباسيّ في البنود ، قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك : [البسيط]
كأنما الراية السوداء قد نعبت |
|
لهم غرابا ببين الأهل والولد (٢) |
مات الهوى تحتها من فرط روعته |
|
فأظهر الدهر منها لبسة الكمد |
وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة.
وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي (٣) : [الكامل]
أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا |
|
إذ خالها تحت الدّجى قنديلا |
ما زال يخفق حولها بجناحه |
|
حتى رمته على الفراش قتيلا |
وله : [الكامل]
لاموا على حبّ الصّبا والكاس |
|
لمّا بدا وضح المشيب براسي |
والغصن أحوج ما يكون لسقيه |
|
أيام يبدو بالأزاهر كاسي |
وله ، وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفسا مصلوبين من قطّاع الطريق : [المتقارب]
ثلاثون قد صفّفوا كلّهم |
|
وقد فتحوا أذرعا للوداع |
__________________
(١) في أ«ابن السمان» وفي ه «ابن السماذ» وقد صوبناه من ب.
(٢) في ج : «كأنما الراية السوداء قد نصبت .. الخ». ونعبت : صاحت وأنذرت بالفراق.
(٣) انظر ترجمته في اختصار القدح ص ١٤٠.
وما ودّعوا غير أرواحهم |
|
فكان وداعا لغير اجتماع |
وله في فتى وسيم عضّ كلب وجنته : [الطويل]
وأغيد وضّاح المحاسن باسم |
|
إذا قامر الأرواح ناظره قمر (١) |
تعمّد كلب عضّ وجنته التي |
|
هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر |
فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم |
|
وقد أثّر العوّاء في صفحة القمر (٢) |
وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي المؤرخ الأديب ، المصنّف الشهير ، وكان حافظا لنكت الأندلسين حديثا وقديما ، ذاكرا لفكاهاتهم التي صيرته للملوك خليلا ونديما (٣) ، في صبيّ من أعيان الجزيرة الخضراء ، تهافت في حبّه جماعة من الأدباء والشعراء.
وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور ، وقاموا فيه المقام المشهور ، أديب يقال له الفار ، فتسلّط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقّب بالقط (٤) : [الطويل]
عذرت أبا الحجّاج من ربّ شيبة |
|
غدا لابسا في الحب ثوبا من القار |
وألجأه الفأر المشارك للنوى |
|
ولم أر قطّا قبله فرّ من فار |
وله : [الخفيف]
قد سلونا عن الذي تدريه |
|
وجفوناه إذ جفا بالتّيه |
وتركناه صاغرا لأناس |
|
خدعوه بالزّور والتّمويه |
لمضلّ يسوقه لمضلّ |
|
وسفيه يقوده لسفيه |
وله ، وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكّره بالأيام السوالف (٥) : [الوافر]
أبا حسن لعمرك إنّ ذكري |
|
لأيام النعيم من الصواب |
أمثلي ليس يذكر عهد حمص |
|
وقد جمحت بنا خيل التصابي |
ونحن نجرّ أثواب الأماني |
|
مطرّزة هنالك بالشباب |
وعهد بالجزيرة ليس ينسى |
|
وإن أغفلته عند الخطاب |
__________________
(١) في ج : «وأغيد وضاح المباسم باسم».
(٢) الصمات : الصمت : السكوت.
(٣) في ه : «خديما ونديما». وفي القدح «جليسا ونديما».
(٤) في هذه الصفحة اختلاف في ترتيب الفقرات بين النسخ وإن كان غير مهم.
(٥) السوالف : الماضية ، الزائلة.
هو الأحلى لديّ وإن حماني |
|
عن العسل اجتماع للذّباب |
وسار (١) إلى المحبوب ، وكان كثير الاجتماع به في جنّة لوالده على وادي العسل ، فقال(٢) : [مجزوء الرجز]
جنّة وادي العسل |
|
كم لي بها من أمل |
لو لم يكن ذبابها |
|
يمنع ذوق العسل |
قال ابن سعيد : ولمّا التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق ، وقد ولج ظلام الشّعر (٣) على وجهه المشرق ، قلت لأبي الحجاج مشيرا إلى محبوبه ، وقد غطى هواه عنده على عيوبه : [السريع]
خلّ أبا الحجّاج هذا الذي |
|
قد كنت فيه دائم الوجد |
وانظر إلى لحيته واعتبر |
|
ممّا جنى الشّعر على الخدّ |
والله سبحانه يسمح للجميع ، في هذا الهزل الشنيع ، ويصفح عنّا في ذكره ، إنه مجيب سميع.
وقال صاحب «البدائع» (٤) ركب الأستاذ أبو محمد بن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا ، وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا ، وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سررا وأعكانا ، في زورق يجول جولان الطّرف ، ويسودّ اسوداد الطّرف ، فقال بديها : [الوافر]
تأمّل حالنا والجوّ طلق |
|
محيّاه وقد طفل المساء (٥) |
وقد جالت بنا عذراء حبلى |
|
تجاذب مرطها ريح رخاء |
بنهر كالسّجنجل كوثريّ |
|
تعبّس وجهها فيه السماء (٦) |
واتفق أن وقف أبو إسحاق بن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها ، فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها : [الوافر]
__________________
(١) في القدح : «أشار» وبه يستقيم المعنى أكثر مما ورد في النفح.
(٢) في ب : «وقال».
(٣) في ه : «ورد كلام الشعر». في القدح : «دلج ظلام الشعر».
(٤) انظر البدائع ج ٢ ص ١٤٢.
(٥) طفلت الشمس : مالت للغروب واحمرت.
(٦) السجنجل : المرآة.
ألا يا حبّذا ضحك الحميّا |
|
بحانتها وقد عبس المساء |
وأدهم من جياد الماء مهر |
|
تنازح جلّه ريح رخاء (١) |
إذا بدت الكواكب فيه غرقى |
|
رأيت الأرض تحسدها السماء |
وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه : صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة أبا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد ، وكان أبو جعفر بن رشيق يومئذ قد تمنّع ببعض حصون مرسية ، وشرع في النفاق ، فقطع السبيل ، وأخاف الطريق ، ولمّا حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير ، وملّ الركب رسيمه وذميله ، وأخذ كلّ منّا يرتاد مقيله (٢) ، اتفقنا على أن لا نطعم طعاما ، ولا نذوق مناما ، حتى نقول في صورة تلك الحال ، وذلك الترحال ، ما حضر ، وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر (٣) ، وأخذت عفو خاطري ، فقلت أتربّص به ، وأعرّض بعظم لحيته : [الوافر]
ألا قل للمريض القلب مهلا |
|
فإنّ السيف قد ضمن الشقاء (٤) |
ولم أر كالنّفاق شكاه حرّ |
|
ولا كدم الوريد له دواء (٥) |
وقد دحي النجيع هناك أرضا |
|
وقد سمك العجاج به سماء |
وديس به انحطاطا بطن واد |
|
مذ اعشب شعر لحيته ضراء |
وقال ابن خفاجة أيضا : حضرت يوما مع أصحاب لي ، ومعهم صبي متهم في نفسه ، واتّفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب ، فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب ، فقلت بديها أعبث به : [السريع]
صلني لك الخير برمّانة |
|
لم تنتقل عن كرم العهد |
لا عنبا أمتصّ عنقوده |
|
ثديا كأني بعد في المهد |
وهل يرى بينهما نسبة |
|
من عدل الخصية بالنّهد |
فخجل خجلا شديدا وانصرف.
__________________
(١) في ه : «وأدهم من جياد الماء نهد».
(٢) الرسيم والذميل : ضربان من السير. والمقيل : النوم عند الظهر.
(٣) في ه : «وشاء الله إجبال ابن وهبون فاعتذر».
(٤) في ب : «ضمن الشفاء».
(٥) في ب : «ولم أر كالنقاق شكاة حر». وفي ج : «ولم أر كالنفاق شكاه غر».
قال : وخرجت يوما بشاطبة إلى باب السّمّارين ، ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية ، وذلك سنة ٤٨٠ ، وإذ بالفقيه أبي عمران بن أبي تليد (١) رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك ، فألفيته جالسا على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن ، فسلّمت عليه ، وجلست إليه ، مستأنسا به ، فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق : [مجزوء الكامل]
يا من يمرّ ولا تمرّ |
|
به القلوب من الفرق |
بعمامة من خدّه |
|
أو خدّه منها استرق |
فكأنّه وكأنّها |
|
قمر تعمّم بالشّفق |
فإذا بدا وإذا انثنى |
|
وإذا شدا وإذا نطق |
شغل الخواطر والجوا |
|
نح والمسامع والحدق |
فقلت ، وقد أعجب بها جدّا ، وأثنى عليها كثيرا : أحسن ما في القطعة سياقة الأعداد ، وإلّا فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كل واحدة منها ما يلائمها ، وهل ينزل بإزاء قوله «وإذا نطق» قوله «شغل الحدق» وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد ، فقلت بديها : [مجزوء الكامل]
ومهفهف طاوي الحشا |
|
خنث المعاطف والنظر (٢) |
ملأ العيون بصورة |
|
تليت محاسنها سور |
فإذا رنا وإذا مشى |
|
وإذا شدا وإذا سفر |
فضح الغزالة والغما |
|
مة والحمامة والقمر |
فجنّ بها استحسانا ، انتهى.
قال ابن ظافر : والقطعة القافيّة ليست لابن رشيق ، بل هي لأبي الحسين (٣) علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة.
وكان بين السميسر الشاعر وبين بعض رؤساء المريّة واقع لمدح مدحه فلم يجزه عليه ، فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية ، واحتفل فيها بما يحتفل مثله في
__________________
(١) هكذا في ب ، ج. وفي أ، ه : «لابن أبي تلميذ».
(٢) الخنث : من فيه لين النساء وتثنّيهن.
(٣) في ه : «لأبي الحسين بن علي بن بشر». وقد وهم ابن ظافر وتابعه المقري فهي لأبي الحسن لا أبي الحسين ـ علي بن أبي بشر الكاتب أحد شعراء الخريدة وقد ترجم له الصفدي في الوافي.
دعوة سلطان مثل المعتصم ، فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجّها إلى الدعوة ، فوقف له في الطريق ، فلمّا حاذاه رفع صوته بقوله : [البسيط]
يا أيها الملك الميمون طائره |
|
ومن لذي مأتم في وجهه عرس |
لا تفرسنّ طعاما عند غيركم |
|
إنّ الأسود على المأكول تفترس |
فقال المعتصم : صدق والله ، ورجع من الطريق ، وفسد على الرجل ما كان عمله.
ونظير هذه الحكاية (١) أن عبّاد بن الحريش كان قد مدح رجلا من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير ، فمطله بالجائزة ، ثم أجازه بما لم يرضه ، فردّه عليه ، وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج ، ووصل أبو دلف ، فلمّا وقعت عين عبّاد عليه وهو يساير بعض خواصّه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته : [مجزوء الخفيف]
قل له يا فديته |
|
قول عبّاد : ذا سمج |
جئت في ألف فارس |
|
لغداء من الكرج |
ما على النّفس بعد ذا |
|
في الدناءات من حرج |
فقال أبو دلف ، وكان أخوف الناس من شاعر : صدق والله ، أجيء من الكرج إلى أصبهان حتى أتغدّى بها؟ والله ما بعد هذا في دناءة النفس من شيء. ثم رجع من طريقه ، وفسد على الرجل كل ما غرمه ، وعرف من أين أتي. وتخوف أن يعود عبّاد عليه بشرّ منها ، فسيّر إليه جائزة سنيّة مع جماعة من أصحابه ، فاجتمعوا به ، وسألوه فيه ، وفي قبول الجائزة ، فلم يقبل الجائزة ، ثم أنشد بديها : [السريع]
وهبت يا قوم لكم عرضه
فقالوا : جزاك الله تعالى خيرا! فقال :
كرامة للشّعر لا للفتى
لأنه أبخل من ذرّة |
|
على الذي تجمعه في الشّتا |
انتهى.
وذكر أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه (٢) : أنه عزم بمصر هو ورفقة له
__________________
(١) انظر البدائع ج ٢ ، ص ١٤٩.
(٢) انظر بدائع البداءة ج ، ص ١٥١.
على الاصطباح ، فقصدوا بركة الحبش ، في وقت ولاية الغبش ، وحلّوا منها روضا بسم زهره ، ونسم عطره ، فأداروا كؤوسا ، تطلع من المدام شموسا ، وعاينوها نجوما ، تكون لشياطين الهموم رجوما ، فطرب حتى أظهر الطرب نشاطه ، وأبرز ابتهاجه وانبساطه ، فقال : [المنسرح]
لله يومي ببركة الحبش |
|
والجوّ بين الضياء والغبش |
النّيل تحت الرياح مضطرب |
|
كصارم في يمين مرتعش |
ونحن في روضة مفوّفة |
|
دبّج بالنّور عطفها ووشي (١) |
قد نسجتها يد الغمام لنا |
|
فنحن من نورها على فرش |
فعاطني الراح إنّ تاركها |
|
من سورة الهمّ غير منتعش |
وأسقني بالكبار مترعة |
|
فهنّ أروى لشدّة العطش |
فأثقل الناس كلّهم رجل |
|
دعاه داعي الصّبا فلم يطش |
وهذا أبو الصّلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء ، وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق.
وقال رحمه الله تعالى : كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان ، وقد وقف يرمي بالنشاب ، فصنعت فيه بديها : [السريع]
يا ملكا مذ خلقت كفّه |
|
لم تدر إلّا الجود والباسا |
إنّ النجوم الزّهر مع بعدها |
|
قد حسدت في قربك الناسا |
وودّت الأملاك لو أنها |
|
تحوّلت تحتك أفراسا (٢) |
كما تمنّى البدر لو أنه |
|
عاد لنشّابك برجاسا (٣) |
وصنع الوزير أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق بن همشك صهر الأمير أبي عبد الله محمد بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديها : [الوافر]
وزنجيّ أتى بقضيب نور |
|
وقد زقّت لنا بنت الكروم |
فقال فتى من الفتيان صفها |
|
فقلت الليل أقبل بالنجوم (٤) |
__________________
(١) مفوّفة : مزركشة. ودبّج : زوّق. ووشي : زين ونقش وحسّن بالألوان.
(٢) في ب : «وودّت الأفلاك ..».
(٣) البرجاس : هدف يوضع على شيء مرتفع ليرمى جمع براجيس.
(٤) في ه : «فقال فتى من الفتيان صفه».
ولمّا أفرط أبو بكر يحيى اليكي (١) في هجاء أهل فاس تعسّفوا عليه (٢) ، وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين علي بن يوسف ، والقائد عبد الله بن خيار الجياني ، وكان يتولّى أمورا سلطانية بها ، فقدّموا رجلا ادّعى عليه بدين ، وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي ، ورجل آخر يكنى بأبي الحسين من مشايخ البلد ، فأثبت الحقّ عليه ، وأمر به إلى السجن ، فرفع إليه ، وسيق سوقا عنيفا ، فلمّا وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه ، وكتب فيها ، وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن ، فكان ما كتب : [الكامل]
ارشوا الزناتيّ الفقيه ببيضة |
|
يشهد بأنّ مظفرا ذو بيضتين |
واهدوا إليه دجاجة يحلف لكم |
|
ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين |
وقال أبو الحسن (٣) علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري : عمل والدي محملا للكتب من قضبان تشبه سلّما ، فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد ، فرآه ، فقال ارتجالأ :[الخفيف]
أيها السّيّد الذكيّ الجنان |
|
لا تقسني بسلّم البنيان |
فضل شكلي على السلالم أني |
|
محمل للعلوم والقرآن |
حزت من حلية المحبين ضعفي |
|
واصفراري ورقّة الأبدان |
فادع للصانع المجيد بفوز |
|
ثم وال الدعاء للإخوان |
ثم عمل أيضا : [الخفيف]
أيها السّيّد الكريم المساعي |
|
التفت صنعتي وحسن ابتداعي |
أنا للنّسخ محمل خفّ حملي |
|
أنا في الشكل سلّم الاطلاع |
وقال أحمد بن رضى المالقي : [البسيط]
ليس المدامة ممّا أستريح له |
|
ولا مجاوبة الأوتار والنّغم |
وإنّما لذّتي كتب أطالعها |
|
وخادمي أبدا في نصرتي قلمي |
وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي : [الوافر]
__________________
(١) في نسخ النفح : «أبو يحيى اليكي» والتصويب من البدائع ج ٢ ص ١٥٧. ومن زاد المسافر وفي زاد المسافر بعض أهاجيه.
(٢) في ه : «تعصبوا عليه».
(٣) في نسخة عند ج : «أبو الحسين».
لمن أشكو مصابي في البرايا |
|
ولا ألقى سوى رجل مصاب |
أمور لو تدبّرها حكيم |
|
لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب |
أما في الدهر من أفشي إليه |
|
بأسراري فيؤنس بالجواب |
يئست من الأنام فما جليس |
|
يعزّ على نهاي سوى كتابي |
وقال أبو زكريا يحيى بن صفوان بن إدريس ، صاحب كتاب «العجالة» و «زاد المسافر» وغيرهما : [مجزوء الرمل]
ليت شعري كيف أنتم |
|
وأنا الصّبّ المعنّى (١) |
كلّ شيء لم تكونوا |
|
فيه لفظ دون معنى |
وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد : [المتقارب]
توحّد في الحسن من لم يزل |
|
يثلّث والقلب في صدّه (٢) |
يشفّ لك الماء من كفّه |
|
ويقتدح النار من خدّه |
وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه ، وأبوه صفوان سابق الميدان.
وقال ابن بسام (٣) : ساير ابن عمار في بعض أسفاره غلامان من بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره ، فجعل يميل بحديثه (٤) لمخضرّ العذار ، ثم قال ارتجالا : [المتقارب]
تعلّقته جهوريّ النّجار |
|
حليّ اللّمى جوهريّ الثنايا (٥) |
من النّفر البيض أسد الزمان |
|
رقاق الحواشي كرام السجايا |
ولا غرو أن تغرب الشارقات |
|
وتبقى محاسنها بالعشايا |
ولا وصل إلّا جمان الحديث |
|
نساقطه من ظهور المطايا |
شنئت المثلّث للزعفران |
|
وملت إلى خضرة في التفايا (٦) |
ومعناه أنّ ابن عمار أبغض المثلث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما ، وأحبّ خضرة التفايا ، وهو لون طعام يعمل بالكزبرة ، لشبهها بعذار الأخضر منهما.
__________________
(١) المعنّى : المتعب.
(٢) في ه : «يوحّد في الحسن». يثلث ، أي أنه ما زال نصرانيا.
(٣) بدائع البداءة ج ٤ ص ١٣٠.
(٤) في ه : «يميل في حديثه».
(٥) النجار : الأصل.
(٦) التفايا : من بسائط الأطعمة من لحم الضأن ويضاف إليها كزبرة وملح وفلفل وأشياء أخرى ، وهي أنواع.
وقال أبو العرب بن معيشة الكناني السبتي : أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عباد ، وكان عليه من أثر كبر السنّ ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق ، وينطق بأنّ قوله الحقّ ، قال : كنت في صباي حسن الصورة ، بديع الخلقة ، لا تلمحني عين أحد إلّا ملكت قلبه ، وخلبت خلبه (١) ، وسلبت لبّه ، وأطلت كربه ، فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر بن عمار قد أقبل في موكب زجل (٢) ، على فرس كالصخرة الصّمّاء قدّت من قنّة (٣) الجبل ، فحين حاذاني ورآني اشرأبّ إليّ ينظرني وبهت يتأمّلني ، ثم دفع بمخصرة كانت بيده في صدري ، وأنشد : [مجزوء الكامل]
كفّ هذا النّهد عنّي |
|
فبقلبي منه جرح |
هو في صدرك نهد |
|
وهو في صدري رمح |
وعبر في «البدائع» على طريقة القلائد بما صورته : ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه: أخبرني ذو الوزارتين أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه ، ورمى بنبل ودقه ، وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها ، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها ، والأزهار قد تفتّحت عيونها ، والكمائم قد ظهر مكنونها ، والأشجار قد انصقلت بالقطر ، ونشرت ما يفوق ألوان البز وبثّت ما يعلو العطر ، والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح (٤) ، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفّعت بغيوم الأقداح ، ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه (٥) ، وأخجل خدّها حسنا فتكلّل بعرق حبابه ، إذا بفتى رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعا كالبدر اجتاب سحابا ، والخمر اكتست حبابا ، والطاووس انقلب حبابا ، فهو ملك حسنا إلّا أنه جسد ، وغزال لينا إلّا أنه في هيئة الأسد ، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه ، وأمره أن يتوجّه إليه ، فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبّه ، وانبثّت سراياه في ضواحي قلبه (٦) ، فأشار إليه وقرّبه ، واستبدع ذلك اللباس واستغربه ، وجدّ في أن يستخرج تلك الدّرّة من ماء ذلك الدّلاص (٧) ، وأن يجلي عنه كما يجلى الخبث عن
__________________
(١) خلبه : استمال قلبه. والخلب ـ بكسر الخاء وسكون اللام : حجاب القلب ، وأراد هنا : القلب.
(٢) الزّجل : الذي يرفع صوته بالتطريب ، وأراد هنا الموكب ذا الصوت المرتفع.
(٣) قنة الجبل : قمته وأعلى مكان فيه.
(٤) الراح الأولى : الخمر. والثانية : اليد.
(٥) الإهاب : الجلد.
(٦) كذا في أصول النفح. وفي بدائع البداءة «نواهي قلبه». وهو أفضل.
(٧) الدلاص : الليّن البرّاق.
الخلاص ، وأن يوفّر على ذلك الوفر نعمة جسمه ، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه ، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله ، واحتذاء أمثاله ، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ، ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها ، ارتجل ابن عمار : [الكامل]
وهويته يسقي المدام كأنه |
|
قمر يدور بكوكب في مجلس |
متناوح الحركات يندى عطفه |
|
كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس |
يسقي بكأس في أنامل سوسن |
|
ويدير أخرى من محاجر نرجس |
يا حامل السّيف الطويل نجاده |
|
ومصرّف الفرس القصير المحبس |
إياك بادرة الوغى من فارس |
|
خشن القناع على عذار أملس |
جهم وإن حسر القناع فإنما |
|
كشف الظلام عن النهار المشمس |
يطغى ويلعب في دلال عذاره |
|
كالمهر يلعب في اللجام المجرس |
سلّم فقد قصف القنا غصن النّقا |
|
وسطا بليث الغاب ظبي المكنس (١) |
عنّا بكأسك قد كفتنا مقلة |
|
حوراء قائمة بسكر المجلس |
وصنع فيه أيضا : [الوافر]
وأحور من ظباء الروم عاط |
|
بسالفتيه من دمعي فريد |
قسا قلبا وشنّ عليه درعا |
|
فباطنه وظاهره حديد |
بكيت وقد دنا ونأى رضاه |
|
وقد يبكي من الطرب الجليد |
وإنّ فتى تملّكه برقّ |
|
وأحرز حسنه لفتى سعيد |
وقال (٢) في «البدائع» مؤلّفه ما نصّه : خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوما إلى بعض متنزهاته ، فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج ، وتنفّست عن مسكها الأريج ، وماست معاطف أغصانها ، وتكلّلت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها ، فتشوّف (٣) إلى الوزير أبي طالب بن غانم أحد كبراء دولته ، وسيوف صولته ، فكتب إليه بديها بورقة كرنب بعود من شجرة : [مخلع البسيط]
أقبل أبا طالب إلينا |
|
واسقط سقوط النّدى علينا |
__________________
(١) المكنس : مأوى الغزال ، يستكن فيه من الحر.
(٢) في ب : «وذكر في البدائع ..».
(٣) في ب ، ه : «فتشوق».