الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠
ثم قال بعدهما : وإنما هدم (١) صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين اللغوي : [بحر السريع]
كأنّ ريح الروض لمّا أتت |
|
فتّت علينا مسك عطّار |
كأنما إبريقنا طائر |
|
يحمل ياقوتا بمنقار |
انتهى.
ومن نظم صاعد : [بحر المنسرح]
قلت له والرقيب يعجله |
|
مودعا للفراق : أين أنا |
فمدّ كفّا إلى ترائبه |
|
وقال : سر وادعا فأنت هنا |
وقال صاعد ، لمّا أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس : [بحر مجزوء الكامل]
إنّي لأستحيي علا |
|
ك من ارتجال القول فيه |
من ليس يدرك بالروي |
|
ية كيف يدرك بالبديه |
وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي ، وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول : ما هجيت بشيء أشدّ عليّ منهما : [بحر الكامل]
إقبل هديت أبا العلاء نصيحتي |
|
بقبولها وبواجب الشكر |
لا تهجونّ أسنّ منك فربما |
|
تهجو أباك وأنت لا تدري |
نعوذ بالله من لسان الشعراء ، وأنواع البلاء ، بجاه نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن نظم صاعد قوله : [بحر الوافر]
بعثت إليك من خيري روض |
|
مخرّمة كأوراق العقيق (٢) |
توكّل بالغروب عن التصابي |
|
وتصطاد الخليع من الطريق |
وروى صاعد عن القاضي أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي ، وأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي ، وأبي بكر بن مالك القطيعي ، وأبي سليمان الخطابي ، وغيرهم.
__________________
(١) في ب : «وإنما اهتدم».
(٢) في ب : «محرّمة».
قال الحميدي : خرج من الأندلس في الفتنة ، فمات بها قريبا من سنة عشر وأربعمائة.
وقال ابن حزم : توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة.
وقال ابن بشكوال في حقه : «إنه يتّهم بالكذب وقلّة الصدق فيما يورده ، عفا الله تعالى عنه»! وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة ٣٨٠ ، فأكرمه المنصور ، وزاد في الإحسان إليه ، والإفضال عليه ، وكان عالما باللغة والآداب والأخبار ، سريع الجواب ، حسن الشعر ، طيّب المعاشرة ، فكه المجالسة.
وقال بعضهم (١) : دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه ميدمان (٢) بن يزيد يذكر فيه القلب والتربيل (٣) ، وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها ، فقال له : يا أبا العلاء ، قال : لبيك يا مولانا ، فقال : هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والروالبة لميدمان بن يزيد (٤)؟ ، قال : إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخطّه ككراع النمل ، في جوانبها ، فقال له : أما تستحيي أبا العلاء من هذا الكذب؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا ، فجعل يحلف له أنه ما كذب ، ولكنه أمر وافق. ومات عن سنّ عالية ، رحمه الله تعالى!.
٦٠ ـ ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي(٥).
ولد سنة ٥٧٣ (٦) ، وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم ، فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري ، قال : سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئا من تصانيف المغاربة ، وروي لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول ، وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة ، وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهيلي صاحب الروض وغيرهم. ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب الفقيه ابن أبي تميم قال : وأنشدني : [بحر مجزوء الكامل]
__________________
(١) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ٢٠.
(٢) في ب : «مبرمان بن يزيد».
(٣) في ب : «والتزبيل».
(٤) في ب : «والزوالبة لمبرلمان بن يزيد».
(٥) انظر شذرات الذهب ج ٥ ص ٢١٤.
(٦) في ب : «ولد سنة ٥٧٢».
اسمع أخيّ نصيحتي |
|
والنّصح من محض الديانه |
لا تقربنّ إلى الشّها |
|
دة والوساطة والأمانه |
تسلم من ان تعزى لزو |
|
ر أو فضول أو خيانه (١) |
وذكر أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي ، صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة ، قال : أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين ، ومهما حصل عنده مال فرّقه في الحال ، وتركته في سنة ثمان وتسعين حيّا يرزق ، انتهى.
ووليّ الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله ، فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين بن الخطيب ، ومحلّه مقصود لقضاء الحاجات ، وقد زرته مرارا عديدة سنة ١٠١٠.
وقال لسان الدين في «نفاضة الجراب» : كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ، ونحن بفاس ، يخاطب الضريح المقصود ، والمنهل المورود ، والمرعى المنتجع ، والخوان الذي يكفي الغرثى (٢) ، ويمرّض المرضى ، ويقوت الزّمنى (٣) ويتعدّاهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى ، قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به ، وجبر حالنا ، وأعاد علينا النعم ، ودفع عنّا النقم : [بحر الخفيف]
يا وليّ الإله أنت جواد |
|
وقصدنا إلى حماك المنيع |
راعنا الدهر بالخطوب فجئنا |
|
نرتجي من علاك حسن الصّنيع |
فمددنا لك الأكفّ نرجّي |
|
عودة العزّ تحت شمل جميع |
قد جعلنا وسيلة تربك الزا |
|
كي وزلفى إلى العليم السميع (٤) |
كم غريب أسرى إليك فوافى |
|
برضا عاجل وخير سريع (٥) |
يا وليّ الله الذي جعل جاهه سببا لقضاء الحاجات ، ورفع الأزمات ، وتصريفه باقيا بعد الممات ، وصدّق قول الحكايات ظهور الآيات (٦) ، نفعني الله بنيّتي في بركة تربك! وأظهر عليّ
__________________
(١) تعزى : تنسب.
(٢) الخوان : المائدة. والغرثى : جمع غرثان ، وهو الجوعان.
(٣) الزمنى : جمع زمن ، وهو المصاب بمرض مزمن.
(٤) زلفى : قربة ، ومنزلة.
(٥) أسرى : سار ليلا.
(٦) الآيات : هنا الكرامات.
أثر توسّلي بك إلى الله ربّك! مزّق شملي ، وفرق بيني وبين أهلي ، وتعدّي عليّ ، وصرفت وجوه المكايد إليّ ، حتى أخرجت من وطني وبلدي ، ومالي وولدي ، ومحلّ جهادي ، وحقّي الذي صار لي طوعا عن آبائي وأجدادي ، عن بيعة لم يحلّ عقدتها الدين ، ولا ثبوت جرحة تشين (١) ، وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك ، فالتمس لي قبوله بقبولك ، وردّني إلى وطني على أفضل حال ، وأظهر عليّ كرامتك التي تشدّ إليها ظهور الرّحال ، فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحقّ ، إلى جميع الخلق ، والسلام عليك أيها الوليّ الكريم ، الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم ، ورحمة الله ، انتهى.
رجع : والسرخسي المذكور قال في حقّه بعض الأئمّة : إنه الشيخ الإمام ، شيخ الشيوخ ، تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه ، له رحلة مغربية ، انتهى.
وهو من بيت كبير ، وقال البدري في (٢) حقّه ما صورته : تاج الدين ، شيخ الشيوخ بدمشق ، أحد الفضلاء المؤرّخين المصنّفين ، له كتاب في ثمان مجلّدات ذكر فيه أصول الأشياء ، وله «السياسة الملوكية» صنّفها للملك الكامل محمد ، وغير ذلك ، وسمع الحديث ، وحفظ القرآن ، وكان قد بلغ الثمانين ، وقيل : لم يبلغها ، وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين ، واتّصل بمراكش ، عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ، فأقام هنالك إلى سنة ستمائة ، وقدم مصر ، وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه ، انتهى.
وقال غيره : إنه كان فاضلا متواضعا نزها حسن الاعتقاد ، قال أبو المظفر : كان يحضر مجالسي ، وأنشدني يوما : [بحر البسيط]
لم ألق مستكبرا إلّا تحوّل لي |
|
عند اللقاء له الكبر الذي فيه |
ولا حلا لي من الدنيا ولذّتها |
|
إلّا مقابلتي للتّيه (٣) بالتّيه |
وقال السرخسي المذكور في رحلته : إني وإن كنت خراساني الطينة ، لكنّي شامي المدينة ، وإن كانت العمومة من المشرق ، فإن الخؤولة من المغرب ، فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار ، ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار ، وذلك في حال ريعان الشباب
__________________
(١) تشين : تعيب.
(٢) في ب : «وقال البدري في تاريخه في حقه ..».
(٣) حلا لي ، هنا : لذّلي. والتيه : الكبر ، والعجب بالنفس. وقد استقى معنى البيت من قولهم : الكبر على أهل الكبر صدقة.
الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها ، والجوارح بخفّة حركاتها وانبساطها ، فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته ، واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته ، ثم سرت منه إلى الديار المصرية ، وهي آهلة بكلّ ما تتجمّل به البلاد وتزدهي ، وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي ، ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين أبي يوسف يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ، فاتّصلت بخدمته ، والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ، ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ، ويتكلّم في الفقه كلاما بليغا ، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى ، وله فتاوى مجموعة حسبما أدّى إليه اجتهاده ، وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر ، وقد شرحت أحوال سيرته ، وما جرى في أيام دولته ، في كتاب التاريخ المسمّى «عطف الذيل». وقد صنّف كتابا جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلّق بها العبادات سمّاه «الترغيب». وتهدّده ملك الإفرنج ألفنش في كتابه فمزّقه ، وقال لرسوله (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)) [النمل : ٣٧] إن شاء الله تعالى ، ثم قال للكاتب : اكتب على هذه القطعة ، يعني من كتابه الذي مزّقه : الجواب ما ترى لا ما تسمع : [بحر الطويل]
فلا كتب إلّا المشرفيّة والقنا |
|
ولا رسل إلّا الخميس العرمرم (١) |
ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب ، وهي : [بحر البسيط]
يا أيها الراكب المزجي مطيّته |
|
على عذافرة تشقى بها الأكم (٢) |
بلّغ سليمى على بعد الديار بها |
|
بيني وبينكم الرحمن والرّحم (٣) |
يا قومنا لا تشبّوا الحرب إن خمدت |
|
واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا |
كم جرّب الحرب من قد كان قبلكم |
|
من القرون فبادت دونها الأمم |
حاشى الأعارب أن ترضى بمنقصة |
|
يا ليت شعري هل ترآهم علموا |
يقودهم أرمنيّ لا خلاق له |
|
كأنه بينهم من جهلهم علم |
يعني بالأرمني قرقوش (٤) مملوك بني أيوب ، الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب الأدنى ،
__________________
(١) الخميس : الجيش المؤلف من خمس فرق. والعروم : الجيش الكثير العدد.
(٢) المزجي مطيته : السائق مطيته. والعذافرة : الناقة الشديدة القوية. والأكم : جمع أكمة ، وهي التل.
(٣) في ب : «بلغ سليما».
(٤) في ب : «قراقوش».
وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللّمتوني ، وحديثه مشهور ، وتمام الأبيات :
الله يعلم أني ما دعوتكم |
|
دعاء ذي قوة يوما فينتقم |
ولا لجأت لأمر يستعان به |
|
من الأمور وهذا الخلق قد علموا |
لكن لأجزي رسول الله عن نسب |
|
ينمى إليه وترعى تلكم الذّمم |
فإن أتيتم فحبل الوصل متّصل |
|
وإن أبيتم فعند السيف نحتكم |
ثم قال السرخسي : وبلغني أنّ قوما من الغرباء قصدوه ، ومعهم حيوانات معلّمة منها أسد وغراب ، أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس ، ويربض (١) بين يديه ، وربما أومأ بالسجود ومدّ ذراعيه ، وأمّا الغراب فكان يقول : النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [بحر الرمل]
أنس الشبل ابتهاجا بالأسد |
|
ورأى شبه أبيه فقصد (٢) |
أنطق الخالق مخلوقاته |
|
شهدوا والكلّ بالحقّ شهد |
أنّك الخيرة من صفوته |
|
بعد ما طال على الناس الأمد |
فأعطاهم وكساهم ، وأحسن حباهم.
وبلغني أنّ قوما أتوه بفيل من بلاد السودان هديّة ، فأمر لهم بصلة ، ولم يقبله منهم ، وقال : نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل (٣).
وقال لي يوما : كيف ترى هذه البلاد؟ وأين هي من بلادك الشامية؟ فقلت : يا سيدنا ، بلادكم حسنة أنيقة مجملة مكملة ، وفيها عيب واحد ، فقال : ما هو؟ فقلت : إنها تنسي الأوطان ، فتبسّم وظهر لي إعجابه بالجواب ، وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان.
وحدّثني بعض عمّالهم أنه فرّق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز.
__________________
(١) يربض : يجثم ، يبرك.
(٢) الشبل : ولد الأسد. وجمعه : أشبال وأشبل وشبال.
(٣) أراد أنه لا يريد أن يكون ممن تنطبق عليه الآية : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).
ودرج (١) إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة : وكان قد استخلف ولده محمدا وقرّر الأمر له ، انتهى.
قلت : بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أنّ يعقوب المنصور هذا تخلّى عن الملك ، وفرّ زاهدا فيه إلى المشرق ، وأنه دفن بالبقاع ؛ لأن هذه مقالة عامّيّة لا يثبتها علماء المغرب ، وسبب هذه المقالة تولّع العامّة به ، فكذبوا في موته ، وقالوا : إنه ترك الملك ، وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع ممّا ليس له أصل. ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية ، إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه (٢) : إن بعض الناس يزعمون أنّ المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق ، وهذا كلام لا يصحّ ، ولا أصل له. انتهى. وقال في «المغرب» : كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته ، وتخرّج بين يديه ، وتمرّس ، وهزم الفرنج الهزيمة الفظيعة ، وتولّع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب ، وقتل على السكر ، انتهى.
وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه «رقم الحلل ، في نظم الدول» أنّ المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما برّا في عمله (٣) ، والآخر بحرا في علمه ، فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور ، فلمّا اختبرهما لم يجدهما كما وصف ، فكتب إلى الآتي بهما (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)) [الروم : ٤١] انتهى. وناهيك بهذا دلالة على قوّة فطنته ومعرفته ، رحمه الله تعالى.
رجع إلى أخبار السرخسي :
وقال في رحلته لمّا ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي (٤) ، وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها ؛ اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد ، فرأيته شيخا بهيّ المنظر ، حسن المخبر ، فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية. ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك
__________________
(١) درج إلى رحمة الله : توفي.
(٢) انظر رفع الحجب ج ٢ ص ١٥٥.
(٣) أراد أنه ثابت ثبوت البر.
(٤) أبو الربيع سليمان بن عبد الله المتوفى سنة ٦٠٤. كان والي بجاية ، وله ديوان شعر. انظر المعجب ص ٣٧٨.
السودان لغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله : نحن نتجاور بالإحسان ، وإن تخالفنا في الأديان ، ونتّفق على السيرة المرضية ، ونتألّف على الرفق على الرعية ، ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة ، والجور لا تعانيه إلّا النفوس الشريرة الجاهلة ، وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرّف فيما هم بصدده ، وتردّد الجلّابة إلى البلد مفيد لسكانها ، ومعين على التمكّن من استيطانها ، ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية ، لكنّا لا نستصوب فعله ، ولا ينبغي لنا أن ننهي عن خلق ونأتي مثله ، والسلام.
ووقّع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه : قد كثرت فيك الأقوال ، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقّظ فتنصلح الحال ، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شرّ الاختيار وعدم الاختبار ، فاحذر فإنك على شفا جرف هار (١).
ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب : [بحر الكامل]
هبّت بنصركم الرياح الأربع |
|
وجرت بسعدكم النجوم الطّلّع |
واستبشر الفلك الأثير تيقّنا |
|
أنّ الأمور إلى مرادك ترجع |
وأمدّك الرحمن بالفتح الذي |
|
ملأ البسيطة نوره المتشعشع |
لم لا وأنت بذلت في مرضاته |
|
نفسا تفدّيها الخلائق أجمع |
ومضيت في نصر الإله مصمّما |
|
بعزيمة كالسيف بل هي أقطع |
لله جيشك والصوارم تنتضى |
|
والخيل تجري والأسنّة تلمع (٢) |
من كلّ من تقوى الإله سلاحه |
|
ما إن له غير التوكّل مفزع |
لا يسلمون إلى النوازل جارهم |
|
يوما إذا أضحى الجوار يضيّع (٣) |
ومنها يصف انهزام العدوّ :
إن ظن أنّ فراره منج له |
|
فبجهله قد ظنّ ما لا ينفع |
أين المفرّ ولا فرار لهارب |
|
والأرض تنشر في يديك وتجمع |
أخليفة الله الرضا هنّيته |
|
فتح يمدّ بما سواه ويشفع (٤) |
__________________
(١) انظر الآية ١٠٣ من سورة آل عمران.
(٢) تنتضى : تستلّ.
(٣) النوازل : الكوارث والمصائب.
(٤) في الديوان : «فتح يمد بمثله ويشفع». وشفع العدد : جعله شفعا أي زوجا.
فلقد كسوت الدّين عزّا شامخا |
|
ولبست منه أنت ما لا يخلع |
هيهات سرّ الله أودع فيكم |
|
والله يعطي من يشاء ويمنع |
لكم الهدى لا يدّعيه سواكم |
|
ومن ادّعاه يقول ما لا يسمع |
إن قيل : من خير الخلائق كلّها |
|
فإليك يا يعقوب تومي الأصبع (١) |
إن كنت تتلو السابقين فإنما |
|
أنت المقدّم والخلائق تبّع (٢) |
خذها ، أمير المؤمنين ، مديحة |
|
من قلب صدق لم يشنه تصنّع (٣) |
واسلم ، أمير المؤمنين ، لأمّة |
|
أنت الملاذ لها وأنت المفزع |
فالمدح مني في علاك طبيعة |
|
والمدح من غيري إليك تطبّع |
وعليك يا علم الهداة تحيّة |
|
يفنى الزمان وعرفها يتضوّع (٤) |
قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني : دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصر سجلماسة ، وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة ، وهو ينكت الأرض بقضيب من الأبنوس ، ويقول : [بحر الطويل]
ولا غرو أن كانت رؤوس عداته |
|
جوابا إذا كان السيوف رسائله |
ومات بعد الستمائة ، رحمه الله تعالى! انتهى.
وقال لمّا هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور ، ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغزّ (٥) من بلاد المشرق ، ونزلوا بتمرتاسقت (٦) ظاهر مراكش ، واستأذنوا في وقت الدخول ، فكتب إلى المنصور : [بحر الكامل]
يا كعبة الجود التي حجّت لها |
|
عرب الشآم وغزّها والدّيلم |
طوبى لمن أمسى يطوف بها غدا |
|
ويحلّ بالبيت الحرام ويحرم |
__________________
(١) تومي : تشير وأصلها يومئ بالهمز.
(٢) تبّع : جمع تابع.
(٣) لم يشنه : لم يعبه ، ولم يشوهه.
(٤) العرف : الريح الطيبة ، ويتضوّع : يفوح.
(٥) الغز : جيش كان مع شرف الدين قراقوش ، وفيه عناصر تركية ، جاؤوا إلى المغرب حوالي سنة ٥٨٢ فأكرمهم الخليفة الموحدي.
(٦) في ب : «بتمرتانسقت».
ومن العجائب أن يفوز بنظرة |
|
من بالشآم ومن بمكة يحرم |
فعفا عنه ، وأحسن إليه ، وأمره بالدخول بهم ، والتقدّم عليهم.
وقال في «المغرب» في حقّ السيد أبي الربيع المذكور ، ما ملخصه : لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده ، وكان تقدّم على مملكتي سجلماسة وبجاية ، وكان كاتبا شاعرا أديبا ماهرا ، وشعره مدوّن ، وله ألغاز ، وهو القائل في جارية اسمها ألوف : [بحر الطويل]
خليلّي ، قولا أين قلبي ومن به |
|
وكيف بقاء المرء من بعد قلبه |
ولو شئتما اسم الذي قد هويته |
|
لصحّفتما أمري لكم بعد قلبه |
وله الأبيات المشهورة التي منها : [بحر الطويل]
أقول لركب أدلجوا بسحيرة |
|
قفوا ساعة حتى أزور ركابها (١) |
وأملأ عيني من محاسن وجهها |
|
وأشكو إليها أن أطالت عتابها |
فإن هي جادت بالوصال وأنعمت |
|
وإلّا فحسبي أن رأيت قبابها |
وقال يخاطب ابن عمّه يعقوب المنصور : [بحر الكامل]
فلأملأنّ الخافقين بذكركم |
|
ما دمت حيّا ناظما ومرسّلا |
ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا |
|
جهد المقلّ وما عسى أن أفعلا |
ولأخلصنّ لك الدعاء ، وما أنا |
|
أهل له ، ولعلّه أن يقبلا |
وله مختصر كتاب «الأغاني» انتهى.
رجع : وذكر السرخسي أيضا في رحلته السيّد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن ، وقال في حقّه : إنه كان من أهل الأدب والطرب ، ولي بجاية مدّة ، ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذّه ، أنشدني محمد بن سعيد المهدي كاتبه قال : كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده ، ويطلب منه ما يقضي به ديونه : [بحر المتقارب]
وجوه الأماني بكم مسفره |
|
وضاحكة لي مستبشره |
ولي أمل فيكم صادق |
|
قريب عسى الله أن يوسره (٢) |
عليّ ديون وتصحيفها |
|
وعندكم الجود والمغفره |
__________________
(١) أدلج : سار الليل كله أو آخره.
(٢) في ب : «قريب عسى الله قد يسّره». وما أثبتناه موافق لما في أ.
يعني ذنوب.
وحدّثني الشيخ أبو الحسن بن فشتال الكاتب وقد أنشدته : [بحر الكامل]
أوحشتني ولو اطّلعت على الذي |
|
لك في ضميري لم تكن لي موحشا |
فقال : أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن ، فقال لي ولمن حضر : هل تعرفون لهذا البيت ثانيا؟ فما فينا من عرفه ، فأنشدنا : [بحر الكامل]
أترى رشيت على اطّراح مودّتي |
|
ولقد عهدتك ليس تثنيك الرّشا (١) |
أوحشتني ـ البيت ، انتهى.
وقال في «المغرب» في حقّ السيّد المذكور ، ما ملخّصه : كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية ، وله حكايات في الجود برمكية (٢) ، ونفس عالية زكية ، كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة : [بحر مجزوء الرجز]
اليوم يوم الجمعه |
|
يوم سرور ودعه |
وشملنا مفترق |
|
فهل ترى أن نجمعه |
فأجابه بقوله : [بحر مجزوء الرجز]
اليوم يوم الجمعه |
|
وربّنا قد رفعه |
والشرب فيه بدعة |
|
فهل ترى أن ندعه (٣) |
قال : ولفظة «السيد» في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلّا على بني عبد المؤمن بن علي ، انتهى.
رجع : قال السرخسي ، وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس : وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره : [بحر الطويل]
ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم |
|
وترجو نداهم غاديات السحائب (٤) |
يخطّون بالخطّيّ في حومة الوغى |
|
سطور المنايا في نحور المقانب (٥) |
__________________
(١) الرّشا : جمع رشوة.
(٢) برمكية : نسبة إلى البرامكة ، وقد اشتهروا بالجود والكرم.
(٣) البدعة : الشيء الطارئ المبتدع.
(٤) نداهم : كرمهم.
(٥) الخطّي : الرمح المصنوع من الخط. والوغى : الحرب. والمقانب جمع مقنب وهو الجماعة من الجيش.
كتابا بأطراف العوالي ونقسه |
|
دم القلب مشكولا بنضح الترائب (١) |
وما كنت أدري قبلهم أنّ معشرا |
|
أقاموا كتابا من نفوس الكتائب |
وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن بكيت قال : أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن : [بحر السريع]
فديت من أصبحت في أسره |
|
وليس لي من حكمه فادي |
إن حلّ يوما واديا كان لي |
|
جنّة عدن ذلك الوادي |
ثم ذكر ، رحمه الله تعالى ، جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة.
ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى : [بحر السريع]
يا ساهر المقلة لا عن كرى |
|
غفلت عن هجعي وأوصابي (٢) |
لو لم يكن وجهك لي قبلة |
|
ما أصبح الحاجب محرابي |
وكان متفنّنا في العلوم ، وهو عمّ الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ، ومن مصنّفاته «المسالك والممالك» و «عطف الذيل» في التاريخ ، وله أمال وتخاريج. وقدّمه المنصور صاحب المغرب على جماعة. وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ، ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع. وكان عالي الهمة ، شريف النفس ، قليل الطمع ، لا يلتفت إلى أحد رغبة في دنياه ، لا من أهله ولا من غيرهم ، وذكره صاحب «المرآة» وغيره ، وترجمته واسعة ، رحمه الله تعالى!
٦١ ـ ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي.
سكن قرطبة ، وكان من رؤساء الورّاقين المعروفين بالضبط وحسن الخطّ كعباس بن عمر الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما ، واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة (٣) ، لما علم من شدّة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها. وقد أشار ابن حيان في كتاب «المقتبس» إلى ظفر هذا ، رحمه الله تعالى!
٦٢ ـ ومنهم الرازي ، وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط ، الكناني ، الرازي.
__________________
(١) العوالي : الرماح. والنقس : الحبر. والترائب : موضع القلادة من الصدر.
(٢) الهجع : النوم. والأوصاب : جمع وصب ، وهو الوجع.
(٣) الوراقة : صناعة النسخ ، والوراقون : الذين كانوا ينسخون الكتب.
والد أبي بكر محمد صاحب التاريخ ، غلب عليه اسم بلده ، وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجرا ، وكان مع ذلك متفننا (١) في العلوم ، وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة ، في شهر ربيع الآخر سنة ٢٧٣ ، ذكره ابن حيان في «المقتبس».
٦٣ ـ ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان ، التميمي ، الدارمي ، البغدادي.
سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلّص وغيره ، وخرج من بغداد رسولا عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي ، رضي الله تعالى عنه ، إلى صاحب إفريقية المعزّ بن باديس ، واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرّة ، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب ، فقبّل عينيه ، وقال له : لله أنت من ناظم! وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب ، وخيّم عند المأمون بن ذي النون بطليطلة ، وله فيه أمداح كثيرة ، ومن فرائد شعره قوله : [بحر المنسرح]
يا ليل ، ألّا انجليت عن فلق |
|
طلت ولا صبر لي على الأرق (٢) |
جفت لحاظي التغميض فيك فما |
|
تطبق أحفانها على الحدق (٣) |
كأنني صورة ممثّلة |
|
ناظرها الدّهر غير منطبق |
وقال : [بحر السريع]
يزرع وردا ناضرا ناظري |
|
في وجنة كالقمر الطالع |
أمنع أن أقطف أزهاره |
|
في سنّة المتبوع والتابع |
فلم منعتم شفتي قطفها |
|
والشرع أنّ الزرع للزارع (٤) |
هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد وابن كتيلة ، وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهّاب.
قلت : وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله : [بحر السريع]
سلّمت أنّ الحكم ما قلتم |
|
وهو الذي نصّ عن الشارع |
فكيف تبغي شفة قطفه |
|
وغيرها المدعوّ بالزارع |
__________________
(١) في ب : «متقنا».
(٢) ألّا : هلّا. والفلق : الصبح. والأرق : القلق والسهر وذهاب النوم ليلا.
(٣) في ب : «جفا لحاظي التغميض».
(٤) في ب : «والحكم أن الزرع للزارع».
ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التّنسي ثم التلمساني بقوله : [بحر السريع]
في ذا الذي قد قلتم مبحث |
|
إذ فيه إيهام على السامع |
سلّمتم الحكم له مطلقا |
|
وغير ذا نصّ عن الشارع |
يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقا ، والشرع خلافه.
وأجاب بعض الحنفية بقوله : [بحر السريع]
لأنّ أهل الحبّ في حكمنا |
|
عبيدنا في شرعنا الواسع |
والعبد لا ملك له عندنا |
|
فحقّه للسّيّد المانع |
وهو جواب حسن لا بأس به.
ورأيت جوابا لبعض المغاربة على غير رويّه ، وهو : [بحر السريع]
قل لأبي الفضل الوزير الذي |
|
باهى به مغربنا الشرق |
غرست ظلما وأردت الجنى |
|
وما لعرق ظالم حقّ |
قلت : وهذا ممّا يعيّن أنّ الأبيات لأبي الفضل الدارمي المذكور في الذخيرة ، لا للقاضي عبد الوهّاب ، والله تعالى أعلم.
ومن شعر الوزير المذكور قوله : [بحر المنسرح]
بين كريمين منزل واسع |
|
والودّ حال تقرّب الشاسع |
والبيت إن ضاق عن ثمانية |
|
متّسع بالوداد للتاسع |
وولد ، رحمه الله تعالى ، سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، وهو من بيت علم وأدب. قال الحميدي : أخبرني بذلك أبو عمر رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث ، وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وقال ابن حيان : توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة ، في كنف المأمون يحيى بن ذي النون ، وذكر أنه كان يتّهم بالكذب ، فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.
وقال ابن ظافر في كتابه «بدائع البداءة» ما نصّه : حضر أبو الفضل الدارمي البغدادي مجلس المعزّ بن باديس ، وبالمجلس ساق وسيم قد مسّك عذاره وورّد (١) خديه ، وعجزت
__________________
(١) في ب : «ورد».
الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه ، فأمره المعزّ بوصفه ، فقال بديها : [بحر الكامل]
ومعذّر نقش الجمال بمسكه |
|
خدّا له بدم القلوب مضرّجا |
لمّا تيقّن أنّ سيف جفونه |
|
من نرجس جعل العذار بنفسجا |
وقوله في جارية تبخّرت بالندّ (١) : [بحر الطويل]
ومحطوطة المتنين مهضومة الحشى |
|
منعّمة الأرداف تدمى من اللّمس (٢) |
إذا ما دخان النّدّ من جيبها علا |
|
على وجهها أبصرت غيما على شمس |
وقوله : [بحر الكامل]
لأغرّزنّ بمهجتي في حبّه |
|
غرزا يطيل مع الخطوب خطابي |
ولئن تعزّز إنّ عندي ذلّة |
|
تستعطف الأعداء للأحباب |
وقوله : [بحر المتقارب]
دعتني عيناك نحو الصبا |
|
دعاء يكرّر في كل ساعه |
ولولا وحقّك عذر المشيب |
|
لقلت لعينيك سمعا وطاعه |
وقد تمثّل بهذين البيتين لسان الدين بن الخطيب في خطبة تأليفه المسمّى ب «روضة التعريف ، بالحب الشريف».
وقال أبو الفضل الدارمي المذكور أيضا : [بحر البسيط]
سطا الفراق عليهم غفلة فغدوا |
|
من جوره فرقا من شدّة الفرق (٣) |
سرت شرقا وأشواقي مغرّبة |
|
يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي (٤) |
لو لا تدارك دمعي يوم كاظمة |
|
لأحرق الركب ما أبديت من حرق |
يا سارق القلب جهرا غير مكترث |
|
أمنت في الحبّ أن تعدى على السّرق (٥) |
لم يبق مني سوى لفظ يبوح بما |
|
ألقى ، فيا عجبا للفظ كيف بقي |
__________________
(١) الندّ : عود يتبخّر به.
(٢) محطوطة المتنين : ممدودتهما.
(٣) الفرق : الخوف.
(٤) نزحت : بعدت.
(٥) السّرق : السرقة.
صلني إذا شئت أو فاهجر علانية |
|
فكلّ ذلك محمول على الحدق |
وقال : [بحر الطويل]
تذكّر نجدا والحمى فبكى وجدا |
|
وقال : سقى الله الحمى وسقى نجدا |
وحيّته أنفاس الخزامى عشيّة |
|
فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا (١) |
فأظهر سلوانا وأضمر لوعة |
|
إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا |
ولو أنه أعطى الصبابة حكمها |
|
لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى |
وقال أيضا : [بحر مجزوء الرمل]
قلت للملقي على الخدّين من ورد خمارا (٢)
سبل الصّدغ على خدّك من مسك عذارا (٣)
أم أعان الليل حتّى |
|
قهر الليل النهارا |
قال : ميدان جرى الحسن عليه فاستدارا |
||
ركضت فيه عيون |
|
فأثارته غبارا |
وقال : [بحر السريع]
وكاتب أهديت نفسي له |
|
فهي من السوء فدى نفسه |
فلست أدري بعد ما حلّ بي |
|
بمسكه أتلف أم نقسه (٤) |
سلّط خدّيه على مهجتي |
|
فاستأصلتها وهي من غرسه (٥) |
وقال : [بحر السريع]
وشادن أسرف في صدّه |
|
وزاد في التّيه على عبده (٦) |
الحسن قد بثّ على خدّه |
|
بنفسجا يزهو على ورده |
رأيته يكتب في طرسه |
|
خطّا يباري الدّرّ من عقده |
فخلت ما قد خطّه كفّه |
|
للحسن قد خطّ على خدّه |
__________________
(١) في أ : «وخفة» والتصويب عن الذخيرة.
(٢) الخمار : ما تغطي به المرأة وجهها.
(٣) الصدغ : ما بين العين والأذن من جانب الوجه ، أو الشعر الذي فوق الصدغ.
(٤) النقس : الحبر.
(٥) استأصلتها : أراد أتلفتها.
(٦) التيه : الكبر والعجب.
وقال : [بحر المجتث]
إني عشقت صغيرا |
|
قد دبّ فيه الجمال |
وكاد يغشى حديث ال |
|
فضول منه الدّلال |
لو مرّ في طرق الهج |
|
ر لاعتراه ضلال |
يريك بدرا منيرا |
|
في الحسن وهو هلال |
وقال : [بحر السريع]
ظبي إذا حرّك أصداغه |
|
لم يلتفت خلق إلى العطر |
غنّى بشعري منشدا ليتني ال |
|
لفظ الذي أودعته شعري |
فكلّما كرّر إنشاده |
|
قبّلته فيه ولم يدر |
وقال : [بحر الطويل]
أينفع قولي إنني لا أحبّه |
|
ودمعي بما يمليه وجدي يكتب |
إذا قلت للواشين لست بعاشق |
|
يقول لهم فيض المدامع يكذب (١) |
وقال : [بحر الطويل]
وهبني قد أنكرت حبّك جملة |
|
وآليت أني لا أروم محطّها (٢) |
فمن أين لي في الحبّ جرح شهادة |
|
سقامي أملاها ودمعي خطّها |
وقال : [بحر الخفيف]
أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ين |
|
شط من حبّه عقال وثاقي |
فأريح الفؤاد ممّا اعتراه |
|
وأردّ الهوى على العشّاق |
وقال : [بحر الطويل]
كلانا لعمري ذائبان من الهوى |
|
فنارك من جمر وناري من هجر |
أنت على ما قد تقاسين من أذى |
|
فصدرك في نار وناري في صدري |
وقال : [بحر المتقارب]
__________________
(١) الواشون : الذين لا يكتمون الأسرار.
(٢) لا أروم : لا أقصد.
ومن عجب العشق أنّ القتيل |
|
يحنّ ويصبو إلى القاتل (١) |
وقال : [بحر الوافر]
ألم أجعل مثار النّقع بحرا |
|
على أنّ الجياد له سفين (٢) |
وقال : [بحر البسيط]
أصبحت أحلب تيسا لا مدرّ له |
|
والتّيس من ظنّ أنّ التيس محلوب |
وأما الحكيم أبو محمد المصري (٣) وهو القائل : [بحر الطويل]
رعى الله دهرا قد نعمنا بطيبه |
|
لياليه من شمس الكؤوس أصائل (٤) |
ونرجسنا درّ على التّبر جامد |
|
وخمرتنا تبر على الدّرّ سائل |
فقد ترجمه في «الذخيرة» فليراجع ، فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية. وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به ، فخلفته هنالك ، والله تعالى يلم الشمل. وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر ، فقيل له «المصري» لذلك ، فليعلم ، والله تعالى أعلم.
٦٤ ـ ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني.
قال ابن سعيد : أنشدنا لمّا وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه : [بحر الكامل]
طاب الصّبوح لنا فهاك وهات
وادعاها ، وفيها :
في روضة غنّا تخال طيورها |
|
وغصونها همزا على ألفات (٥) |
ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه ، انتهى.
٦٥ ـ ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك.
وهو مذكور في الذخيرة ، وكان حلو الجواب ، مليح التندر ، يضحك من حضر ، ولا يضحك هو إذا ندّر ، وكان قصيرا دميما.
__________________
(١) في ه : «ومن أعجب» ومعنى هذا البيت متصل بقول الآخر :
خليلي ـ فيما عشتما ـ هل رأيتما |
|
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي |
(٢) النقع : الغبار.
(٣) هو أبو محمد عبد الله بن خليفة ـ المصري. انظر ترجمته في الذخيرة ٤ / ١ : ٦٩ ـ ١٠٥.
(٤) الأصيل : بعد العصر وقبل المغرب ، وجمعه : أصائل ، وأصل ، وأصلان ، وأصال.
(٥) غنّا : غناء ، قصره لأجل الوزن.
قال : ورأيته يوما وقد لبس ثوبا (١) أحمر على بياض ، وفي رأسه طرطور أخضر ، عمّم عليه عمّة لازوردية ، وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه : [بحر المتقارب]
وأنت سليمان في ملكه |
|
وبين يديك أنا الهدهد |
وأنشد له في المعتمد : [بحر الطويل]
أبا القاسم الملك المعظّم قدره |
|
سواك من الأملاك ليس يعظّم |
|
||
لقد أصبحت حمص بعدلك جنّة |
|
وقد أبعدت عن ساكنيها جهنّم |
ولي في محيّاك الربيع وإنني |
|
أزخرف أعلام الثناء وأرقم (٢) |
وأنفقت ما أعطيتني ثقة بما |
|
أؤمّل فالدينار عندي درهم |
وقلبي إلى بغداد يصبو وإنني |
|
لنشر صباها دائما أتنسّم |
وقال : [بحر الطويل]
وروّى على ربع العقيق دموعه |
|
عقيقا ففيها توأم وفريد (٣) |
شهدت وما تغني شهادة عاشق |
|
بأنّ قتيل الغانيات شهيد |
ومنها :
إذا قابلوه قبّلوا ترب أرضه |
|
وهم لعلاه ركّع وسجود |
وقد هزّ منه الله للملك صارما |
|
تقام بحدّي شفرتيه حدود |
وقال : [بحر الطويل]
لأية حال حال عن سنة الكرى |
|
ولم أصغ يوما في هواه إلى العذل (٤) |
ومنها :
كأنّ بقاء الطّلّ فوق جفونها |
|
دموع التصابي حرن في الأعين النّجل (٥) |
ومنها :
__________________
(١) في ب ، ه : «لبس طاقا أحمر».
(٢) في ب ، ه ـ صدر هذا البيت «ولي بحياك الريع عاما وأشهرا».
(٣) توأم : أراد به الذي معه مثله ، والفريد : المنفرد ، وفي ب : «وذرى على ربع العقيق».
(٤) حال : تحول من حال إلى حال.
(٥) الطلّ : الندى ، والعيون النجل : الواسعة.
تملّكت رقّي بالعوارف منعما |
|
وأغنيتني بالجود عن كلّ ذي فضل (١) |
وأنسيتني أرض العراق ودجلة |
|
وربعي حتى ما أحنّ إلى أهلي |
وقال في المقتدر بن هود : [بحر المتقارب]
لعزّك ذلّت ملوك البشر |
|
وعفّرت تيجانهم في العفر (٢) |
وأصبحت أخطرهم بالقنا |
|
وأركبهم لجواد الخطر |
سهرت وناموا على المأثرات |
|
فما لهم في المعالي أثر (٣) |
وجلّيت في حيث صلّى الملوك |
|
فكلّ بذيل العلا قد عثر (٤) |
ومنها :
وأنتم ملوك إذا شاجروا |
|
أظلّتهم من قناهم شجر |
وقال فيه من قصيدة (٥) : [بحر البسيط]
غنّى حسامك في أرجاء قرطبة |
|
صوتا أباد العدى والليل معتكر |
حيث الدماء مدام والقنا زهر |
|
والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا (٦) |
وكان مشهورا بالهجاء ، وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدّة : [بحر الكامل]
بلغ الأمانة فهي في حلقومه |
|
لا ترتقي صعدا ولا تتنزّل |
وقال في ناصر الدولة بن حمدان : [بحر الكامل]
ولئن غلطت بأن مدحتك طالبا |
|
جدواك مع علمي بأنّك باخل |
الدولة الغرّاء قد غلطت بأن |
|
سمّتك ناصرها وأنت الخاذل |
إن تمّ أمرك مع يد لك أصبحت |
|
شلّاء فالأمثال شيء باطل |
ومما ينسب إليه ، وقيل لغيره : [بحر الكامل]
__________________
(١) العوارف : جمع عارفة ، وهي المعروف.
(٢) عفّره في التراب : مرّغه وقلّبه فيه والعفر بفتح العين والفاء : التراب.
(٣) المأثرات : المكارم المتوارثة.
(٤) جليت : جليّ الفرس : جاء أولا في السباق. وصلى الفرس : جاء ثانيا في السباق.
(٥) في ب : «وقال الفكيك من قصيدة».
(٦) المدام : الخمرة. الحتف : الموت.