نفح الطّيب - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

قال ابن سعيد : أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكان مشرف وغوطتها تحتها تجري فيها الأنهار ، ودمشق في وهدة تنصبّ إليها الأنهار ، وقد قال الله تعالى في وصف الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الفرقان : ١٠] انتهى.

وقال الشيخ الصفدي في تذكرته : أنشدني المولى الفاضل البارع شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط بقلعة الجبل من الديار المصرية حرسها الله تعالى لنفسه في شعبان المكرم سنة ٧٣٣ : (١) [السريع]

قصدت مصر من ربا جلّق

بهمّة تجري بتجريبي (٢)

فلم أر الطرة حتى جرت

دموع عيني بالمزيريب

وأنشدني لنفسه أيضا : [بحر السريع]

خلقت بالشام حبيبي وقد

يممت مصرا لعنا طارق

والأرض قد طالت فلا تبعدي

بالله يا مصر على العاشق

وأنشدني لنفسه أيضا : [بحر السريع]

يا أهل مصر أنتم للعلا

كواكب الإحسان والفضل

لو لم تكونوا لي سعودا لما

وافيتكم أضرب في الرمل

وذكرته برمته لحسن مغزاه.

وقال الشيخ مجد الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الظّهير الحنفي الإربلي (٣) : [بحر الطويل]

لعل سنى برق الحمى يتألّق

على النأي أو طيفا لأسماء يطرق

فلا نارها تبدو لمرتقب ولا

وعود الأمانيّ الكواذب تصدق

لعل الرياح الهوج تدني لنازح

من الشام عرفا كاللطيمة تعبق (٤)

ديار قضينا العيش فيها منعما

وأيامنا تحنو علينا وتشفق

__________________

(١) في ب ، ه : «سنة ٧٣٢ ه‍».

(٢) في ب : «قصدت مصرا».

(٣) هو محمد بن أحمد بن عمر بن الظهير الإربلي المتوفى سنة ٦٧٧ ه‍ ، من فقهاء الحنفية (انظر فوات الوفيات ج ٢ ص ٣٥٦ ، الوافي ج ٢ ص ١٢٣).

(٤) في ب : «يعبق».

٢١

سحبنا بها برد الشباب وشربنا

لدينا كما شئنا لذيذ مروّق

مواطن منها السهم سهمي وظله

تخبّ مطايا اللهو فيه وتعنق

جلا جانبيه معلم متجعد

من الماء في أطلاله يتدفق (١)

إذا الشمس حلت متنه فهو مذهب

وإن حجبتها دوحه فهو أزرق

وإن فرج الأوراق جادت بنورها

فرقم أجادته الأكفّ منمّق (٢)

يطل عليه قاسيون كأنه

غمام معلى أو نعام معلق

تسافر عنه الشمس قبل غروبها

وترجف إجلالا له حين تشرق

وتصفرّ من قبل الأصيل كأنها

محب من البين المشتّت مشفق (٣)

وفي النّيرب الميمون للبّ سالب

من المنظر الزاهي وللطرف مومق

بدائع من صنع القديم رضائع

تأنّق فيها المحدث المتأنق (٤)

رياض كوشي للبرود يشقها

جداولها فالنّور بالماء يشرق

فمن نرجس يخشى فراق فريقه

ترى الدمع في أجفانه يترقرق

ومن كل ريحان مقيم وزائر

يصافح رياه الرياض فتعبق

كأن قدود السرو فيه موائسا

قدود عذارى ميلها مترفق

إذا ما تدلّت للشقائق صدّها

عيون من النور المفتح ترمق (٥)

وقصر يكلّ الطرف عنه كأنه

إلى النسر نسر في السماء معلق

وكم جدول جار يطارد جدولا

وكم جوسق عال يوازيه جوسق (٦)

وكم بركة فيها تضاحك بركة

وكم قسطل للماء فيه تدفق

وكم منزل يعشي العيون كأنما

تألق فيها بارق يتألق

وفي الربوة الفيحاء للقلب جاذب

وللهم مسلاة وللعين مرفق (٧)

عروس جلاها الدهر فوق منصة

من الدهر والأبصار ترمى وترمق

فهام بها الوادي ففاضت عيونه

فكل قرار منه بالدمع يشرق

__________________

(١) في ب : «كلا جانبه ..».

(٢) النور ، بفتح النون وسكون الواو : الزهر.

(٣) مشفق : خائف.

(٤) في ب ، ه : «بدائع من صنع القديم ومحدث».

(٥) ترمق : تنظر.

(٦) الجوسق : القصر ، الحصن.

(٧) في ب : «مرقق».

٢٢

تكفل من دون الجداول شربها

يزيد يصفيه لها ويروّق

وقال أبو تمام في دمشق (١) : [بحر الكامل]

لو لا حدائقها وأنّي لا أرى

عرشا هناك ظننتها بلقيسا

وأرى الزمان غدا عليك بوجهه

جذلان بسّاما وكان عبوسا

قد بوركت تلك البطون وقد سمت

تلك الظهور وقدّست تقديسا

وقال البحتري (٢) : [البسيط]

أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها

وقد وفى لك مطريها بما وعدا

إذا أردت ملأت العين من بلد

مستحسن وزمان يشبه البلدا

تمشي السحاب على أجبالها فرقا

ويصبح النور في صحرائها بددا

فلست تبصر إلا واكفا خضلا

أو يانعا خضرا أو طائرا غردا

كأنما القيظ ولى بعد جيئته

أو الربيع دنا من بعد ما بعدا

وفي دمشق يقول بعضهم : [بحر الكامل]

برزت دمشق لزائري أوطانها

من كل ناحية بوجه أزهر

لو أن إنسانا تعمد أن يرى

مغنى خلا من نزهة لم يقدر

وقال القيراطي (٣) في قصيدته التي أولها : [بحر الكامل]

للصب بعدك

حالة لا تعجب

لله ليل كالنهار قطعته

بالوصل لا أخشى به ما يرهب

وركبت منه إلى التصابي أدهما

من قبل أن يبدو لصبح أشهب

أيام لا ماء الخدود يشوبه

كدر العذار ولا عذارى أشيب

كم في مجال اللهو لي من جولة

أضحت ترقص بالشباب وتطرب

وأقمت للندماء سوق خلاعة

تجني المجون إليّ فيه وتجلب

__________________

(١) انظر ديوان أبي تمام ج ٢ ص ٢٦٤.

(٢) ديوان البحتري ج ٢ ص ٧١٠.

(٣) القيراطي : هو إبراهيم بن عبد الله الطائي القيراطي المتوفى سنة ٧٨١ (انظر ترجمته في شذرات الذهب ج ٦ ص ٢٩٦).

٢٣

وذكرت في مغنى دمشق معشرا

أمّ الزمان بمثلهم لا تنجب

لا يسأل القصاد عن ناديّهم

لكن يدلهم الثناء الطيب

قوم بحسن صفاتهم وفعالهم

قد جاء يعتذر الزمان المذنب

يا من لحرّان الفؤاد وطرفه

بدمشق أدمعه غدت تتحلّب

أشتاق في وادي دمشق معهدا

كل الجمال إلى حماه ينسب

ما فيه إلا روضة أو جوسق

أو جدول أو بلبل أو ربرب (١)

وكأن ذاك النهر فيه معصم

بيد النسيم منقّش ومكتب

وإذا تكسّر ماؤه أبصرته

في الحال بين رياضة يتشعب

وشدت على العيدان ورق أطربت

بغنائها من غاب عنه المطرب

فالورق تنشد والنسيم مشبب

والنهر يسقي والحدائق تشرب

وضياعها ضاع النسيم بها فكم

أضحى له من بين روض مطلب

وحلت بقلبي من عساكر جنة

فيها لأرباب الخلاعة ملعب

ولكم رقصت على السماع بجنكها

وغدا بربوتها اللسان يشيب (٢)

فمتى أزور معالما أبوابها

بسماحها كتب السماح تبوّب

وقال الصّفيّ الحلّي عند نزوله بدمشق مسمطا لقصيدة السموأل بالحماسة : [بحر الطويل]

قبيح بمن ضاقت عن الرزق أرضه

وطول الفلا رحب لديه وعرضه

ولم يبل سربال الدجى فيه ركضه

(إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل)

إذا المرء لم يحجب عن العين نومها

ويغل من النفس النفيسة سومها

أضيع ولم تأمن معاليه لومها

(وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل)

رفعنا على هام السّماك محلنا

فلا ملك إلا تغشاه ظلنا

لقد هاب جيش الأكثرين أقلنا

(ولا قلّ من كانت بقاياه مثلنا

__________________

(١) الربرب : القطيع من الغزلان.

(٢) الجنك : آلة طرب تشبه العود.

٢٤

شباب تسامى للعلا وكهول)

يوازي الجبال الراسيات وقارنا

وتبنى على هام المجرة دارنا

ويأمن من صرف الزمان جوارنا

(وما ضرنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل)

ولما حللنا الشام تمّت أموره

لنا وحبانا ملكه ووزيره

وبالنّيرب الأعلى الذي عزّ طوره

(لنا جبل يحتله من نجيره(١)

منيع يرد الطرف وهو كليل)

يريك الثريا من خلال شعابه

وتحدق شهب الأفق حول هضابه

ويقصر خطو السحب دون ارتكابه

رسا أصله تحت الثرى وسما به

إلى النجم فرع لا ينال طويل)

وقصر على الشقراء قد فاض نهره

وفاق على فخر الكواكب فخره

وقد شاع ما بين البرية شكره

(هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره(٢)

يعز على من رامه ويطول)

إذا ما غضبنا في رضا المجد غضبة

لندرك ثأرا أو لنبلغ رتبة

نزيد غداة الكر في الموت رغبة

(وإنا لقوم لا نرى الموت سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول)

وكتب الشيخ محب الدين الحموي في ترجمة الشيخ إسماعيل النابلسي شيخ الإسلام من مصر : [بحر الطويل]

لواء التهاني بالمسرّة يخفق

وشمس المعالي في سما الفضل تشرق

وسعد وإقبال ومجد مخيم

وأيام عز بالوفا تتخلق

فيا أيها المولى الذي جلّ قدره

ويا أيها الحبر اللبيب المدقق (٣)

__________________

(١) النيرب : قرية بدمشق على نصف فرسخ في وسط البساتين. يقال : فيه مصلى الخضر عليه السلام (معجم البلدان ج ٥ ص ٣٣٠).

(٢) الفرس الأبلق : الذي فيه سواد وبياض.

(٣) الحبر ، بفتح الحاء وسكون الباء : العالم.

٢٥

أرى الشام مذ فارقتها زال نورها

وثوب بهاها والنضارة يخلق (١)

إذا غبت عنها غاب عنها جمالها

ونفس بدون الروح لا تتحقق

وإن عدت فيها عاد فيها كمالها

وصار عليها من بهائك رونق

فيا ساكني وادي دمشق مزاركم

بعيد وباب الوصل دوني مغلق

وليس على هذا النوى لي طاقة

فهل من قيود البين والبعد أطلق

وإني إلى أخباركم متشوّف

وإني إلى لقياكم متشوق

أود إذا هب النسيم لنحوكم

بأني في أذياله أتعلّق

وأصبو لذكراكم إذا هبت الصّبا

لعلي من أخباركم أتنشق

ولي أنّة أودت بجسمي ولوعة

ونار جوى من حرها أتفلق (٢)

فحنّوا على المضنى الذي ثوب صبره

إذا مسه ذيل الهوى يتمزق (٣)

غريب بأقصى مصر أضحت دياره

ولكنّ قلبي بالشآم معلّق

وقد نسخ التبريح جسمي فهل إلى

غبار ثرى أعتاب وصل يحقّق

فيا ليت شعري هل أفوز بروضة

وفيها عيون النرجس الغض تحدق

وأنظر واديها وآوي لربوة

وماء معين حولها يتدفق

ويحلو لي العيش الذي مر صفوه

وهل عائد ذاك النعيم المروّق

وأنظر ذاك الجامع الفرد مرة

وفي صحنه تلك الحلاوة تشرق

وأصحابنا فيه نجوم زواهر

ونور محيّا وجههم يتألق

فلا برحوا في نعمة وسعادة

وعز ومجد شأوه ليس يلحق (٤)

وقال ابن عنين : [بحر الكامل]

ما ذا على طيف الأحبة لو سرى

وعليهم لو ساعدوني بالكرى

جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا

والله يعلم أن ذلك مفترى

يا معرضا عنى بغير جناية

إلا لما نقل العذول وزوّرا

هبني أسأت كما تقول وتفتري

وأتيت في حبّيك شيئا منكرا

__________________

(١) يخلق : يبلى ، يرثّ.

(٢) أتفلق : أتشقق.

(٣) المضنى : المتعب.

(٤) شأوه : شأنه ومكانته.

٢٦

ما بعد بعدك والصدود عقوبة

يا هاجري ما آن لي أن تغفرا

لا تجمعنّ عليّ عتبك والنوى

حسب المحب عقوبة أن يهجرا

عبء الصدود أخف من عبء النوى

لو كان لي في الحب أن أتخيرا

فسقى دمشق ووادييها والحمى

متواصل الأرهام منفصم العرا

حتى ترى وجه الرياض بعارض

أخوى وفود الدّوح أزهر نيرا

تلك المنازل لا ملاعب عالج

ورمال كاظمة ولا وادي القرى

أرض إذا مرت بها ريح الصبا

حملت على الأغصان مسكا أذفرا

فارقتها لا عن رضا وهجرتها

لا عن قلى ورحلت لا متخيرا

أسعى لرزق في البلاد مشتّت

ومن العجائب أن يكون مقترا

وابن عنين (١) المذكور كان هجاء ، وهو صاحب «مقراض الأعراض» تجاوز الله تعالى عنه ، فمن ذلك قوله : [بحر الوافر]

أرح من نزح ماء البئر يوما

فقد أفضى إلى تعب وعيّ

مر القاضي بوضع يديه فيه

وقد أضحى كرأس الدّولعيّ

يعني أقرع.

وسبب قوله البيتين أن المعظّم أمر بنزح ماء بقلعة دمشق ، فأعياهم ذلك.

ومن هجوه قوله (٢) : [بحر الوافر]

شكا شعري إلي وقال تهجو

بمثلي عرض ذا الكلب اللئيم

فقلت له تسلّ فربّ نجم

هوى في إثر شيطان رجيم

وقال فيمن خرج حاجّا فسقط عن الهجين فتخلف (٣) : [بحر الوافر]

إذا ما ذمّ فعل النوق يوما

فإني شاكر فعل النياق

__________________

(١) ابن عنين : هو شرف الدين أبو المحاسن محمد بن نصر بن الحسين بن علي بن محمد بن غالب المعروف بابن عنين. نشأ بدمشق وقال الشعر وهو ابن ست عشرة سنة واشتهر بالهجاء (انظر ديوان ابن عنين. تحقيق خليل مردم. المقدمة ص ٣ وفيها القصيدة).

(٢) ديوان ابن عنين ص ١٨٨.

(٣) ديوانه ص ٢٢٧.

٢٧

أراد الله بالحجّاج خيرا

فثبط عنهم أهل النفاق

وقال (١) : [بحر البسيط]

وراحل سرت في ركب أودعه

تبارك الله ما أحلى تلاجينا (٢)

جئنا إلى بابه لاجين نسأله

فليتنا عاقنا موت ولا جينا

راجين نسأل ميتا لا حراك به

مثل النصارى إلى الأصنام لا جينا

وقال (٣) : [بحر الخفيف]

وصلت منك رقعة أسأمتني

صيّرت صبري الجميل قليلا

كنهار المصيف حرّا وكربا

وكليل الشتاء بردا وطولا

وأول «مقراض الأعراض» قوله : [بحر المنسرح]

أضالع تنطوي على كرب

ومقلة مستهلة الغرب (٤)

شوقا إلى ساكني دمشق فلا

عدت رباها مواطر السحب

مواطن ما دعا توطنها

إلا ولبّى نداءها لبّي

ثم ذكر من الهجو ما تصم عنه الآذان.

وهو القائل في دمشق : [بحر الطويل]

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

وظلّك يا مقرى علي ظليل

وهل أرينّي بعد ما شطت النوى

ولي في ذرا روض هناك مقيل

ومنها : [بحر الطويل]

دمشق بنا شوق إليك مبرّح

وإن لجّ واش أو ألحّ عذول (٥)

بلاد بها الحصباء در ، وتربها

عبير ، وأنفاس الشّمال شمول

تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

وصح نسيم الروض وهو عليل

__________________

(١) ديوانه ص ٢١٥.

(٢) في الديوان : تبارك الله ما أشقى المساكينا.

(٣) ديوانه : ص ٢٣٥.

(٤) الغرب : عرق في العين يفيض ولا ينقطع.

(٥) لجّ في الأمر : لازمه وأبى أن ينصرف عنه.

٢٨

وقد تقدم التمثيل بهذه الأبيات الثلاثة في خطبة هذا الكتاب.

ومن هذه القصيدة : [بحر الطويل]

وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

ورأي ظهير الدين فيّ جميل

من القوم أمّا أحنف فمسفّه

لديهم ، وأما حاتم فبخيل

فتى المجد أما جاره فممنّع

عزيز ، وأما ضدّه فذليل

وأما عطايا كفه فمباحة

حلال ، وأما ظله فظليل

وظهير الدين الممدوح هو طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين ، وكان ملك اليمن ، وأحسن إلى ابن عنين إحسانا كثيرا وافرا ، وخرج ابن عنين من اليمن بمال جم ، وطغتكين : بضم الطاء المهملة ، وبعدها غين معجمة ، ثم تاء مثناة من تحتها مكسورة ، ثم كاف مكسورة أيضا ، ثم ياء تحتية ، ثم نون ، وكان يلقب بالملك العزيز ، ولذلك قال ابن عنين لما رجع من عنده إلى مصر أيام العزيز عثمان بن صلاح الدين فألزم أرباب الديون ابن عنين بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته (١) : [بحر البسيط]

ما كلّ من يتسمّى بالعزيز له

أهل وما كلّ برق سحبه غدقه (٢)

بين العزيزين بون في فعالهما

هذاك يعطي وهذا يأخذ الصّدقة

ومن هجو ابن عنين قوله في فقيهين يلقب أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس (٣) : [بحر الكامل]

البغل والجاموس في حاليهما

قد أصبحا مثلا لكل مناظر

قعدا عشية يومنا فتناظرا

هذا بقرنيه وذا بالحافر (٤)

ما أحكما غير الصياح كأنما

لقيا جدال المرتضى بن عساكر (٥)

جلفان ما لهما شبيه ثالث

إلا رقاعة مذلويه الشاعر

لفظ طويل تحت معنى قاصر

كالعقل في عبد اللطيف الناظر

رجع إلى دمشق :

__________________

(١) الديوان ص ٢٢٣.

(٢) غدقه : السحاب الغدق : الكثير الماء.

(٣) الديوان ص ٢٠٥.

(٤) في الديوان : برزا عشية ليلة فتناظرا.

(٥) في ب : «لقنا جدال ...».

٢٩

وقال العز الموصلي : [بحر الوافر]

إليك حياض حمّامات مصر

ولا تتكثّري عندي بمين

حياض الشام أحلى منك ماء

وأطهر وهي دون القلتين

وهذان البيتان جواب منه عن قول ابن نباتة (١) : [بحر مجزوء الكامل]

أحواض حمام الشآ

م ألا اسمعي لي كلمتين

لا تذكرى أحواض مص

ر فأنت دون القلتين

وأما قول النّواجي سامحه الله تعالى : [بحر مجزوء الخفيف]

مصر قالت دمشق لا

تفتخر قط باسمها

لو رأت قوس روضتي

منه راحت بسهمها

فهو من باب تفضيل الوطن من حبه ، ومنه قول الوداعي : [بحر المسريع]

روّ بمصر وبسكانها

شوقي وجدد عهدي الخالي

وارو لنا يا سعد عن نيلها

حديث صفوان بن عسال (٢)

فهو مرادي لا «يزيد» ولا

«ثور» وإن رقّا ورقا لي

ومن ذلك النمط قول الشهاب الحجازي : [بحر الرجز]

قالوا دمشق قد زهت لزهرها

فامض وشاهد جوزها ولوزها

فقلت لا أبدل بلدتي بها

ولست أرضى زهرها ولو زها (٣)

[وقول الخفاجي قاضي مصر ، وإن لم يكن في دمشق ، لكن في السياق في النظم : [بحر المنسرح]

قد فتن العاشقين حين بدا

بطلعة كالهلال أبرزها

طرّ له شارب على شفة

كالورد في الآس حين طرزها](٤)

__________________

(١) ديوان ابن نباتة ص ٥٣٧.

(٢) صفوان بن عسال المرادي ، صحابي معروف (تقريب التهذيب ج ١ ص ٣٦٨).

(٣) ولو زها ـ مركبة من لو الشرطية وزها : فعل ماض.

(٤) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

٣٠

وقول الآخر : [الكامل]

قد قال وادي جلق للنيل إذ

كسروه أعين جبهتي لك ترفع

فأجاب بحر النيل لما أن طغى

عندي مقابل كل عين أصبع

وقد تذكرت هنا قول بعضهم :

ما ذا يفيد المعنّى

من الأذى المتتابع

بمصر ذات الأيادي

ونيلها ذي الأصابع

وقد شاع الخلاف قديما وحديثا في المفاضلة بين مصر والشام ، وقد قال بعضهم : [مجزوء الرجز]

في حلب وشامنا

ومصر طال اللغط

فقلت قول منصف

خير الأمور الوسط

وأما قول بعضهم : [بحر المتقارب]

تجنّب دمشق ولا تأتها

وإن راقك الجامع الجامع

فسوق الفسوق بها قائم

وفجر الفجور بها طالع

فلا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ، إذ هو مجرد دعوى خالية عن الدليل ، وهي من نزعات بعض الهجائين الذين يعمدون إلى تقبيح الحسن الجميل الجليل.

وما زالت الأشراف تهجى وتمدح (١) ولا يقابل ألف مثن عدل بفاسق يقدح : [بحر الطويل]

وفي تعب من يحسد الشمس نورها

ويأمل أن يأتى لها بضريب (٢)

وأخف من هذا قول بعض الأندلسيين ، وهو الكاتب أبو بكر محمد بن قاسم : [بحر الوافر]

دمشق جنة الدنيا حقيقا

ولكن ليس تصلح للغريب

بها قوم لهم عدد ومجد

وصحبتهم تؤول إلى الحروب

ترى أنهارهم ذات ابتسام

وأوجههم تولّع بالقطوب

__________________

(١) هذا عجز بيت. وصدره : هجوت زهيرا ثم إني مدحته.

(٢) البيت للمتنبي من قصيدة يعزي فيها سيف الدولة.

٣١

أقمت بدارهم ستين يوما

فلم أظفر بها بفتى أديب

والجواب واحد ، ولا يضر الحقّ الثابت إنكار الجاحد ، وأخف من الجميع قول العارف بالله تعالى سيدي عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه : [بحر الرمل]

جلّق جنّة من تاه. وباهى

ورباها أربي لو لا وباها

قال غال : بردى كوثرها

قلت : غال برداها برداها (١)

وطني مصر وفيها وطري

ولنفسي مشتهاها مشتهاها (٢)

ولعيني غيرها إن سكنت

يا خليليّ سلاها ما سلاها

وأخفّ منه قول ابن عبد الظاهر : [بحر الخفيف]

لا تلوموا دمشق إن جئتموها

فهي قد أوضحت لكم ما لديها

إنها في الوجوه تضحك بالزّهر

لمن جاء في الربيع إليها

وتراها بالثلج تبصق في لحية

من مرّ في الشتاء عليها

وقول ابن نباتة وهو بالشام يتشوق إلى المقياس والنيل (٣) : [بحر الكامل]

أرق له بالشام نيل مدامع

يجريه ذكر منازل المقياس

سقيا لمصر منازلا معمورة

بنجوم أفق أو ظباء كناس

وطني سهرت له وشابت لمّتي

ونعم على عيني هواه وراسي

من لي به والحال ليس بآنس

كدر وعطف الدهر ليس بقاسي (٤)

والطرف يستجلي غزالا آنسا

بالنيل لم يعتد على باناس

رجع إلى مدح دمشق.

وقال الناصر داود بن المعظم عيسى (٥) : [بحر الطويل]

__________________

(١) غال : في صدر البيت اسم فاعل من الغلوّ وهو فاعل قال. وبردى : اسم نهر بدمشق.

وغال : في عجز البيت اسم فاعل من غلاء السعر و «برداها» مؤلف من الباء الجارة. والردى : بمعنى الهلاك ، وضمير دمشق.

(٢) المشتهى : متنزه بمصر.

(٣) ديوان ابن نباتة ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٤) في ب : «بآيس».

(٥) هو الملك الناصر داود بن المعظم بن العادل صاحب الكرك صلاح الدين أبو المفاخر كان ذكيا فاضلا بصيرا بالأدب ، بديع النظم. ملك دمشق بعد أبيه. توفي بظاهر دمشق بقرية البويضاء. توفي سنة ٦٥٦ ه‍ (شذرات الذهب ج ٥ ص ٢٧٥).

٣٢

إذا عاينت عيناي أعلام جلّق

وبان من القصر المشيد قبابه

تيقنت أن البين قد بان والنوى

نأى شخصه والعيش عاد شبابه

وقال أيضا رحمه الله تعالى : [بحر البسيط]

يا راكبا من أعالي الشام يجذبه

إلى العراقين إدلاج وإسحار

حدّثتني عن ربوع طالما قضيت

للنفس فيها لبانات وأوطار (١)

لدى رياض سقاها المزن ديمته

وزانها زهر غض ونوّار

شحّ الندى أن يسقّيها مجاجته

فجادها مفعم الشّؤبوب مدرار (٢)

بكت عليها الغوادي وهي ضاحكة

وراحت الريح فيها وهي معطار

يا حسنها حين زانتها جواسقها

وأينعت في أعالي الدوح أثمار

فهي السماء اخضرارا في جوانبها

كواكب زهر تبدو وأقمار

حدثتني وأنا الظامي إلى نبإ

لا فضّ فوك فمنّي الري تمتار

فهو الزلال الذي طابت مشاربه

وفارقته غثاءات وأكدار

كرّر على نازح شطّ المزار به

حديثك العذب لا شطت بك الدار

وعلّل النفس عنهم بالحديث بهم

إن الحديث عن الأحباب أسمار

وهذا الملك الناصر له ترجمة كبيرة ، وهو ممن أدركته الحرفة الأدبية ، ومنع حقه بالحمية والعصبية ، وأنكرت حقوقه ، وأظهر عقوقه ، حتى قضى نحبه ، ولقي ربه.

رجع :

وقال سيف الدين المشد رحمه الله تعالى (٣) : [بحر البسيط]

بشرى لأهل الهوى عاشوا به سعدا

وإن يموتوا فهم من جملة الشّهدا

شعارهم رقة الشكوى ومذهبهم

أن الضلالة فيهم في الغرام هدى

عيونهم في ظلام الليل ساهرة

عبرى وأنفاسهم تحت الدجى صعدا

__________________

(١) اللبانات : جمع لبانة ، وهي الحاجة.

(٢) الشؤبوب : الدفعة من المطر.

(٣) هو علي بن عمر بن قزل بن جلدك التركماني المتوفى سنة ٦٥٦ ه‍ (فوات الوفيات ج ٢ ص ١٢٨) و (النجوم الزاهرة ج ٧ ص ٦٤).

٣٣

تجرعوا كأس خمر الحب مترعة

ظلوا سكارى وظنوا غيهم رشدا

وعاسل القدّ معسول مقبله

كالغصن لما انثنى والبدر حين بدا

رقيم عارضه كهف لعاشقه

يأوي إليه فكم في حيّه شهدا (١)

نادمته وثغور البرق باسمة

والغيث ينزل منحلا ومنعقدا

كأن جلّق حيا الله ساكنها

أهدت إلى الغور من أزهارها مددا

فاسترسل الجوّ منهلّا يزيد على

«ثورى» ويعقد محلول الندى «بردا» (٢)

وقال أيضا : [بحر الطويل]

فؤادي إلى بانات جلق مائل

ودمعي على أنهارها يتحدّر

يرنّحني لوز ابن كلّاب مزهرا

وتهتزني أغصانه وهو مثمر

وإني إلى زهر السفر جل شيق

إذا ما بدا مثل الدراهم ينثر

غياض يفيض الماء في عرصاتها

فتزهو جمالا عند ذاك وتزهر

ترى بردى فيها يجول كأنه

وحصباءه سيف صقيل مجوهر

وبي أحور لاح العذار بخدّه

يسامح قلبي في هواه ويعذر

يحاورني فيه على الصبر صاحبي

وكيف أطيق الصبر والطرف أحور

إذا اشتقت وادي النيربين لمحته

فأنظر معناه به وهو أنضر

حوى الشرف الأعلى من الحسن خده

على أن ميدان العوارض أخضر

وما أحسن قوله رحمه الله تعالى : [بحر الكامل]

واد به أهل الحبيب نزول

حيّا معاهده الحيا والنيل (٣)

واد يفوح المسك من جنباته

ويصحّ فيه للنسيم عليل

يشتاقه ويودّ لثم ترابه

شوقا ولكن ما إليه سبيل

متقلقل الأحشاء مسلوب الكرى

طلق الدموع فؤاده متبول

يصبو إلى الأثلاث من وادي الغضى

ويحن إن خطرت هناك شمول

__________________

(١) شهدا : شهداء ، وقصره لضرورة القافية. وفي ب : «في حبّه شهدا».

(٢) في ب ، ه : «فاسترسل الجود».

(٣) الحيا : المطر.

٣٤

قالوا تبدّل قلت يا أهل الهوى

والناس فيهم عاذر وجهول

هل بعد قطع الأربعين مسافة

للعمر فيها يحسن التبديل

ولقد هفا بي في دمشق مهفهف

يسبي العقول رضابه المعسول

يهتز إن مر النسيم بقدّه

ويميل بي نحو الصّبا فأميل

أبدى لنا بردا تبسّم ثغره

وإذا انثنى فقوامه المجدول

لزم التسلسل مدمعي وعذاره

فانظر إلى المهجات كيف تسيل

وسقمت من سقم الجفون لأنها

هي علة وفؤادي المعلول

لا تعجبوا إن راعني بذوائب

فالليل هول والمحب ذليل

ما صح لي أن الذاؤبة حية

حتى سعت في الأرض وهي تجول

وقال ناظر الجيش عون الدين بن العجمي (١) : [بحر البسيط]

يا سائقا بقطع البيداء معتسفا

بضامر لم يكن في سيره واني

إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا

تعدل بلغت المنى عن دير مرّان (٢)

واقصد أعالي قلاليه فإن بها

ما تشتهي النفس من حور وولدان

من كل بيضاء هيفاء القوام إذا

ماست فوا خجل المران والبان (٣)

وكل أسمر قد دان الجمال له

وكمّل الحسن فيه فرط إحسان

ورب صدغ بدا في خد مرسله

في فترة فتنت من سحر أجفان

فليت ريقته وردي ووجنته

وردي ومن صدغه آسي وريحاني

وعج على دير متّى ثم حي به الر

بان بطرس فالربان رباني (٤)

فهمت منه إشارات فهمت بها

وصنت منشورها في طي كتمان

وادخل بدير حنين وانتهز فرص الل

ذات ما بين قسيس ومطران (٥)

__________________

(١) هو سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله العجمي الكاتب المتوفى سنة ٦٥٦ ه‍. كان في خدمة الملك الناصر داود. (فوات الوفيات ج ١ ص ٣٥٨).

(٢) دير مران : دير كان بالقرب من دمشق.

(٣) المرّان : الرماح. والبان : شجر معتدل الأغصان تشبّه به قدود النساء.

(٤) عج : فعل أمر من عاج ، وعاج على المكان : عطف ومال.

(٥) في ب ، ه : «واعبر بدير حنينا».

٣٥

واستجل راحا بها تحيا النفوس إذا

دارت براح شماميس ورهبان (١)

حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت

بشهبها من همومي كل شيطان

كم رحت في الليل أسقيها وأشربها

حتى انقضى ونديمي غير ندمان

سألت توماس عمن كان عاصرها

أجاب رمزا ولم يسمح بتبيان

وقال : أخبرني شمعون ينقله

عن ابن مريم عن موسى بن عمران

بأنها سفرت بالطّور مشرقة

أنوارها فكنوا عنها بنيران

وهي المدام التي كانت معتّقة

من عهد هرمس من قبل ابن كنعان

وهي التي عبدتها فارس فكنى

عنها بشمس الضحى في قومه ماني (٢)

سكرت منها فلا صحو وجدت بها

على الندامى وليس الشح من شاني

وسوف أمنحها أهلا وأنشده

ما قيل فيها بترجيع وألحان

حتى تميل لها أعطافه طربا

وينثني الكون من أوصاف نشوان

وهذه وإن لم تكن في دمشق على الخصوص فلا تخرج عما نحن بصدده ، والأعمال بالنيات ، وديباجة هذه القصيدة على نسج طائفة من الصوفية ، وممن حاك هذه البرود الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى ، وقيل : إنه الشيخ شعبان النحوي.

رجع :

وقال بعضهم : [بحر البسيط]

شوقي يزيد وقلب الصّبّ ما بردا

وبان يأسي من المعشوق حين غدا

ومدمعي قنوات ، والعذول حكى

ثورى ، يلوم الفتى في عشقه حسدا

على مغنية بالجنك جاوبها

شبّابة كم بها من عاشق سهدا

فالبدر جبهتها ، والردف ربوتها ،

وخلّها مات في خلخالها كمدا

ولنذكر نبذة خوطبت به من علماء الشام وأدبائه حفظ الله تعالى كمالهم ، وبلغ آمالهم!.

فمن ذلك قول شيخ الإسلام ، مفتي الأنام ، سيدي الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي حفظه الله تعالى ، وكتبه لي بخطه : [بحر السريع]

__________________

(١) الشماميس : جمع شماس ، وهو رجل دين عند المسيحيين دون الكاهن.

(٢) ماني : أحد أنبياء الفرس.

٣٦

شمس هدى أطلعها المغرب

وطار عنقاء بها مغرب (١)

فأشرقت في الشام أنوارها

وليتها في الدهر لا تغرب

أعني الإمام العالم المقري

أحمد من يكتب أو يخطب

شهاب علم ثاقب فضله

ينظم عقدا وهو لا يثقب

فرع علوم بالهدى مثمر

وروض فضل بالندى معشب

قد ارتدى ثوب علا وامتطى

غارب مجد فزها المركب

درس غريب كل يوم له

يملي ولكن حفظه أغرب

محاضرات مسكر لفظها

بكأس سمع راحها تشرب

رياض آداب سقاها الحيا

ففاح مسكا نشرها الأطيب

فضائل عمت وطمّت فقد

قصر فيها كل من يطنب

قلوبنا قد جذبت نحوه

والحب من عادته يجذب (٢)

إن بعدت عن غربه شرقنا

فالفضل فينا نسب أقرب

كم طلبت تشريفه شامنا

بشرى لها فليهنها المطلب (٣)

قد سبقت لي معه صحبة

في حرم يؤمن من يرهب

أخوّة في الله من زمزم

رضاعها طاب لها المشرب

أنهلني ثمّ ودادا فلي

بالشام منه علل أعذب

أهديت ذا النظم امتثالا له

وقد هجرت الشعر مذ أحقب

نشّط قلبي لطفه فانثنى

والقلب في أهل الهوى قلّب

ضاء دجى العلم به للورى

ما لاح في جنح الدجى كوكب (٤)

تحية الفقير الداعي ، عبد الرحمن العمادي ، انتهى.

وأجبته بما نصه : [بحر السريع]

ما تبر راح كأسها مذهب

ما للنهى عن حسنها مذهب

__________________

(١) في ب ، ه : «شمس الهدى أطلعها».

(٢) كذا في ب ، وفي ه : والحب من عاداته يجذب.

(٣) في ه : «كم طلبت تشريقه شامنا».

(٤) في ب ، ه : «ما نار في جنح الدجى كوكب».

٣٧

تستدفع الأكدار من صفوها

وتنهل الأفراح أو تنهب

تسعى بها هيفاء من ثغرها

أو شعرها النور أو الغيهب (١)

فتانة الأعطاف نفاثة

سحرا بألباب الورى يلعب

في روضة قد كللت بالنّدى

والزهر رأس الغصن إذ يعصب

برودها بالنّور قد نمنمت

كالوشي من صنعاء بل أعجب

والماء يجري تحت جناتها

والنار من نارنجها تلهب

والظّل ضاف والنسيم انبرى

والجوّ ذاكي العرف مستعذب

والطير للعشاق بالعود قد

غنّت فهاجت شوق من يطرب

أبهى ولا أبهج في منظر

من نظم من تقديمه الأصوب

مفتي دمشق الشام صدر الورى

من في العلا تم به المطلب

علامة الدهر ولا مرية

وملجأ الفضل ولا مهرب (٢)

لله ما امتاز به من حلّى

بغير منّ الله لا تكسب

أبدى به الرحمن في عبده

مظاهر المنح التي تحسب (٣)

جود بلا منّ وعلم بلا

دعوى به التحقيق يستجلب

وبيت مجد مسند ركنه

إلى عماد الدين إذ ينسب

فبرقه الشاميّ من شامه

نال مراما والسّوى خلب

وما عسى أبدية في مدحه

أو وصف أبناء له أنجبوا

تسابقوا للمجد حتى حووا

سبقا لما في مثله يرغب

أعيذهم بالله من شر ما

يخشى من الأغيار أو يرهب

وأسأل الله لهم عزة

بادية الأضواء لا تحجب

ولما حللت دمشق المحروسة ، وطلبت موضعا للسكنى يكون قريبا من الجامع الأموي الذي يعجز البليغ وصفه وإن ملأ طروسه ، أرسل إلي أديب الشام فرد الموالي المدرسين ساحب أذيال الفخار المولى أحمد الشاهيني حفظه الله تعالى بمفتاح المدرسة الجقمقية ، وكتب لي معه ما نصه : [بحر الخفيف]

__________________

(١) الغيهب : الظلمة.

(٢) لا مرية : لا شك ، لا جدال.

(٣) في ب ، ه : «أبدى بها الرحمن».

٣٨

كنف المقري شيخي مقرّي

وإليه من الزمان مفرّي

كنف مثل صدره في اتساع

وعلوم كالدر في ضمن بحر

أي بدر قد أطلع الغرب منه

ملأ الشرق نوره؟ أي بدر؟

أحمد سيدي وشيخي وذخري

وسميّي وفوق ذاك وفخري (١)

لو بغير الأقدام يسعى مشوق

جئته زائرا على وجه شكري

العبد الحقير المستعين ، المخلص أحمد بن شاهين ، انتهى.

فأجبته بقولي : [بحر الخفيف]

أي نظم في حسنه حار فكري

وتحلّى بدرّه صدر ذكري

طائر الصّيت لابن شاهين ينمي

من بروض الندى له خير وكر

أحمد الممتطين ذروة مجد

لعوان من المعالي وبكر (٢)

حل مفتاح فضله باب وصل

من معاني تعريفه دون نكر

يا بديع الزمان دم في ازديان

بالعلا وازدياد تجنيس شكر

وكتب إلي لما وقف على كتابي «فتح المتعال ، في مدح النعال» بما نصه : لكاتبه الحقير أحمد بن شاهين الشامي في تقريظ تأليف سيدي ومولاي وقبلتي ومعتقدي شيخ الدنيا والدين ، وبركة الإسلام والمسلمين ، حفظ الله تعالى وجوده آمين : [بحر الطويل]

أأحمد ، فخرا يا ابن شاهين ساميا

بأحمد ذاك المقريّ المسدّد

بمن راح خدّاما لنعل محمد

وناهيك في العليا بأرفع سؤدد

فإن أنا أخدم نعله فلطالما

غدا خادما نعل النبي الممجد

بتأليفه في وصف نعل تكرمت

كتابا حوى إجلال كل موحّد

ويكفيك فخرا يا ابن شاهين أن ترى

خدوما لخدّام لنعل محمد

فقلت له طوبى بخدمة أحمد

فقال كذا طوبى بخدمة أحمد

__________________

(١) في خلاصة الأثر : وسميي وذاك أشرف فخري.

(٢) العوان : المتوسط في السن.

٣٩

فلا زال يرقى للمعالي مكرما

وينتعل العيوق في رغم فرقد (١)

فأجته بقولي :

أأحمد وصف بالعوارف يرتدي

وأشرف مولى للمعارف يهتدي

نجومك إذ أنت الخليل توقّدت

فأنّى أجاريها بنحو المبرد

أتاني نظام منك خيّر فكرتي

على أنه أعلى مرامي ومقصدي

فأنت ابن شاهين الذي طار صيته

بجو العلا والضد ضل بفرقد

فبرّك موصول وشانيك منكر

وقدرك مرفوع على رغم حسد (٢)

وعند حديث الفضل أسند عاليا

بشام فهم يروون مسند أحمد

فوجهك عن بشر ويمناك عن عطا

وفكرك يروي في الهدى عن مسدّد

فلا زلت ترقى أوج سعد ورفعة

ودمت بتوفيق وعز مخلد

ولما خاطبته بقولي : [بحر الطويل]

يصيد ابن شاهين بجو بلاغة

سوانح في وكر البدائع تفرخ

وما كان ديك الجن مدرك نيلها

إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ

ولو جاد فكر البحتري بمثلها

لكان على الطائي بالأنف يشمخ (٣)

ولو أن نظم ابن الحسين أتيحها

لفاز بسبق حكمه ليس ينسخ (٤)

فلا زال ملحوظا بعين عناية

وكتب التهاني عن علاه تؤرخ

أجابني بما نصه : [بحر الطويل]

أأنفاس عيسى ما بروعي ينفخ

أم الطرس أضحى بالعبير يضمّخ (٥)

__________________

(١) العيوق ، بفتح العين وتشديد الياء مضمومة : نجم أحمر مضيء يقع في طرف المجرة الأيمن وهو يتلو الثريا لا يتقدمها ، والفرقد ـ بزنة جعفر ـ نجم قريب من القطب الشمالي وهو الذي يهتدي به السارون ، وهو كثير الورود في الشعر ، وأحيانا يرد مثنى فيقال : «الفرقدان» ومن ذلك قول أبي العلاء المعري :

فاسأل الفرقدين عما أحسا

من قبيل وآنسا من بلاد

(٢) شانيك : أصلها شانئك. وشنأه : أبغضه بغضا شديدا.

(٣) الطائي : أراد أبا تمام.

(٤) ابن الحسين : أراد أحمد بن الحسين المتنبي.

(٥) الطّرس : الصحيفة.

٤٠