الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠
سمع من الصدفي وغيره ، وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف وعلم العربية والهيئة مع الخير والدين والزهد ، وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر إشبيلية ، ثم سرح فرحل حاجا إلى المشرق ، ودخل المهدية فلقي بها المازري ، وأقام في صحبته نحو ثلاث سنين ، ثم انتقل إلى مصر ، وحج سنة ٥٢٧ ، وأقام بمكة مجاورا ، وحج ثانية سنة ٥٢٨ ، ولقي بمكة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة ، فحمل عنه ، ودخل العراق وخراسان ، وأقام بها أعواما ، وطار ذكره في هذه البلاد ، وعظم شأنه في العلم والدين ، وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال والمال ، وتوفي بهراة سنة ٥٥١ ، وقيل : إن وفاته سنة ٥٤٨ ، وذكره العماد في «الخريدة» والسمعاني في الذيل ، وأنشد له : [بحر الطويل]
تلوّنت الأيام لي بصروفها |
|
فكنت على لون من الصبر واحد (١) |
فإن أقبلت أدبرت عنها وإن نأت |
|
فأهون بمفقود لأكرم فاقد (٢) |
وولد سنة ٤٨٤ بشلب ، رحمه الله تعالى!.
٢٨٨ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى ، الأزدي ، المرسي ، ويعرف بابن برطلة.
سمع من صهره القاضي الشهيد أبي علي الصدفي ، ورحل حاجا سنة ٥١٠ ، فأدى الفريضة وسمع من الطرطوشي والأنماطي والسّلفي وغيرهم ، وانصرف إلى مرسية بلده ، وكان حسن السّمت خاشعا مخبتا خيرا متواضعا نبيها نزها سالم الباطن ، وحكى عن شيخه أبي عبد الله الرازي عن أبيه أنه أخبره أن قاضي البرلس ، وكان رجلا صالحا ، خرج ذات ليلة إلى النّيل فتوضأ وأسبغ وضوءه ، ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي ، فسمع قائلا يقول : [بحر البسيط]
لولا أناس لهم سرد يصومونا |
|
وآخرون لهم ورد يقومونا |
لزلزلت أرضكم من تحتكم سحرا |
|
لأنكم قوم سوء لا تبالونا |
قال : فتجوّزت في صلاتي ، وأدرت طرفي فما رأيت شخصا ولا سمعت حسا ، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى!.
__________________
(١) صروف الأيام : مصائبها.
(٢) أهون بمفقود : ما أهونه مفقودا.
وقال ابن برطلة رحمه الله تعالى : أنشدني أبو عامر قال : دخلت بعض مراسي الثغر ، فوجدت في حجر منقوش هذه الأبيات : [بحر المتقارب]
نزلت ولي أمل عودة |
|
ولكنني لست أدري متى |
ودافعني قدر لم أطق |
|
دفاعا لمكروهه إذ أتى |
ومن أمره في يدي غيره |
|
سيغلب إن لان أو إن عتا (١) |
فيا نازلا بعدنا ههنا |
|
نحييك إن كنت نعم الفتى |
فسألت عن منشدها ، فقيل لي : هو أبو بكر بن أبي درهم الوشقي ، وكان قد حج وأراد العودة ، فقال هذه الأبيات ، ورواها بعضهم «رحلت» مكان نزلت ، وهو أصوب ، وأبدل قوله : «يا نازلا» بيا ساكنا ، والخطب سهل فيه ، وبعض يقول : إن الأبيات وجدت بجامع مصر ، والله تعالى أعلم.
٢٨٩ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة ، الداني ، الأصبحي.
لازم ابن سعد الخير ، واحتذى أول أمره مثال خطه فقاربه ، وسمع منه ، ثم رحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف والسّلفي وغير واحد. قال التجيبي : كان معنا بالإسكندرية بالعادلية منها ، وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة ٥٧٣ (٢) ، قال : وأنشدنا (٣) لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سعد الخير البلنسي : [بحر الكامل]
يا لاحظا تمثال نعل نبيه |
|
قبّل مثال النعل لا متكبرا |
والثم له فلطالما عكفت به |
|
قدم النبي مروّحا ومبكرا |
أولا ترى أن المحب مقبل |
|
طللا وإن لم يلف فيه مخبرا |
وقد سبق ابن سعادة أبو عبد الله وهو غير هذا ، والله تعالى أعلم!.
٢٩٠ ـ ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف ، القضاعي ، المري.
سمع من أبي جعفر بن غزلون صاحب الباجي وغير واحد ، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السّلفي والرازي ، وتجول هنالك ، وأخذ عنه أبو الحسن بن المفضل المقدسي وغير واحد ، وقال ابن المفضل : أنشدني المذكور ، قال : أنشدني أبو محمد بن صارة : [بحر البسيط]
__________________
(١) عتا : استكبر ، وجاوز الحد.
(٢) في أ : «سنة ٥٦٣».
(٣) في ب : «وأنشدني» ..
وكوكب أبصر العفريت مسترقا |
|
للسمع فانقضّ يدني خلفه لهبه |
كفارس حلّ إعصار عمامته |
|
فجرها كلها من خلفه عذبه (١) |
٢٩١ ـ ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر ، الوادي آشي ، الحنفي.
سكن طرابلس الشام ، ثم انتقل إلى حلب ، وأقام بها ، وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب ، يعرف النحو والعروض ، ويشتغل فيهما ، وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر بن العديم ، قال الصفدي : رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة ٧٢٣ فرأيته حسن التودد ، وأنشدني لنفسه من لفظه : [بحر الكامل]
ما لاح في درع يصول بسيفه |
|
والوجه منه يضيء تحت المغفر (٢) |
إلا حسبت البحر مدّ بجدول |
|
والشمس تحت سحائب من عنبر |
قال الصفدي : جمع هذا المقطوع بين قول ابن عباد : [بحر المتقارب]
ولما اقتحمت الوغى دارعا |
|
وقنّعت وجهك بالمغفر |
حسبنا محيّاك شمس الضحى |
|
عليها سحاب من العنبر |
وبين قول أبي بكر الرصافي : [بحر الكامل]
لو كنت شاهده وقد غشي الوغى |
|
يختال في درع الحديد المسبل |
لرأيت منه والقضيب بكفه |
|
بحرا يريق دم الكماة بجدول |
وقال يمدح الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجه إلى حلب قاضي القضاة: [بحر البسيط]
يمن ترنّم فوق الأيك طائره |
|
وطائر عمت الدنيا بشائره |
وسؤدد أصبح الإقبال ممتثلا |
|
في أمره ما أخوه العز آمره |
ومنها : [بحر البسيط]
من مخبر عني الشهباء أن كما |
|
ل الدين قد شيّدت فيه مقاصره (٣) |
وأن تقليده الزاهي وخلعته الت |
|
ي تطرّز عطفيها مآثره |
__________________
(١) العذبة : طرف الشيء.
(٢) المغفر : زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة.
(٣) الشهباء : حلب.
بالنفس أفديك من تقليد مجتهد |
|
سواه يوجد في الدنيا مناظره |
أنشدت حين أدار البشر كأس طلى |
|
حكت أوائله صفوا أواخره |
وقد بدت في بياض الطّرس أسطره |
|
سودا لتبدي ما أهدت محابره (١) |
ساق تكوّن من صبح ومن غسق |
|
فابيض خداه واسودت غدائره |
وخلعة قلت إذ لاحت لتزرينا |
|
بالروض تطفو على نهر أزاهره |
وقد رآها عدو كان يضمر لي |
|
من قبل سوءا فخانته ضمائره |
ورام صبرا فأعيته مطالبه |
|
وغيّض الدمع فانهلّت بوادره |
بعودة الدولة الغراء ثالثة |
|
أمنت منك ونام الليل ساهره |
وقال أيضا : [بحر الوافر]
تسعر في الوغى نيران حرب |
|
بأيديهم مهنّدة ذكور (٢) |
ومن عجب لظى قد سعرتها |
|
جداول قد أقلتها بدور |
وقال ملغزا في قالب لبن : [بحر المجتث]
ما آكل في فمين |
|
يغوط من مخرجين |
مغرى بقبض وبسط |
|
وما له من يدين |
ويقطع الأرض سعيا |
|
من غير ما قدمين |
وخمس لامية العجم مدحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الصفدي : ولما كنت في حلب كتب إلي أبياتا ، انتهى.
٢٩٢ ـ ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر ، القيسي.
قال أبو حيان : كان المذكور رفيقا للأستاذ أبي جعفر بن الزبير شيخنا ، وكان كاتبا مترسلا شاعرا ، حسن الخط ، على مذهب أهل الظاهر ، وكان كاتبا للأمير (٣) أبي سعيد فرج بن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك الأندلس ، وسبب خروجه من الأندلس أنه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث ، فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله ، فتوعده بقطع يديه ، فضج من ذلك وقال : إن إقليما تمات فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوعد بقطع اليد من يقيمها
__________________
(١) الطرس : الصحيفة.
(٢) مهندة : أي رماح مصنوعة في الهند.
(٣) في ب ، ه : «وكان كاتب أبي سعيد فرج» ...
لجدير أن يرحل منه ، فخرج وقدم ديار مصر ، وسمع بها الحديث ، وكان فاضلا نبيلا ، ومن شعره : [بحر الطويل]
أتنكر أن يبيضّ رأسي لحادث |
|
من الدهر لا يقوى له الجبل الراسي |
وكان شعارا في الهوى قد لبسته |
|
فرأسي أميّ وقلبي عباسي |
قلت : لو قال «شيبي» لكان الغاية.
وأنشد له بعضهم : [بحر الطويل]
فلا تعجبا ممن عوى خلف ذي علا |
|
لكل عليّ في الأنام معاويه |
قلت : لا يخفى ما فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ويرحم الله بعض الأندلسيين حيث قال في رجز كبير : [بحر الرجز]
ومن يكن يقدح في معاويه |
|
فذاك كلب من كلاب عاويه |
وأنشد أبو حيان للمذكور : [بحر المتقارب]
أرى الدهر ساد به الأرذلو |
|
ن كالسّيل يطفو عليه الغثا (١) |
ومات الكرام وفات المديح |
|
فلم يبق للقول إلا الرثا (٢) |
وأنشد له أيضا : [بحر الخفيف]
لولا ثلاث هن والله من |
|
أكبر آمالي في الدنيا |
حج لبيت الله أرجو به |
|
أن يقبل النية والسعيا |
والعلم تحصيلا ونشرا إذا |
|
رويت أوسعت الورى ريا |
وأهل ود أسأل الله أن |
|
يمتع بالبقيا إلى اللقيا |
ما كنت أخشى الموت أنّى أتى |
|
بل لم أكن ألتذ بالمحيا (٣) |
وقال أبو حيان في هذه المادة : [بحر الطويل]
أما إنه لولا ثلاث أحبها |
|
تمنيت أني لا أعدّ من الأحيا |
__________________
(١) الغثا : أصله الغثاء ـ وهو ما يجرفه السيل من أوراق وطحالب ، ويطفو على وجه الماء. وفي الحديث الشريف عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أو من قلة نحن يا رسول الله؟ فقال : «لا ولكن غثاء كغثاء السيل».
(٢) الرثا : أصله الرثاء ، ممدود.
(٣) أنّى أتى : من أين أتى.
فمنها رجائي أن أفوز بتوبة |
|
تكفر لي ذنبا وتنجح لي سعيا |
ومنهن صوني النفس عن كل جاهل |
|
لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا |
ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى |
|
نسوا سنة المختار واتبعوا الرأيا |
أتترك نصا للرسول وتقتدي |
|
بشخص؟ لقد بدّلت بالرشد الغيا |
٢٩٣ ـ ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي.
سكن سرقسطة وغيرها ، وروى عن أبيه معظم علمه ، وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر ، وله تآليف تدل على حذقه : منها «العقيدة ، في المذاهب السديدة» ورسالة «الاستعداد ، للخلاص من المعاد» وكان غاية في الورع ، توفي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة ٤٩٣ ، رحمه الله تعالى!.
٢٩٤ ـ ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي ، الغرناطي.
قال العز بن جماعة : قدم علينا من المغرب سنة ٧٢٤ ، ثم رجع إلى المغرب في هذه السنة ، وبلغنا أنه توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة ، وأنشد والدي قصيدة من نظمه امتدحه بها ، وأنا أسمع ، ومن خطه نقلت ، وهي : [بحر الطويل]
قفا موردا عينا جرت بعدكم دما |
|
أناضي أسفار طوين على ظما |
غدون أهلّات تناقل أنجما |
|
ورحن حنيات تفوّق أسهما (١) |
يجشمها الحادي الأمرين حسّرا |
|
ويوطئها الحادي الأحرّين هيّما |
على منسميها للشقائق منبت |
|
وفي فمويها للشقاشق مرتمى |
إلى أن قال : [بحر الطويل]
وتعسا لآمال جهام سحابها |
|
تزجّى ركاما ما استهلّ ولا همى (٢) |
تجاذبها نفس تجيش نفيسة |
|
ومن لم يجد إلا صعيدا تيمما (٣) |
فهل ذمم يرعاه ليل طويته |
|
طواني سرا بين جنبيه منهما |
أقبل منه للبروق مباسما |
|
وأرشف من بهماء ظلمائه لمى |
__________________
(١) حنيات : جمع حنية وهي القوس.
(٢) السحاب الجهام : الذي لا ماء فيه. استهل المطر : اشتد انصبابه ، وأعطى الانصباب صوتا. وهمى : سال.
(٣) الصعيد : التراب.
إلى أن تجلّى من كنانة بدرها |
|
فعرس ركبي في حماه وخيما (١) |
ثمال اليتامى حيث ليس مظلل |
|
وكهف الأيامى أيما عزّ مرتمى |
ومنها :
فيا كفه أأنت أم غيث ديمة |
|
أسالت عبابا في ثرى الجود عيلما (٢) |
ويا سعيه يهنيك أجر ثنى به |
|
على معطفي علياه بردا مسهّما |
قضى بمنى أوطار نفس كريمة |
|
وروّى صداها حين حل بزمزما |
وناداه داعي الحق حيّ على الهدى |
|
فأسرج طوعا في رضاه وألجما |
فلله ما أهدى وأرشد واهتدى |
|
ولله ما أعطى وأوفى وأنعما |
ومنها :
أمتّ بآداب وعلم كليهما |
|
أقاما لديك الدعي فرضا وألزما |
وهي طويلة.
٢٩٥ ـ ومن الراحلين من الأندلس الوليد بن هشام ، من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين.
خرج من الأندلس على طريقة الفقر والتجرد ، ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة ، وأظهر الزهد والعبادة ، واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن ، وتغيير المنكر ، حتى خدع البربر بقوله وفعله ، وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشر بخلافته بما كان عنده من علم الحدثان ، وكان يقال عن مسلمة : إنه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية ، وأخرج لهم أرجوزة أسندها إلى مسلمة ، ومنها في وصفه : [بحر الرجز]
وابن هشام قائم في برقه |
|
به ينال عبد شمس حقه |
يكون في بربرها قيامه |
|
وقرة العرب لها إكرامه |
واتفق أن قرة انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه ، وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها ، وخطبوا له فيها بالخلافة ، وكان قيامه في رجب سنة ٣٩٧ ، فهزم عسكر باديس الصّنهاجي صاحب إفريقية وعسكر الحاكم بمصر ، وأحيا أمره ، وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من
__________________
(١) عرس المسافرون : نزلوا للاستراحة.
(٢) العيلم : البئر الواسعة ، أو البحر ، وفي ب : «فيا كفه هل أنت ...».
سفك الحاكم الدماء ، ورغبوه في الوصول إلى أوسيم (١) ، وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة ، فلما وصل إليها قام بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة ، ثم جاء به إلى القاهرة ، فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل ، ثم قتل صبرا في ١٣ رجب سنة ٣٩٩ ، ولما حصل في يد الحاكم كتب إليه : [بحر الطويل]
فررت ولم يغن الفرار ، ومن يكن |
|
مع الله لم يعجزه في الأرض هارب |
ووالله ما كان الفرار لحاجة |
|
سوى فزعي الموت الذي أنا شارب |
وقد قادني جرمي إليك برمت |
|
ي كما اجتر ميتا في رحى الحرب سالب |
وأجمع كل الناس أنك قاتلي |
|
فيا ربّ ظنّ ربّه فيه كاذب |
وما هو إلا الانتقام وينتهي |
|
وأخذك منه واجبا وهو واجب |
ولأبي ركوة المذكور أشعار كثيرة ، منها قوله : [بحر الكامل]
بالسيف يقرب كل أمر ينزح |
|
فاطلب به إن كنت ممن يفلح (٢) |
وله : [بحر الطويل]
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه |
|
وليس عليه أن يساعده الدهر |
وقوله : [بحر السريع]
إن لم أجلها في ديار العدا |
|
تملأ وعر الأرض والسهلا |
فلا سمعت الحمد من قاصد |
|
يوما ولا قلت له أهلا |
وله غير ذلك مما يطول ، وخبره مشهور.
٢٩٦ ـ ومنهم أبو زكريا الطليطلي ، يحيى بن سليمان.
قدم إلى الإسكندرية ، ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب ، وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء ، قال بعض من طالعه : ما رأيته مدح أحدا إلا وهجاه ، وله مصنفات في الأدب ، ومن نظمه قوله : [بحر الكامل]
أرض سقت غيطانها أعطانها |
|
وزهت على كثبانها قضبانها |
ومنها :
__________________
(١) في ه : «وسيم» وفي باقي النسخ كما أثبتناه.
(٢) ينزح : يبعد.
فتكت بألباب الكماة فسيفها |
|
من طرفها وسنانها وسنانها (١) |
لم يبق شخص بالبسيطة سالما |
|
إلا سبى إنسانه إنسانها (٢) |
ومنها :
وتصاحبت وتجاوبت أطيارها |
|
وتداولت وتناولت ألحانها |
وتنسمت وتبسمت أيامها |
|
وتهللت وتكللت أزمانها |
بمديرها ومنيرها ونميرها |
|
ومعيرها حسنا جلاه عيانها |
٢٩٧ ـ ومنهم أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد ، القرطبي ، المعروف بالمغيلي.
سمع من محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما ، ورحل فسمع من أبي سعيد بن الأعرابي ، وكان بصيرا بالعربية والشعر ، ومؤلفا جيد النظر حسن الاستنباط ، حدث ، وتوفي فجأة في شهر ربيع الأول سنة ٣٦٢ ، قاله ابن الفرضي.
٢٩٨ ـ ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن سلمة ، الأنصاري ، الغرناطي.
قدم المشرق وتوفي بمصر سنة ٧٠٣ عن نحو خمسين سنة ، بالبيمارستان المنصوري ، قال قاضي القضاة عبد العزيز بن جماعة الكناني في كتابه «نزهة الألباب» : أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة ، بعد قدومه من مكة والمدينة ، وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسر له : [بحر الطويل]
لئن بعدت عني ديار الذي أهوى |
|
فقلبي على طول التباعد لا يقوى |
فحدث رعاك الله عن عرب رامة |
|
فإني لهم عبد على السّر والنجوى |
فإن مت شوقا في الهوى وصبابة |
|
فيا شرفي إن مت في حب من أهوى |
فيا أيها العذّال كفوا ملامكم |
|
فما عندكم بعض الذي بي من الشكوى |
ويا جيرة الحي الذي ولهي بهم |
|
أما ترحموا صبا يحن إلى حزوى (٣) |
ويا أهل ذيّاك الحمى وحياتكم |
|
يمين وفيّ صادق القول والدّعوى |
__________________
(١) ألباب : جمع لب ، وهو العقل. والكماة : جمع كمي ، وهو الشجاع اللابس السلاح. والسنان : نصل الرمح ومضربه. والوسنان : النائم أول نومه.
(٢) إنسانه : حدّه. وإنسانها : بؤبؤ عينها.
(٣) أما ترحموا : يجب أن تكون : أما ترحمون.
ملكتم قيادي فارحموا وترفّقوا |
|
فأنتم مرادي لا سعاد ولا علوى |
فما لي سواكم سادتي لا عدمتكم |
|
فجودوا بوصل أنتم الغاية القصوى |
انتهى.
٢٩٩ ـ ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي ، الغرناطي.
قال ابن جماعة في الكتاب المسمى قريبا : أنشدني المذكور لنفسه ، على قبر سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه : [بحر الكامل]
يا سيد الشهداء بعد محمد |
|
ورضيع ذي المجد المرفع أحمد |
يا ابن الأعزة من خلاصة هاشم |
|
سرج المعالي والكرام المجد |
يا أيها البطل الشجاع المحتمي |
|
دين الإله ببأسه المستأسد (١) |
يا نبعة الشرف الأصيل المعتلي |
|
يا ذروة الحسب الأثيل الأتلد |
يا نجدة الملهوف في قحم الوغى |
|
عند التهاب جحيمها المتوقد |
يا غيث ذي الأمل البعيد مرامه |
|
يا غيث موتور الزمان الأنكد |
يا من لعظم مصابه خص الأسى |
|
قلب الرسول وعمّ كلّ موحّد |
يا حمزة الخير المؤمّل نفعه |
|
يوم الهياج وعند فقد المنجد |
وافاك يا أسد الإله وسيفه |
|
وفد ألمّوا من حماك بمعهد |
جئناك يا عمّ الرسول وصنوه |
|
قصد الزيارة فاحتفل بالقصد (٢) |
واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا |
|
شيم المزور قيامه بالعوّد (٣) |
لذنا بجانبك الكريم توسلا |
|
وكذا العبيد ملاذهم بالسيد |
فاشفع لضيفك فالكريم مشفّع |
|
عند الكريم ومن يشفّع يقصد |
يا ابن الكرام المكرمين نزيلهم |
|
أهل المكارم والعلا والسؤدد |
نزل الضيوف جناب ساحتك التي |
|
منها يؤمّل كل عطف مسعد |
فاجعل أبا يعلى قرانا عطفة |
|
وارغب لربك في هدانا واقصد |
__________________
(١) إشارة إلى تسمية الرسول لعمه الحمزة : أسد الله.
(٢) صنو الرجل : شقيقه.
(٣) العوّد : جمع عائد ، وهو الزائر.
فعسى يمنّ على الجميع بتوبة |
|
يهدي بها نهج الطريق الأرشد |
فقد اعتمدنا منك خير وسيلة |
|
نرجو بها حسن التجاوز في غد |
لم لا تؤم وأنت عم محمد |
|
ولدينه قد صلت صولة أيّد |
وصحبته ونصرته وعضدته |
|
وذببت عنه باللسان وباليد |
وبذلت نفسك في رضاه بصولة |
|
فقتلت في ذات الإله الأوحد (١) |
فجزاك عنا الله خير جزائه |
|
وسقا ثراك حيا الغمام المرعد |
وعلى رسول الله منه سلامة |
|
وعليك متّصل الرضا المتجدد |
ولد ببعض أعمال غرناطة قبل التسعين وستمائة ، وتوفي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة ٧١٥ ، ودفن بالبقيع ، رحمه الله تعالى! انتهى.
٣٠٠ ـ ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن ، المايرقي.
من أقارب بعض ملوك المغرب ، وكان من الفضلاء العلماء الأدباء ، وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن ، ومنه قوله : [بحر البسيط]
القضب راقصة ، والطير صادحة |
|
والنشر مرتفع ، والماء منحدر |
وقد تجلّت من اللذات أوجهها |
|
لكنها بظلال الدوح تستتر |
فكل واد به موسى يفجّره |
|
وكل روض على حافاته الخضر |
وقوله : [بحر الطويل]
وذي هيف راق العيون انثناؤه |
|
بقدّ كريّان من البان مورق |
كتبت إليه هل تجود بزورة |
|
فوقع «لا» خوف الرقيب المصدق |
فأيقنت من «لا» بالعناق تفاؤلا |
|
كما اعتنقت «لا» ثم لم تتفرق |
وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان (٢) : [بحر البسيط]
إني لأحسد «لا» في أحرف الصحف |
|
إذا رأيت اعتناق اللام للألف (٣) |
__________________
(١) في ب ، ه : «وبذلت نفسك في رضاه بجنة ... فقبلت ..».
(٢) في ه : «ذي القرنين بن حمران» محرفا.
(٣) في أ ، ج : «واعتناق اللام والألف».
وما أظنهما طال اعتناقهما |
|
إلا لما لقيا من لوعة الأسف (١) |
وأحسن من هذا قول القيسراني : [بحر البسيط]
أستشعر اليأس من «لا» ثم يطمعني |
|
إشارة في اعتناق اللام للألف |
وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ربيع الأول سنة ٦٥٥ ، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى! والأبيات التي أولها «القضب راقصة» نسبها له اليونيني وغير واحد ، والصواب أنها ليست له ، وإنما هي لنور الدين سعيد (٢) ابن صاحب المغرب ، وقد تقدم ذكره ، ولعل السهو سرى من تشارك الاسم واللقب والقطر ، ومثل هذا كثيرا ما يقع ، والله تعالى أعلم.
٣٠١ ـ ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى المشرق ابن عتبة الإشبيلي ، وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود ، واضطرمت بفتنته الأندلس نارا ، ولما قدم مصر هاربا من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد ، وتبدّدت (٣) به الأحوال ، فلما سئل عن حاله ، بعد بعده عن أرضه وترحاله ، بادر وأنشد : [بحر مخلع البسيط]
أصبحت في مصر مستضاما |
|
أرقص في دولة القرود |
وا ضيعة العمر في أخير |
|
مع النصارى أو اليهود |
بالجدّ رزق الأنام فيهم |
|
لا بذوات ولا جدود |
لا تبصر الدهر من يراعي |
|
معنى قصيد ولا قصود |
أودّ من لؤمهم رجوعا |
|
للغرب في دولة ابن هود |
وتذكرت بقوله : «أرقص في دولة القرود» ما وقع لأبي القاسم بن القطان ، وهو مما يستطرف ويستظرف ، وذلك أنه لما ولي الوزارة الزينبيّ دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء والأعيان ، فوقف بين يديه ودعا له ، وأظهر الفرح والسرور ، ورقص ، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره : قبح الله هذا الشيخ! فإنه يشير برقصه إلى قول الشاعر:
وأرقص للقرد في دولته
__________________
(١) في ب ، ه : «وما أظنهما طال اجتماعهما».
(٢) في ب : «لنور الدين بن سعيد».
(٣) في ب ، ه : «وتعدلت به الأحوال».
٣٠٢ ـ ومن المرتحلين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي ، الهراوي (١).
من أهل المرية ، ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير ، وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها عند تعرضنا لأولاد لسان الدين بن الخطيب ، رحمه الله تعالى! ورحل إلى المشرق ودخل مصر والشام واستوطن حلب ، وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان ، وله أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها : «شرح ألفية ابن مالك» وغير ذلك ، وله ديوان شعر وأمداح نبوية في غاية الإجادة ، ومن نظمه رحمه الله تعالى مورّيا بأسماء الكتب : [بحر الطويل]
عرائس مدحي كم أبين لغيره |
|
فلما رأته قلن هذا من الأكفا (٢) |
نوادر آدابي ذخيرة ماجد |
|
شمائل كم فيهن من نكت تلفى (٣) |
مطالعها هن المشارق للعلا |
|
قلائد قد راقت جواهرها رصفا (٤) |
رسالة مدحي فيك واضحة ، ولي |
|
مسالك تهذيب لتنبيه من أغفى |
فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي |
|
لأنت امرؤ من حاصل المجد مستصفى |
وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابا ، وهي : العرائس للثعالبي ، والنوادر للقالي وغيره ، والذخيرة لابن بسام وغيره ، والشمائل للترمذي ، والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره ، والمطالع لابن قرقول وغيره ، والمشارق للقاضي عياض وغيره ، والقلائد لابن خاقان وغيره ، و «رصف المباني ، في حروف المعاني» للأستاذ ابن عبد النور ، وهو كتاب لم يصنف في فنه مثله ، والرسالة لابن أبي زيد وغيره ، والواضحة لابن حبيب ، والمسالك للبكري وغيره ، والجواهر لابن شاس (٥) وغيره ، و «التهذيب في اختصار المدونة» وغيره ، و «التنبيه» لأبي إسحاق وغيره ، و «منتهى السؤل» لابن الحاجب ، و «المحصول» للإمام الرازي ، و «الغاية» للنووي وغيره و «الحاصل» مختصر المحصول و «المستصفى» للغزالي ، وما أحسن قول الحكيم موفق الدين : [بحر البسيط]
لله أيامنا والشّمل منتظم |
|
نظما به خاطر التفريق ما شعرا |
__________________
(١) في ب ، ه : «ومن المرتحلين أبو عبد الله بن جابر محمد بن جابر الضرير». وقد مرت ترجمته في المجلد الأول.
(٢) في ب : «عرائس مدحي كم أتين لغيره». وما أثبتناه أجود وأكثر مطابقة لمطلوب الشاعر. والأكفا : الأكفاء : جمع كفء.
(٣) تلفى : توجد. وألفى الشيء : وجده.
(٤) قلائد : جمع قلادة ، وهي ما يجعل في العنق من الحلي. وفيها تورية بكتاب قلائد العقيان لابن خاقان.
(٥) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : «لابن شاش».
والهف نفسي على عيش ظفرت به |
|
قطعت مجموعه المختار مختصرا |
وهذه ثلاث كتب مشهورة : المختار ، والمجموع ، والمختصر ، وأحسن منه قول الآخر: [بحر الكامل]
عن حالتي يا نور عيني لا تسل |
|
ترك الجواب جواب تلك المسأله |
حالي إذا حدّثت لا لمعا ولا |
|
جملا لإيضاحي بها من تكمله |
عندي جوى يذر الفصيح مبلدا |
|
فاترك مفصّله ودونك مجمله |
القلب ليس من الصحاح فيرتجى |
|
إصلاحه ، والعين سحب مثقله |
وقد أوردنا في ترجمة أبي عبد الله بن جزى الكاتب الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب فلتراجع ثمة (١).
رجع إلى الشمس بن جابر ـ فنقول : ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة :
لم يبق فيّ اصطبار |
|
مذ خلّفوني وساروا |
وللحبيب أشاروا |
|
جار الكرام فجاروا |
لله ذاك الأوار (٢) |
||
بانوا فما الدار دار |
||
يا بدر أهلك جاروا |
|
وعلموك التّجرّي |
كانوا من الود أهلي |
|
ما عاملوني بعدل |
أصموا فؤادي بنبل (٣) |
|
يا بين بينت ثكلي |
__________________
(١) فلتراجع ثمة : فلتراجع هناك.
(٢) الأوار : الحر ، اللهب.
(٣) أصمى الصيد : رماه فقتله فورا.
يا روح قلبي قل لي |
|
أهم دعوك لقتلي |
وحرموا لك وصلي |
|
وحللوا لك هجري |
حسبي وما ذا عناد |
|
هم المنى والمراد |
وإن عن الحق حادوا |
|
أو جاملوني وجادوا |
يا من به الكلّ سادوا |
|
والكل عندي سداد |
فليفعلوا ما أرادوا |
|
فإنهم أهل بدر (١) |
وتذكرت بهذا قول أبي البركات أيمن بن محمد السعدي رحمه الله تعالى :
للعاشقين انكسار |
|
وذلّة وافتقار |
وللملاح افتخار |
|
وعزة واقتدار |
وأهل بدري أثاروا |
|
وودعوني وساروا |
يا بدر ـ إلخ.
كتبت والوجد يملي |
|
جدّ الهوى بعد هزل (٢) |
وحار ذهني وعقلي |
|
ما بين بدري وأهلي |
يا بدر فاحكم بعدل |
|
إذا أتوك بعذل |
وحرّموا ـ إلخ.
لولا هواك المراد |
|
ما كنت ممن يصاد |
ولا شجاني البعاد |
|
يا بدر أهلك جادوا |
غلطت جاروا وزادوا |
|
لكنهم بك سادوا |
انتهى
__________________
(١) إشارة إلى الحديث الشريف «لعل ربك قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
(٢) في أ ، ب ، ه : «كتبت والوصل يملي» وما أثبتناه يوافق أ ، ج. وهو أفضل.
فليفعلوا ـ إلخ.
رجع إلى ابن جابر ، فنقول :
توفي رحمه الله تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة ٧٨٠ ، ومن نظمه قوله : [بحر البسيط]
يا أهل طيبة في مغناكم قمر |
|
يهدي إلى كل محمود من الطّرق |
كالغيث في كرم ، والليث في حرم |
|
والبدر في أفق ، والزهر في خلق |
وقوله (١) : [بحر البسيط]
أما معاني المعاني فهي قد جمعت |
|
في ذاته فبدت نارا على علم (٢) |
كالبدر في شيم ، والبحر في ديم |
|
والزهر في نعم ، والدهر في نقم |
وقال : [بحر الطويل]
ولما وقفنا كي نودّع من نأى |
|
ولم يبق إلا أن تحثّ الركائب |
بكينا وحقّ للمحبّ إذا بكى |
|
عشية سارت عن حماه الحبائب |
وقال : [بحر الكامل]
ضحكت فقلت كأن جيدك قد غدا |
|
يهدي لثغرك من جواهر عقده |
وكأن ورد الخدّ منك بمائه |
|
قد شاب عذب لماك حالة ورده (٣) |
وقال : [بحر الخفيف]
منعتنا قرى الجمال وقالت : |
|
ليس في غير زادنا من مجال |
فأقمنا على الرحال وقلنا |
|
مالنا حاجة بحط الرحال |
وقال : [بحر السريع]
عذّب قلبي رشأ ناعم |
|
أسهر طرفي طرفه الناعس (٤) |
يحرس باللحظ جنى خدّه |
|
يا ليته لو غفل الحارس |
__________________
(١) في ب : «وقال :».
(٢) العلم : الجبل.
(٣) شاب : مزج. واللمى : سمرة مستحسنة في باطن الشفة.
(٤) في ب ، ه : «أسهر جفني طرفه الناعس».
وقال : [بحر الكامل]
وافيت ربعهم وقد بعد المدى |
|
ونأى الفريق من الديار وسارا |
ما كدت أعرف بعد طول تأمل |
|
دارا بها طاف السرور ودارا |
وله : [بحر الوافر]
ولست أرى الرجال سوى أناس |
|
همومهم موافاة الرجال |
أطالوا في النّدى إهلاك مال |
|
فعاشوا في الأنام ذوي كمال |
وقال : [بحر الخفيف]
أيها المتهمون نفسي فداكم |
|
أنجدوني على الوصول لنجد |
وقفوا بي على منازل ليلى |
|
فوجودي هناك يذهب وجدي |
وما كتبه على كتاب «نسيم الصّبا» لابن حبيب ، وصورته : لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصبا ، المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا ، انتعش بها الخاطر انتعاش النبت بالغمام ، وهملت (١) سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام ، وأخرجت أرض القرائح ما فيها من النبات ، وسمعت الآذان ضمخة الأذهان (٢) بهذه الأبيات : [بحر المنسرح]
هذي فصول الربيع في الزمن |
|
كم حسن أسندت إلى حسن |
رقّت وراقت فمن شمائلها |
|
بمثل صرف الشمول تتحفني (٣) |
كم ملح قد حوت وكم لمح |
|
يعجبني لفظها ويعجزني |
كم فيه من نفث ومن نكت |
|
أشهدني حسنها فأدهشني |
جمع عدمنا له النظير فلا |
|
يصرف عن خاطر ولا أذن |
يا خير أهل العلا وبحرهم |
|
أيّ بديع الكلام لم ترني (٤) |
بدرك في مطلع الفضائل لا |
|
يكون مثل له ولم يكن |
هذي الفصول التي أتيت بها |
|
قد أفحمت كل ناطق لسن |
__________________
(١) في ب : «وهمت سحائب».
(٢) في ب : «صحبة الأذهان». وفي ه : «ضخمة الأذهان».
(٣) الشمول : الخمر.
(٤) في أ : «يا حبر أهل العلا».
كم فن معنى بها يذكرني |
|
شجوي لشدو الحمام في فنن |
فمن نسيب مع النسيم جرى |
|
لطفا فأزرى بالجوهر الثمن |
وحسن سجع كالزهر في أفق |
|
والزهر في ناعم من الغصن |
له معان أعيت مداركها |
|
كل معان بنيلهن عني (١) |
لا زال راق للمجد راقمها |
|
ذا سنن حاز أحسن السنن |
فصول ، هي للحسن أصول ، وشمول ، لها على كل القلوب شمول ، ليس لقدامة على التقدم إليها حصول ، ولا لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول ، ولا انتهى قسّ الإيادي (٢) ، إلى هذه الأيادي ، ولا ظفر بديع الزمان ، بهذه البدائع الحسان ، لقد قصر فيها حبيب (٣) عن ابنه ، وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه ، نزهت في طرف خمائلها ، ونبهت بلطف شمائلها ، تالله إنها لسحر حلال ، وخلال ما مثلها خلال ، كلام كله كمال ، ومجال لا يرى فيه إلا جمال ، راقم بردها ، وناظم عقدها ، في كل فصل ، جاء بكمال فضل ، وفي كل معنى ، عمر بالبراعة مغنى ، أعرب فأغرب ، وأوجر فأعجز ، وأطال فأطاب (٤) ، وأجاد حين أجاب ، فما أنفس فرائده ، وأنفع فوائده ، وأفصح مقاله ، وأفسح مجاله ، وأطوع للنظم طباعه ، وأطول في النثر باعه ، أزاهر نبتت في كتاب ، وجواهر تكوّنت من ألفاظ عذاب ، ومواهب لا تدرك بيد اكتساب ، فسبحان من يرزق من يشاء بغير حساب ، فصول أحلى في الأفواه من السهد (٥) ، وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السّهد ، سبك أدبها (٦) في قالب النكت الحسان ، وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن حسّان ، فما أحقها أن تسمى فصول الربيع ، وأصول البديع ، لا زال حسنها يملأ الأوراق بما راق ، ويزين الآفاق بما فاق ، ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق ، وحقائق بلاغته في جيد الإجادة بمنزلة الأطواق ، بمن الله تعالى وكرمه ، انتهى.
وحيث جرى ذكر كتاب «نسيم الصبا» فلا بأس أن نذكر تقاريظ العلماء له ، فمن ذلك قول القاضي شرف الدين بن ريان : وقفت على هذا الكتاب الذي أبدع فيه مؤلفه ، ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه ، وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه ، وعرفت مقدار ما فيه من
__________________
(١) معان : جمع معنى. ومعان : اسم فاعل من عانى يعاني.
(٢) في ب : «لهذه الأيادي».
(٣) حبيب : هو أبو تمام الطائي. وابنه هنا ابن حبيب الحلبي صاحب كتاب نسيم الصبا الذي يقرضه الشاعر.
(٤) أطاب : جاء بما هو طيب.
(٥) السّهد : الأرق.
(٦) في ب ، ه : «سكب أدبها».
الإنشاء وأين من يعرفه ، فوجدته ألطف من اسمه ، وأحسن من الدرر في نظمه ، وأطيب من الورد عند شمه ، هبّت على رياض فصوله نسيم صباها ، ففاقت الأزهار في رباها ، وتشوفت (١) قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب ريّاها ، وفاضت عليه أنوار البدر فأغنى سناها (٢) ، عن الشمس وضحاها ، وتحلّت نحور البلغاء من كلامه بالدر اليتيم ، ومن معانيه بالعقد النظيم ، وترنّحت أفنان فنون الفصاحة لما هب عليها ذلك النسيم ، كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه ، وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد إلا في كتابه ، صدر هذا الكتاب عن علم سابق ، وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق ، وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق ، وقريحة إذا ذقت جناها ، وشمت (٣) سناها ، تذكرت ما بين العذيب وبارق (٤) فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه ، ويبلغه من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه ، بمنه وكرمه ، انتهى.
وقرظ عليه بعضهم بقوله : وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم (٥) من هذه الفصول ، ووجد من نسيم الصبا أمارات القبول ، ونزه طرفه في رياض هذا الكتاب ، وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن رد الجواب : [بحر الكامل]
ما ذا أقول وكلّ وصف دونه |
|
أين الحضيض من السّماك الأعزل |
يا لها كلمات نقصت قدر الأفاضل ، وفضحت فصحاء الأوائل ، وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل ، وزادت في البلاغة على فريد ، وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد (٦) ، وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعا ، وملكت زمام البيان فما تركت للبديع منه نوعا : [بحر الكامل]
قطف الرجال القول حين نباته |
|
وقطفت أنت القول لما نوّرا (٧) |
وخطاب أعجز الخطباء وصفه ، وجواب ألغى البلغاء رصفه ، وغرائب تعرّفت بمبديها ، وشوارد تألفت بمهديها ، وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنس قبلك ولا جان ، ولم يقطف
__________________
(١) في ب ، ه : «وتشوقت» وكلا المعنيين ، وما أثبتناه ، وما في ب ، ه رائع جميل.
(٢) السنا : النور.
(٣) شمت : نظرت.
(٤) العذيب وبارق : مكانان.
(٥) في ه : «فصوص الحكم».
(٦) عبد الحميد : هو عبد الحميد الكاتب ، كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
(٧) نوّر : أزهر ، والنّور : الزهر.
أزهارها عين ناظر ولا يد جان ، معان تطرب السمع لها حكم وأحكام ، وألفاظ هي الأرواح لا أرواح أجسام ، فلما ألقى فهمه عروة المتماسك ، وضاقت عليه في وصفه المسالك ، وعجز عن وصف بلوغ بلاغته ، عطف على حسن كتابته ، فرأى خطا يسبي الطرف ، ويستغرق الظرف ، نسج قلمه (١) الكريم من وشي البلاغة ديباجا ، واتخذ من محاسن الحسان طريقا ومنهاجا ، فألفى ألفات كاعتدال القدود ، ونونات كأهلّة السعود ، وسينات كالطرر ، ونقطا كالدرر ، جعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف ، وحلّى الأسماع بحلية زائدة على الشنوف (٢) ، فعطف ساعة يطنب (٣) في دعائه وشكره ، وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره ، فلله در ألفاظك ودرر فضلك ، وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلّك (٤) : [بحر الطويل]
لسانك غواص ، ولفظك جوهر |
|
وصدرك بحر بالفضائل زاخر |
والله المسؤول أن يرفع قدر مقالك ومقام قدرك ، ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنه وكرمه ، إنه على كل شيء قدير.
وكتب قاضي القضاة تاج الدين السبكي ، رحمه الله تعالى! في تقريظ الكتاب المذكور ما نصه : الحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، حدقت نحو الحدائق ، وفوّقت سهمي تلقاء الغرض الشائق ، وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق ، فما علّل صداي كنسيم الصبا ، ولا كمثله سهما صائبا صبابه من لا صبا (٥) ، ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهبا : [بحر مجزوء الكامل]
وتجيء من ملح الكلا |
|
م بطارف أو تالده |
كلم نوابغ نحو آ |
|
فاق المطالع صاعده |
لو رامها قسّ لما |
|
ألفى أباه ساعده |
أبدى نتائج عيّه |
|
في ذي المعاني الشارد |
فعين الله تعالى عليها كلمات عليها منه رقيب ، ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب ، وفوائد حسان يذكرنا بها حسان البعيد حسن القريب ، كتبه عبد الوهاب [بن](٦) السبكي ، انتهى.
__________________
(١) في ه : «نسخ قلمه».
(٢) الشنوف : جمع شنف ، وهي حلية تعلق في أعلى الأذن.
(٣) في ه : يطيب.
(٤) الوابل : المطر الشديد. والطلّ : المطر الخفيف الضعيف.
(٥) في ب ، ه : «صابه من لا صبا».
(٦) هذه الكلمة ساقطة من ب ، ه.