الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤
الرعاية مطلول (١) ، وجيب النصيحة مملول ، والتّنّور السلطاني بنار اختلاف الكلمة ملتهب ، والعدوّ ينتهز الفرصة ويستلب الأنفس الأموال وينتهب ، وليس له في غير قطع شأفة المسلمين ابتغاء ، وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسرّ حسوا في ارتغاء ، وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة ولله سبحانه وتعالى في خلقه إرادة نافذة وحكمة بالغة ، فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه ، وأرغم ـ رحمه الله! ـ الكفر الذي فغرفاه ، وشمّر عن ساعد اجتهاده ، وحضّ باللسان وباليد على دفاعه وجهاده ، حتى لاحت للنصر بوارق ، وأمنت بالحزم الطوارىء والطوارق ، ثم ضرب الدهر ضربانه ، وأحرق الحاسد بنار أحقاده أنضر بانه ، وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وأبانه ، وتقرّب الوشاة ، وهم ممّن كان يخدمه ويغشاه ، إلى سلطانه الذي كان عزّة أوطانه الذي كان يأمنه ولا يخشاه ، حتى فسد عليه ضميره ، وتكدّر ومن يسمع يخل نميره ، فأحسّ بظاهر التغيّر ، وصار في الباطن من أهل التحير ، وأجال قداح آرائه ، والتفت إلى جهة العدوّ من ورائه ، ففرّ مشمّرا عن ذيله في لمّة من خيله ، إلى أسد العرين ، سلطان بني مرين ، وكان إذ ذاك بتلمسان ، وهو من أهل العلم والعدل والإحسان ، فاهتزّ لمقدمه ، ولقيه بخاصّته وخدمه ، وأكرم مثواه ، وجعله صاحب نجواه ، ثم أدرك السلطان الحمام (٢) ، وكسف بدره وقت التمام ، فرجع لسان الدين إلى فاس ، واستنشق بها أطيب الأنفاس ، وكثرت بعد ذلك الأهوال ، وتغيّرت بسببه بين رؤساء العدوة والأندلس الأحوال ، فما نجا من مكر العدا ولا سلم ، وآل أمره من الاغتيال وما نفع الاحتيال إلى ما علم ، على يدي (٣) بعض أعدائه ، الذين كانوا يتربّصون الدوائر لإردائه ، فأصبح كأمس الذاهب ، وصارت أمواله وضياعه عرضة للناهب ، وغصّ بذلك من كان من أودّائه ، وأخذ الله ثاره ، من بعض من حرّك عليه المكر وأثاره ، وتسبب في هلاكه ، حتى انتثرت جواهر أسلاكه ، ومات بدائه. فالعيون إلى هذا الوقت على لسان الدين باكية ، ونفوس الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية ، والألسنة والأقلام لمقاماته في الإسلام حاكية.
فمن كان بهذه السّمات وأكثر منها موصوفا ، لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون فكرته كخرقاء نقضت قطنا أو صوفا.
ثم إني لمّا تكرّر عليّ في هذا الغرض الإلحاح ، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح (٤) ، عزمت على الإجابة لما للمذكور عليّ من الحقوق ، وكيف أقابل برّه حفظه الله بالعقوق؟ وهو
__________________
(١) في ب : محلول.
(٢) الحمام : الموت.
(٣) في ب : يد.
(٤) الزند الشحاح ـ بفتح الشين ـ الذي لا يوري نارا.
الذي يروي من أحاديث الفضل الحسان والصحاح ، فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزّيّة ، وأزمعت السّير عن دمشق المعروفة المزيّة ، وألبسني السفر منها من الخلع زيّه ، ورحلنا عن تلك الأرجاء المتألّقة ، والقلوب بها وبمن فيها متعلّقة : [الطويل]
حللنا ديارا للغرام سرت بها |
|
إلينا صبا نجد بطيب نسيم |
وبان ردا الأشجان لمّا تجاذبت |
|
أكفّ المنى فيها رداء نعيم |
فما أنشبتنا العيس أن قذفت بنا |
|
إلى فرقة والعهد غير قديم |
فإن نك ودّعنا الديار وأهلها |
|
فما عهد نجد عندنا بذميم |
فخرج معنا. أسماه الله. مع جملة من الأعيان إلى داريّا (١) ، المضاهية لدارين في ريّاها وحبّذا ريّا ، فألفيناها : [مجزوء الكامل]
ريّا من الأنداء طي |
|
يبة لها القدر الجليل |
تهدي لنا أرجاؤها |
|
أرجا من الزّهر البليل |
وبها الغصون تمايلت |
|
ميل الخليل على الخليل |
ووصلنا عند الظّهيرة ، وسرّحنا العيون في محاسنها (٢) الشهيرة : [الخفيف]
منزل كالرّبيع حلّت عليه |
|
حاليات السّحاب عقد النّطاق |
يمتع العين من طرائق حسن |
|
تتجافى بها عن الإطراق |
وقلنا بها ، لمّا نزلنا بجانبها (٣) : [الوافر]
وبتنا والسرور لنا نديم |
|
وماء عيونه الصّافي مدام |
يسايره النسيم إذا تغنّت |
|
حمائمه ويسقيه الغمام |
فيا لك من ليلة أربت في طيب النفح ، على ليلة الشّريف الرضيّ بالسّفح (٤) : [المنسرح]
ونحن في روضة مفوّفة |
|
قد وشّيت بالغمائم الوكف |
__________________
(١) داريا : جنوبيّ دمشق.
(٢) في ب : بدائعها.
(٣) في ب : بجنابها.
(٤) يشير إلى قول الشريف الرضيّ في ليلة السفح :
يا ليلة السفح ألا عدت ثانية |
|
سقى زمانك هطّال من الديم |
ماض من العيش لو يفدى بذلت له |
|
كرائم المال من خيل ومن نعم |
نغفي على زهرها فيوقظنا |
|
وهنا هدير الحمائم الهتف |
ودوحها من نداه في وشح |
|
ومن لآلي الأزهار في شنف |
والغصن من فوقه حمامته |
|
كأنها همزة على ألف |
وما أقرب قول الوزير ابن عمّار ، من وصف ذلك المضمار ، الجامع للأقمار : [مجزوء الكامل]
يا ليلة بتنا بها |
|
في ظلّ أكناف النّعيم |
من فوق أكمام الرّيا |
|
ض وتحت أذيال النّسيم |
وناهيك بمحلّ قرب من دمشق الغرّاء ، فخلعت عليه حلل الحبور والسّراء ، وأمدّته بضيائها ، وأودعته برق حياها (١) وماء حيائها ، فصار ناضر الدّوحات ، عاطر الغدوات والرّوحات ، مونق الأنفاس والنفحات ، مشرق الأسرّة والصفحات ، هذا والقلوب من الفراق في قلق ، ولسان الحال ينشد : [البسيط]
وبي علاقة وجد ليس يعلمها |
|
إلّا الّذي خلق الإنسان من علق |
ويحثّ على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة ، ويذكّر بقول من قال وأكفّ الدهر موقظة ومنيمة (٢) : [الوافر]
تمتّع بالرّقاد على شمال |
|
فسوف يطول نومك باليمين |
ومتّع من يحبّك باجتماع |
|
فأنت من الفراق على يقين |
ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع ، والكلّ ما بين واجم وباك وداع ، فتمثّلت بقول من قلبه لفراق الأحباب في انصداع : [المجتث]
ودّعتهم ودموعي |
|
على الخدود غزار |
فاستكثروا دمع عيني |
|
لمّا استقلّوا وساروا |
وقول آخر : [السريع]
يا وحشة من جيرة قد نأوا |
|
علوّ قدري في الهوى انحطّا |
حكت دموعي البحر من بعدهم |
|
لمّا رأت منزلهم شطّا |
__________________
(١) الحيا : المطر.
(٢) البيتان لشاعر صقلية ابن الخياط (انظر الشعر الصقلي في المغرب لابن سعيد).
وحقّ لي أن أتمثّل في ذلك بقول العزازي (١) : [الخفيف]
لا تسلني عمّا جناه الفراق |
|
حمّلتني يداه ما لا يطاق |
أين صبري أم كيف أملك دمعي |
|
والمطايا بالظاعنين تساق |
قف معي نندب الطّلول فهذي |
|
سنّة قبل سنّها العشّاق |
وأعد لي ذكر الغوير فكم ما |
|
ل بعطفي نسيمه الخفّاق |
في سبيل الغرام ما فعلت بال |
|
عاشقين القدود والأحداق |
يوم ولّت طلائع الصّبر منّا |
|
ثم شنّت غاراتها الأشواق |
وبقول غيره : [البسيط]
كنّا جميعا والدار تجمعنا |
|
مثل حروف للجمع ملتصقه (٢) |
واليوم صار الوداع يجعلنا |
|
مثل حروف الوداع مفترقه |
وقول آخر : [الخفيف]
حين همّ الحبيب بالتّوديع |
|
عيّروني أنّي سفحت دموعي |
لم يذوقوا طعم الفراق ولا ما |
|
أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي |
كيف لا أسفح الدموع على رب |
|
ع حوى خير ساكن وجموع |
هبك أنّي كتمت حالي أتخفى |
|
زفرات المتيّم المصدوع |
إنّما يعرف الغرام بمن لا |
|
ح عليه الغرام بين الربوع |
وقول من قال : [المتقارب]
أقول له عند توديعه |
|
وكلّ بعبرته مبلس (٣) |
لئن قعدت عنك أجسادنا |
|
لقد سافرت معك الأنفس |
وقول الصابي (٤) : [المتقارب]
__________________
(١) اختلفت المخطوطات فبعضها أورده الفزاري ، وبعضها العزازي وبعضها الإعزازي ...
(٢) في ب : مثل حروف الجميع.
(٣) مبلس : ساكت غمّا وحزنا.
(٤) هو ابن إسحاق إبراهيم بن هلال بن ابراهيم بن زهرون الحرّاني الصابي ، كان صاحب رسائل مشهورة ونظم بديع (انظر : وفيات الأعيان ج ١ ص ٥٢ ، ومعجم الأدباء ج ٢ صفحة ٢٠ واليتيمة ج ٢ ص ٢٤٣ ـ ٣١٢.
ولمّا حضرت لتوديعه |
|
وطرف النّوى نحونا أشوس (١) |
عكست له بيت شعر مضى |
|
يليق به الحال إذ يعكس |
لئن سافرت عنك أجسادنا |
|
لقد قعدت معك الأنفس |
وقول المهذب بن أسعد الموصلي (٢) : [الكامل]
دعني وما شاء التفرّق والأسى |
|
واقصد بلومك من يطيعك أو يعي |
لا قلب لي فأعي الملام فإنني |
|
أودعته بالأمس عند مودّعي |
هل يعلم المتحمّلون لنجعة |
|
أنّ المنازل أخضبت من أدمعي |
كم غادروا حرضا وكم لوداعهم |
|
بين الجوانح من غرام مودع (٣) |
والسقم آية ما أجنّ من الجوى |
|
والدّمع بيّنة على ما أدّعي |
وقول الكمال التّنوخي : [الكامل]
كم ليلة قد بتّها أرعى السّها |
|
جزعا لفرقتهم بمقلة أرمد |
قضّيتها ما بين نوم نافر |
|
وزفير مهجور وقلب مكمد |
لم أنس أيام السّرور وطيبها |
|
بين السّدير وبين برقة ثهمد |
والروض قد أبدى بدائع نوره |
|
من أزرق ومفضّض ومورّد |
والماء يبدو كالصّوارم ساريا |
|
فيعيده مرّ الصّبا كالمبرد |
والطير بين مسجّغ ومرجّع |
|
ومغرّد ومعدّد ومردّد |
وقول القاضي بهاء الدين السنجاري (٤) : [الكامل]
أحبابنا ما لي على بعد المدى |
|
جلد ومن بعد النّوى يتجلّد |
لله أوقات الوصال ومنظر |
|
نضر وغصن الوصل غضّ أملد (٥) |
أنّى يطيق أخو الهوى كتمانه |
|
والخدّ بالدمع المصون مخدّد |
__________________
(١) الأشوس : الرافع رأسه تكبرا.
(٢) هو أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى بن الدهان الموصلي ، (انظر : الخريدة ـ القسم الشامي ٢ / ٢٧٩).
(٣) الحرض : المشرف على الهلاك.
(٤) هو أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري. كان فقيها ، وتكلم بالخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر ، توفي سنة ٦٢٢ ه (انظر : وفيات الأعيان ، ج ١ ص ٢١٤ ـ ٢١٧).
(٥) غصن أملد : طريّ غضّ.
ما بعد مفترق الركاب تصبّر |
|
عمّن أحبّ فهل خليل يسعد |
يا سعد ، ساعد بالبكاء أخا هوى |
|
يوم الوداع بكى عليه الحسّد |
وقول ابن الأثير : [مجزوء الكامل]
لم أنس ليلة ودّعوا |
|
صبّا وساروا بالحمول |
والدّمع من فرط الأسى |
|
يجري فيعثر بالذيول |
وقول الأرّجاني (١) : [الطويل]
ولمّا وقفنا للوداع عشيّة |
|
وطرفي وقلبي هامع وخفوق |
بكيت فأضحكت الوشاة شماتة |
|
كأني سحاب والوشاة بروق |
وقول ابن نباتة السّعدي (٢) : [الطويل]
ولمّا وقفنا للوداع عشية |
|
ولم يبق إلّا شامت وغيور |
وقفنا فمن باك يكفكف دمعه |
|
وملتزم قلبا يكاد يطير |
وقول بعضهم : [السريع]
لمّا حدا الحادي بترحالهم |
|
هيّج أشواقي وأشجاني |
وراح يثني القلب عن غيرهم |
|
فهو لهم حاد ولي ثاني (٣) |
وقول الصّفدي : [السريع]
لمّا اعتنقنا لوداع النّوى |
|
وكدت من حرّ الجوى أحرق |
رأيت قلبي سار قدّامهم |
|
وأدمعي تجري ولا تلحق |
وقوله أيضا : [الطويل]
تذكّرت عيشا مرّ حلوا بقربكم |
|
فهل لليالينا الذواهب واهب |
وما انصرفت آمال نفسي لغيركم |
|
ولا أنا عن هذي الرغائب غائب |
__________________
(١) هو أبو بكر أحمد بن الحسين الأرجاني الملقّب ناصح الدين ، كان قاضي تستر وعسكر مكرم ، له شعر رائق ، توفي سنة ٥٤٤ ه (انظر وفيات الأعيان ج ١ ص ١٥١).
(٢) هو أبو نصر عبد العزيز بن محمد بن نباتة السعدي المتوفى سنة ٤٠٥ ه من شعراء اليتيمة (انظر يتيمة الدهر ج ٢ ص ٣٨٠ ، وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٩٠).
(٣) حاد : سائق ، ثاني : من ثنى القلب. وفي الكلمتين تورية.
سأصبر كرها في الهوى غير طائع |
|
لعلّ زماني بالحبائب آئب |
وقول ابن نباتة المصري (١) : [السريع]
في كنف الله وفي حفظه |
|
مسراك والعود بعزم صريح |
لو جاز أن تسلك أجفاننا |
|
كنّا فرشنا كلّ جفن قريح |
لكنها بالبعد معتلّة |
|
وأنت لا تسلك إلّا الصحيح |
وقول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل (٢) : [الطويل]
عجبت لنفسي بعدهم ما بقاؤها |
|
ولم أحظ من لقياهم بمرادي |
لعمرك ما فارقتهم منذ ودّعوا |
|
ولكنّما فارقت طيب رقادي |
وقد منعوا مني زيارة طيفهم |
|
وكيف يزور الطّيف حلف سهاد |
وأعجب ما في الأمر شوقي إليهم |
|
وهم في سوادي ناظري وفؤادي |
وقوله رحمه الله تعالى : [الطويل]
رعى الله أيام المقام بروضة |
|
تروح علينا بالسرور وتغتدي |
كأن الشّقيق الغضّ بين بطاحها |
|
نجوم عقيق في سماء زبرجد |
وقول القاضي الرشيد الأسواني (٣) : [الكامل]
رحلوا فلا خلت المنازل منهم |
|
ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم |
وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم |
|
وضياء نور الشمس ما لا يكتم |
وتبدّلوا أرض العقيق عن الحمى |
|
روّت جفوني أيّ أرض يمّموا (٤) |
نزلوا العذيب وإنما هو مهجتي |
|
رحلوا وفي قلب المتيّم خيّموا |
__________________
تذكّرت عيشا مرّ حلوا بكم فهل |
|
لأيامنا تلك الذواهب واهب؟ |
(١) هو محمد بن محمد بن محمد أبو بكر جمال الدين ، شاعر ، مترسل ، له ديوان مطبوع ، وله شرح على رسالة ابن زيدون الهزلية ، توفي سنة (٧٦٨ ه) (انظر: النجوم الزاهرة ١١ : ٩٥ ، وطبقات الشافعية ٦ : ٣١).
(٢) فقيه ، شاعر ، أندلسي توفي (٦٢٧ ه) (انظر : اختصار القدح ص ١٠٨).
(٣) هو أحمد بن علي بن ابراهيم بن الزبير ، كان عالما وشاعرا قتل سنة (٥٦٣ ه) (انظر : وفيات الأعيان ومعجم الأدباء ٤ : ٥١).
(٤) يمموا : قصدوا.
ما ضرّهم لو ودّعوا من أودعوا |
|
نار الغرام وسلّموا من أسلموا |
هم في الحشا إن أعرقوا أو أيمنوا |
|
أو أشأموا أو أنجدوا أو أتهموا |
وقول الشاعر أبي طاهر الأصفهاني ، المعروف بالوثّابي (١) : [الطويل]
أشاعوا فقالوا وقفة ووداع |
|
وزمّت مطايا للرحيل سراع |
فقلت وداع لا أطيق عيانه |
|
كفاني من البين المشتّ سماع |
ولم يملك الكتمان قلب ملكته |
|
وعند النّوى سرّ الكتوم مذاع |
وقول أبي المجد قاضي ماردين : [الطويل]
رعى الله ربعا أنتم فيه أهله |
|
وجاد عليه هاطل وهتون |
ولا زال مخضرّ الجوانب مترع ال |
|
حياض وفيه للنّعيم فنون |
لئن قدّر الله اللقاء وأينعت |
|
غصون التداني فالبعاد يهون |
وإن حكمت أيدي الفراق بعسرة |
|
فكم قضيت للمعسرين ديون |
وقول آخر : [الكامل]
غبتم فما لي في التّصبّر مطمع |
|
عظم الجوى واشتدّت الأشواق |
لا الدار بعدكم كما كانت ولا |
|
ذاك البهاء بها ولا الإشراق |
أشتاقكم ، وكذا المحبّ إذا نأى |
|
عنه أحبّة قلبه يشتاق |
وقول أبي الحسن الهمذاني (٢) : [الوافر]
ويوم تولّت الأظعان عنّا |
|
وقوّض حاضر وأرنّ بادي (٣) |
مددت إلى الوداع يدا وأخرى |
|
حبست بها الحياة على فؤادي |
وقول ابن الصائغ : [البسيط]
قد أودعوا القلب لمّا ودّعوا حرقا |
|
فظلّ في الليل مثل النّجم حيرانا |
راودته يستعير الصّبر بعدهم |
|
فقال : إني استعرت اليوم نيرانا |
وقول الصدر بن الأدمي مكتفيا (٤) : [الرمل]
__________________
(١) هو اسماعيل بن محمد الوثابي الأصفهاني الأديب الشاعر. توفي سنة (٥٣٢ ه) (انظر : اللباب ٣: ٢٦٢).
(٢) في ب : الهمداني.
(٣) أرنّ : صاح باكيا.
(٤) هو صدر الدين علي بن محمد الأدمي المتوفى سنة ٨١٦ ه) كان قاضيا بدمشق (انظر : الضوء اللامع ٥ : ٣٢٨).
يوم توديعي لأحبابي غدا |
|
ذكر ميّ شاغلي عن كلّ شي |
فرنت نحوي وقالت : يا ترى |
|
أنت حيّ في هوانا؟ قلت : مي (١) |
وقول غيره : [السريع]
ولي فؤاد مذ نأى شخصهم |
|
ظلّ كئيبا مدنفا موجعا |
ومقلة مهما تذكّرتهم |
|
تذرف دمعا أربعا أربعا |
وليس لي من حيلة كلما |
|
لجّت بي الأشواق إلّا الدّعا |
أسأل من ألّف ما بيننا |
|
وقدّر الفرقة أن يجمعا |
وقول الرّعيني الغرناطي : [الطويل]
محاسن ربع قد محاهنّ ما جرى |
|
من الدمع لمّا قيل قد رحل الرّكب |
تناقض حالي مذ شجاني فراقهم |
|
فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب |
وفي معناه قوله أيضا (٢) : [الطويل]
وقائلة : ما هذه الدّرر التي |
|
تساقطها عيناك سمطين سمطين |
فقلت لها : هذا الذي قد حشا به |
|
أبو مضر أذني تساقط من عيني |
وقول الزمخشري (٣) : [الكامل]
لم يبكني إلّا حديث فراقهم |
|
لمّا أسرّ به إليّ مودّعي |
هو ذلك الدّرّ الذي أودعتم |
|
في مسعي أجريته من مدمعي |
وقول الزّغاري : [الرجز]
قد بعتهم قلبي يوم بينهم |
|
بنظرة التوديع وهو يحترق |
ولم أجد من بعدها لردّه |
|
وجها وكان الرّدّ لو لم نفترق |
وقول بعض الأندلسيين : [البسيط]
ساروا فودّعهم طرفي وأودعهم |
|
قلبي فما بعدوا عنّي ولا قربوا |
__________________
(١) قلت : مي ، لعله أراد : قلت ميت فاختصر الكلمة وكأنه لا يستطيع الكلام.
(٢) اشتهرت نسبة البيتين إلى الزمخشري.
(٣) اشتهرت نسبة هذين البيتين إلى القاضي الجرجاني.
هم الشموس ففي عيني إذا طلعوا |
|
في القادمين وفي قلبي إذا غربوا |
وقلت أنا مضمّنا بديهة : [المجتث]
لا كان يوم فراق |
|
ساق الشجون إلينا |
فكم أذلّ نفوسا |
|
يا من يعزّ علينا (١) |
وقلت أيضا مضمّنا : [البسيط]
سلا أحبّته من لم يذب كمدا |
|
يوم الوداع وإن أجرى الدموع دما |
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم |
|
من بعدكم هدّ ركن الصّبر وانهدما |
وإن نأى الجسم كرها عن منازلكم |
|
فالقلب ثاو بها لم يصحب القدما |
وما نسينا عهودا للهوى كرمت |
|
نعم قرعنا عليها سنّنا ندما |
وأظلمت بالنّوى أرجاء مقصدنا |
|
وصار وجدان إلف غيركم عدما |
وقلت أيضا مضمّنا : [البسيط]
لم أنس بالشام أنسا شمت بارقه |
|
جادت معاهده أنواء نيسان (٢) |
لهفي لعيش قضينا في مشاهدها |
|
ما بين حسن من الدنيا وإحسان |
وقلت كذلك : [الكامل]
يا جيرة بانوا وأبقوا حسرة |
|
تجري دموعي بعدهم وفق القضا |
كم قلت إذ ودّعتهم والأنس لا |
|
ينسى وعهد ودادهم لن يرفضا |
يا موقف التوديع إنّ مدامعي |
|
فضّت وفاضت في ثرى ذاك الفضا |
وكما تفاءلت بقول الأول ، مع علمي بأن على الله المعوّل : [البسيط المخلع]
إذا رأيت الوداع فاصبر |
|
ولا يهمّنّك البعاد |
وانتظر العود عن قريب |
|
فإنّ قلب الوداع عادوا |
وضاقت بي الرّحاب ، عند (٣) مفارقة أعيان الأحباب والصّحاب (٤) ، وكاثرت دموعي من
__________________
(١) ضمّن في هذا البيت قول المتنبي :
يا من يعز علينا أن نفارقهم |
|
وجداننا كل شيء بعدكم عدم |
(٢) شمت : نظرت ، والبارق : البرق.
(٣) في ب : حين.
(٤) في ب : مفارقة أعيان الصّحاب.
بينهم السحاب (١) ، وزند التذكّر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب ، وقد تمثّلنا إذ ذاك والجوانح من الجوى في التهاب ، وذخائر الصبر ذات انتهاب ، بقول بعض من مزّق البعد منه الإهاب : [الطويل]
ولمّا نزلنا منزلا طلّه النّدى |
|
أنيقا وبستانا من النّور حاليا (٢) |
أجدّ لنا طيب المكان وحسنه |
|
منى فتمنّينا فكنت الأمانيا (٣) |
وقد طفت في شرق البلاد وغربها |
|
وسيّرت خيلي بينها وركابيا |
فلم أر منها مثل بغداد منزلا |
|
ولم أر فيها مثل دجلة واديا |
ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا |
|
وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا |
وبقول من تأسّف على مغاني التداني ، وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني (٤) : [الطويل]
أبى الله إلّا أن أفارق منزلا |
|
يطالعني وجه المنى فيه سافرا |
كأنّ على الأيام حين غشيته |
|
يمينا فلم أحلله إلّا مسافرا |
وتخيّلنا أنّ إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف ، ما كانت إلّا خطرة طيف ملمّ أو لمحة طرف : [الوافر]
وقفنا ساعة ثم ارتحلنا |
|
وما يغني المشوق وقوف ساعه |
كأنّ الشّمل لم يك في اجتماع |
|
إذا ما شتّت البين اجتماعه |
وطالما علّلت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي ، منشدا قول الأديب الشهير بابن الفقاعي (٥) : [الطويل]
متى عاينت عيناي أعلام حاجر |
|
جعلت مواطي العيس فوق محاجري |
وإن لاح من أرض العواصم بارق |
|
رجعت بأحشاء صواد صوادر (٦) |
سقى الله هاتيك المواطن والرّبا |
|
مواطر أجفان هوام هوامر |
__________________
(١) السحاب : هنا المطر.
(٢) النّور : بفتح النون وسكون الواو : الزهر ، أو الأبيض منه.
(٣) في ب : فكانوا.
(٤) هو أبو الحجاج يوسف بن عبد الله الفهري الداني ، تولى أحكام بلنسبة ت (٥٩٢ ه).
(٥) هو محمد بن غازي الموصلي (٦٢٩ ه) شاعر دمشقي ينسب إلى الفقاع وهو نوع من الشراب (انظر : الوافي ٤ : ٣٠٦).
(٦) صواد : جمع صادية ، وهي العطشى.
وحيّا الحيا من ساكني الحيّ أوجها |
|
سفرن بأنوار زواه زواهر |
بحيث زمان الوصل غضّ وروضه |
|
أريض بأزهار بواه بواهر |
وحيث جفون الحاسدين غضيضة |
|
رمقن بآماق سواه سواهر |
ثم حاولت خاطري الكليل ، فيما يشفي بعض الغليل ، فقال على طريق التضمين ، وقد غلب عليه الشوق والتخمين : [الرمل]
بأبي من أودعوا مذ ودّعوا |
|
قلبي الشّوق وللعيس ذميل |
جيرة غرّ كرام خيرة |
|
كلّ شيء منهم يبدو جميل |
وعلى الجملة ما لي غيرهم |
|
لو أرادوا أن يملّوا أو يميلوا |
ثم قلت وقد سدّد التنائي إليّ نبله ، موطّئا للبيت الثالث كما في الأبيات قبله : [الخفيف]
يا دمشقا حيّاك غيث غزير |
|
ووقاك الإله ممّا يضير |
حسنك الفرد والبدائع جمع |
|
متناه فيه فعزّ النظير |
أين أيامنا بظلّك والشّم |
|
ل جميع ، والعيش غضّ نضير |
ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال ، وقد شبّهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال ، وتنسّمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشّمال (١) ، وضمّنت في المعنى قول بعض من ثنى الحبّ عطفه وأمال : [الطويل]
تنسّمت أرواحا سرت من ديار من |
|
بهم كان جمع الشّمل لمحة حالم |
وجاوبت من يلحى على ذاك جاهلا |
|
بقول لبيب بالعواقب عالم |
وما أنشق الأرواح إلّا لأنّها |
|
تمرّ على تلك الرّبا والمعالم |
وما أحسن قول الآخر : [الطويل]
سرت من نواحي الشام لي نسمة الصّبا |
|
وقد أصبحت حسرى من السّير ظالعه (٢) |
ومن عرق مبلولة الجيب بالنّدى |
|
ومن تعب أنفاسها متتابعه |
وقلت أنا : [الطويل]
حمدت وحقّ الله للشام رحلة |
|
أتاحت لعينيّ اجتلاء محيّاه (٣) |
__________________
(١) أريج الشمال : العطر المنبعث من الريح الهابّة من الشمال.
(٢) حسرى : متعبة ، وظالعة : من الظلع وهو شبه العرج.
(٣) أتاحت : هيّأت. ومحيّاه : طلعته.
وبعد التنائي صرت أرتاح للصّبا |
|
لأنّ الصّبا تسري بعاطر ريّاه (١) |
فلله عهد قد أتاح بجلّق |
|
سرورا فحيّاه الإله وحيّاه (٢) |
واستحضرت عند جدّ السّير ، قول صفوان بن إدريس المرسيّ ذكره الله تعالى بالخير : [الخفيف]
أين أيامنا اللّواتي تقضّت |
|
إذ زجرنا للوصل أيمن طير |
ثم قول غيره ممّن حنّ وأنّ ، وقلق قلبه وما اطمأنّ : [الوافر]
أحنّ إلى مشاهد أنس إلفي |
|
وعهدي من زيارته قريب |
وكنت أظنّ قرب العهد يطفي |
|
لهيب الشوق فازداد اللهيب |
وربما تجلّدت مغالطا ، متعلّلا بقول من كان لإلفه مخالطا : [الوافر]
حضرت فكنت في بصري مقيما |
|
وغبت فكنت في وسط الفؤاد |
وما شطّت بنا دار ولكن |
|
نقلت من السّواد إلى السّواد |
وقول غيره : [البسيط]
وكن كما شئت من قرب ومن بعد |
|
فالقلب يرعاك إن لم يرعك البصر |
وبقول الوداعي : [السريع]
يا عاذلي في وحدتي بعدهم |
|
وأنّ ربعي ما به من جليس |
وكيف يشكو وحدة من له |
|
دمع حميم وأنين أنيس (٣) |
ثم ردّدت هذه الطريقة ، بقول بعض من لم يبلعه السلوّ ريقه (٤) : [الخفيف]
لا رعى الله عزمة ضمنت لي |
|
سلوة القلب والتصبّر عنهم |
ما وفت غير ساعة ثم عادت |
|
مثل قلبي تقول لا بدّ منهم |
ويقول ابن آجروم (٥) ، في مثل هذا الغرض المروم : [البسيط]
__________________
(١) التنائي : التباعد. والرّيّا : الريح الطيبة العطرة.
(٢) في ب : فحيّاها.
(٣) دمع حميم : حار. وفي البيت تورية.
(٤) أخذ هذا من قولهم : أبلعني ريقي ، بمعنى تأنّ عليّ وتمهّل.
(٥) هو محمد بن محمد بن داود الصنهاجي مؤلف الآجرومية في النحو ت ٧٢٣ ه (انظر : بغية الوعاة ١ : ٢٣٨).
يا غائبا كان أنسي رهن طلعته |
|
كيف اصطباري وقد كابدت بينهما |
دعواي أنك في قلبي يعارضها |
|
شوقي إليك ، فكيف الجمع بينهما |
ثم جدّ بي السير إلى مصر واستمرّ ، فتذكّرت قول الصفدي وقد اشتدّ بالرّمل الحرّ : [الطويل]
أقول وحرّ الرّمل قد زاد وقده |
|
وما لي إلى شمّ النسيم سبيل |
أظنّ نسيم الجوّ قد مات وانقضى |
|
فعهدي به في الشام وهو عليل |
وقول ابن الخياط (١) : [السريع]
قصدت مصرا من ربا جلّق |
|
بهمّة تجري بتجريبي |
فلم أر الطّرّة حتى جرت |
|
دموع عيني بالمريزيب |
وحين وصلت مصر لم أنس عهد الشام المرعيّ ، وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعيّ: [الطويل]
أحبّتنا ، والله مذ غبت عنكم |
|
سهادي سميري والمدامع مدرار (٢) |
ووالله ما اخترت الفراق ، وإنه |
|
برغمي ، ولي في ذلك الأمر أعذار |
|
||
إذا شام برق الشام طرفي تتابعت |
|
سحائب جفني والفؤاد به نار |
ألا ليت شعري هل يعودنّ شملنا |
|
جميعا وتحوينا ربوع وأقطار |
وقول ابن عنين (٣) : [الطويل]
دمشق ، بنا شوق إليك مبرّح |
|
وإن لجّ واش أو ألحّ عذول |
بلاد بها الحصباء درّ ، وتربها |
|
عبير ، وأنفاس الرياح شمول |
تسلسل منها ماؤها وهو مطلق |
|
وصحّ نسيم الروض وهو عليل |
وقول آخر : [البسيط]
نفسي الفداء لأنس كنت أعهده |
|
وطيب عيش تقضّى كلّه كرم |
__________________
(١) هو محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط معاصر الصفدي ت (٧٥٦ ه) (انظر : الدرر الكامنة ٤ : ٣٠٠).
(٢) مدرار : غزيرة كثيرة الهطول.
(٣) هو أبو المحاسن محمد بن نصر الدين الأنصاري المتوفى سنة (٦٣٠ ه) له ديوان مطبوع بتحقيق خليل مردم.
وجيرة كان لي إلف بوصلهم |
|
والأنس أفضل ما بالوصل يغتنم |
بالشام خلّفتهم ثم انصرفت إلى |
|
سواهم فاعتراني بعدهم ألم |
كانوا نعيم فؤادي والحياة له |
|
والآن كلّ وجود بعدهم عدم |
فإن أنشد لسان الحال فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال : [الكامل]
يا غائبا قد كنت أحسب قلبه |
|
بسوى دمشق وأهلها لا يعلق |
إن كان صدّك نيل مصر عنهم |
|
لا غرو فهو لنا العدوّ الأزرق |
أتيت في جوابه ، بقول بعض من برّح الجوى به : [البسيط]
لله دهر جمعنا شمل لذته |
|
بالشام أعذب من أمن على فرق (١) |
مرّت لياليه والأيام في خلس |
|
كأنّما سلبته كفّ مسترق (٢) |
ما كان أحسنها لو لا تنقّلها |
|
من النعيم إلى ذاك من الحرق |
رقّ العذول لحالي بعدها ورثى |
|
لي في الجوى والنّوى والشجو والأرق |
وبالجملة فتلك الأيام من مواسم العمر محسوبة ، والسعود إلى طوالعها منسوبة : [الوافر]
وكانت في دمشق لنا ليال |
|
سرقناهنّ من ريب الزمان |
جعلناهنّ تاريخ الليالي |
|
وعنوان المسرّة والأماني |
وهي مغاني (٣) التهاني التي ما نسيناها ، وأماني زماني التي نعمت بطور سيناها ، عليها وعلى وطني مقصورة ، والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما بالصورة ، والأشواق إليهما قضاياها موجّهة وإن كانت غير محصورة : [الطويل]
ولله عهد قد تقضّى وإن (٤) يعد |
|
فإني عن الأيام أعفو وأصفح |
بقلبي من ذكراه ما ليس ينقضي |
|
ومن برحاء الشوق ما ليس يبرح (٥) |
إذا مسحت كفّي الدموع تستّرا |
|
بدت زفرة بين الجوانح تقدح |
__________________
(١) الفرق : الخوف.
(٢) خلس : جمع خلسة ـ بضم الخاء فيهما ـ وهي الفرصة ، ويقولون : هذه خلسة فانتهزها.
(٣) المغاني : جمع مغنى ، وهو المنزل.
(٤) في ب : فإن.
(٥) برحاء الشوق : شدته.
فإن جمعت شملي الليالي بقربهم |
|
تجمّع غيلان وميّ وصيدح |
على أنها الأيام جدّ مزاحها |
|
وربّ مجدّ في الأذى وهو يمزح |
وكثيرا ما يلهج اللسان بقول من قال : [الطويل]
وما تفضل الأوقات أخرى لذاتها |
|
ولكنّ أوقات الحسان حسان |
ويردّد قول من شوقه متجدّد : [الطويل]
سقى معهد الأحباب ناقع صيّب |
|
من المزن عن مغناه ليس يريم (١) |
وإن لم أكن من ساكنيه فإنه |
|
يحلّ به خلّ عليّ كريم |
وينشد من يلوم ، قول من في حشاه وله وفي قلبه كلوم : [الدّوبيت]
قد أصبح آخر الهوى أوّله |
|
فالعاذل في هواك ما لي وله |
بالله عليك خلّ ما أوّله |
|
وارحم دنفا لدى حشاه وله |
وقد امتدّ بنا الكلام ، وربّما يجعله اللاحي (٢) ذريعة لزيادة الملام ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، من إجابة المولى الشاهيني ، أمدّه الله سبحانه بمدده ، فأقول ، مستمدّا من واهب العقول :
إني شرعت بعد الاستقرار بمصر في المطلوب ، وكتبت منه نبذة تستحسنها من المحبين الأسماع والقلوب ، وسلكت في ترتيبه أحسن أسلوب ، وعرضت في سوقه كلّ نفيس غريب من الغرب إلى الشرق مجلوب ، تستحسن الأبصار ما عليه احتوى ، وتعرف الأفكار أنه غير مجتوى (٣) ، ثم وقف بي مركب العزم عن التمام واستوى ، فأخّرته تأخير الغريم لدين الكريم ، وصدّتني أعراض ، عن تكميل ما يشتمل عليه من أغراض ، وأضربت برهة عمّا له من منحى ، لاختلاف أحوال الدهر نفعا ودفعا ومنعا ومنحا ، ومرقت عن هدف الإصابة نبال ، وطرقت في سدف (٤) ليالي الكتابة أمور لم تكن تخطر ببال. فجاءتني من المولى المذكور آنفا ، رسالة دلّت على أنه لم يكن عن انتجاز الوعد متجانفا ، فعدت لقضاء الوطر مستقبلا وللجملة مستأنفا ،
__________________
(١) الناقع : المفيد ، المجدي ، الصيّب : السحاب الممطر ، ويريم : يبرح.
(٢) اللاحي : اسم فاعل من لحا فلان فلانا إذا لامه وعذله.
(٣) غير مجتوى : غير مكروه.
(٤) السّدف : جمع سدفة : الظلمة ، وسدف الليل : ظلمته وسواده.
وحدا (١) بي خطابه الجسيم للإتمام وساقني ، وراقني كتابه الكريم لتلك (٢) الأيام وشاقني ، وذكّرني تلك الليالي التي لم أنسها ، وحرّكني لتلك (٣) المعاهد التي لم أزل أذكر أنسها : [السريع]
الإلف لا يصبر عن إلفه |
|
إلّا كما يطرف بالعين |
وقد صبرنا عنهم مدّة |
|
ما هكذا شأن المحبّين |
فيا له من كتاب كريم ، أعرب (٤) عن ودّ صميم ، وذكّر بعهد غير ذميم ، وودّ طيب العرف والشّميم ، يخجل ابن المعتز لبلاغته وابن المعز تميم : [المتقارب]
ولم تر عيناي من قبله |
|
كتابا حوى بعض ما قد حوى |
كأنّ المباسم ميماته |
|
ولا ماته الصّدغ لمّا التوى |
وأعينه كعيون الحسان |
|
تغازلنا عند ذكر الهوى |
كتاب ذكرنا بألفاظه |
|
عهودا زكت بالحمى واللّوى |
فكأنه الرّوض المطّرد الأنهار ، والدّوح المدبّج الأزهار : [الطويل]
رأينا به روضا تدبّج وشيه |
|
إذا جاد من تلك الأيادي غمائم |
به ألفات كالغصون وقد علا |
|
عليها من الهمز المطلّ حمائم |
وقد سقيت بأنهار البراعة السّلسالة ، حدائق حلّت بها غانية تلك الرسالة ، لتشفي صبّها بالزيارة ، وتشرّف بدنوّها دياره : [الخفيف]
زارت الصّبّ في ليال من البع |
|
د فلمّا دنت رأى الصّبح يلمح |
قلّدت بالعقيان جيد بيان |
|
ليس فيه للفتح من بعد مطمح (٥) |
فشفت النفس من آلامها ، وأحيت ميت الهوى مذ حيّت بعذب كلامها : [الوافر]
كلام كالجواهر حين يبدو |
|
وكالنّدّ المعنبر إذ يفوح |
له في ظاهر الألفاظ جسم |
|
ولكنّ المعاني فيه روح |
__________________
(١) في ب : وحداني.
(٢) في ب : لهاتيك.
(٣) في ب : لهاتيك.
(٤) في ب : كتاب أعرب.
(٥) الفتح : هو الفتح بن خاقان ، ويشير في البيت إلى كتابيه «قلائد العقيان» و «مطمح الأنفس».
فصيّرت لي ذلك الكتاب سميرا ، ووردت من السرور مشرعا نميرا ، وتمثّلت بقول بعض من أخلص في الودّ ضميرا : [الكامل]
يا مفردا أهدى إليّ كتابه |
|
جملا يحار الذّهن في أثنائها |
كالدّرّ أشرق في سموط عقوده |
|
والزّهر والأنوار غبّ سمائها |
فأفادني جذلا وبالي كاسد |
|
وأجار نفسي من جوى برحائها |
وحسبت أيام الشّباب رجعن لي |
|
فلبست حلي جمالها وبهائها |
لا يعدم الإخوان منك محاسنا |
|
كلّ المفاخر قطرة من مائها |
فأكرم به من كتاب جاء من السّريّ العليّ ، والماجد الأخ الوليّ : [الوافر]
فضضت ختامه فتبيّنت لي |
|
معانيه عن الخبر الجليّ |
وكان ألذّ في عيني وأندى |
|
على كبدي من الزّهر الجنيّ |
وضمّن صدره ما لم تضمّن |
|
صدور الغانيات من الحليّ |
وأعرب عن اعتماد متماد ، ووداد مزداد ، وأطاب حين أطال ، وأدّى دين الفصاحة دون مطال (١) ، واشتمل من فصول العبارة على أحسن من الحدق المراض ، وأتى من أصول البراعة ببراهين ابن شاهين التي لا خلف فيها ولا اعتراض (٢) ، وروينا من غيث أنامله الهتون ، وروينا عنه مسند أحمد حسن الأسانيد والمتون ، وحثّنا على العود والرجوع ، وكان أجدى من الماء الزلال لذي ظمإ والمشتهى من الطعام لذي سغب وجوع : [الوافر]
وأشهى في القلوب من الأماني |
|
وأحلى في العيون من الهجوع (٣) |
وجلا بنوره ظلام استيحاشي ، وحشر إليّ أشتات المسرّات دون أن يحاشي (٤) ، ووجدني في مكابدة شغوب ، وأشغال أشربت الكسل واللّغوب (٥) ، وحيّرت الخواطر ، وصيّرت سحب الأقلام غير مواطر ، فزحزح عنّي الغموم وسلّاني ، وأولاني. شكر الله صنيعه!. من المسرّات ما أولاني : [البسيط]
__________________
(١) المطال ـ بكسر الميم ـ مصدر ماطل. التسويف في دفع الدين وتأخيره.
(٢) في ب : ولا افتراض.
(٣) الهجوع : النوم والرقاد.
(٤) يحاشي : يستثني.
(٥) اللغوب : الضعف.
حديثه أو حديث عنه يطربني |
|
هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا |
كلاهما حسن عندي أسرّ به |
|
لكنّ أحلاهما ما وافق النّظرا |
وقال آخر : [الخفيف]
لست مستأنسا بشيء إذا غب |
|
ت سوى ذكرك الذي لا يغيب |
أنت دون الجلّاس عندي وإن كن |
|
ت بعيدا فالأنس منك قريب |
وضمّنت فيه لمّا ورد مع جملة كتب من تلك الناحية ، وأنوار أهلها ذوي الفضائل الشهيرة أظهر من شمس الظهيرة في السماء الصاحية : [الخفيف]
قلت لمّا أتت من الشام كتب |
|
من أجلّاء نورهم يتألّق |
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا |
|
بعيون رأت محاسن جلّق |
وقلت أيضا : [الخفيف]
قلت لمّا وافت من الشام كتب |
|
والليالي تتيح قربا وبعدا |
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا |
|
بعيون رأت محاسن سعدى |
وكان من فصول هذا (١) الكتاب الوارد من المولى الشاهيني الذي اقتنص بفضله كلّ شارد ما نصّه : «ومما استخلص قلبي من يدي ترحي ، وجدّد سروري ونبّه فرحي ، حديث الكتاب وما حديث الكتاب ، حديث نسخ بحلاوته مرارة العتاب ، وأنساني حرارة المصاب ، في الأنسال والأعقاب ، وقضى به من حق لسان الدين ، دينه الذي تبرّع به غريم مليء من البلاغة وهو غير مدين ، حتى كأني يا سيدي بهذه البشرى ، أحرزت سواري كسرى ، وكان في مسمعي كل حرف إليها منسوب ، قميص يوسف في أجفان يعقوب ، وحتى كدت أهجر أهلي وبيتي ، وأسرج لاستقبال هذه البشرى أشهبي وكميتي ، وحتى أنني حاربت نومي وقومي ، وعزمت على أن أرحل ناقتي في وقتي ويومي ، وإن ذلك التغليس والتهجير (٢) في جنب ما بشّرت به لحقير ، وإنّ موقعها لدى هذا العبد الحقير لخطير. وقد كنت سألت شيخي حين ورد دمشق الشام ، واشتمّ منها العرار والبشام (٣) ، وشرّفني فعرفني ، وشاهدني فعاهدني ، على أن يجري ما دار بيننا
__________________
(١) في ب : من فصول الكتاب.
(٢) التغليس : السير في الغلس ، والغلس : ظلمة آخر الليل. والتهجير : السير في الهاجرة ، والهاجرة وقت اشتداد الحر.
(٣) العرار والبشام : شجران لهما رائحة عطرة.
لدى المجاورة ، من المسامرة والمحاورة ، في ديباجة ذلك الكتاب ، الذي فتن العقول خبره وسحر الألباب ، وما قصدت إلّا أن يجري اسمي على قلمه ، ويرقم رسمي في مطاوي تحريره ورقمه ، ويكون ذكري مختلطا بذكره ، كما أنّ سرّي مرتبط في المحبة بسرّه ، فرأيت شيخي لم يتصدّ في أثناء هذه البشرى ، لما يفهمني بالذكرى ، لأنتظر النجاح في الأخرى ، ولم يساعدني على ذلك الملتمس ، وحبس عنان القلم فاحتبس ، فانكسرت سورة سروري بفتوري ، وتبين لنفسي عن بلوغ ذلك الأمل تخلّفي وقصوري» انتهى.
ثم قال بعد كلام طويل (١) لم نذكره لعدم تعلّقه بهذا الغرض ، ما صورته : «وحسبت أنّ سيدي وحاشاه ، نسي من ليس ينساه ، وظننت به الظنون ، لأمور تكون أو لا تكون ، وهل يكره سيدي وشيخي (٢) أن يهدى الدنيا في طبق؟ ثم الأخرى على ذلك النسق ، ولا شكّ أن خطّه هو الروضة الغنّا ، لا بل جنّة المأوى ، فطوبى لنفسي إن جنت (٣) ثمرته طوبى ، ولعمر شيخي إني بذلك لجدير ، وإني كنت أملك به الخورنق والسّدير». انتهى ما يتعلّق بالغرض من ذلك الرقيم ، الذي شكل منطقه غير عقيم ، سلك الله تعالى بي وبمن وجّهه الصراط المستقيم.
وأتى في المكتوب بأنواع من البلاغة ، مما تركت ذكره هنا لعدم تعلّقه بهذا الأمر الخاص الذي ييسّر لكارع الأدب مساغّه ، وختمه بقصيدة نفيسة من نظمه يستنجز فيها ذلك الوعد ، وأشهد أنه قد حاز فيها قصب السّبق والمجد ، وما قلت إلّا بالذي علمت سعد ، وهذه صورتها : [السريع]
يا سيّدا أفديه بالأكثر |
|
من أصغر العالم والأكبر |
ويا وحيدا قلّ قولي له |
|
عطارد أنت مع المشتري |
ويا مجيدا ليس عندي له |
|
إلّا مقال المادح المكثر |
أقسمت بالبيت العتيق الذي |
|
حجّت إليه الناس والمشعر |
ما للعلا والعلم إلّا أبو ال |
|
عباس شيخي أحمد المقرّي |
ذاك الذي آثرني منه بال |
|
علم الذي للغير لم يؤثر |
وخصّني منه بأشياء لم |
|
يفز بها غيري ولم يعثر |
__________________
(١) في ب : سقطت : طويل.
(٢) في ب : سقطت : وشيخي.
(٣) في ب : جنيت.