الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٤
وعسى إذا غذيت بتربة عدنها |
|
يجلو لك الإحسان بارع حسنها |
والحسن يجلوها وإن لم تنشد |
||
مدحي لخير العالمين عقيدتي |
|
ومطيّتي بل طيبتي ونشيدتي |
ونتيجتي وهدى اليقين مفيدتي |
|
ولئن مدحت محمدا بقصيدتي |
فلقد مدحت قصيدتي بمحمد |
||
يا خير خلق الله دعوة حائر |
|
يشكو إليك صروف دهر جائر (١) |
والله يعلم في هواك سرائري |
|
وهو الذي أرجو لعفو جرائري (٢) |
متوسّلا بجنابك المتأطّد |
||
لو لا حقوق عيّنت بمغارب |
|
لمكثت عندك كي تتاح مآربي |
ويكون في الزرقاء عذب مشاربي |
|
حتى أحلّي من ثراك ترائبي |
وأنال دفنا في بقيع الغرقد (٣) |
||
وعليك من ربّ حباك صلاته |
|
وسلامه وهباته وصلاته |
ما أمّ بابك من هدته فلاته |
|
لعلاك حتى زحزحت علاته |
فأتيح حسن الختم دون تردّد |
ثم ودّعته صلّى الله عليه وسلّم والقلب من فراقه سقيم ، ووقعت من البعد عن تلك المعاهد في المقعد المقيم ، وأنا أرجو أن يكون شكل منطقي غير عقيم ، وأن أحشر في زمرة من سلك الصراط المستقيم : [الخفيف]
يا شفيع العصاة أنت رجائي |
|
كيف يخشى الرجاء عندك خيبه |
وإذا كنت حاضرا بفؤادي |
|
غيبة الجسم عنك ليست بغيبه |
ليس بالعيش في البلاد انتفاع |
|
أطيب العيش ما يكون بطيبه |
ثم عدت إلى مصر ، وقد زال عنّي ببركته صلّى الله عليه وسلّم الإصر (٤) ، وذلك في محرم سنة ١٠٢٩ ، ثم قصدت زيارة بيت المقدس في شهر ربيع من هذا العام ، وقد شملتني بفضل الله جوائز
__________________
(١) دعوة حائر : بنصب دعوة بفعل محذوف تقديره أدعوك دعوة حائر.
(٢) جرائر : جمع جريرة ، وهي الذنب والجرم والخيانة.
(٣) بقيع الغرقد : مقبرة المدينة ، وفيه دفن كثير من الصحابة والتابعين.
(٤) الإصر : الذنب.
الإنعام ، وتذكّرت عند مشاهدة تلك المسالك الصعبة قول حافظ الحفّاظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله تعالى ـ وهو ممّا زادني في هذه الزيارة رغبة : [الوافر]
إلى البيت المقدّس جئت أرجو |
|
جنان الخلد نزلا من كريم |
قطعنا في مسافته عقابا |
|
وما بعد العقاب سوى النعيم (١) |
فلما دخلت المسجد الأقصى ، وأبصرت بدائعه التي لا تستقصى ، بهرني جماله الذي تجلّى الله به عليه ، وسألت عن محلّ المعراج الشريف فأرشدت إليه ، وشاهدت محلّا أمّ فيه صلّى الله عليه وسلّم الرّسل الكرام الهداة ، وكان حقّي أن أنشد هنالك ما قاله بعض الموفقين وهو مما ينبغي أن تزمزم به الحداة (٢) : [مجزوء الكامل]
إن كنت تسأل أين قد |
|
ر محمد بين الأنام |
فأصخ إلى آياته |
|
تظفر بريّك في الأوام (٣) |
أكرم بعبد سلّمت |
|
تقديمه الرّسل الكرام |
في حضرة للقدس وا |
|
فاها بعزّ واحترام |
صفّوا وصلّوا خلفه |
|
إنّ الجماعة بالإمام |
للشّهب نور بيّن |
|
والفضل للقمر التّمام (٤) |
سلك النّبوّة باهر |
|
وبأحمد ختم النظام |
هذا الكتاب دلالة |
|
تبقى إلى يوم القيام |
شهدت له من بعد عج |
|
ز ألسن اللّدّ الخصام |
خير الورى وأجلّ آ |
|
يات له خير الكلام |
فعليه من ربّ الورى |
|
أزكى صلاة مع سلام |
وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية : إلى متى وهذا الميدان تكلّ فيه فرسان البديهة والرّويّة؟ فأنشده في الجواب ، قول بعض من أمّ نهج الصّواب : [الرمل]
لأديمنّ مديح المصطفى |
|
فعل من في الله قوّى طمعه |
__________________
(١) العقاب : الأولى جمع عقبة ، والعقاب الثانية : الجزاء على فعل الشر.
(٢) زمزم : ترنّم وطرب. والحداة : جمع حاد : وهو الذي يترنم للإبل فتسرع.
(٣) الأوام : حرارة العطش.
(٤) الشهب : جمع شهاب ، وهو النجم المضيء ، أو ما يرى كأنه نجم ينقضّ من السماء.
فعسى أنعم في الدنيا به |
|
وعسى يحشرني الله معه |
وإذا كان القريض في بعض الأحيان كذبا صراحا (١) ، والموفّق من تركه والحالة هذه رغبة عنه وله اطّراحا ، فخيره ما كان حقّا وهو مدح الله ورسوله ، وبذلك يحصل للعبد منتهى سوله: [الخفيف]
ليس كلّ القريض يقبله السّم |
|
ع وتصغي لذكره الأفهام |
إنّ بعض القريض ما كان هزءا |
|
ليس شيئا ، وبعضه أحكام (٢) |
وأجلّ الكلام ما كان في مد |
|
ح شفيع الورى عليه السلام |
طيّب العرف دائم الذّكر لا تأ |
|
تي الليالي عليه والأيّام |
مثل زهر قد شقّ عنه كمام |
|
أو كمسك قد فضّ عنه ختام (٣) |
ليس تحصى صفات أحمد بالعدّ |
|
كما لم تحط به الأوهام |
ولو انّ البحار حبر وما في ال |
|
أرض من كلّ نابت أقلام (٤) |
فطويل المديح فيه قصير |
|
وحسام ماض لديه كهام (٥) |
ولسان البليغ للعيّ ينمى |
|
وكذا صيّب الفصيح جهام |
كيف يحصى مديح مولى عليه ال |
|
لّه أثنى وذكره مستدام |
وله المعجزات والآي تبدو |
|
لا يغطّي وجوههنّ لثام |
فمن المعجزات أن سار ليلا |
|
وجميع الأنام فيه نيام |
راكبا للبراق حتى أتى القد |
|
س وفيه رسل الإله الكرام |
فاستووا خلفه صفوفا وقالوا |
|
صلّ يا أحمد فأنت الإمام |
فعليه من ربّه صلوات |
|
زاكيات مع صحبه وسلام |
ثم رجعت إلى القاهرة ، وكرّرت منها الذهاب إلى البقاع الطاهرة ، فدخلت لهذا التاريخ
__________________
(١) القريض : الشعر ، والكذب الصّراح ـ بضم الصاد ـ الخالص.
(٢) في ب : إن بعضا من القريض هراء.
(٣) الكمام : بكسر أوله ـ غطاء الزهر ، وجمعه كمائم.
(٤) أخذ معنى هذا البيت من قوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ).
(٥) سيف كهام : كليل ، غير قاطع.
الذي هو عام تسعة وثلاثين وألف مكة خمس مرات ، حصلت لي بالمجاورة فيها المسرّات ، وأمليت فيها على قصد التبرّك دروسا عديدة ، والله يجعل أيام العمر بالعود إليها مديدة ، ووفدت على طيبة المعظّمة ميمّما مناهجها السديدة ، سبع مرار ، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار ، واستضأت بتلك الأنوار ، وألّفت بحضرته صلّى الله عليه وسلّم بعض ما منّ الله به عليّ في ذلك الجوار ، وأمليت الحديث النبويّ بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع ، ونلت بذلك وغيره ـ ولله المنّة ـ ما لم يكن لي فيه مطمح ولا مطمع ، ثم أبت إلى مصر مفوّضا لله جميع الأمور ، ملازما خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور ، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة ، فتحرّكت همّتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدّس ، وتجديد العهد بالمحلّ الذي هو على التقوى مؤسّس ، فوصلت أواسط رجب ، وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوما بدا لي فيها بفضل الله وجه الرشد وما احتجب. وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة ، وزرت مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة ، وكنت حقيقا بأن أنشد قول ابن مطروح (١) ، في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح : [الوافر]
خليل الله ، قد جئناك نرجو |
|
شفاعتك التي ليست تردّ |
أنلنا دعوة واشفع تشفّع |
|
إلى من لا يخيب لديه قصد |
وقل يا ربّ أضياف ووفد |
|
لهم بمحمّد صلة وعهد |
أتوا يستغفرونك من ذنوب |
|
عظام لا تعدّ ولا تحدّ |
إذا وزنت بيذبل أو شمام |
|
رجحن ودونها رضوى وأحد (٢) |
ولكن لا يضيق العفو عنهم |
|
وكيف يضيق وهو لهم معدّ |
وقد سألوا رضاك على لساني |
|
إلهي ما أجيب وما أردّ |
فيا مولاهم عطفا عليهم |
|
فهم جمع أتوك وأنت فرد |
ثم استوعبت أكثر تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم ، على نبيّنا وعليهم وعلى سائر المرسلين والأنبياء أجمعين أفضل الصلاة والتسليم ، ثم حدث لي منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان ، دمشق الشام ذات الحسن والبهاء والحياء
__________________
(١) هو جمال الدين يحيى بن عيسى المتوفى سنة ٦٤٩ ه. شاعر مصري (وفيات الأعيان ٥ / ٣٠٢).
(٢) يذبل ، وشمام ، ورضوى ، وأحد : أسماء جبال.
والاحتشام ، والأدواح المتنوّعة ، والأرواح (١) المتضوّعة ، حيث المشاهد المكرّمة ، والمعاهد المحترمة ، والغوطة الغنّاء (٢) والحديقة ، والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه ، والأظلال الوريفة والأفنان الوريقة ، والزّهر الذي تخاله مبسما والنّدى ريقه ، والقضبان الملد ، التي تشوّق رائيها بجنة (٣) الخلد : [الوافر]
بحيث الروض وضّاح الثنايا |
|
أنيق الحسن مصقول الأديم |
وهي المدينة المستولية على الطّباع ، المعمورة البقاع ، بالفضل والرباع : [الطويل]
تزيد على مرّ الزمان طلاوة |
|
دمشق التي راقت بحلو المشارب |
لها في أقاليم البلاد مشارق |
|
منزّهة أقمارها عن مغارب |
ودخلتها أواخر شعبان المذكور ، وحمدت الرحلة إليها وجعلها الله من السعي المشكور : [الطويل]
وجدت بها ما يملأ العين قرّة |
|
ويسلي عن الأوطان كلّ غريب |
وشاهدت بعض مغانيها الحسنة ، ومبانيها المستحسنة : [الطويل]
نزلنا بها ننوي المقام ثلاثة |
|
فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا |
ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه من تأنّق في الخطاب ، وأطال في الوصف وأطاب ، وإن ملأ من البلاغة الوطاب (٤) ، كما قلت : [المجتث]
محاسن الشام أجلى |
|
من أن تحاط (٥) بحدّ |
لو لا حمى الشّرع قلنا |
|
ولم نقف عند حدّ : |
كأنها معجزات |
|
مقرونة بالتحدّي |
فالجامع الجامع للبدائع يبهر الفكر ، والغوطة المنوطة بالحسن تسحر الألباب لا سيما إذا حيّاها النسيم وابتكر : [الطويل]
أحبّ الحمى من أجل من سكن الحمى |
|
حديث حديث في الهوى وقديم |
__________________
(١) الأدواح : جمع دوح ـ بالفتح ـ وهو الشجر العظيم المتسع ، والأرواح : جمع ريح ، والمتضوعة : العطرة.
(٢) الغوطة : المكان الذي اجتمع فيه الماء والشجر بكثرة ، وغوطة دمشق مشهورة بجمالها وروعتها.
(٣) في ب : لجنّة.
(٤) الوطاب : الوعاء.
(٥) في ب : تسام.
فلله مرآها الجميل الجليل ، وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل (١) ، ومخبرها الذي هو على فضلها وفضل أهلها أدلّ دليل ، ومنظرها الذي ينقلب البصر عن بهجته وهو كليل : [الكامل]
والروض قد راق العيون بحلّة |
|
قد حاكها بسحابه آذار |
وعلى غصون الدّوح خضر غلائل |
|
والزّهر في أكمامه أزرار |
فكم لها من حسن ظاهر وكامن ، كما قلت موطّئا للبيت الثامن : [مجزوء الكامل]
أمّا دمشق فجنّة (٢) |
|
لعبت بألباب الخلائق |
هي بهجة الدّنيا التي |
|
منها بديع الحسن فائق |
لله منها الصالحي |
|
ية فاخرت بذوي الحقائق (٣) |
والغوطة الغنّاء حيّ |
|
ت بالورود وبالشقائق |
والنهر صاف والنسي |
|
م اللّدن للأشواق سائق |
والطير بالعيدان أب |
|
دت في الغنا أحلى الطرائق (٤) |
ولآلىء الأزهار حلّ |
|
ت جيد غصن فهو رائق |
ومراوذ الأمطار قد |
|
كحلت بها حدق الحدائق (٥) |
لا زال مغناها مصو |
|
نا آمنا كلّ البوائق |
وكما قلت مرتجلا أيضا مضمّنا الرابع والخامس : [المجتث]
دمشق راقت رواء |
|
وبهجة وغضاره |
فيها نسيم عليل |
|
صحّ فوافت بشاره |
وغوطة كعروس |
|
تزهى بأعجب شاره (٦) |
يا حسنها من رياض |
|
مثل النّضار نضاره (٧) |
__________________
(١) الخليل : هو الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض.
(٢) في ب : فخضرة.
(٣) الصالحية : مكان بدمشق في سفح جبل قاسيون.
(٤) العيدان : أغصان الشجر ، والغنا : الغناء.
(٥) المراود : جمع مرود وهو الميل الذي يكتحل به ، والحدق : العيون.
(٦) شارة : هيئة.
(٧) النضار : الذهب.
كالزهر زهرا وعنها |
|
عرف العبير عباره |
والجامع الفرد منها |
|
أعلى الإله مناره |
وحاصل القول فيها |
|
لمن أراد اختصاره |
تذكيرها من رآها |
|
عدنا وحسبي إشاره (١) |
دامت تفوق سواها |
|
إنالة وإناره |
وكما ارتجلت فيها أيضا : [الخفيف]
قال لي ما تقول في الشام حبر |
|
كلّما لاح بارق الحسن شامه |
قلت ما ذا أقول في وصف قطر |
|
هو في وجنة المحاسن شامه (٢) |
وقلت أيضا : [الخفيف]
قال لي صف دمشق مولى رئيس |
|
جمّل الله خلقه واحتشامه |
قلت كلّ اللسان في وصف قطر |
|
هو في وجنة البسيطة شامه |
وقلت أيضا : [الكامل]
وإذا وصفت محاسن الدنيا فلا |
|
تبدأ بغير دمشق فيها أوّلا |
بلد إذا أرسلت طرفك نحوه |
|
لم تلق إلّا جنّة أو جدولا |
ذا وصف بعض صفاتها وهي التي |
|
تعيي البليغ وإن أجاد وطوّلا (٣) |
والغاية في هذا الباب ، من الوصف لبعض محاسنها الفاتنة الألباب ، قول أبي الوحش سبع بن خلف الأسدي يصف أرضها المشرقة ، ورياضها المورقة ، ونسيمها العليل ، وزهرها البليل (٤) : [الرجز]
سقى دمشق الشام غيث ممرع |
|
من مستهلّ ديمة دفّاقها |
مدينة ليس يضاهى حسنها |
|
في سائر الدنيا ولا آفاقها |
تودّ زوراء (٥) العراق أنها |
|
تعزى إليها لا إلى عراقها |
__________________
(١) عدن : الجنة.
(٢) حبر : عالم. وشامه : رآه ونظر إليه.
(٣) في ب : صفاته بدل صفاتها.
(٤) في ب : زهرها النديّ البليل.
(٥) زوراء العراق : مدينة في الجانب الشرقي لبغداد ، وقيل : هي مدينة أبي جعفر المنصور (انظر : معجم البلدان ج ٣ ص ١٥٦).
فأرضها مثل السماء بهجة |
|
وزهرها كالزهر في إشراقها |
نسيم ريّا روضها متى سرى |
|
فكّ أخا الهموم من وثاقها |
قد ربع الربيع في ربوعها |
|
وسيقت الدنيا إلى أسواقها |
لا تسأم العيون والأنوف من |
|
رؤيتها يوما ولا انتشاقها |
وقول شمس الدين الأسدي الطيبي : [الوافر]
إذا ذكرت بقاع الأرض يوما |
|
فقل سقيا لجلّق ثم رعيا (١) |
وقل في وصفها لا في سواها : |
|
بها ما شئت من دين ودنيا |
وكأنّ لسان الدين ذا الوزارتين ابن الخطيب ، عناها بقوله المصيب : [الكامل]
بلد تحفّ به الرياض كأنّه |
|
وجه جميل والرياض عذاره (٢) |
وكأنّما واديه معصم غادة |
|
ومن الجسور المحكمات سواره |
وكنت قبل رحلتي إليها ، ووفادتي (٣) عليها ، كثيرا ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم ، ما يشوّقني إلى رؤيتها ولقائهم ، وينشقني على البعد أريج الأدب الفائق من تلقائهم ، حتى لقيت بمكة المعظمة ، أوحد كبرائها الذين فرائدهم بلبّة (٤) الدهر منظّمة ، عين الأعيان ، وصدر أرباب التفسير بها والبيان ، صاحب القلم الذي طبّق الكلى والمفاصل ، والفتاوى التي حكمها بين الحق والباطل فاصل ، والتآليف التي وصفها بالإجادة من باب تحصيل الحاصل ، وارث العلم عن غير كلالة ، ذو الحسب المشرق بدره في سماء الجلالة ، صاحب المعارف التي زانت خلاله ، وساحب أذيال العوارف التي أبانت عن (٥) فضله دلالة ، مفتي السلطان في تلك الأوطان ، على مذهب الإمام النّعمان (٦) ، مولانا الشيخ عبد الرحمن (٧) ابن شيخ الإسلام عماد الدين ، لا زال سالكا سبيل المهتدين ، فكان جمّل الله به عصرا وأوانا ، لقضية هذا القياس عنوانا ، فلما حللت بدارهم ، ورأيت ما أذهلني من سبقهم للفضل وبدارهم ، صدق (٨) الخبر ،
__________________
(١) جلّق : اسم من أسماء دمشق.
(٢) العذار : الشعر الذي يحاذي الأذن من جانب اللحية.
(٣) في ب : والوفادة.
(٤) اللّبّة : موضع القلادة من الصدر.
(٥) في ب : على.
(٦) هو أبو حنيفة.
(٧) هو الشيخ عبد الرحمن العمادي الدمشقي المتوفى سنة ١٠٥١ ه (خلاصة الأثر ج ٢ ص ٣٨٠ ـ ٣٨٩).
(٨) في ب : صدّق الخبر الخبر.
وتمثّلت فيهم بقول بعض من غبر : [الطويل]
ألمّت بنا أوصافهم فامتلأ الفضا |
|
عبيرا وأضحى نوره متألّقا |
وقد كان هذا من سماع حديثهم |
|
بلاغا فصحّ النّقل إذ حصل اللّقا |
وقابلوني ـ أسماهم الله ـ بالاحتفال والاحتفاء ، وعرّفني بديع برّهم فنّ الاكتفاء : [الخفيف]
غمرتني المكارم الغرّ منهم |
|
وتوالت عليّ منها فنون |
شرط إحسانهم تحقّق عندي |
|
ليت شعري الجزاء كيف يكون |
وقابلوني بالقبول مغضين عن جهلي : [الطويل]
وما زال بي إحسانهم وجميلهم |
|
وبرّهم حتى حسبتهم أهلي |
بل الأولى أن أتمثّل فيهم بما هو أبلغ من هذا المقول في آل المهلّب ، وهو قول بعض من نزل بقوم برق قصدهم غير خلّب ، في زمن به تقلّب : [الطويل]
ولمّا نزلنا في ظلال بيوتهم |
|
أمنّا ونلنا الخصب في زمن المحل |
ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم |
|
على البرّ من أهلي حسبتهم أهلي |
لا سيما المولى الذي أمداحه تحلّي أجياد الطّروس العاطلة ، وسماحه يخجل أنواء الغيوث الهاطلة ، صدر الأكابر الأعاظم ، الحائز قصب السّبق في ميدان الإجادة بشهادة كلّ ناثر وناظم ، الصديق الذي بودّه أغتبط ، والصّدوق الذي بأسباب عهده أرتبط ، الأوحد الذي ضربت البراعة رواقها بناديه ، والماجد الذي لم يزل بديع البلاغة من كثب يناديه ، السّريّ الحائز من الخلال ما أبان تفضيله ، اللّوذعيّ (١) الذي لم تزل أوصافه تحكم له بالسؤدد وتقضي له ، والحقّ أبلج لا يحتاج إلى زيادة براهين ، الأجلّ المولى أحمد أفندي بن شاهين (٢) ، لا زالت العزة مقيمة بواديه ، ولا برحت حضرته جامعة لبواطن الفخر وبواديه ، والسّعد يراوح مقامه ويغاديه ، والمجد يترنّم بذكره حاديه ، فكم له ـ أسماه الله ـ ولغيره من أعيان دمشق لديّ من أياد ، يعجز عن الإبانة عنها لو أراد وصفها قسّ إياد (٣) ، ولو تعرّضت لأسمائهم وحلاهم ، أدام الله
__________________
(١) اللّوذعيّ : الذكي ، المتوقد الخاطر.
(٢) كاتب مترسل إلى جانب شهرته بالشعر. توفي سنة ١٠٥٣ (انظر خلاصة الأثر ج ١ / ص ٢٠).
(٣) أياد : بفتح الهمزة جمع يد ، وهي النعمة والفضل ، وإياد ـ بكسر الهمزة ـ قبيلة منها قس بن ساعدة الإيادي ، خطيب العرب في الجاهلية.
تعالى سؤددهم (١) وعلاهم ، لضاق عن ذلك هذا النّطاق ، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق ، فليت شعري بأيّ أسلوب ، أؤدّي بعض حقّهم المطلوب؟ أم بأي لسان ، أثني على مزاياهم الحسان؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء ، وتعاطوا أكواب المحامد ملاء (٢)؟ وسحبوا من المجد مطارف وملاء (٣) ، وحازوا المكارم ، وبذّوا (٤) الموادد والمصارم ، سؤددا وعلاء؟ : [الرجز]
فما رياض زهر الرّبيع |
|
إذا بدت في وشيها البديع |
ضاحكة عن شنب الأقاح |
|
عند سفور طلعة الصّباح |
غنّى بها مطوّق الحمام |
|
وصافحتها راحة الغمام |
وباكرتها نسمة من الصّبا |
|
فأصبحت كأنها عهد الصّبا |
نضارة ورونقا وبهجه |
|
تفدى بكلّ ناظر ومهجه |
أطيب من ثنائهم عبيرا |
|
بين الورى فاسأل به خبيرا |
دامت معاليهم على طول الزمن |
|
يروى حديث الفضل عنها عن حسن |
وثابت وقرّة وسعد |
|
وأسعفوا بنيل كلّ وعد |
فهم الذين نوّهوا بقدري الخامل ، وظنّوا مع نقصي أنّ بحر معرفتي وافر كامل ، حسبما اقتضاه طبعهم العالي :
فلو شريت بعمري ساعة ذهبت |
|
من عيشتي معهم ما كان بالغالي (٥) |
فمتعيّن حقّهم لا يترك ، وحبّهم لا يخالط بغيره ولا يشرك ، وإن أطلت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك : [البسيط]
يزداد في مسمعي ترداد ذكرهم |
|
طيبا ويحسن في عيني مكرّره |
وإذا كان المديح الصادق لا يزيدهم رفعة قدر ، فهم كما قال الأعرابي الذي ضلّت ناقته في مدح البدر ، والبليغ وذو الحصر في ذلك سيّان ، والحقّ أبلج والباطل لجلج وليس الخبر كالعيان : [الطويل]
__________________
(١) في ب : سعودهم.
(٢) في ب : ولاء.
(٣) المطارف : الثياب المعلمة. والملاء : جمع ملاءة : ثوب ذو شقين متضامين.
(٤) بذّوا : غلبوا.
(٥) في أ: ورد البيت نثرا وبدل كلمة عيشتي جاءت كلمة عيشي وبذلك ينكسر الوزن.
هب الرّوض لا يثني على الغيث نشره |
|
أتحسبه تخفى مآثره الحسنى |
وقد تذكرت بلادي النائية ، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه ، فلما شئت من أنهار ذات انسجام ، أترع فيها من جريال الأنس جام ، وأزهار متوّجة للأدواح ، مروّحة للنفوس بعاطر الأرواح ، وحدائق تعشي أنوارها الأحداق ، وعيانها للخبر عنها مصداق وأي مصداق : [الكامل]
فهي التي ضحك النهار (١) صباحها |
|
وبكت عشيّتها عيون النرجس |
واخضرّ جانب نهرها فكأنّه |
|
سيف يسلّ وغمده من سندس |
وجنان ، أفنانها في الحسن ذوات افتنان : [الخفيف]
صافحتها الرياح فاعتنق السّر |
|
وومالت طواله للقصار |
لائذ بعضه ببعض كقوم |
|
في عتاب مكرّر واعتذار |
وبطاح راق سناها ، وكمل حسنها وتناهى ، كما قلت مضمّنا في ذلك المنحى ، لقول بعض من نال في البلاغة منى (٢) ومنحا : [الوافر]
دمشق لا يقاس بها سواها |
|
ويمتنع القياس مع النّصوص |
حلاها راقت الأبصار حسنا |
|
على حكم العموم أو الخصوص |
بساط زمرّد نثرت عليه |
|
من الياقوت ألوان الفصوص |
ولله درّ القائل ، في وصف تلك الفضائل : [الخفيف]
إن تكن جنّة الخلود بأرض |
|
فدمشق ، ولا يكون سواها |
أو تكن في السماء فهي عليها |
|
قد أمدّت هواءها وهواها |
بلد طيّب وربّ غفور |
|
فاغتنمها عشيّة أو ضحاها |
وعند رؤيتي لتلك الأقطار ، الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار (٣) ، تفاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار ، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ، ذات العرف المعطار ، وزادت هذه بالتقديس الذي همعت عليها منه الأمطار ، وتمثّلت بقول الأصفهاني ، وإن غيّرت يسيرا منه لما أسفرت وجوه التهاني : [مجزوء الكامل]
__________________
(١) في ب : البهار بدل النهار.
(٢) في ب : منّا.
(٣) الأخطار : جمع خطر ، وهو ارتفاع القدر.
لمّا وردت الصالحي |
|
ية حيث مجتمع الرّفاق |
وشممت من أرض الشآ |
|
م نسيم أنفاس العراق |
أيقنت لي ولمن أحب |
|
بجمع شمل واتّفاق |
وضحكت من فرح اللقا |
|
ء كما بكيت من الفراق |
لم يبق لي إلّا تجش |
|
شم أزمن السّفر البواقي |
حتى يطول حديثنا |
|
بصفات ما كنّا نلاقي |
وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه ، فصار القلب بعد ذلك مقسّما بهواه : [الطويل]
ولي بالحمى أهل وبالشّعب جيرة |
|
وفي حاجر خلّ وفي المنحنى صحب (١) |
تقسّم ذا القلب المتيّم بينهم |
|
سألتكم بالله هل يقسم القلب؟ |
فيا لك من صبّ مراع للذمام ، منقاد لشوقه بزمام ، يخيّل له أنه سمع صوت قيان ، بقول الأول : [الطويل]
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة |
|
وبالشام أخرى كيف يلتقيان |
وفرد تعدّدت جموعه ، ووشت بما أكنّت ضلوعه دموعه ، فأنشد وقد تحيّر ، ما بدّل فيه من عظم ما به وغيّر : [البسيط]
كتمت شأن الهوى يوم النّوى فوشى |
|
بسرّه من جفوني أيّ نمّام |
كانت لياليّ بيضا في دنوّهم |
|
فلا تسل بعدهم عن حال أيامي |
ضنيت وجدا بهم والناس تحسب بي |
|
سقما فأبهم حالي عند لوّامي |
وليس أصل ضنى جسمي النحيل سوى |
|
فرط اشتياقي لأهل الغرب والشام |
وحصل التحيّر ، حيث لم يمكن الجمع ولا الخلوّ عند التخيّر ، كما قال ابن دقيق العيد (٢) ، في مثل هذا الغرض البعيد : [الطويل]
إذا كنت في نجد وطيب نعيمه |
|
تذكّرت أهلي باللّوى فمحسّر |
__________________
(١) المنحنى ، والشّعب ، وحاجر : أمكنة.
(٢) هو محمد بن علي بن مطيع القشيري المشهور بابن دقيق العيد (٧٠٢ ه) كان عالما فقيها (انظر طبقات السبكي ج ٦ ص ٢).
وإن كنت فيهم زدت شوقا ولوعة |
|
إلى ساكني نجد وعيل تصبّري (١) |
فقد طال ما بين الفريقين موقفي |
|
فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري |
وبالجملة فالاعتراف بالحقّ فريضة ، ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة ، ورياضه بالمفاخر والكمالات أريضة (٢) ، وهو مقرّ الأولياء والأنبياء ، ولا يجهل فضله إلّا الأغمار الأغبياء ، الذين قلوبهم مريضة : [البسيط]
أنّى يرى الشّمس خفّاش يلاحظها |
|
والشمس تبهر أبصار الخفافيش |
ولله درّ من قال في مثل هذا من الأرضياء : [الوافر]
وهبني قلت هذا (٣) الصّبح ليل |
|
أيعمى العالمون عن الضّياء |
وقال آخر فيمن عن الحق ينفر : [الطويل]
إذا لم يكن للمرء عين بصيرة |
|
فلا غرو أن يرتاب والصّبح مسفر |
وحسب الفاضل اللبيب ، أن يروي قول البدر بن حبيب (٤) : [السريع]
عرّج إذا ما شمت برق الشآم |
|
وحيّ أهل الحيّ واقر السلام |
وانزل بإقليم جزيل الحيا |
|
بارك فيه الله ربّ الأنام |
العزّ والنّصر لديه ، وما |
|
لعروة الإسلام عنه انفصام |
من أولياء الله كم قد حوى |
|
ركنا بمرآه يطيب المقام |
وهو مقرّ الأنبياء الألى |
|
والأصفياء الأتقياء الكرام |
كم من شهيد في حماه وكم |
|
من عالم فرد وكم من إمام |
ولذلك اعتنت الجهابذة بتخليد أخباره في الدواوين ، وابتنت الأساتذة بيوت افتخاره المنيفة الأواوين ، وتناقلت أنباءه البديعة ألسن الراوين ، وهامت بأماكنه المريعة هداة الشريعة فضلا عن الشعراء الغاوين ، ومع ذلك فهم في التعبير عن عجائبه غير متساوين ، أولا يرى أنهم يأتون من مقولهم ، على قدر رأيهم وعقولهم ، ولم يبلغ جمع منهم ما كانوا له ناوين : [الطويل]
__________________
(١) عيل تصبّري : ضعف.
(٢) الرياض الأريضة : الكثيرة العشب.
(٣) في ب : إنّ.
(٤) هو بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي المتوفى سنة ٧٧٩ ه (الدرر الكامنة ج ٢ ص ٢٩).
على قدرك الصّهباء توليك نشوة |
|
بها سيء أعداء وسرّ صحاب (١) |
ولو أنها تعطيك منها بقدرها |
|
لضاقت بك الأكوان وهي رحاب |
وكنّا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة ، وأثناء التأمّل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة ، كثيرا ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة ، ونتفيّأ من ظلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة ، نتجاذب فيها أهداب الآداب ، ونشرب من سلسال الاسترسال ونتهادى لباب الألباب ، ونمدّ بساط الانبساط ونسدل أطناب الإطناب ، ونقضي أوطار الأقطار ، ونستدعي أعلام الأعلام ، فينجرّ بنا الكلام والحديث شجون ، وبالتفنّن يبلغ المستفيدون ما يرجون ، إلى ذكر البلاد الأندلسية ، ووصف رياضها السندسية ، التي هي بالحسن منوطة ، وقضاياها الموجّهة التي لا يستوفيها المنطق مع أنها ضرورية وممكنة ومشروطة ، والفطر السليمة ، والأفهام المستقيمة ، بتسليم براهينها قاضية لا سيما إن كانت بالإنصاف مربوطة ، فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني ، من الفيض الرحماني ، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السّلماني ، صبّ الله عليه شآبيب رحماه وبلّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة وتقتضيه ، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه ، من النظم الجزل ، في الجدّ والهزل ، والإنشاء ، الذي يدهش به ذاكره الألباب إن شاء ، وتصرّفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل ، إذ هو ـ أعني لسان الدين ـ فارس النظم والنثر في ذلك العصر ، والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر ، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله أيدي الهصر ، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر.
فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماعهم ، لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم ، وعلق بقلوبهم ، وأضحى منتهى مطلوبهم ، ومنية آمالهم وأطماعهم ، وصاروا يقطفون بيد الرغبة فنونه ، ويعترفون ببراعته ويستحسنونه ، ويستنشقون من أزهاره كلّ ذاك ، فطلب منّي المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك ، وهو الماجد المذكور ، ذو السعي المشكور ، أن أتصدّى للتعريف بلسان الدين في مصنّف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه ، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه ، ومفاخره التي قلّد بها جيد الزمان ولبّته (٢) ، ومآثره التي أرج بها مسرى الشّمال وهبّته ، وبعض ما له من النّثار والنظام ، والمؤلفات الكبار العظام ، الرائقة للأبصار ، الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار ، السائرة مسير القمر والشمس ،
__________________
(١) الصّهباء : الخمر.
(٢) الجيد : العنق. واللّبة : موضع القلادة من الصدر.
المعقودة عليها بالخناصر بل الخمس ، كي ما يكون ذلك لهذه الأغراض مشيعا ، ويخلع على مطالعه بهذه البلاد المشرقية من أغراضه البديعة ومنازعه وشيعا.
فأجبته أسمى الله قدره الكبير ، وأدام عرف فضائله المزرى بالعنبر والعبير ، بأن هذا الغرض غير سهل ، ولست علم الله له بأهل ، من جهات عديدة ، أوّلها قصوري عن تحمّل تلك الأعباء الشديدة ، إذ لا يوفّي بهذا الغرض إلّا الماهر بطرق المعارف السديدة ، وثانيها عدم تيسّر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلّفتها بالمغرب ، وأكثرها في المشرق كعنقاء مغرب (١) ، وثالثها شغل الخاطر بأشجان الغربة ، الجالبة للفكر غاية (٢) الكربة ، وتقسّم البال ، بين شغل عائق وبلبال ، وأنّى يطيق ، سلوك هذا المضيق ، من اكتحلت جفونه بالسهاد ، ونبت جنوبه عن المهاد ، وسدّد نحوه الأسف سهمه ، وشغل باله ووهمه ، وبثّ في قلبه تريحا ، وعناء لم يجد منه إلّا أن يلطف الله تسريحا ، فما شام بارقة أمل إلّا في النادر ، ولا ورد منهل صفاء إلّا وكدّره مكر غادر ، وقد كثر الجفاء ، وبرح بلا شكّ الخفاء ، واستوخمت الموارد والمصادر ، والقلب مكلوم ، وذو اللب (٣) غير ملوم ، إذا كان على تلفيق ما يليق غير قادر ، ولا مؤنس إلا شاكي دهر بلسان صريح ، أو باكي قاصمة ظهر بجفن قريح ، أو مناضل في معترك العجز طريح ، أو فاضل دفن من الخمول في ضريح ، إذ رمته سهام الأوهام الصوائب ، وعضّت منه إبهام الإبهام بنابها النوى والنوائب ، فقلوبه من تقلّبات أحواله ذوائب ، وكم شابت من أمثاله بصروف الدهر وأهواله ذوائب : [الطويل]
على أنها الأيام قد صرن كلّها |
|
عجائب حتى ليس فيها عجائب (٤) |
وأدمع أحجارها ، تسلّط فجّارها ، فكم من عدوّ منهم في ثياب صديق ، وحسود لنظره إلى نعم الله على عباده تحديق ، لا تخدعه المداراة ، ولا تردعه المماراة (٥) ، يتتبع العثرات ، ويقنع بألم البثرات ، ويتبسم ، وقلبه من الغلّ يتقسّم ، ويتودّد ، ومكايده تتجدّد فتتعدّد : [الخفيف]
لا ترم من مماذق (٦) الودّ خيرا |
|
فبعيد من السّراب الشراب |
__________________
(١) عنقاء مغرب ، أو العنقاء المغرب : طائر خرافي لا وجود له ، جعلوه أحد المستحيلات.
(٢) في ب : غالب.
(٣) في ب : واللبّ.
(٤) البيت لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي.
(٥) المماراة : المجادلة.
(٦) مماذق الودّ : الذي لا يصدق فيه.
رونق كالحباب يعلو على الما |
|
ء ولكن تحت الحباب الحباب (١) |
عظمت في النّفاق ألسنة القو |
|
م وفي الألسن العذاب العذاب |
والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل ، وقد ألّف بعض العلماء «شفاء الغليل ، في ذمّ الصاحب والخليل» (٢). وهو غير محمول على الإطلاق ، وإن قال به بعض من رهنه من أبناء عصره ذو إغلاق : [مجزوء الكامل]
أبناء دهرك فالقهم |
|
مثل العدا بسلاحكا |
لا تغترر بتبسّم |
|
فالسّيف يقتل ضاحكا |
وداء الحسد أعيا الأوّل والآخر ، وقد عظم الأمر في هذا الأوان وكثر المزدري (٣) والساخر ، مع أن أسواق الدفاتر كاسدة ، وأمزجة المحابر فاسدة : [مجزوء الكامل]
والدّهر دهر الجاهلي |
|
ن وأمر أهل العلم فاتر |
لا سوق أكسد فيه من |
|
سوق المحابر والدفاتر |
فالمنسوب للعلم في هذا الزمن زمن ، وهو بأن ينشد قول الأول قمن : [الوافر]
لأيّ وميض بارقة أشيم |
|
ورعي (٤) الفضل عندهم هشيم |
وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته ، وأضعف الاضطراب إشارته ، وأنهل (٥) بالدموع أنواءه ، وقلّل أضواءه ، وكثّر علله وأدواءه ، وغيّر عند التأمّل رواءه ، وثنى عن المأمول عنانه ، وأرهف بالخمول سنانه ، حتى قدح الذكر حنانه ، وملأ الفكر جأشه وجنانه ، فهو في ميدان النزوح مستبق ، ومن راحة التعب مصطبح ومغتبق (٦) : [الطويل]
له أتّه المشتاق في كلّ ساعة |
|
تمرّ وما للثاكلات من الحزن |
ومن مرسلات الدمع واقعة الأسى |
|
ومن عاديات البين قارعة السّنّ |
تثير الذكرى منه كوامن الشجون ، وتدير عليه جام الهيام ولو كان بين الصّفا والحجون : [الطويل]
__________________
(١) الحباب ـ بفتح الحاء : الفقاقيع التي تظهر على سطح الماء ، والحباب : بضم الحاء ، الحية.
(٢) هذا الكتاب تأليف علي بن ظافر الأزدي (انظر كشف الظنون).
(٣) في ب : المزري.
(٤) في ب : ومرعى الفضل.
(٥) في ب : وأهلّ.
(٦) اصطبح : شرب في الصباح ، واغتبق : شرب عند المساء.
وتحت ضلوع المستهام كآبة |
|
يخاف على الأحشاء منها التّفطّرا |
ولو أنّ أحشاء تبوح بما حوت |
|
لتمتلئنّ الأرض كتبا وأسطرا |
وشتّان ما بين الاقتراب والاغتراب ، والسكون في الركون والنبوّ عنها والاضطراب ، فذاك تسهل غالبا فيه الأغراض والمآرب ، وهذا تتعفّر فيه المقاصد وتتكدّر المشارب : [الطويل]
وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز |
|
ولكن أرى تحصيلها بالدّنيّة |
وإن طاوعتني رقّة الحال مرّة |
|
أبت فعلها أخلاق نفس أبيّة |
وكما قلت ، عندما صرت إلى الاغتراب وألت : [الوافر]
تركت رسوم عزّي في بلادي |
|
وصرت بمصر منسيّ الرسوم |
ورضت النفس بالتجريد زهدا |
|
وقلت لها عن العلياء صومي |
مخافة أن أرى بالحرص ممّن |
|
يكون زمانه أحد الخصوم |
وكما قال بعض الأكابر ، من أهل الزمان الغابر : [الكامل]
لا عار إن عطلت يداي من الغنى |
|
كم سابق في الخيل غير محجّل (١) |
صان اللئيم ، وصنت وجهي ، ماله |
|
دوني ، فلم يبذل ولم أتبذّل |
أبكي لهمّ ضافني متأوّبا |
|
إنّ الدموع قرى الهموم النّزّل (٢) |
لا تنكروا شيبا ألمّ بمفرقي |
|
عجلا كأنّ سناه سلّة منصل |
فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني |
|
منها ثلاث شدائد جمّعن لي |
أسف على ماضي الزمان ، وحيرة |
|
في الحال منه ، ووحشة المستقبل |
ما إن وصلت إلى زمان آخر |
|
إلا بكيت على الزّمان الأوّل |
لله عهد بالحمى لم أنسه |
|
أيام أعصي في الصبابة عذّلي |
ويرحم الله ابن قلاقس الإسكندري (٣) ، إذ قال في معنى التمنّي المصدري : [الطويل]
لعلّ زماني بالعذيب يعود |
|
فيقرب قرب أو يصدّ صدود |
__________________
(١) التحجيل في الفرس : البياض في قوائمه ، وهذا مما يمتدحه العرب في الخيل.
(٢) المتأوّب : الزائر ليلا.
(٣) هو نصر بن عبد الله بن علي الأزهري (انظر : معجم الأدباء ج ١٩ : ص ٢٢٦ ، وفيات الأعيان ج ٥ : ص ٢١).
وأبصر كثبانا وهزّ روادف |
|
عليهنّ أغصان وهنّ قدود |
وأقطف ورد الخدّ وهو مضرّج |
|
وأجني أقاح الثغر وهو برود |
وأدني ذراعي للعناق ذريعة |
|
فتنهى عن الإفراط فيه نهود |
ويسري إليّ البدر وهو ممنّع |
|
ويغدو إليّ الظّبي وهو شرود |
ونكرع في شكوى الفراق كأننا |
|
فوارط هيم راقهنّ ورود (١) |
وأكبر مقدار الهوى عن كبيرة |
|
وأحمي عفافي دونه وأذود |
وفرق ما بين الجوهر والعرض ، والصّحّة البيّنة والمرض ، والدّرّ والحصا ، والحسام والعصا ، والرجوع إلى التفويض للأقدار ، في أمور هذه الدار ، الكثيرة الأكدار ، هو المطلوب ، والمرجوّ من الله سبحانه جبر القلوب : [المجتث]
يا ربّ نفّس همومي |
|
واكشف كروبي جميعا |
فقد رجوت كريما |
|
وقد دعوت سميعا |
ولم يجعل لي المذكور. حفظه الله!. فسحة ولا مندوحة ، بعد هذه الأعذار المحمودة في الصدق الممدوحة ، ولسان حالي وقالي ، يثبتان عجزي عن أداء هذا الحقّ بشهادة من هو وادّ وقالي ، إذ من كان بصفة ، غير متمكّنة مما تكون به متّصفة ، واتّسم بنعوت مختلفة ، وارتسم في غير ذوي الأحوال المؤتلفة ، كيف يحير في التصنيف جوابا ، أو ينتحي من التأليف صوابا؟ ومن جفنه هام هامل ، وقصوره عامّ شامل ، كيف يقبض بالأنامل ، على ماء البحر الوافر الكامل؟ ومن لبس من العيّ ملاه (٢) ، لا يعبّر عمّن طبّق مفاصل الكلام (٣) وكلاه ، وقصّرت ألسن البلغاء عن علاه ، وزانت صدور الدواوين حلاه ، وجمّع خلالا حسانا ، وكان للدّين لسانا ، وزاحمت مفاخره بالمناكب الكواكب ، وازدانت بمرآه النوادي والمواكب ، ونفحات الأزهار من آدابه ، ونسمات الأسحار عطر أذياله وأهدابه ، والسّحر من كتابته ، والسّحر من كنايته ، وروح النسيم من تعريضه ، والنّثرة من نثره ، والشّعرى من شعره وقريضه ، وحلل المجد لباسه ، وأنوار العلم اقتباسه : [الوافر]
له ذهن يغوص ببحر علم |
|
فيأتي منه بالدّرّ النظيم |
__________________
(١) الفوارط : جمع فارط ، وهي من القطا ونحوها التي تتقدم نحو الماء للشرب ، والهيم : جمع هيماء وهي الشديدة العطش ، وفي القرآن الكريم (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ).
(٢) ملاه : أصله «ملاءه» فقصره لإتمام السجع ، والملاء : جمع ملاءة ، وهي الثوب.
(٣) يقال «فلان يجيد الحز ، ويطبق المفصل» إذا كان خبيرا عارفا بمواضع الإصابة.
معانيه الرياض ، لأجل هذا |
|
سرت ألفاظه مثل النسيم |
ومباهيه النجوم ، ومضاهيه الغيث السّجوم ، إلى آباء يحسدهم القمر (١) والشمس ، وإباء لو كان للمشرفيّ لما تحيّفه لمس (٢) ، وشرف لا مدّعى ولا منتحل ، وهمّة لو نالها البدر لاستخذى له زحل ، وبراعة أرهفت سنان قلمه ، ويراعة سارت أمراؤها تحت علمه ، فكم فتح بفكره أقفالها ، ووسم بذهنه الثاقب أغفالها ، وسبك معانيها في قالب قلبه إبريزا ورقم بيان لسانه برود إحسانه بلفظه البديع تطريزا ، فرفع في ميدان الإجادة لواؤه ، وأتيح من أنهار البراعة العذبة إرواؤه ، ونال سبقا وتبريزا : [الوافر]
وما زمن الشّباب وأنت تجري |
|
مع الأحباب في لهو وطيب |
ووصل من حبيب بعد هجر |
|
بأحلى من كلام ابن الخطيب |
فقصائده أرخصت جواهر البحور ، المنظومة في قلائد اللّبّات والنحور ، من حسان العقائل الحور : [الطويل]
معان وألفاظ تنظّم منهما |
|
عقود لآل في نحور الشمائل |
وزهر كلام كالحدائق نسجه |
|
غنينا به عن حسن زهر الخمائل |
وكلماته غدت للإبداع إقليدا (٣) ، وجمعت طريفا من البلاغة وتليدا : [المتقارب]
كسون عبيدا ثياب العبيد |
|
وأضحى لبيد لديها بليدا (٤) |
ومقطّعاته ألذّ في الأسماع ، من مطرب السماع ، وأبهى في الأحداق والنواظر ، من الحدائق ذوات الأغصان الملد النّواضر ، يعترف بفضلها من انتحل الإنصاف دينا ، وانتخل الأوصاف فاختار العدل منها خدينا : [الوافر]
رقيقات المقاطع محكمات |
|
لو ان الشّعر يلبس لارتدينا |
ورسائله كنقط العروس اللائحة في البياض ، أو كوشي الربيع أو قطع الرياض ، برزت أغصانها الحالية وتبرّجت ، وتضوّعت أفنانها العالية وتأرّجت ، وقد ألبسها القطر زهرا ، وفجّر خلالها نهرا ، فأخذت زخرفها وازّيّنت ، ولاحت محاسنها غير محتجبة وتبيّنت ، فبهرت من لها قابل ، أستغفر الله لا بل : [البسيط]
__________________
(١) في ب : البدر.
(٢) المشرفيّ : السيف ، نسب إلى مشارف اليمن ، وتحيّفه : نقصه وجار عليه.
(٣) الإقليد : المفتاح.
(٤) عبيد : هو عبيد بن الأبرص ، ولبيد هو لبيد بن أبي ربيعة ، وهما شاعران من فحول شعراء الجاهلية.
هي الحديقة إلّا أنّ صيّبها |
|
صوب النّهى وجناها زهرة الكلم |
وقوافيه ، ريشت بها قوادم الإتقان وخوافيه ، بنان مجاريها يستدثر (١) الحصر ، وباع مباريها يستشعر القصر : [الخفيف]
خطّها روضة ، وألفاظها الأز |
|
هار يضحكن ، والمعاني ثمار |
تبدي لمبصرها وتري ، ما قاله أبو عبادة البحتري (٢) : [الخفيف]
وكلام كأنه الزهر النا |
|
ضر في رونق الربيع الجديد |
مشرق في جوانب السّمع ما يخ |
|
لقه عوده على المستعيد |
ومعان لو فصّلتها القوافي |
|
هجّنت ما لجرول من نشيد (٣) |
حزن مستعمل الكلام اختيارا |
|
وتجنّبن ظلمة التعقيد |
بل هي أجلّ مما وصف عند التحقيق ، وإمعان النظر الصحيح والتدقيق : [الخفيف]
أين زهر الرياض وهو إذا ما |
|
طال عهدا بالغيث عاد هشيما |
من قواف كأنها الأنجم الزّه |
|
ر سناها زان الظلام البهيما |
وناهيك بمن أطلعته العلوم على جلائلها ودقائقها ، وأرته الفنون ما شاء من يانعات حدائقها ، وحبته (٤) الحكم الرياضية بأزاهرها ، وشقائقها ، وأرضعته الوزارة من ثديّها ، وحلّت به الإمارة صدر نديّها (٥) ، وجعلته المرجوع إليه في تمييز جيّد الأمور ورديّها ، فغرس في أرض الرياسة من نخل السياسة ووديّها (٦) ، وأعلى علم العدل وأغمد سيف الانتقام ، ودفع تنّين الفتنة الذي فغر فاه للالتقام ، والعهد إذ ذاك قريب ، في وطن الأندلس الغريب ، باختلال الحال ، وتوالي الإمحال ، والتجرّي على قتل الملوك ، والتحرّي لقطع الطرق ومنع السلوك ، حيث أهواء المارقين ذات افتراق ، وضلوع الصادقين في قلق واحتراق ، وأيدي الإحن (٧) باطشة ، وسيوف المحن إلى الدماء عاطشة ، وعرش الحماية مثلول ، وصارم الكفاية مفلول ، ونطاق
__________________
(١) في ب : نبال مجاريها تستدثر.
(٢) هو الشاعر العباسي الشهير والذي قيل في شعره : شعره سلاسل الذهب ، وقيل فيه أيضا : أراد أن يشعر فغنّى.
(٣) جرول : هو الحطيئة الشاعر المخضرم المعروف.
(٤) في ب : وحيّته.
(٥) النديّ : مجتمع القوم.
(٦) الوديّ : بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء ـ صغار الفسيل (النخل).
(٧) الإحن : الأحقاد ، والضغائن.