السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-195-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٦
وهي تقع لجهة الشام .. واليمن تقع في الجهة المقابلة بالنسبة لموقعه من مكة ، فأي تحرك من جهة اليمن باتجاه المدينة سوف يفتضح أمره لدى أهل مكة ، والحالة أنه يريد أن يباغتهم ..
كما أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكن قد استفاد صداقات في تلك البلاد ، ولا أنشأ علاقات مع ملوكها ، ومع أصحاب الأموال فيها ، تدعوهم لتقديم مبالغ ضخمة له ، تسمح بإعطاء عشرات ، بل مئات الديات لأهلها.
فإن كان ثمة من مبادرات في هذا الاتجاه ، فهي تقتصر على أمور جزئية جدا ، ورمزية ، مثل : جارية ، فرس ، غلام ، شيء من الطيب ، خاتم ، حلة ، حمار ، مكحلة ، شيء من العسل ونحو ذلك .. فراجع إحصائيات هدايا ملك الحبشة له .. رغم أنه كان مسلما ، وكذلك إحصائيات هدايا المقوقس ، أو غيره .. فإنها كلها لا تخرج عن هذا السياق ..
ويبقى السؤال :
من الذي جاءه «صلىاللهعليهوآله» بهذا المال الهائل من اليمن ، ولما ذا؟!
إننا إذا استبعدنا احتمال الإمداد الغيبي الإلهي ، فلا نجد جوابا مقنعا ، ومعقولا ، ومقبولا إلا أن نقول :
إن هذا يشير إلى : أن الإسلام كان قد فشا في الناس في مناطق اليمن ، بصورة طوعية. وكان أولئك المسلمون يرسلون إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بزكواتهم ، وأخماس أموالهم ، وصدقاتهم ، وسائر ما يتوجب عليهم ..
ومن غير البعيد أيضا : أنهم كانوا حين يسمعون بمسيره «صلىاللهعليهوآله» إلى مكة بهذا الجيش العظيم ، الذي يحتاج إلى نفقات كبيرة جدا ، ولا بد من المساعدة فيها .. يدعوهم شعورهم بالمسؤولية والواجب المتمثل بحفظ
الإسلام ، وحفظ النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين إلى بذل كل غال ونفيس في هذا السبيل ، وتخرج المسألة عن كونها مجرد تبرعات وتطوع ، لتصبح واجبا عقليا ودينيا وأخلاقيا ، لا بد من امتثاله على أكمل وأتم وجه وأوفاه.
ولعل هذا المال كان خليطا من ذلك كله ..
تفدية النبي صلىاللهعليهوآله عليا عليهالسلام بأبويه :
وقد تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» في قضية بني جذيمة قد فدّى عليا «عليهالسلام» بأبويه ..
وقد يستفاد من سياق كلام اليعقوبي : أن ذلك كان شائعا ومعروفا .. فقد قال : «ويومئذ قال لعلي : فداك أبواي»
فكأن هذا الأمر كان معروفا وشائعا. وقد أراد تعيين زمان حصوله وحسب ..
ومهما يكن من أمر : فإن هذا يكذب ما زعموه : من أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد قال لسعد في يوم أحد : ارم فداك أبي وأمي.
وأن عليا «عليهالسلام» قال : ما سمعت النبي «صلىاللهعليهوآله» جمع أبويه لأحد إلا لسعد (١). فإن المقصود : هو سرقة هذه الفضيلة من علي
__________________
(١) راجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٤١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣٣ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٢٨٨ ومسند أحمد ج ١ ص ١٣٧ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٢٨ وج ٥ ص ٣٢ و ٣٣ وج ٧ ص ١١٦ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٢٥ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٢١١ وج ٥ ص ٣١٤ وفضائل الصحابة للنسائي ص ٣٤ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٩٦ والسنن ـ
«عليهالسلام» ، ثم منحها لأي كان من الناس.
وقد أرادوا أن يستعينوا بعلي نفسه في ذلك ، وإمعانا منهم في الكيد ، ومبالغة في الإيهام والإبهام.
وزعموا أيضا : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد قال للزبير يوم أحد وقريظة : فداك أبي وأمي (١).
__________________
الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٦٢ وشرح مسلم للنووي ج ١٥ ص ١٨٤ وفتح الباري ج ٦ ص ٦٩ وج ٧ ص ٦٦ وعمدة القاري ج ١٤ ص ١٤٢ و ١٨٥ وج ١٧ ص ١٤٨ و ١٤٩ وج ٢٢ ص ٢٠٤ والأدب المفرد للبخاري ص ١٧٤ ومكارم الأخلاق لابن الدنيا ص ٦٣ وكتاب السنة ص ٦٠٠ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٦١ وج ٦ ص ٥٦ و ٥٧ و ٥٨ و ٥٩ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٣٣٤ وج ٢ ص ٣٥ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٤٤٧ ومصادر كثيرة أخرى.
(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩ و ٢١٧ و ٣٢٧ و ٣٢٨ عن الشيخين ، والترمذي ، وحسّنه ، والتاريخ الكبير للبخاري ج ٦ ص ١٣٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ و ١٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٦٢ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٠ عن الصحيحين ، وصحيح البخاري ، كتاب أصحاب النبي «صلىاللهعليهوآله» ، باب مناقب الزبير ، وفضائل الصحابة للنسائي ص ٣٤ وفتح الباري ج ١٠ ص ٤٦٩ وعمدة القاري ج ١٤ ص ١٤٢ وج ١٦ ص ٢٢٥ وج ٢٢ ص ٢٠٤ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ٩٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٥١٠ وج ٨ ص ٥٠١ و ٥٠٣ وكتاب السنة ص ٥٩٧ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٦١ وج ٦ ص ٥٨ ومسند أبي يعلى ج ٢ ص ٣٥ والإستيعاب ج ٢ ص ٥١٣ وكنز العمال ج ١٣ ص ٢٠٦ و ٢٠٨ و ٢١٠ و ٢١١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ١٠٦ وتاريخ ابن معين ج ٢ ص ٥٦ ومصادر كثيرة أخرى.
وقد فات هؤلاء : أن عبد الله وآمنة بنت وهب أجل وأعظم عند الله من أن يفدّي النبي «صلىاللهعليهوآله» بهما سعدا والزبير ، اللذين ظهرت منهما المخزيات ، والموبقات ، فإن عبد الله بمقتضى حديث ابن عباس ، وأبي جعفر ، وحديث أبي عبد الله «عليهماالسلام» في جوابه عن قول الله عزوجل (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (١) قال : يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم «عليهالسلام» (٢). يدل على نبوة عبد الله ـ ولو لنفسه ـ ولا يمكن أن يكون النبي «صلىاللهعليهوآله» فداء لإنسان عادي ، يرتكب المعاصي ، ويقع في الموبقات.
قال المجلسي عن آباء النبي «صلىاللهعليهوآله» : «بل كانوا من الصديقين ، إما أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين» (٣).
__________________
(١) الآية ٢١٩ من سورة الشعراء.
(٢) راجع : البحار ج ١٥ ص ٣ وج ١٦ ص ٢٠٤ وج ٨٦ ص ١١٨ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٠١٩ وتفسير مجمع البيان ج ٧ ص ٣٥٨ والتفسير الصافي ج ٤ ص ٥٤ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٦٩ وتفسير مجمع البيان ج ٧ ص ٣٥٨ وتفسير الميزان ج ١٥ ص ٣٣٦ وراجع : مدينة المعاجز ج ١ ص ٣٤٧ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٨٦ وج ٨ ص ٢١٤ وإختيار معرفة الرجال ج ٢ ص ٤٨٨ وتفسير السمعاني ج ٤ ص ٧١ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٣٦٥ ومعجم رجال الحديث ج ١٨ ص ١٣٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٢٣٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٤٩.
(٣) البحار ج ١٥ ص ١١٧.
لما ذا ينكسر عمر؟!.
عن ابن عمر قال : قال عمر لخالد بن الوليد : ويحك يا خالد!! أخذت بني جذيمة بالذي كان من أمر الجاهلية؟! أو ليس الإسلام قد محا ما كان في الجاهلية؟!
فقال : يا أبا حفص ، والله ، ما أخذتهم إلا بالحق! أغرت على قوم مشركين ، فامتنعوا ، فلم يكن لي بد إذا امتنعوا من قتالهم. فأسرتهم ، ثم حملتهم على السيف!!
فقال عمر : أي رجل تعلم عبد الله بن عمر؟
قال : أعلمه ـ والله ـ رجلا صالحا.
قال : فهو أخبرني غير الذي أخبرتني. وكان معك في ذلك الجيش!.
فقال خالد : فإني أستغفر الله وأتوب إليه.
فانكسر عنه عمر ، وقال : ويحك إئت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يستغفر لك (١).
ونقول :
إن ما تضمنته هذه الرواية غريب وعجيب.
أولا : لما ذا ينكسر عنه عمر حين اعترف له بجريمته النكراء؟!
أليس المفروض : أن ينشط عمر في لومه وتقريعه ، وفي المطالبة بالإقتصاص
__________________
(١) كنز العمال ج ١٠ ص ٥٨٩ و ٥٩٠ عن الواقدي ، وابن عساكر. ونقل عن تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٥ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٠ و ٨٨١ وبغية الطلب في تاريخ حلب لابن عديم الحلبي ج ٧ ص ٣١٤٦.
منه؟! تماما كما فعل مع أبي سفيان حين رآه مع العباس في مر الظهران ، وكما فعل مع سهيل بن عمرو في الحديبية ، ومع حاطب بن أبي بلتعة في المدينة قبل المسير إلى فتح مكة.
ثانيا : إن عمر قد عودنا في المواقف المشابهة التشدد مع هذا النوع من الناس إلى حد التمرد على توجيهات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» والإصرار على ما يخالفها ، كما جرى في قصة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة. وفي غيرها مما كان يبادر فيه إلى الطلب من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأن يأذن له بضرب عنق هذا وذاك ..
ولكنه رغم ما كان بينه وبين خالد من كدورات ، ظهرت آثارها في بعض الأحيان ، فإنه لا يفرّط بخالد في اللحظات الحاسمة ، ومنها هذه اللحظة ، التي لو بادر فيها إلى السعي لإحقاق الحق ، ومجازاة خالد ، الذي اعترف له بجريمته ، لكانت الضربة القاتلة لخالد ، ولو على الصعيد الإجتماعي العام ..
ثالثا : قد أظهرت هذه الرواية : أن خالدا كان يكذب على النبي «صلىاللهعليهوآله» وعلى عمر ، وعلى عبد الرحمن بن عوف ، وعلى عمار ، وابن عمر ، وسالم ، وعلى سائر الناس وكان يحلف لهم الأيمان ليقنعهم بمكذوباته ..
ولكن عمر لم يعترض على خالد في ذلك ، ولو بمقدار نصيحة يسديها له ، يحذره فيها من عواقب الكذب في الدنيا والآخرة ..
مع أن عمر كان قد أظهر استبشاعه لجريمة خالد ، وأنّبه وأعان عبد الرحمن بن عوف عليه ، فلما ذا نشط ضده هناك ، ثم تراجع وانكسر هنا؟
رابعا : هل نستطيع أن نستفيد من سير الأحداث : أن عمر بن الخطاب
كان يسعى لانتزاع اعتراف من خالد ، من شأنه أن يجعل خالدا رهينة في يده. لكي يحد من عنفوانه معه هو ، وطغيانه عليه .. ولم يكن يريد أن يجري أحكام الإسلام فيه. ولا كان يريد أن ينال هذا الظالم جزاءه العادل ..
هل لأن خالدا كان على مثل رأيه في علي «عليهالسلام» وحزبه ومحبيه ، ويمكن أن يكون مفيدا لهم في مشروعهم الذي يخططون له ، ويعملون من أجله؟!
أم لأن خالدا كان من قومه قريش ، الذين يتعصب لهم ، ويريد أن يحميهم ، وأن يحفظهم وينصرهم ، ولو أوغلوا في دماء المسلمين ، وهتكوا أعراضهم ، ونهبوا اموالهم؟!
إن الوقائع المختلفة تؤكد على أن كلا هذين الأمرين كانا محط نظر عمر بن الخطاب في أمثال هذه الحالات ..
الريب في موقف المهاجرين :
وقد أجملت بعض الروايات ، أو حاولت أن تزوّر القول ، حين زعمت : أن المهاجرين والأنصار لم يقتلوا أسراهم ..
غير أن ملاحظة سائر الروايات ، خصوصا سياق روايات الواقدي في مغازيه تعطي : أن الأنصار فقط هم الذين اتخذوا الموقف الحازم والجازم في هذا الأمر.
ولذلك يلاحظ : أن التنويه بموقفهم كان هو الأصرح والأقوى ..
بل إن عددا من الروايات قد اقتصرت على ذكر امتناع الأنصار عن قتل أي أسير كان في يدهم. ولم تذكر اسم أحد سوى أفراد قليلين من
غيرهم صرحت بأسمائهم ..
فلاحظ على سبيل المثال قول أياس بن سلمة عن أبيه قال : كنت مع خالد بن الوليد ، وكان في يدي أسير ، فأرسلته وقلت : اذهب حيث شئت ، وكان مع الناس من الأنصار أسارى ، فأرسلوهم (١).
فهو يصرح باسم الأنصار ، ولم يذكر المهاجرين.
وعن ابن عمر قال : وأرسلت أسيري ، وما أحب أني قتلته ، وأن لي ما طلعت عليه شمس أو غربت. وأرسل قومي معي من الأنصار قتلاهم (٢).
فقد ذكر : أن خصوص الأنصار هم أرسلوا أسراهم ..
وقد صرح أبو بشير المازني : بأنه أخرج سيفه ، ليضرب عنق أسيره ، فقال له الأسير : يا أخا الأنصار ، إن هذا لا يفوتك ، انظر إلى قومك.
قال : فنظرت ، فإذا الأنصار طرا قد أرسلوا أساراهم (٣).
ويدل على ذلك أيضا ما يلي :
خالد يغضب على الأنصار فقط :
عن خارجة بن زيد : لما نادى خالد بن الوليد في الأسرى يدافّون ، وثب بنو سليم على أسراهم ، فدافّوهم. وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم. فغضب على من أرسل من الأنصار.
فكلمه يومئذ أبو أسيد الساعدي ، وقال : اتق الله يا خالد ، والله ، ما كنا
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٦.
(٢) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٧.
(٣) المصدر السابق.
لنقتل قوما مسلمين.
قال : وما يدريك؟!
قال : نسمع إقرارهم بالإسلام ، وهذه المساجد بساحتهم (١).
فهذه الرواية وإن كانت قد صرحت : بأن المهاجرين أرسلوا أسراهم أيضا ، لكن لا شك بأن فيها بعض التدليس بالنسبة إلى المهاجرين ، إذ لما ذا انصب غضب خالد على خصوص الأنصار؟! وكان راضيا عن المهاجرين.
ألا يدلنا ذلك على : أن المهاجرين قد فعلوا ما أرضاه ، ولو بأن أرسل بعضهم اسراه ، وقتل بعضهم من كان بيده؟!
أحقاد بني سليم :
قال الواقدي : «فأما بنو سليم فقتلوا كل من كان في أيديهم» (٢).
والسبب في ذلك هو : أن بني سليم كانوا متغيظين على بني جذيمة في حروب كانت بينهم ، ببرزة (٣) وغيرها. وكانت بنو جذيمة قد أصابوهم ببرزة ، وهم موتورون ، يريدون القود منهم ، فشجعوا عليه (٤).
وبذلك تتلاقى أحقاد بني سليم مع أحقاد خالد بن الوليد ، لتكون ثمرتها كارثة إنسانية ، ومذبحة بشرية هائلة ، تحمل معهما الخزي والعار ،
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧.
(٢) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٦.
(٣) موضع في ديار بني كنانة. وفيه أوقعت بنو فراس بن مالك من بني كنانة ببني سليم (معجم ما استعجم ص ١٥٢).
(٤) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٨.
لمرتكبيها ، ولكل من أعانهم ، أو مالأهم عليها.
لما ذا يكتّف بعضهم بعضا؟!.
وقد صرحت الروايات أيضا : بأنه لما وضع بنو جذيمة السلاح ، قال لهم : إستأسروا ، فاستأسر القوم ، فأمر بعضهم فكتف بعضا ، وفرقهم في أصحابه (١).
فلما ذا هذا الإجراء يا ترى؟!
هل هو إجراء إحتياطي من خالد؟ لكي لا يغدر بنو جذيمة بأصحابه ، حين يندفعون نحوهم لتكتيفهم؟!
وأي شيء يمكنهم فعله في هذا المجال؟! وأصحاب خالد مسلحون ، ولا سلاح لدى بني جذيمة؟ فأية حركة تبدر منهم ، فستكون سيوف أصحاب خالد على أتم الإستعداد لاصطلامهم والتهامهم.
أم أن خالدا اراد بهذا الإجراء الإمعان في إذلال بني جذيمة ، والتلذذ بذلك ما شاء له هواه ، وأتاحه له كيده وحقده؟!
قد يكون هذا هو الإحتمال الأصوب والأقرب ، والأنسب بأخلاق أهل الغدر ، والخيانة ، وقساة القلوب ، وغلاظ الأكباد.
النبي صلىاللهعليهوآله ينتصر لعمار حين يقع في خالد :
قالوا : ودخل عمار على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : يا رسول
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ عن ابن سعد ، وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٧ و ١٤٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٩ وزاد المعاد ج ٣ ص ٤١٥ وغير ذلك.
الله ، لقد حمش قوما قد صلوا وأسلموا. ثم وقع بخالد عند النبي «صلىاللهعليهوآله». وخالد جالس لا يتكلم ، فلما قام عمار وقع به خالد.
فقال النبي «صلىاللهعليهوآله» : مه يا خالد ، لا تقع بأبي اليقظان ، فإنه من يعاده يعاده الله ، ومن يبغضه يبغضه الله ، ومن يسفهه يسفهه الله (١).
ونلاحظ هنا :
١ ـ إن عمارا لما وقع بخالد كان خالد جالسا .. ولم يكن عمار يخشى جواب خالد ، لأن عمارا لا يقول إلا الحق ، ولا يلهج إلا بالصدق. وليس لدى خالد ما يصح أن يجيب به عمارا ، فسكت ..
وحين خرج عمار بادر خالد إلى اغتنام الفرصة ، فوقع فيه ، حين أمن من الجواب الصارم الواضح ، والحازم الفاضح.
فجبهه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بما تقدم .. وتلك صفعة أخرى استحقها مجرم قاتل ، وكاذب على رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
٢ ـ يلاحظ : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كنّى عمارا وهو غائب بأبي اليقظان ، تكرمة وإجلالا له ، ولكنه خاطب خصمه باسمه مع أنه حاضر .. وذلك إمعانا منه في توهين أمره ، وتصغير شأنه ..
يضاف إلى ذلك : أنه أمره بالكف وعدم متابعة الكلام ، فقال له : مه يا خالد.
٣ ـ إن كلام النبي «صلىاللهعليهوآله» قد تضمن كشفا عن دوافع خالد تجاه عمار ، وأن دافعه فيما يقوله فيه هو العداوة والبغض ، والتسفيه.
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨١ و ٨٨٢.
وأما موقف عمار ، فهو بداعي : نصرة الحق ، وكبت الباطل ، والتماسا لرضا الله تعالى.
دفاع الأتباع!! تزوير واختراع!! :
ويروي محبو خالد قضية بني جذيمة بصورة تختلف تماما عما أثبتته المصادر المختلفة ، فعن عبد الملك بن عبد الرحمن بن الحارث ، قال : أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خالد بن الوليد أن يغير على بني كنانة ، إلا أن يسمع أذانا ، أو يعلم إسلاما. فخرج حتى انتهى إلى بني جذيمة ، فامتنعوا أشد الإمتناع ، وقاتلوا وتلبّسوا السلاح ؛ فانتظر بهم صلاة العصر والمغرب والعشاء لا يسمع أذانا ، ثم حمل عليهم ، فقتل من قتل ، وأسر من أسر ، فادّعوا بعد الإسلام.
قال عبد الملك : وما عتب عليه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في ذلك ولقد كان المقدم حتى مات.
ولقد خرج معه بعد ذلك إلى حنين على مقدمته. وإلى تبوك.
وبعثه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى أكيدر ودومة الجندل. فسبى من سبى ثم صالحهم.
ولقد بعثه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى بلحارث بن كعب إلى نجران أميرا وداعيا إلى الله ، ولقد خرج مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حجة الوداع ، فلما حلق رسول الله «صلىاللهعليهوآله» رأسه أعطاه ناصيته ، فكانت في مقدم قلنسوته. فكان لا يلقى أحدا إلا هزمه الله تعالى.
ولقد نزل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين هبط من لفت (١) في حجته ، ومعه رجل ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : من هذا؟
فقال الرجل : فلان.
قال : بئس عبد الله فلان!
ثم طلع آخر ، فقال : من الرجل؟
فقال : فلان.
فقال : بئس عبد الله فلان.
ثم طلع خالد بن الوليد ، فقال : من هذا؟
قال : خالد بن الوليد.
قال : نعم عبد الله خالد بن الوليد!
وقال رجل من بني جذيمة مبيّض ، قال : سمعت خالد بن إلياس يقول : بلغنا أنه قتل منهم قريبا من ثلاثين رجلا. انتهى (٢).
ونقول :
هكذا يزور هؤلاء حقائق التاريخ ، كرمى لعيون خالد بن الوليد ، ومن كان خالد في خدمتهم ، ويسعى في تأييد وتشييد ملكهم وسلطانهم.
وإليك طائفة من هذه الأكاذيب ، التي تضمنتها الرواية المتقدمة ، فهم يدّعون زورا :
١ ـ أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أمر خالدا أن يغير على بني كنانة. مع
__________________
(١) اسم مكان.
(٢) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٣ و ٨٨٤.
أن الروايات تصرح : بأنه بعثه داعيا ، ولم يبعثه مقاتلا.
٢ ـ وتدّعي : أن بني جذيمة قد امتنعوا أشد الامتناع .. مع أن الروايات تصرح : بأنه طلب منهم وضع السلاح ، فوضعوه ، وطلب منهم أن يكتف بعضهم بعضا ، ففعلوا.
٣ ـ تدّعي : أن بني جذيمة قاتلوا .. والروايات تصرح بضد ذلك.
٤ ـ تقول : لقد تلبس بنو جذيمة السلاح.
ونقول :
ولكنهم عادوا فوضعوه لما طلب منهم خالد ذلك ، فلما ذا تصر الرواية على التسويق لضد ذلك؟!
٥ ـ وتقول : انتظر بهم خالد صلاة العصر ، والمغرب ، والعشاء ، ولم يسمع أذانا. مع أن الروايات تصرح : برفع الأذان ، وبوجود المساجد في ساحاتهم ، وكانوا وهم أسرى يصلون عند حضور أوقات الصلاة.
بل الرواية الصحيحة المتقدمة عن الإمام الباقر «عليهالسلام» قد صرحت : بأنه قبل أن يغير عليهم نادى خالد بالصلاة ، فصلى وصلوا ، فلما كان وقت الفجر نادى بها فصلى وصلوا. ثم شن عليهم الغارة.
٦ ـ وتدّعي : أنه بعد أن فعل بهم خالد ذلك ادّعوا الإسلام. مع أنهم قد صرحوا : بأنهم مسلمون بمجرد أن سألهم خالد عن حالهم ، كما تقدم ..
٧ ـ وتقول : إنه ما عتب النبي «صلىاللهعليهوآله» على خالد. مع أن الروايات تقول : إنه أعرض عنه ، وغضب عليه مدة طويلة ..
٨ ـ تقول : إنه إنما قتل منهم ثلاثين رجلا فقط. مع أن ابن حبيب يصرح : بأنه قتل منهم اربع مائة غلام.
٩ ـ تقول : كان خالد المقدم عند النبي «صلىاللهعليهوآله» حتى مات .. مع أن غضبه على خالد ، وإعراضه عنه بعد فعلته هذه ، ظاهر في النصوص والآثار ، مع أن هذا الكلام لا شاهد له سوى دعوى قائليه.
أما ما اعتبروه دليلا على تقدم خالد عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فهو ما يلي :
١ ـ خرج بعد ذلك إلى حنين على مقدمته «صلىاللهعليهوآله».
٢ ـ بعثه «صلىاللهعليهوآله» إلى نجران أميرا وداعيا إلى الله.
٣ ـ بعثه إلى تبوك.
٤ ـ بعثه إلى أكيدر ودومة الجندل.
٥ ـ خرج مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حجة الوداع. فلما حلق «صلىاللهعليهوآله» أعطاه ناصيته. فكانت في مقدم قلنسوته .. فكان لا يلقى أحدا إلا هزمه.
٦ ـ قول النبي «صلىاللهعليهوآله» : نعم عبد الله خالد بن الوليد.
ونقول :
أولا : سيأتي إن شاء الله عدم صحة ما زعموه من إرساله في عدد مما ذكر. أو أننا على الأقل نملك ما يبرر شكنا في صحة ما ينقل من ذلك. وليكن ما فعله ببني جذيمة أحد هذه المبررات.
ثانيا : إنه كان لا بد من إرسال رؤوس الشرك والمعروفين بالشراسة والفتك فيهم ، ليكونوا هم الدعاة للناس إلى الدخول في الإسلام ، فإن ذلك يوجب سكينة الناس ، واطمئنانهم إلى أنه ليس ثمة من يخشى من صولته ، وفتكه ، لو أظهر أنه يترصد الفرصة للإنقلاب على الأعقاب ..
الفصل الرابع :
حديث العترة هو القصص الحق
نصوص هامة لا بد من التوقف عندها :
ونريد أن نعرض هنا نصوصا هامة .. ثم نلحقها ببعض ما يفيد في جلاء الحقيقة ، وفي إعطاء الإنطباع السليم عن بعض ما ترمي إليه مواقف الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، وبياناته ، وغير ذلك من أمور هامة ومفيدة ، والنصوص هي التالية :
١ ـ ما جرى لأبي زاهر مثل ما جرى لبني جذيمة :
ذكر ابن شهر آشوب قضية إغارة خالد على حي أبي زاهر الأسدي ، فجاء سياقها موافقا ـ تقريبا ـ لسياق قضية بني جذيمة ، فقال :
«في رواية الطبري : أنه أمر بكتفهم ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل منهم من قتل.
فأتوا بالكتاب الذي أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أمانا له ولقومه إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وقالوا جميعا : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.
وفي رواية الخدري : اللهم إني أبرأ إليك من خالد ثلاثا.
ثم قال : «أما متاعكم فقد ذهب ، فاقتسمه المسلمون ، ولكنني أرد عليكم مثل متاعكم».
ثم إنه قدم على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ثلاث رزم من متاع اليمن ، فقال : يا علي ، فاقض ذمة الله ، وذمة رسوله. ودفع إليه الرزم الثلاث.
فأمر علي «عليهالسلام» بنسخة ما أصيب لهم.
فكتبوا ، فقال : خذوا هذه الرزمة ، فقوّموها بما أصيب لكم.
فقالوا : سبحان الله هذا أكبر مما أصيب لنا!
فقال : خذوا هذه الثانية ، فاكسوا عيالكم وخدمكم ، ليفرحوا بقدر ما حزنوا ، وخذوا الثالثة بما علمتم وما لم تعلموا ، لترضوا عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فلما قدم علي «عليهالسلام» على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أخبره بالذي كان منه ، فضحك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حتى بدت نواجذه ، وقال : أدى الله عن ذمتك كما أديت عن ذمتي.
ونحو ذلك روي أيضا في بني جذيمة (١).
٢ ـ رواية صحيحة عن الإمام الباقر عليهالسلام :
حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد «رحمهالله» ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، عن العباس بن معروف ، عن علي بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب ، عن أبان بن عثمان ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر الباقر «عليهالسلام» ، قال :
بعث رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خالد بن الوليد إلى حي يقال
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء سنة ١٤١٢ ه) ج ١ ص ١٥٠ و ١٥١ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٩٥ والبحار ج ٣٨ ص ٧٣.