السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-180-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٠
الفصل الرابع :
دلالات وعبر
يكفينيك الله ، وابنا قيلة :
قد ذكرت الروايات المتقدمة : أن النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» يجيب على تهديدات عامر بن الطفيل بقوله : «يكفينيك الله ، وابنا قيلة».
والمقصود ب «ابني قيلة» : الأوس ، والخزرج.
وهذه الكلمة تتضمن :
١ ـ إعزازا لجانب الأوس والخزرج.
٢ ـ تحريضا لهما على إسداء النصر ضد العدو ، الذي لا مبرر لعدوانه ، إلا الحمية الظالمة الخرقاء ، حمية الجاهلية ، وإلا الانقياد للهوى ، والاستجابة لنزغ الشيطان.
٣ ـ إن اعتماده «صلىاللهعليهوآله» هو على الله أولا وبالذات ، ولكنه في نفس الوقت يعد العدة ، ويعتمد الوسائل المادية في دفع الأخطار المحتملة ، وهذا يدلل على واقعية الإسلام ، وعلى أنه لا يتعامل مع الأمور بصورة تجريدية وذهنية محضة ، كما أنه لا يفرط في الاعتماد على القوة المادية ، بل هو يعتمد عليها في صراط اعتماده على الله سبحانه ، فالله هو المصدر الأول للقوة.
بل وحتى القوة المادية ، إذا لم تنته إلى الله فإنها تتحول إلى ركام وحطام
لا أثر له ، إن لم نقل : إن له الكثير من الآثار السلبية والهدامة في كثير من الأحيان ، وهذا موضوع حساس وخطير ، يحتاج إلى توفر أتم ، ووقت أوفى.
النبي صلىاللهعليهوآله يحمّل أبا براء المسؤولية :
وبعد .. فإننا نجد : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد اعتبر أبا براء هو المسؤول عما حصل ، حينما قال : «هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارها متخوفا».
ونحن نشك في ذلك.
فإن الروايات التي روت لنا ما حصل ، لعلها متفقة على أن أبا براء ، لم تكن له أية علاقة بما حدث ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، وقد صرحت بعضها بأنه كان مستاء جدا مما حصل.
بل إن بعضها يصرح : بأنه قد مات أسفا على ما صنع به عامر ابن أخيه. وعليه فيرد هنا سؤال ، وهو :
هل إنه لم تبلغ النبي «صلىاللهعليهوآله» الأخبار على حقيقتها؟
وإذا كان ذلك ، فما بال جبرائيل لا يوقفه على حقيقة ما جرى؟!
أم يعقل أن يكون ما وصل إلينا قد تعمد التعتيم على ما جرى ، أو كان محرفا لسبب أو لآخر؟!
ولعل الإجابة الأقرب إلى الواقع هي : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان على علم تام بما حصل ، ولكنه أراد تحريض أبي براء ضد مرتكب الجريمة عامر بن الطفيل ؛ بالطريقة المشروعة ، والمقبولة لدى الناس ، فلقد كان أبو براء قد قبل ـ مختارا ومتبرعا ـ بأن يكون مسؤولا عن حياة أولئك
النفر ، وهو الذي بادر إلى إظهار الرغبة بإرسالهم إلى تلك المنطقة ، وحينما عبر النبي «صلىاللهعليهوآله» عن مخاوفه من أهل نجد ، نجد أبا براء قد قبل أن يجيرهم ، ثم يذهب بنفسه ، ويخبر أهل نجد بأنه قد أجار أصحاب محمد «صلىاللهعليهوآله».
ولعل من نتائج موقف النبي «صلىاللهعليهوآله» هذا ، ثم مبادرة حسان بن ثابت لتحريض ربيعة بن أبي براء على عامر ، أن سأل ربيعة النبي «صلىاللهعليهوآله» أو غيره : إن كانت ضربة أو طعنة لعامر تغسل عن أبيه هذه الغدرة ، فقال «صلىاللهعليهوآله» : نعم.
فطعنه ربيعة في حياة أبيه ، فقتله ، «كما في معالم التنزيل» أو فأشواه ، كما في المصادر الأخرى.
شرف التواضع .. وذل الغطرسة :
وتحدثنا الروايات المتقدمة : أن عامر بن الطفيل لم يستطع أن يميز النبي «صلىاللهعليهوآله» من بين أصحابه حيث كان جالسا بينهم كأحدهم حتى يسأل عنه هذا وذاك فيخبرونه.
نعم ، وهذه هي أخلاق الإسلام وتعاليمه ، وهذه هي تربيته للإنسان ، فهو يربي في الإنسان إنسانيته أولا ، ويفهمه أن الحكم ليس امتيازا وإنما هو مسؤولية وواجب في إطار قاعدة : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
فالإسلام يربي في الإنسان روح الرفض والإدانة لكل الامتيازات الظالمة ، التي يجعلها المتزعمون ، وأصحاب الثروات والوجاهات لأنفسهم ، لا لشيء إلا لأنهم أبناء فلان ، أو لأنهم يملكون القوة ، أو المال ، أو ما أشبه
ذلك. من دون أن يقدموا لمجتمعهم أدنى ما توجبه عليهم القيم والمثل الإنسانية ، ولا حتى أن يعترفوا لغيرهم بأبسط الحقوق ، حتى حق الحياة ، فضلا عن حق الحرية ، والعيش بكرامة.
الرسل لا تقتل :
ويلاحظ هنا : أن عامر بن الطفيل قد ارتكب عملا شنيعا ، يرفضه الخلق الإنساني ، ويأنف منه حتى أكثر الناس بعدا عن المعاني الإنسانية والاخلاقية. ألا وهو قتل الرسول ، (حامل كتاب النبي «صلىاللهعليهوآله») وقد جرت عادة العرب قديما «بأن الرسل لا تقتل» (١) كما أنه يخفر ذمة أبي براء ، وما جرت عادة العرب بذلك أيضا.
وهناك جريمة ثالثة ، وهي أن قتله للرسول كان غدرا وغيلة وذلك أمر لا يستسيغه حر يحترم نفسه ، ويطمح إلى ما كان يطمح إليه مثل عامر. مع أنه هو نفسه يرسل إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» يطلب منه دية الرجلين ، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في طريقه رغم أن عمروا لم يكن يعلم بالعهد الذي أعطاهما إياه الرسول ، ورغم أن ما فعله عامر ، من شأنه أن ينسف كل العهود والمواثيق ، ويعطي حق المعاملة بالمثل الذي تقره جميع الأعراف ، ولا تمنع منه الشرائع.
ولكن سماحة الإسلام .. وحرص النبي «صلىاللهعليهوآله» على أن يعامل الناس بأخلاقه هو ، لا على حسب أخلاقهم هم ، هو الذي جعله لا
__________________
(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٠.
يتخذ مواقفه من خلال الانفعالات والمشاعر ، التي تنشأ عن إثارات يتعمدها الخصوم في كثير من الأحيان ، فإن الإنسان المسلم لا تزله الرياح العواصف ، ولا يفقد توازنه ، ولا يتخلى عن مبادئه ولا يحيد عن هدفه ليصبح أسير مشاعره الثائرة ، وانفعالاته الطاغية ويلبي نداءاتها ويستجيب لإثاراتها.
فنجد النبي «صلىاللهعليهوآله» يرسل بدية الرجلين ، ولا يذكّر بشيء مما فعله قومهما ، بل هو يظهر استياءه من قتل عمرو بن أمية لهما ، ويصرح بتصميمه على أن يديهما فور علمه بما جرى عليهما ، وقبل أن يرسل إليه عامر بطلب ديتهما.
وبذلك يتميز الإنسان المؤمن عن غيره ، يسير كل منهما في خطه الذي ينبغي له ، هذا دليله عقله وحكمته ، ورائده رضى ربه ، وسلامة دينه ، والفوز بالآخرة ، وذاك دليله هواه ورائده شهواته ، وهدفه الدنيا ، وزخرفها.
وفي مقابل ذلك نجد عامر بن الطفيل ينقاد لهواه فيقتل الرسول ، والرسل لا تقتل ، ويخفر الذمة ، ويستعمل طريقة الختر والغدر ، وكل ذلك شنيع ، وفظيع.
وهو كذلك ينقاد لهواه لأنه يرفض أن يكون موته بغدة كغدة البعير ، ويأنف أن يكون ذلك في بيت سلولية.
أما رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فهو ينسجم مع أخلاقه ، كما أنه ينطلق من مبادئه السامية في كل مواقفه ولا يخرجه أي شيء عن توازنه ومتانته ، لا يزعزع ثباته ، ولا تزله الرياح العواصف مهما كانت هوجاء ، وعاتية (١).
__________________
(١) راجع كتاب : محمد في المدينة ص ٤٩.
ديّة الرجلين لما ذا؟!
ومن جهة ثانية نلاحظ : أن قبيلة عامر قد رفضت الاستجابة لطلب ابن الطفيل بقتل المسلمين ، وذلك وفاء لذمة أبي براء وجواره.
ولا بد أن يكون موقف النبي «صلىاللهعليهوآله» هذا مؤثرا في إعطاء صورة حسنة للعامريين ، ويفترض البعض أيضا : أن ذلك يزيد في حالة عدم الانسجام فيما بين هذه القبيلة وبين عامر بن الطفيل ، الذي ارتكب تلك الجريمة النكراء ، فهو «صلىاللهعليهوآله» يريد استمالة بني عامر إلى جانبه ، ولهذا قرر التدخل في السياسة الداخلية للقبيلة.
ولكننا نقول : إن بعض النصوص تؤكد أن موقف النبي «صلىاللهعليهوآله» هذا قد كان منطلقا من قيمة أخلاقية ، ورسالية ، فرضها عليه واقع أن هذين الرجلين كانا من أهل ذمته «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يقتلا من أجل ذنب أتياه ، حسبما أشرنا إليه آنفا.
ويضيف ذلك البعض : أنه كان معيبا في حق بني عامر ، ترك الرجال يقتلون ، وهم تحت حمايتهم ، ولهذا كان الشاعر المسلم كعب بن مالك واضحا في هذا الصدد.
إلى أن قال : ولم يكن محمد يستطيع التخلي عن بني عامر قبل التخلي عن كثير من الآمال ، ولكن هذا لم يمنعه من أن يصلي ويطلب من الله معاقبة عامر (١).
ولكننا نقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد دعا على رعل وذكوان
__________________
(١) المصدر السابق.
وعصية ، ولم أجد أنه دعا على بني عامر ، بل ذكر الواقدي : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : اللهم اهد بني عامر ، واطلب خفرتي من عامر بن الطفيل (١). ولعل عدم مشاركة بني عامر في الدفاع عمن أجارهم أبو براء ، إنما هو من أجل أن لا تحدث انشقاقات خطيرة بينهم وبين غيرهم ممن استجاب لابن الطفيل.
وأما القول بأن تخلي النبي «صلىاللهعليهوآله» عن بني عامر ، معناه التخلي عن كثير من الآمال ، فإنه غير واضح ، إذ ما ذا يمثل بنو عامر ، وما هو الدور الذي قاموا به ، أو يمكنهم أن يقوموا به في نصرته «صلىاللهعليهوآله»؟!
الأفق الضيق :
وما أقل عقل عامر بن الطفيل ، وما أحقر طموحاته وأحطها ، وما أضيق الأفق الذي يفكر فيه ، حينما نجده يفعل الأفاعيل انطلاقا من حالة انفعالية أثارها أمر تافه ، وتافه جدا ، جعله يرتكب أبشع جريمة ، ويخالف كل الأعراف والتقاليد ، فيغدر ، ويخفر الذمم ويقتل الرسول ، ويقتل الكثيرين غيره ، ويبادر إلى الزحف نحو المدينة ، كل ذلك من أجل أي شيء يا ترى ، وفي سبيل أية قضية؟!
إن ذلك كله .. كما ورد في الروايات قد كان من أجل أن صبيا عطس ، فشمّته النبي «صلىاللهعليهوآله» لأنه حمد الله ، ويعطس عامر فلا يحمد الله ، فلا يشمّته رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٥١.
وما كان أحراه بأن يستفيد من هذه القضية درسا حياتيا مفيدا ، فيتوجه نحو الله سبحانه ويعتبر أن العز ، والشرف ، والسؤدد بالقرب منه تعالى ، والعمل بما يرضاه ، وأن كل شيء بدون الله فهو حائل زائل ، وزخرف باطل ، لا قيمة له ، فيربي نفسه على ذكر الله ، والتقرب إليه لينال كل ما يصبو إليه من عز وشرف وحياة وسعادة.
ولكنه يتخلى عن ذلك كله ، ليتبع خطوات الشيطان ، ويشمخ بأنفه ، وينظر في عطفه ، ويصر مستكبرا صادّا عن ذكر الله سبحانه ، يتخيل أن بإمكانه أن يحصل على شيء بدون الله ، وبدون اللجوء إليه سبحانه ، فتكون النتيجة هي أنه يجلب لنفسه الوبال ، والدمار ، ويخسر الدنيا والآخرة وبئس للظالمين بدلا.
خلافة النبوة :
أما مطالب عامر بن الطفيل التي عرضها على النبي «صلىاللهعليهوآله» فهي تنقسم إلى قسمين :
أحدهما : يجسد طموحاته وأطماعه الدنيوية وحبه للتسلط ، والاستئثار ، فنجده يساوم النبي «صلىاللهعليهوآله» ـ كما فعله مسيلمة الكذاب فيما بعد (١) ـ ليقاسمه السلطة على الناس ، بزعمه ، فيقترح عليه أن يكون للنبي «صلىاللهعليهوآله» السهل ، ويكون لعامر أهل الوبر ، من دون أن يكون لديه أي مبرر لذلك ، سوى الغطرسة والطغيان ، والاعتزاز بألف أشقر
__________________
(١) فقد كتب النبي «صلىاللهعليهوآله» : أما بعد فإن الأرض لي ولك نصفان.
وألف شقراء والاعتماد على قوة السيف ، الذي يرى فيه المحلل لكل محرم ، ويسمح له بارتكاب أي مأثم ، ومن دون أن يعطي لأولئك الناس الذين يطمح للتسلط عليهم حق الاختيار ، الذي يساوي حق الحياة ، وكأن الناس سلع تشرى ، وتباع وتوهب.
هذا عدا عن أنه لا يملك هو نفسه أي امتياز يخوله الاستئثار بشيء من الامتيازات دون غيره ، فهو لا يملك العلم النافع ، ولا يرفع شعار الهداية لسبيل الله والحق ، والخير ، ولا غير ذلك من مقومات.
الثاني : إنه يرشح نفسه لمنصب خطير وهام ، ألا وهو خلافة النبوة ، وقيادة الأمة وهدايتها. هذا المنصب الذي لم يكن يملك أي شيء من مقوماته : خلقيا ، وإنسانيا ، وسلوكيا ، فضلا عن الامتياز العلمي ، وسائر القدرات والمؤهلات الذاتية ، التي لا بد من توفرها في من يتصدى لمنصب كهذا.
ولا أدل على ذلك من أنه تثور ثائرته ، لأن الرسول «صلىاللهعليهوآله» يشمّت غلامه الذي حمد الله ، ولم يشمّته هو ، حيث لم يحمد الله تعالى.
وبعد هذا .. فكأنه لم يسمع ما أجاب به النبي «صلىاللهعليهوآله» أحد بني عامر بن صعصعة ، حينما عرض على النبي «صلىاللهعليهوآله» في مكة نفس ما عرضه هو عليه ، فأجابه «صلىاللهعليهوآله» بقوله : «إن الأمر لله ، يضعه حيث يشاء».
فلا مجال لرأي أحد في أمر الإمامة بعده «صلىاللهعليهوآله» ولا يثبت ذلك بالانتخاب ، ولا بالشورى ، ولا هو من صلاحيات النبي «صلىاللهعليهوآله» نفسه ، وإنما هو فقط من صلاحيات رب العزة ، وخالق الكون دون سواه ؛ فهو الذي يختار ومنه يصدر القرار ، وقد قدمنا بعض ما يرتبط بهذه القضية في
الجزء الثالث من هذا الكتاب في فصل : حتى بيعة العقبة ، فراجع.
المشركون في مواجهة الوجدان :
وبعد .. فقد ذكرت الروايات : أن أبا براء ، ملاعب الأسنة ، قد أرسل إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» يستشفيه من دبيلة كانت في بطنه ، فتناول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» جبوبة (وهي المدرة) من تراب ، فأمرّها على لسانه ثم دفها بماء ، ثم سقاه إياها ، فكأنما أنشط من عقال (١).
وفي نص آخر : فتفل فيها وقال : دفها بماء ، ثم أسقاه إياه ففعل ؛ فبرئ ، ويقال : إنه بعث إليه بعكة عسل ؛ فلم يزل يلعقها حتى برئ (٢).
ويذكرنا هذا النص بما قدمناه عن مشركي مكة أيضا ، الذين يعلم كل أحد ما لاقاه النبي «صلىاللهعليهوآله» منهم ، حتى اضطروه إلى الهجرة ، فإنهم مع عدائهم له «صلىاللهعليهوآله» يودعون أموالهم عنده «صلىاللهعليهوآله» ، حتى ليضطر إلى إبقاء علي أمير المؤمنين «عليهالسلام» في مكة ثلاثة أيام ـ حين الهجرة ـ ليؤدي الودائع والأمانات إلى أصحابها.
ومعنى ذلك هو : أنهم يرون في هذا النبي «صلىاللهعليهوآله» : أنه متصل بالغيب ، حتى ليرسلون إليه يستشفونه من أمراضهم ، كما ويرون فيه أنه في غاية الأمانة والرعاية لحقوق الناس ، وأموالهم.
الأمر الذي لا بد أن يكشف لهم عن ملكات وفضائل أخلاقية نادرة
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٢.
(٢) راجع : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٥٠ والإصابة ج ٣ ص ١٢٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧١.
لديه «صلىاللهعليهوآله» وأنه لا مطمع له بمال ، ولا بمتاع دنيا.
إذا ، فإنهم لا بد أن يتلمسوا التناقض الهائل الذي يجدون أنفسهم فيه ، فهم يكرهونه ، ويكذّبونه ، ويتهمونه ، وهم كذلك يرون طهارته ، وعفته وصدقه ، وأمانته ، حتى لقبوه بالصادق الأمين. فيعيشون حالة الصراع الداخلي مع ذاتهم ، ومع وجدانهم ، وما أشده من صراع ، وما أعظم البركات التي يحصلون عليها لو انتصر عقلهم ووجدانهم. وما أخطرها وأشدها دمارا ، لو انتصرت المشاعر والأهواء ، والمصالح الشخصية الرخيصة.
وليراجع الجزء الثاني من هذا الكتاب في بحث : العوامل المساعدة على انتصار الإسلام وانتشاره ففيه مطالب أخرى ترتبط بهذا المقام.
ولعل هذا الإحساس الوجداني الصريح ، الذي أدركه أبو براء من خلال مصادقته له «صلىاللهعليهوآله» ـ فإنه كان له صديقا ـ هو الذي جعل هذا الرجل يتحمس لأن يرسل النبي «صلىاللهعليهوآله» دعاته إلى نجد ، ثم يتعهد بأن يكونوا في جواره ، وتحت حمايته.
رفضه صلىاللهعليهوآله هدية ملاعب الأسنة منطلقاته ودلالاته :
وتواجهنا في الروايات المتقدمة قضية رفضه «صلىاللهعليهوآله» هدية أبي براء ، ملاعب الأسنة ، على اعتبار أنه «صلىاللهعليهوآله» لا يقبل هدية مشرك ، حتى ولو كان صديقا له.
وقد تقدم في فصل : أبو طالب مؤمن قريش ، موارد أخرى في هذا المجال ، وهي تدل على : أن ذلك كان نهجا له «صلىاللهعليهوآله» ويصر على الالتزام به ، والتعامل على أساسه.
ونحن في مجال فهم الهدى النبوي في هذا الاتجاه ، نشير إلى ما يلي :
ألف : إن من الواضح أن المشركين لا يقيسون الأمور بمقاييس صحيحة ، ولا يبنون علاقاتهم مع الآخرين على أساس المثل والقيم والمبادئ عموما.
وإنما ينطلقون في تقييمهم للأمور من نظرة ضيقة ، ومصلحية ، قائمة على أساس الأهواء ، والطموحات غير المتزنة ولا المسؤولة.
وعلى هذا ، فقلما تجدهم يبادرون إلى إتحاف بعضهم بالهدايا ونحوها من منطلق منطقي ، أو من شعور إنساني نقي وبريء ، أو من مبادئ إنسانية ، ومثل عليا.
وإنما غالبا ما يكون ذلك تزلفا ، وتصنعا ؛ بهدف الحصول على ما هو أغلى ، وما هو أهم ، أو بهدف دفع غائلة من لا يجدون لدفع غائلته وسيلة ، ولا عن التصنع والتزلف إليه مهربا ، ومحيصا.
ولأجل ذلك .. فلو فرض أن النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» قد قبل هديتهم. فعدا عن كون ذلك يدخل في نطاق الموادة لهم ، وهو ما ينهى عنه القرآن الكريم صراحة ؛ فإنه لو أراد بعد ذلك أن يتخذ من انحرافاتهم وجرائمهم موقفا رافضا ومسؤولا ، فلسوف يعتبرون ذلك ، ويعتبره كل من هو على شاكلتهم ، نكرانا للجميل ، وكفرانا للنعمة ، الأمر الذي يجعل من هذا الأمر مبررا لأية سلبية تظهر على مواقفهم منه فيما يأتي من الأيام.
كما أن رفض النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» لهديتهم لا يعتبر مقابلة للإكرام بضده ، ولا يعد خلقا سيئا ، أو تصرف نابيا.
إذ إن النبي «صلىاللهعليهوآله» يملك كل الحق في أن يفهمهم أن القضية قضية مصيرية ، لا يمكن الإغضاء عنها ، ولا التساهل فيها ، ولا
تخضع للمساومة ، ولا للمداهنة ، ولا يمكن التنازل عن أي شيء فيها في مقابل المال والنوال.
ولا سيما إذا كان إعطاء المال أو تقديم الهدية يوزن بميزان جاهلي ، مصلحي ، حسبما ألمحنا إليه.
ب : وبعد فإن إهداء أبي براء ملاعب الأسنة للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، وقول حامل الهدية حينما رد النبي الهدية : «ما كنت أرى أن رجلا من مضر يرد هدية أبي براء» (١) يدل على أن أبا براء كان رجلا ذا أهمية في مجتمعه الذي يعيش فيه ، حتى إن أي مضري لا يجرؤ على رد هديته احتراما وتقديرا له.
فإهداؤه للنبي «صلىاللهعليهوآله» يدل على أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان قد ذاع صيته ، وظهرت هيبته في مختلف أرجاء المنطقة آنئذ ، وبدأ يتزلف إليه المتزلفون ، ويخطب وده الخاطبون.
ج : كما أن الأمر الذي يثير العجب حقا هو : أننا نجد أبا براء ذلك الرجل المعروف والمبجل في محيطه ، والذي لا يرد هديته مضري ليس فقط يتلقى هذه الصدمة الكبيرة ، وهي رد هديته من قبل صديقه ، بالإذعان والقبول ، وإنما هو يطلب من النبي إرسال دعاته إلى بلاد نجد ، ويقبل أن يتحمل مسؤولية حمايتهم ، وكونهم في جواره.
هذا كله .. عدا عن طلبه الاستشفاء بالنبي «صلىاللهعليهوآله» وعمله بما أرسل به إليه.
مع أننا نجد ابن أخيه عامرا على العكس من ذلك تماما ؛ حيث يثيره
__________________
(١) راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٢.
تشميت النبي لغلام حمد الله ، وعدم تشميته له ، وهو لم يحمد الله. ثم يتنامى به الأمر ، ويتعاظم حتى يرتكب تلك الجريمة النكراء ، بأسلوب رخيص ولئيم ، أقل ما يقال فيه : إنه مجلبة للعار الدائم ، والذل المقيم .. والمخالف حتى لأعراف الجاهلية ، فضلا عن مناقضته لكل القيم والمثل والمبادئ الإنسانية.
فإن كان ما فعله أبو براء عن سياسة ودهاء فنعم السياسة تلك ، وحبذا هذا الدهاء ، وإن كان عن عقل وحكمة فالمجد والخلود لهذا العقل ، وتلكم الحكمة ، وإن كان عن قناعة وجدانية ونفحة إيمانية كانت قد بدأت تذكو في نفسه ، فما علينا إلا أن نقبل بالرواية القائلة : إنه قد أسلم قبل أن يموت. ونحن نود أن تكون هذه هي عاقبته ، وإن كنا لا نملك الدليل القاطع على ذلك.
المنطق القبلي مرفوض في الإسلام :
وبعد .. فقد رأينا النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» ليس فقط لا يؤيد ما فعله عمرو بن أمية الضمري ، من قتل الرجلين ، وإنما يعبر عن إدانته واستيائه من هذا الأمر.
ثم هو يتعهد بأن يدي الرجلين ، ويفعل ذلك.
وإذا أردنا أن لا نقبل بكون الرجلين كانا قد أسلما حقيقة بقرينة : أنهم يقولون : إنه «صلىاللهعليهوآله» أعطى دية حرين مسلمين.
فإننا لا بد أن نستفيد من موقف النبي «صلىاللهعليهوآله» هذا حتى ولو كانا كافرين إدانة صريحة للمنطق الجاهلي القبلي الذي يبيح للإنسان أن