سرّ الفصاحة

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي

سرّ الفصاحة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي


المحقق: داود غطاشة الشّوابكة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN: 9957-07-444-X
الصفحات: ٣٢٧

القارىء يؤدي حروف أبي عمرو بأعيانها من غير زيادة ولا نقصان.

وقد اختلفوا في تسمية الناقة الضامر حرفا ، فقال قوم : أي : أنها قد حدّدت أعطافها بالضمر. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : لأنها انحرفت عن السمن ، وقال غيره : شبّهت بحرف الجبل في الشدة والصلابة ، وزعم بعضهم أنها شبهت بحرف السيف في مضائه ، وقال آخرون : شبهت بالهاء من الحروف لدقتها وتقويسها ، وكل هذا راجع إلى ما تقدم.

ومنه سمي مكسب الرجل حرفة ، لأنه الجهة التي انحرف إليها ، وسموا الميل محرافا لدقته ، وأنشد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد :

كما زلّ عن رأس الشّجيج المحارف (١)

والتحريف في الكلام الميل والانحراف ، قال الله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء : ٤٦].

أما تسمية أهل العربية أدوات المعاني ـ نحو من ، وقد ـ حروفا فإنهم زعموا أنهم سموها بذلك لأنها تأتي في أول الكلام وآخره ، فصارت كالحروف والحدود له ، وقد قال بعضهم : إنما سميت حروفا لانحرافها عن الأسماء والأفعال ، وهي عندنا نحن كلام ، لأنها منتظمة من حرفين فصاعدا.

وأما قولهم للحروف التي في لغة العرب : حروف المعجم ، فليس بصفة للحروف ، لأن ذلك يفسد من وجهين : أحدهما : امتناع وصف النكرة بالمعرفة (٢) ، والثاني : إضافة الموصوف إلى صفته ، والصفة عند النحويين هي الموصوف في المعنى ، ومحال أن

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر في «ديوانه» ص ٦٦ ، وأوله :

يزلّ قتود الرّحل عن دأياتها

(٢) الممنوع نعت النكرة بالمعرفة وما هنا من باب الاضافة.

٢١

يضاف الشيء إلى نفسه (١) ، إلا أن أبا العباس المبرّد ذهب في ذلك إلى أن المعجم بمنزلة الاعجام كما تقول : أدخلته مدخلا ؛ أي : إدخالا ، وكما حكى أبو الحسن سعيد ابن مسعدة الأخفش أن بعضهم قرأ : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج : ١٨]. بفتح الراء أي : من إكرام ، فكأنهم قالوا ـ على هذا الوجه : حروف الإعجام ، ولم يجز أبو الفتح عثمان بن جنّى (٢) أن يكون قولهم : حروف المعجم بمنزلة قولهم : صلاة الأولى ، ومسجد الجامع ، قال : لأن معنى ذلك صلاة الفريضة الأولى ، ومسجد اليوم : الجامع ، فهما صفتان حذف موصوفهما وأقيما مقامهما ، وليس كذلك ـ حروف المعجم ـ لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم ، ولا حروف اللفظ المعجم ، وليس يبعد عندي ما أنكره أبو الفتح ، بل يجوز أن يكون التقدير : حروف الخط المعجم ، لأن الخط العربي فيه أشكال متفقة لحروف مختلفة عجم بعضها دون بعض ليزول اللبس ، وقد يتفق في غيرها من الخطوط أن تختلف أشكال الحروف فلا يحتاج إلى النقط ، فوصف الخط العربي بأنه معجم لهذه العلة ، وقيل حروف المعجم ، أي : حروف الخط المعجم ، كما يقال : حروف العربي ، أي : حروف الخط العربي ، وليس يمكن أن يعترض على هذا القول بأن يدعي أن وضع كلام العرب قبل خطهم ، وأن التسمية كانت لحروفه بحروف المعجم من حين تكلم به ، لأن قائل هذا يحتاج إلى إقامة الدلالة على ذلك ، وهي متعذرة لبعد العهد ، وفقد الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة ذلك ، لا سيما إثبات التسمية لهذه الحروف بأنها حروف المعجم قبل وضع الخط ، وكل ما يروى من ابتداء وضعه وأنه خرج على ما قيل من الأنبار وما يجري هذا المجرى فليس يثمر إلا الظن.

__________________

(١) إضافة الموصوف إلى صفته ليست من إضافة الشيء إلى نفسه ، لما بينهما من المغايرة التي تجعل هذا موصوفا وذلك صفة!

(٢) هو أبو الفتح عثمان بن جني ، من أئمة اللغة والأدب ، ولد بالموصل سنة ٣٢٢ ه‍ وتوفي ببغداد سنة ٣٩٢ ه‍. من مؤلفاته : «الخصائص» ، و «سر صناعة الإعراب» ، و «شرح ديوان المتنبي» ، و «اللمع في العربية» ، و «المحتسب في وجوه القراءات».

٢٢

فإذا قيل : أعجمت الكتاب ، فمعناه أزلت إبهامه ، كما يقال : أشكيته إذا أزلت ما يشكوه ، لأن هذه اللفظة في كلام العرب للإبهام والخفاء ، ومنه : رجل أعجم ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جرح العجماء جبار» (١) يريد البهيمة ، وعجم الزبيب وغيره أي : المستتر فيه ، وسموا صلاتي الظهر والعصر : عجماوين ؛ لأنه لا يفصح بالقراءة فيهما.

والحروف تختلف باختلاف مقاطع الصوت ، حتى شبه بعضهم الحلق والفم بالناي ، لأن الصوت يخرج منه مستطيلا ساذجا ، فإذا وضعت الأنامل على خروقه ووقعت المزاوجة بينها سمع لكل حرف منها صوت لا يشبه صاحبه ، فكذلك إذا وقع الصوت في الحلق والفم بالاعتماد على جهات مختلفة سمعت الأصوات المختلفة التي هي حروف ، ولهذا لا يوجد في صوت الحجر وغيره لأنه لا مقاطع فيه للصوت ، وليس يحتاج إلى حصر الحروف التي يتعلق بها ، وإنما الغرض ذكر ما في اللغة العربية التي كلامنا عليها ، لأن في غيرها من اللغات حروفا ليست فيها ، كلغة الأرمن وما جرى مجراها.

فحروف العربية تسعة وعشرون حرفا ، وهي : الهمزة والألف والهاء والعين والغين والخاء والقاف والكاف والضاد والجيم والشين والياء واللام والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء والفاء والباء والميم والواو ، فهذا ترتيبها في المخارج.

وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد (٢) لا يعتد بالهمزة ، ويجعل الحروف ثمانية وعشرين حرفا ، وقوله هذا عند النحويين مرفوض ، واعتلاله بأن الهمزة لا صورة لها مستكره غير مرضيّ لأن الاعتبار باللفظ دون الخط وهي ثابتة فيه ، ولو أن العرب لا خط لها كغيرها من الأمم لم يمنع ذلك من الاعتداد بجميع هذه الحروف المذكورة.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١٧١٠) والبخاري «فتح» (٦٩١٢) وأحمد (٢ / ٤٧٥) وغيرهم.

(٢) هو محمد بن يزيد بن عبد الاكبر الثمالي الأزدي ـ أبو العباس ـ المعروف بالمبرد. إمام العربية ببغداد في زمنه. ولد بالبصرة سنة ٢١٠ هجرية. وتوفي ببغداد سنة ٢٨٦ هجرية. من كتبه المطبوعة : «الكامل ، والمقتضب ، وشرح لامية العرب ، والمذكر والمؤنث والمراثي والتعازي» وغيرها.

٢٣

فأما الالف التي هي ساكنة أبدا ، فقد قالوا : إن واضع الخط : و، لا ، ى ، أتى ب «لا» على وزن ـ ما ـ لأن الألف ساكنة لا يصح الابتداء بها ، فجاء بحرف قبلها ليمكن النطق بها ويقع تمثيل ذلك ، وليس غرضه أن يبين كيف يتركب بعض هذه الحروف من بعض ، كما يقول المعلمون : لام ألف ، ولو أراد أن يبين التركيب لبينه في سائر الحروف ولم يقتصر على الألف مع اللام.

وقد قال أبو الفتح عثمان بن جنّى : إنهم إنما اختاروا لها حرف اللام دون غيره من الحروف ، لأن واضع الخط أجراه في هذا على اللفظ ، لأنه أصل للخط والخط فرع عليه ، فلما رآهم وقد توصلوا إلى النطق بلام التعريف بأن قدموا قبلها ألفا. نحو : الغلام والجارية ، لمّا لم يمكن الابتداء باللام الساكنة ، كذلك أيضا قدم قبل الألف في ـ لا ـ لاما توصلا إلى النطق بالألف الساكنة ، وكان في ذلك ضرب من المعارضة بين الحرفين.

ويمكن عندي أن يعترض على هذا القول بأن يقال : إن التي مع اللام في ـ الرجل والجارية ـ هي الهمزة ، وليست الألف الساكنة التي جاءت اللام معها في ـ لا ـ فكيف تجعل العلة في ورود اللام هنا مع الألف ورود الهمزة هناك مع اللام ، وليس بين الموضعين تناسب ولا معارضة كما ذكرت؟ وهل يصح أن يقال : إن الألف الساكنة التي لا يمكن أن يبتدأ بها في النطق بل يحتاج إلى حرف قبلها يتوصل بها إلى النطق بلام التعريف التي هي ساكنة مثلها ، وكل من الحرفين يحتاج إلى ما يحتاج إليه الآخر؟

فإن قيل : إن الهمزة التي مع اللام في ـ الرجل ـ هي ألف على الحقيقة ، وهي التي بعد اللام في قولهم ـ لا ـ وإن كانت ساكنة هناك ، قيل له : فما وجه إنكارك وإنكار أصحابك على أبي العباس المبرّد أنه لم يعتد بالهمزة في الحروف بل جعلها ثمانية وعشرين حرفا فقط (١)؟ أو ليس هذا منكم إنكارا للهمزة رأسا؟ وليس يحظر أن يجاب عن هذا الكلام إلا بأن كافة النحويين يطلقون على الهمزة التي مع لام التعريف أنها

__________________

(١) قد يجاب عن هذا بأنه خاص بهمزة الوصل ، فهي ألف على الحقيقة دون همزة القطع.

٢٤

ألف ، ومثل هذا لا يقنع ، لأن التعليل فيما ذكره أبو الفتح إذا قصر على الشبه في الاسم ضعف جدا واطرح.

ثم الكلام عليهم أيضا باق في قولهم : إن الهمزة في نحو ـ الرجل ـ ألف على الإطلاق ، مع اعتقادهم أن الألف هي الحرف الساكن أبدا في نحو ـ كتاب وغيره ـ والهمزة حرف غيره ، وإنكارهم على أبي العباس المبرد ما ذكرناه.

فأما نحن إذا سئلنا عن العلة في إيراد اللام مع الألف للتوصل بحرف متحرك دون غيرها من الحروف ، فمن جوابنا أن الغرض كان إيراد حرف متحرك للتوصل به ، والعادة جارية في مثل الموضع بمجيء همزة الوصل ، كما جاءت في نحو : اذهب وغيره ، فمنع من ذلك ما ذكره أبو الفتح من أنها تأتي مكسورة ، ولو جاءت قبل الألف مكسورة لانقلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها ، وانتقض الغرض ، فلما خرجت الهمزة بهذه العلة التي ذكرها كانوا في غيرها من الحروف بالخيار ، أي : حرف متحرك ورد صح به الغرض ، فأتوا باللام لغير علة ، كما خص واضع الخط بعض الحروف بشكل دون بعض لغير سبب ، وأمثال هذا الذي لا يعلّل كثيرة لا تحصى.

ويلحق هذه الحروف التي ذكرناها حروف بعضها يحسن استعماله في الفصيح من الكلام وبعضها لا يحسن ، فالتي تحسن ستة حروف : وهي النون الخفيفة التي تخرج من الخيشوم ، والهمزة المخففة ، وألف الإمالة ، وألف التفخيم ، وهي التي بها ينحى نحو الواو ، وذلك كقولهم في الزكاة : الزكوة ، والصاد التي كالزاي ، نحو قولهم في مصدر : مزدر ، والشين التي كالجيم ، نحو قولهم في أشدق : أجدق.

والحروف التي لا تستحسن ثمانية : وهي الكاف التي بين الجيم والكاف ، نحو : كلهم عندك ، والجيم التي كالكاف نحو قولهم للرجل : ركل ، والجيم التي كالشين ، نحو قولهم : خرشت والطاء التي كالتاء ، كقولهم : طلب ، والضاد الضعيفة ، كقولهم في أثرد : أضرد ، والصاد التي كالسين في قولهم : صدق ، والظاء التي كالثاء ،

٢٥

كقولهم : ظلم ، والفاء التي كالباء ، كقولهم : فرند (١).

ومخارج هذه الحروف ستة عشر مخرجا : ثلاثة في الحلق : فأولها من أقصاه : مخرج الهمزة والألف والهاء وهذا على ترتيب سيبويه ، وزعم أبو الحسن الأخفش أن الهاء مع الألف لا قبلها ولا بعدها ، ثم يليه من وسط الحلق : مخرج العين والحاء ، ثم من فوق ذلك مع أول الفم : مخرج الغين والخاء ، ثم من أقصى اللسان : مخرج القاف ، ومن أسفل ذلك وأدنى إلى مقدم الفم : مخرج الكاف ، ومن وسط اللسان بينه وبين الحنك الأعلى : مخرج الجيم والشين والياء ، ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس : مخرج الضاد ، ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى : مخرج اللام ، ومن طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا : مخرج النون ، ومن مخرج النون غير انه أدخل في ظهر اللسان : مخرج الراء ، ومما بين طرف اللسان : مخرج الصاد والزاي والسين ، ومما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا : مخرج الظاء والثاء والذال ، ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا : مخرج الفاء ، ومن بين الشفتين : مخرج الباء والميم والواء ، ومن الخياشيم : مخرج النون الخفيفة.

ومن هذه الحروف : المجهور والمهموس ، ومعنى الجهر في الحرف أنه أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النّفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت ، ومعنى الهمس فيه أن يضعف الاعتماد في الصوت حتى يجري معه النّفس ، والحروف المهموسة عشرة أحرف : وهي الهاء والحاء والخاء والكاف والسين والصاد والتاء والشين والثاء والفاء ، ويجمعها في اللفظ : ستشحثك خصفه ، وجمعت أيضا : سكت فحثه شخص ، وما سوى هذه الحروف هو المجهور.

ومنها أيضا : الرخو ، والشديد ، والذي بين الشديد والرخو ، فالشديد : الحرف الذي

__________________

(١) في المخطوط رسم المؤلف فوق كل حرف ما يشبهه ، فجيما صغيرة فوق حرف الكاف في «كلهم وركل وخرشت» وتاء صغيرة كذلك فوق حرف الطاء «من طلب» وهكذا حتى آخر الأمثلة.

٢٦

يمنع الصوت أن يجري فيه ، وهي ثمانية أحرف : الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والدال والتاء والباء ، ويجمعها في اللفظ : أجدك قطبت ، والتي بين الشديد والرخو ثمانية أحرف : وهي الألف والعين والراء واللام والياء والنون والميم والواو ، ويجمعها في اللفظ : لم يروعنا ، والرخوة : الحروف التي لا تمنع الصوت أن يجري فيها ، وهي ما سوى هذين القسمين المذكورين.

ومنها أيضا : المنطبقة والمنفتحة ، معنى الإطباق : أن يرفع المتلفظ بهذه الحروف لسانه ينطبق بها الحنك الأعلى فينحصر الصوت بين اللسان والحنك ، وهي أربعة أحرف : الصاد والضاد والطاء والظاء ، وما سواها من الحروف مفتوح غير منطبق.

ومن الحروف أيضا : حروف الاستعلاء وحروف الانخفاض ، ومعنى الاستعلاء : أن تصعد في الحنك الأعلى ، وهي سبعة أحرف : الحاء والغين والقاف والضاد والظاء والصاد والطاء ، وما سوى ذلك من الحروف منخفض.

ومنها : حروف الذلاقة ، ومعنى الذلاقة : أن يعتمد عليها بذلق اللسان ، وهو طرفه ، وذلق كل شيء حده ، وهي ستة أحرف : اللام والراء والنون والفاء والباء والميم ، وما سواها من الحروف فهي المصمتة.

وللحروف أيضا انقسام إلى الصحة والاعتلال والزيادة والأصل والسكون والحركة ، وغير ذلك مما أكثر علاقته بالنحو ، ولو ذكرناه في هذا الكتاب أطلناه ، وعدلنا عن الغرض في تقريبه ، وإنما أردنا ذكر ما لا يستغني عنه طالب معرفة الفصاحة التي لها يقصد ، وإليها ينحو ، فأما ما سوى ذلك فاللمحة تقنع منه ، واللمعة تغني فيه ، وفيما أوردناه من أقسام الحروف وأحكامها في هذا الفصل مقنع ، ولا يليق به الزيادة عليه والإسهاب ، لأنه كالطريق الذي نجتاز فيه إلى مرادنا ، ونتوصل بسلوكه إلى مقصدنا ، فاللبث به غير واجب ، والريث فيه غير محمود (١).

__________________

(١) أخذ ابن الأثير في كتاب «المثل السائر» ١ / ٤ على المؤلف أنه أكثر في كلامه ، من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها.

٢٧

فصل في الكلام

الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير ، وذكر السيرافي أنه مصدر ، والصحيح أنه اسم للمصدر ، والمصدر التكليم ، قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ولعل أبا سعيد تسمح في إيراد ذلك وقاله مجازا ، فأما الكلم فإنه اسم يدل على الجنس ، هذا مذهب أهل النحو في الأسماء التي يكون فيها الاسم على صورتين : تارة بالهاء وتارة بطرحها ، نحو : تمرة وتمر ، وبسرة وبسر ، وما أشبه ذلك ، على أن بعضهم قد جعل الكلم جمع كلمة ، لكن الأحرى على مذهبهم ما ذكرناه.

والكلمات جمع كلمة ، وقد حكى كلمة وجمعها كلم ، وروى أبو زيد أن العرب تقول : الرجلان لا يتكالمان ، يريد : لا يتكلمان وقد استدل على أن الكلام ليس مصدر بأن الفعل المستعمل منه إنما هو : كلمت ، وفعلت يأتي مصدره في القياس على مثال التفعيل ، نحو : كسرت تكسيرا ، ولا يأتي على لفظ آخر.

والكلام عندنا ما انتظم من هذه الحروف التي ذكرناها أو غيرها ، على ما بيناه من أننا لا نذكر إلا حروف اللغة العربية دون غيرها من اللغات ، وحده ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن تصح عنه أو من قبيله الإفادة ، وإنما شرطنا الانتظام لأنه لو أتى بحرف ومضى زمان وأتى بحرف آخر لم يصح وصف فعله بأنه كلام ، وذكرنا الحروف المعقولة لأن أصوات بعض الجمادات ربما تقطعت على وجه يلتبس بالحروف ولكنها لا تتميز وتتفصل كتفصيل الحروف التي ذكرناها ، واشترطنا وقوع ذلك ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة لئلا يلزم عليه أن يكون ما يستمع من بعض الطيور كالببغاء وغيرها كلاما ، وقلنا القبيل دون الشخص لأن ما يسمع من المجنون يوصف بأنه كلام ، وإن لم تصح منه الفائدة وهو بحاله ، لكنها تصح من قبيله ، وليس كذلك الطائر.

٢٨

فأما الدليل على صحة هذا الحد فهو أن الشروط التي ذكرناها فيه متى تكاملت صحّ الوصف بأنه كلام ، ومتى اختلّ بعضها لم يوصف بذلك ، وفيما ذكرناه تسمح ، وهو قولنا : لو أتى بحرف ومعنى زمان وأتى بحرف آخر ، لم يصح وصف فعله بأنه كلام ، وكذلك النطق بحرف واحد متعذّر وغير ممكن ، إذ لا بد من الابتداء بمتحرك والوقوف على ساكن ، وما يمكن ذلك في أقل من حرفين : الأول منهما متحرك والثاني ساكن ، وهو الذي يسميه العروضيون سببا خفيفا ، وبهذا أجاب أصحابنا من ألزمهم على هذا الحدّ الذي ذكرناه أن يكون «ق» و «ع» في الأمر ليس بكلام ، لأنه حرف واحد ، وقالوا : إن المنطوق به في هذا القول حرفان ، والغنّة التي وقف عليها عند السكت هي حرف وإن لم تثبت في الخط ، وبينوا أن النطق بحرف واحد غير ممكن للعلة التي ذكرناها ، وبهذا الجواب غنوا عما قاله أبو هاشم : من أن الأصل في هاتين اللفظتين عند الأمر «أوق» و «أوع» وإنما حذف ذلك لضرب من التصريف ، والمحذوف مقدّر في الكلام مراد ، فعاد الأمر إلى أن الحرف الواحد لا يفيد ، وإذا كنا قد بينّا التّسمح فيما ذكرناه فوجه العذر فيه أنه لو أمكن فرضا وتقديرا أن ينطق بحرف واحد لم يكن كلاما ، وإن كان الصّحيح أن ذاك غير ممكن لما بيناه.

وقد ألزمنا على هذا الحد الذي ذكرناه أن يكون الأخرس متكلما ، لأنه قد يقع منه حرفان ، والتزم أصحابنا ذلك وقالوا : إن الأخرس يمكن أن يقع منه أقل قليل للكلام ، وفيهم من احترز من ذلك وقال في أصل الحد : ما انتظم من حرفين مختلفين ، وادّعى أن الأخرس لا يقع منه ذلك ، وطعن على هذا القول بأنه غير ممتنع أن يقع من الأخرس حرفان مختلفان ، والمعتمد التزام ذلك ، والقول بجوازه.

وليس يجوز أن يشترط في حد الكلام كونه مفيدا على ما يذهب اليه أهل النحو ومضى في بعض كلام أبي هاشم ، وذلك أنا وجدنا أهل اللغة قد قسموا الكلام إلى : مهمل ومستعمل ، والمهمل : ما لم يوضع في اللغة التي أضيف أنه مهمل إليها ، لشيء من المعاني والفوائد ، والمستعمل : هو الموضوع لمعنى أو فائدة ، فلو كان الكلام هو المفيد عندهم وما لم يفد ليس بكلام لم يكونوا قسموه إلى قسمين ، بل كان يجب أن

٢٩

يسلبوا ما لم يفد اسم الكلام رأسا ، لا أن يجعلوه أحد قسميه ، على أن الكلام إنما يفيد بالمواضعة ، وليس لها تأثير في كونه كلاما ، كما لا تأثير لها في كونه صوتا ، وأي دليل على أن اسم الكلام عندهم غير مقصور على المفيد أوكد من تسميتهم للهذيان الواقع من المجنون وغيره كلاما ، وليس يمكن دفع ذلك عنهم ولا إنكاره ، وقد وجدت أبا طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي ينصر في كتابه الموسوم بالبرهان في شرح الإيضاح ما يذهب إليه النحويون في هذه المسالة ، فلما تأملته وأنعمت النظر فيه لم أجده معتمدا فيما ادّعوه ، وأنا أحكيه وأتبعه ببيان عدم الدلالة منه ، قال أبو طالب : وهذا اللفظ من الكلام فإنه يكون واقعا على المفيد منه لا على غيره ، ألا ترى أن سيبويه رحمه‌الله قال : واعلم أنّ ـ قلت ـ إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما لا قولا ، وفسر معنى هذا القول ، فإن قلت : ألست تقول لمن نطق وأظهر كلمة واحدة قد تكلم وإن لم يكن ما ذكره جملة؟ قيل : قال : أقول : تكلم ، ولا أقول : قال كلاما ؛ لأن الكلام ما وقع على الجمل ، من حيث ذكرت أن ـ كلاما ـ إنما وقع على أن يكون إسما للمصدر ونائبا عنه ـ وذلك المصدر (١) موضوع للمبالغة والتكثير ، ألا ترى أنك تقول : فعلت كذا وكذا ولفظ كذا يحتمل أن يكون قليلا ، وبابه القلة ، وإذا قال : فعّلت ـ بتشديد العين ـ لم يكن إلا للتكثير ، وزال عنه معنى القلة من أجل التشديد ، فإذا كان الأمر على هذا وكان الكلام جاريا على لفظ أن لفظ ـ فعّل ـ للمبالغة وجب أن يراد به التكثير ، وأقلّ أحوال التكثير والتكرير أن يكون واقعا على جملة ، فإن قيل : فإن الفعل المستعمل من هذا اللفظ لا يكون على وجهين : إذا أريد التقليل كان خفيفا ، وإذا أريد التكثير ثقّل ، كما نجد ذلك في ـ ضرب وضرّب ـ وذلك أنه لم يجىء فيه إلا ـ كلّمت البتة ، قيل : أليس قد تقرر أن لفظ : فعّل ، للتكثير والتكرير ، فينبغي أن توفى حق لفظها ، وكونها على حالة واحدة عندي أبلغ في المعنى ، حتى صارت عندهم لفظة لا تستعمل إلا

__________________

(١) يعني التكلّم.

٣٠

للمبالغة ، من حيث كان الكلام أجلّ ما يوصف به الإنسان حتى ، قال الشاعر : (١)

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلّا صورة اللحم والدم

وقال قبل البيت (٢) :

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلّم

ولآخر (٣) :

وممّا كانت الحكماء قالت

لسان المرء من خدم الفؤاد

ويقال لأهل الدين والكلام عليه : فلان متكلم ، فلو لا أنها شيمة شريفة ، وصفة مبالغة ، لما وصف بذلك ، ثم يقال للانسان الذي يورد ما تقل فائدته : هذا ليس بكلام ، فقد بان بما ذكرته موضع المبالغة في قولهم : فلان متكلم ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن من البيان لسحرا» (٤) ، فأمّا ما جاء من قوله :

فصبّحت والطير لمّا تكلّم

وقوله :

عجبت لها أنى يكون غناؤها

فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما

فمجاز لا حقيقة له ، كما قيل :

إلى ملك أظلافه لم تشقّق (٥)

__________________

(١) هو زهير بن أبي سلمى ، والأبيات من معلقته ، في «شرح المعلقات السبع» للزوزني ص ٢٤٥.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٤٤.

(٣) «ديوان أبي تمام» (ط دار المعارف) ١ / ٣٧٥ من قصيدة في مدح ابن أبي داود.

(٤) أخرجه ابن حجر في «فتح الباري» حديث رقم (٥١٤٦) من حديث ابن عمر.

(٥) هذا عجز بيت للشاعر عقفان بن قيس بن عاصم وأوله :

سأمنعها أو سوف أجعل أمرها

أسرار البلاغة للجرجاني ٤٤.

٣١

وكما أنشد سيبويه :

وداهية من دواهي المنو

ن ترهبها الناس لا فا لها (١)

فجعل للداهية «فما» استعارة ، وكشف هذا شاعر محدث فقال :

وسألت من لا يستجيب فكنت في اس

تخباره كمجيب من لا يسأل (٢)

ويكشف هذا المعنى للمتأمل أن العرب لشرف الكلام عندهم وأن القليل المفيد منه عندهم كثير يقولون : «وقال فلان في كلمته» يريدون القصيدة ، وكشف هذا المتأخّر ما أريد فقال :

ورسائل قطع العداة سحاءها

فرأوا قنا وأسنّة وسنّورا (٣)

وهل هو إلا كلام ، وقد ترى تفصيله إيّاه بالقنا والسنّور ، وقد قال الأول :

والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر

وقال آخر (٤) :

فإن القوافي يتّلجن موالجا

تضايق عنها أن تولّجها الإبر

وهذا كله إنما أوردته نصرا لنطقهم بتكلّم مثقل العين على لفظ المبالغة ، ولم يستعملوه على وجهين مخففا ومثقلا.

فيقال لأبي طالب : إن كنت أوردت ما ذكرته عن سيبويه على وجه الإستدلال به فلا حجة فيه ، لأنا لسنا نخالفك في هذه المسألة وحدك ، وإنما نخالف فيها سيبويه وغيره من النحويين الذين ذهبوا إلى أن الكلام هو المفيد دون غيره ، وكيف يكون قول خصومنا

__________________

(١) هذا البيت من رواية سيبويه ، والبيت للخنساء ، ومعنى لا فالها : لا مدخل الى معاناتها والتداوي منها ، أي : هي داهية مشكلة ، الكتاب ١ / ١٥٩ ، «شرح المفصّل» ١ / ١٢٢.

(٢) البيت للبحتري في «ديوانه» (١ / ٢٧).

(٣) السحاء : ما يشد به الكتاب والرسالة ، والسنور : الدروع «ديوان المتنبي» (٢ / ٢٨٩).

(٤) هو طرفة بن العبد.

٣٢

علينا حجة من غير أن يعتمدوا إلا على نفس الدعوى؟ فإن ذهب إلى أن قول سيبويه وأمثاله في هذا حجة ، واستطرف الإفصاح بخلافه ، قلنا : إن كان هذا لحسن الظن به فذلك أليق بالمتكلمين الذين هم أصحاب التحقيق والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء ، وعللهم هي الصحيحة المستمرة الجارية على منهج واضح وسبيل مستقيم ، وإنما غيرهم بالإضافة إليهم خابط عشواء ، وحاطب ليل ، فإن جاز الاعتصام بتقليد سيبويه كان الاعتصام بالدخول في شعب هؤلاء أحرى وأولى ، وإن قيل : إن اتباع النحويين في مثل هذا الباب أسوغ ، لأنهم أهل هذا الشأن ، وأرباب هذه الصناعة ، قلنا : إنما يجب اتباعهم فيما يحكونه عن العرب ويروونه وليس هذه المسألة من قبيله ، بل العرب مجمعون معنا على تسمية الكلام المفيد وغير المفيد بأنه كلام ، وليس يمكن جحد ذلك عنهم.

فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل النحويون به لم يثبت منه إلا الفذّ الفرد ، بل ولا يثبت شيء البتة ، ولذلك كان المصيب منهم المحصّل من يقول : هكذا قالت العرب ، من غير زيادة على ذلك ، فربما اعتذر المعتذر لهم بأن عللهم إنما ذكروها وأوردوها لتصير صناعة ورياضة ، ويتدرب بها المتعلم ، ويقوى بتأملها المبتدىء ، فأما أن يكون ذلك جاريا على قانون التعليل الصحيح والقياس المستقيم ، فذلك بعيد لا يكاد يذهب اليه محصّل ، على أنه قد يمكن أن يقال : إن المتقدمين من أهل النحو تواضعوا في عرفهم على أن سموا الجمل المفيدة كلاما دون ما لم يفد ، لا أن ذلك على سبيل التحقيق ، كما أنهم سموا هذه الحوادث الواقعة ـ كضرب وقتل ـ أفعالا. ولو عدلنا إلى التحقيق ورفض عرفهم كانت أسماء لما وقع من الحوادث ، فأما تسليمه أن كل من نطق بكلمة واحدة يقال له : تكلم ، ولا يقال : قال كلاما ، واعتلاله بأن ـ كلاما ـ وقع إسما لمصدر ونائبا ، وذلك المصدر موضوع للتكثير فيجب أن يوفى حقه ، فمن طريف ما يعتمد عليه. وذلك أن التكثير موجود في لفظ ـ تكلم ـ وقد أجازه مع القلة ، فكيف لم يجز ذلك مع المصدر الذي ليس في لفظه التكثير ، وإنما هو نائب عن ذلك في لفظه ،

٣٣

فإذا جاز هذا في الأصل فهو فيما ينوب أسوغ وأليق.

وأما قوله : إنهم لم ينطقوا في الكلام إلا بفعّل التي هي للتكثير لشرف الكلام عندهم ، فذلك هو الحجة في إطلاق لفظ الكلام وتكلّم على القليل الذي ليس بمفيد لما ذكره من الشرف والمبالغة.

وأما استدلاله على شرف الكلام عندهم بالأبيات التي ذكرها فمما يمكن إيراد مثله ، إلا أن ذكره :

ومما كانت الحكماء قالت

لسان المرء من خدم الفؤاد (١)

لا أعلم موقع الدلالة منه على شرف الكلام ، وهو بالدلالة على تشريف الفؤاد والوضع من اللسان بأنه خادمه أليق.

وأما قوله : إنهم يقولون للإنسان الذي يورد ما تقل فائدته : هذا ليس بكلام ، قلنا : ذلك وأمثاله إنما يورد على سبيل الجواز والإسراف في المبالغة ، كما يقال للرجل البليد : ليس بإنسان ، وللفرس البطيء : ليس بفرس ، لا أنّ ذلك على الحقيقة ، وهذا ممّا لا تدخل في مثله شبهة.

وأما قوله : إن العرب ، لشرف الكلام عندهم وأن القليل المفيد منه كثير ، يقولون : قال فلان في كلمته ، يريدون القصيدة ، فذلك كله وأمثاله هو الوجه في اقتصارهم على لفظ التكثير في الكلام ، أفاد أو لم يفد ، دون الألفاظ التي لم توضع للتكثير.

وقد حدّ الكلام بحدود غير صحيحة ، كحد بعض النحويين له بأنه فعل المتكلم ، وذلك ينتقض بجميع أفعاله الحادثة منه في حال كلامه ، كالضرب وما أشبهه ، على أن من عقل كونه متكلما عقل الكلام ولم يحتج إلى حده ، وكذلك حد بعض المتكلمين له بأنّه ما أوجب كون المتكلم متكلما ، وقول غيره : ما يقوم بذات المتكلم ، لأن هذا كله فرع على عقل المتكلم وتحققه ، وذلك لا يتم إلا بعد المعرفة بالكلام ، وما يقوم

__________________

(١) سبق تخريجه ص ٣١.

٣٤

بذات المتكلم ينتقض بكل ما يقوم به من العلم والقدرة والحياة ، ثم السؤال فيه باق ، لأنه إذا قيل : فهذا الذي أوجب كون المتكلم متكلما أو قام بذاته ما هو؟ فلا بدّ من الرجوع إلى ما قدّمناه من حده.

وإذا كان كلامنا مبنيا على أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه ، وكان أبو علي الجبّائي يذهب إلى أنّ جنس الكلام يخالف جنس الصوت ، فلا بد من بيان ما ذهبنا إليه وفساد ما عداه ، والذي يدل على أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه أنه لو كان غيره لجاز أن يوجد أحدهما مع عدم الآخر على بعض الوجوه ، لأن هذه القضية واجبة في كل غيرين لا تعلق بينهما ، ولمّا استحال أن توجد الأصوات المقطعة على وجه مخصوص ولا تكون كلاما ، أو الكلام من غير صوت مقطّع ، دلّ على أنه الصوت بعينه.

فأما من ذهب إلى أن الكلام معنى في النفس من المجبّرة (١) فإن الذي حملهم على هذا المذهب الواضح الفساد ظهور أدلة نظّار المسلمين (٢) على حدوث هذا الكلام المعقول ، وتقديم بعض حروفه على بعض ، فلم يتمكنوا من الاعتراف بأنه من جنس الأصوات المتقطعة ، مع القول بأن كلام الله عزّ اسمه قديم ، فادعوا لذلك أن الكلام غير هذا الصوت المسموع ، وأنه معنى قائم في النفس ، ليسوغ لهم قدمه على بعض الوجوه ، فلجأوا من الاعتراف بالحق والانقياد بزمامه إلى محض الجهل وصرف الضلال ، ولو تجنّب خطابهم على هذا القول وعوّل في إفساده على حكاية مذهبهم لأغنى ذلك عند كافّة المحصّلين ، ولم يفتقر إلى استئناف دليل عليهم غير التأمل لما يدعونه ، والعجب مما يلتزمونه ويصرّحون به ، وحمدا لله تعالى على ما أنعم به من الإرشاد ومنحه من الهداية ، لكن قد جرت عادة أهل العلم معهم بإيضاح الحق وإن كان غير خاف ، والتنبيه على الصواب وإن كان ليس بمشكل ، في جميع المذاهب التي تفرّدوا بها ، وإن جرت في البعد مجرى هذا المذهب ، فنحن نستدرك عليهم في هذه المسألة على طريقة

__________________

(١) هم من الفرقة الجبريّة التي تقول إنّ العبد مجبور وليس بمختار.

(٢) يعني أصحابه من المعتزلة القائلين : إن القرآن مخلوق وليس بقديم.

٣٥

أصحابنا ونذكر ما قالوه ، وإن كنا غير محتاجين إلى ذلك.

والذي يدل على أن الكلام ليس بمعنى في النفس أنه لو كان معنى زائدا على المعاني المعقولة الموجودة في القلب كالعلم وغيره ، لوجب أن يكون إلى معرفته طريق من ضرورة أو دليل ، ولو كان ضرورة لوجب اشتراك العقلاء في المعرفة به. ولم يحسن الخلاف بينهم فيه ، والمعلوم غير ذلك ، ولو كان عليه دليل لكان من ناحية حكم يظهر له ، ويتوصل به إلى إثباته ، كما يتوصل بأحكام الذوات إلى إثباتها ، ومعلوم أنه لا حكم يمكن أن يشار إليه في هذا الباب.

فإن قيل : الصّوت المسموع طريق إلى إثبات الكلام القائم في النّفس ، قلنا : ليس يخلو من أن يكون طريقا إليه بأن يعلم عنده أو يستدل به عليه ، فإن كان الأوّل وجب أن يعلم كل من سمع الكلام الذي هو الصوت الواقع على بعض الوجوه شيئا آخر عنده ، ومعلوم خلاف ذلك ، وإن كان يستدل به عليه ، فالكلام المسموع إنما يدل على ما لولاه لما حدث ـ وهو القدرة ـ أو ما لولاه لم يقع على بعض الوجوه ـ وهو العلم والإرادة ـ فأما ماسوى ذلك فلا دلالة عليه لنفي التّعلّق.

فإن قيل : كل عاقل يجد في نفسه عند الكلام أمرا يضايقه ويدبر في نفسه ما يريد أن يتكلّم به ، حتى يخطب الخطبة وينشد القصيدة من غير أن يحرّك لشيء من ذلك جارحة بحال من الأحوال ، وذلك يبيّن أن الكلام معنى قائم في النّفس ، قلنا : كل أمر يجده الإنسان من نفسه عند الكلام معقول ـ وهو العلم بكيفية ما يوقعه منه ، أو الظن له ، وكيفية فعله ـ فإن أشير إلى بعض ما ذكرناه بالكلام صحّ المعنى وعاد الخلاف إلى عبارة ، وإن أريد غيره فليس بمعقول ، وههنا جواب آخر : وذلك أن الإنسان يفعل كلاما خفيا في داخل صدره ويقطعه بالنفس فيكون كلاما بالحقيقة ، وإن كان غير مسموع له ، ثم إن أحدنا قد يحدث نفسه بنسج ثوب أو بناء دار ، فيظن أن ذلك مصور في نفسه قبل الفعل ، وليس يجب لذلك أن يكون البناء أو النساجة معنى في النفس ، بل ذلك علم بكيفية إيقاع كل واحد منهما حسب ما بيناه في الكلام ، فأما تعلقهم بحسن قول القائل : في نفسي كلام ، ففاسد ؛ لأنه توصّل إلى إثبات المعاني بالعبارات ، ولا يعول على ذلك

٣٦

محصّل ، على أن من يطلق هذا القول لا يخلو من أن يكون أطلقه عن علم أو عن غير علم ، فإن كان أطلقه عن غير علم فلا حجّة في إطلاقه ، وإن كان عن علم لم يخل أن يكون ضروريا أو مكتسبا ، فإن كان ضروريا وجب اشتراك العقلاء فيه ولم يحسن الخلاف بينهم ، وليس الأمر كذلك ، وإن كان مستدلا عليه فالواجب إيراد الدليل الذي اقتضى إطلاق هذه العبارة ليقع النظر فيه.

وبعد : فإن الانسان قد يطلق أيضا فيقول : في نفسي بناء دار ، ونسج ثوب ، كما يقول : في نفسي كلام ، فهل يدل ذلك على أن البناء والنساجة معنيان في النفس ، كما دلّ عندهم على أن الكلام معنى فيها؟ ثم إنّ لقول القائل : في نفسي كلام وجها صحيحا ، وذلك أن المعنى : أني عازم عليه ومريد له ، ولهذا لو أبدلوا هذا اللفظ مما ذكر لقام مقامه في الفائدة ، وأما تعلقهم بأن الساكت يقال فيه : إنه متكلم ، فليس بصحيح ؛ لأن المراد بذلك إمكان الكلام منه ، أو إضافته إليه على طريق الصناعة ، كما يقال للصانع في حال هو لا يصوغ فيها : إنه صائغ ، وكذلك سائر الصنّاع ، ثم هو مع ذلك استدلال بالمعاني على العبارات وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم.

والكلام مما لا يوجب حالا للمتكلم ، إذ لا طريق إلى إثبات ذلك من ضرورة أو استدلال ، ولا فرق بين من ادّعى في الكلام أنه يوجب حالا وبين من ادّعى ذلك في جميع الأفعال كالضرب وغيره ، وأيضا فإن الكلام يوجد في الصدر ونكون نحن المتكلمين به ، ومن شأن ما ينفصل عن الحي ألّا يوجب له حالا ، ولأن كل ما أوجب للحيّ حالا لا يصح وجوده في محل لا حياة فيه كالعلم والقدرة ، والكلام يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة ، لا لشيء من أحواله وهو قبل المواضعة ، إذ لا اختصاص له ، ولهذا جاز في الاسم الواحد أن تختلف مسمّياته لاختلاف اللغات ، وهو بعد وقوع التواضع يحتاج إلى قصد المتكلم له واستعماله فيما قررته المواضعة ، ولا يلزم على هذا أن تكون المواضعة لا تأثير لها ، لأن فائدة القصد أن تتعلق تلك العبارة بالمأمور ، وتؤثر في كونه أمرا به ، فالمواضعة تجري مجرى شحذ السكين وتقويم الآلات ، والقصد يجري مجرى استعمال الآلات بحسب ذلك الإعداد.

٣٧

والكلام على ضربين : مهمل ومستعمل ؛ فالمهمل : هو الذي لم يوضع في اللغة التي قيل له : مهمل ، لشيء من المعاني والفوائد ، والمستعمل : هو الموضوع لمعنىّ أو فائدة ، وينقسم إلى قسمين : أحدهما : ما له معنى صحيح وإن كان لا يفيد فيما سمي به ، كنحو الألقاب ، مثل قولنا : زيد وعمرو ، وهذا القسم جعله القوم بدلا من الإشارة ، والفرق بينه وبين المفيد أن اللقب يجوز تبديله بغيره وتغييره ، واللغة على ما هي عليه ، والمفيد لا يجوز ذلك فيه ، والقسم الثاني : هو المفيد ، وهو على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يبيّن نوعا من نوع ، كقولنا : كون ولون. وثانيهما : أن يبين جنسا من جنس ، كقولنا : جوهر وسواد. وثالثهما : أن يبيّن عينا من عين ، كقولنا : عالم وقادر ، والمفيد من الكلام ينقسم إلى قسمين : حقيقة ومجاز ، فاللفظ الموصوف بأنه حقيقة هو ما أريد به ما وضع لإفادته ، والمجاز هو اللفظ الذي أريد به ما لم يوضع لإفادته ، والكلام المفيد يرجع كله إلى معنى الخبر ، ومتى اعتبرت ضروبه وجدت لا تخرج عن ذلك في المعنى ، أما الجحود والتشبيه والقسم والتّمنّي والتّعجّب فالأمر في كونها أخبارا في المعنى ظاهر ، وأما الأمر فيفيد كون الآمر مريدا للفعل ، فمعناه معنى الخبر هذا المجرى ، والعرض فهو سؤال على الحقيقة ، فأما النداء فقد اختلف فيه ، فقيل : معنى يا زيد ، أدعو زيدا ، وهذا على الحقيقة خبر ، وقيل : المراد به : أقبل يا زيد ، وعلى هذا المعنى فهو داخل في قسم الأمر ، وأما التحضيض فهو في معنى الأمر ، لأنه ينبىء عن إرادة المحضّض للفعل.

وإذا كنا قد بينا حد الكلام وحقيقته فينبغي أن نذكر حقيقة المتكلم فنقول : إن المتكلم من وقع الكلام الذي بيّنا حقيقته بحسب أحواله من قصده وإرادته واعتقاده وغير ذلك من الأمور الراجعة إليه حقيقة أو تقديرا ، والذي يدل على ذلك أن أهل اللغة متى علموا أو اعتقدوا وقوع الكلام بحسب أحوال أحدنا وصفوه بأنه متكلم ، ومتى لم يعلموا ذلك أو يعتقدوه لم يصفوه ، فجرى هذا الوصف في معناه مجرى وصفهم لأحدنا بأنه ضارب ومحرك ومسكن وما أشبه ذلك من الأفعال ، ومن دفع ما ذكرناه في الكلام وإضافته إلى المتكلم تعذر عليه أن يضيف شيئا على سبيل الفعليّة ، لأنّ الطريقة واحدة ،

٣٨

ولا يلزم على ما ذكرناه إضافة كلام النائم أو الساهي إليهما ، وإن لم يقع بحسب المقصود ، وذلك أننا لم نقتصر على ذكر المقصود والدواعي دون جملة الأحوال ، والكلام يقع من النائم والساهي بحسب قدرتهما ولغتهما ، واللثغة العارضة في لسانهما وغير ذلك من أحوالهما ، على أنا قد احترزنا بذكر التقدير في كلامنا ، لأن من المعلوم أن كلام النائم لو كان قاصدا لوقع بحسب قصده ، وإنه مخالف لكلام غيره ، ويدل على ما ذكرناه أيضا أنهم يضيفون الكلام المسموع من المصروع إلى الجني ، لمّا اعتقدوا تعلقه بقصده وإرادته ، وهذا وإن كان خطأ منهم وجهلا فلا يغير دلالتنا منه ، لأنا إنما استدللنا باستعمالهم على وجه لا فرق بين أن تكون تلك الاعتقادات علما أو جهلا ، كما يستدل على أن لفظة إله في لغتهم موضوعة لمن يحق له العبادة بوصفهم للأصنام بأنها آلهة ، لمّا اعتقدوا أن هذه العبادة تجب لها ، وإن كان هذا الاعتقاد منهم في الأصنام فاسدا ، فإن قالوا : إنهم إنما أضافوا الكلام المسموع من المصروع إلى الجني لما اعتقدوا أن الجني قد سلكه وخالطه ، وأن الكلام حالّ في الجني دونه ، فيعود الأمر إلى أن المتكلم بالكلام من حلّه ، قلنا له : ليس يعتقدون أن آلة المصروع ولسانه قد صارا للجنّي دونه ، لأنهم لا يضيفون إلى الجني كل كلام يسمع من المصروع ، كالتسبيح والقراءة وما يجري مجراهما مما يعتقدون أن الجني لا يقصده ، وإنما يضيفون إليه ما يعتقدون أنه لا يكون من مقصود غير الجني ، فدلّ هذا على أنهم لا يضيفون الكلام إلا إلى من وقع بحسب أحواله وقصوده على ما قدمناه ، ويدل أيضا على ما ذهبنا إليه أن الكلام الذي يوجد في الصدى يستحيل أن يكون كلاما له ، أو للقديم تعالى ، لأنه ربما كان كاذبا أو عبثا ، وهو عز اسمه يتنزّه عن ذلك ، أو كلاما لا لمتكلم به ، فيجب أن يكون كلاما لمن فعل أسبابه ووجد بحسب دواعيه وقصوده ، وليس لهم أن يمتنعوا من وجود الكلام في الصدى ، فأما حدهم للمتكلم بأنه من له كلام فإحالة على مبهم ، والسؤال باق ، لأنه يقال : فكيف صار الكلام له ، أبأن حله أو بأن فعله؟ فلا بدّ من التفسير ، وهذه اللفظة ـ أعني قولهم : إن له كذا ـ تحمل أمورا مختلفة المعاني : منها إضافة البعض إلى الكل ،

٣٩

كقولهم : له إحسان ونعمة ، ومعنى الحلول ، كما يقال : له طعم ولون ، وما يحتمل أمورا مختلفة لا يجوز أن يحدّ به في الموضع الذي يقصد فيه التمييز وكشف الغرض.

ولما كنا قد ذكرنا طرفا من القول في حقيقة الكلام والمتكلم فيحتاج إلى نبذ من الكلام في الحكاية والمحكى ، ليكون هذا الفصل مقنعا فيما وضع له ، والذي كان يذهب إليه أبو الهذيل محمد بن الهذيل (١) وأبو علي محمد بن عبد الوهاب (٢) أن الحكاية هي المحكى ، وأن التالي للقرآن يستمع منه كلام الله على الحقيقة ، وأن البقاء يجوز على الكلام ويوجد في الحال الواحدة في الأماكن الكثيرة ، فيوجد مع الصوت مسموعا ، ومع الكتابة مكتوبا ، ومع الحفظ محفوظا ، ويجري في وجوده في الأماكن الكثيرة في الوقت الواحد ، والأجسام إنما توجد في الأماكن على البدل ، ثم قال أبو علي بعد ذلك : إن التالي للقرآن يوجد مع تلاوته كلامان : أحدهما من فعله ، والآخر : هو كلام الله تعالى ، والذي كان يقوله أبو هاشم ـ وقد ذهب إليه قبله جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ـ : إن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه ، ولا يجوز عليه البقاء ، ولا يوجد إلا في المحل الواحد ، والحكاية غير المحكى وإن كانت مثله ، والقارىء لا يسمع منه إلا ما فعله ، والقراءة غير المقروء ، والكتابة غير الكلام ، وإنما هي أمارات للحروف ، والحفظ هو العلم بكيفية الكلام ونظمه ، وعلى هذا القول أكثر الشيوخ ، وهو الصحيح الذي لا شبهة فيه ، والذي يدل على أننا قد بينا فيما تقدم أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه بما لا فائدة في إعادته ، وأما الصوت فلا شبهة في أنه غير باق لما بيناه أيضا ، وإذا كان الكلام هو الصوت ـ والصوت لا يجوز عليه البقاء ـ فكيف يقال : إنه يوجد معها

__________________

(١) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي ، مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف ، من أئمة المعتزلة. ولد بالبصرة سنة ١٣٥ هجرية ، اشتهر بعلم الكلام. قال عنه المأمون : أطل أبو هذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام ، له مقالات في الإعتزال ومجالس ومناظرات. وكان حسن الجدل ، قوي الحجة ، كف بصره في آخر عمره وتوفي بسامراء سنة ٢٣٥ هجرية.

(٢) سبق ترجمته ، وهو أبو علي الجبّائي.

٤٠