شرح الكافية الشّافية - ج ٢

أبي عبد الله جمال الدين محمّد بن عبد الله بن محمّد بن مالك الطائي الجياني الشافعي

شرح الكافية الشّافية - ج ٢

المؤلف:

أبي عبد الله جمال الدين محمّد بن عبد الله بن محمّد بن مالك الطائي الجياني الشافعي


المحقق: علي محمّد معوّض
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2874-4
الصفحات: ٦٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

ويحتمل الوجهين قول امرئ القيس : [من الطويل]

فقلت له : لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (١)

وتقدير : «إلّا» و «إلى» فى موضع «أو» تقدير لحظ فيه المعنى دون الإعراب.

والتقدير الإعرابى المرتب على اللفظ أن يقدر قبل «أو» مصدر ، وبعدها «أن» ناصبة للفعل ، وهما فى تأويل مصدر معطوف بـ «أو» على المقدر قبلها ؛ فتقدير : «لأنتظرنّه أو يقدم» ليكونن انتظار أو قدوم ، وتقدير : «لأقتلنّ الكافر أو يسلم» : ليكونن قتله أو إسلامه ؛ وكذا لك العمل فى غيرهما.

ثم بينت أن «حتّى» ينتصب الفعل بعدها أيضا بـ «أن» واجبة الإضمار.

والغالب كون ما بعدها فى النصب غاية لما قبلها كقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه : ٩١].

وقد تكون للتعليل ، وعلامتها أن يحسن فى موضعها «كى» نحو قولى :

 .......

«جد حتّى تغيظ ذا الحسد»

ولا يكون الفعل فى الحالين إلا مستقبلا ، حقيقة أو حكما.

فإن كان حالا أو فى تقدير الحال لم يكن إلا مرفوعا ، فالحال المحقق كقولك ـ لمن تكلمه ـ : «طلبت لقاءك حتّى أحدّثك الآن» ، و «سألت عنك حتّى لا أحتاج إلى سواك» و «لقد رأى منّى أمس شيئا حتّى لا أستطيع أن أكلّمه اليوم».

والحال المقدر : أن يكون الفعل قد وقع فيقدر المخبر به اتصافه بالعزم عليه فينصب ؛ لأنه مستقبل بالنسبة إلى تلك الحال ، وقد يقدر اتصافه بالدخول فيه فيرفع ؛ لأنه حال بالنسبة إلى تلك الحال.

ومنـ [ه] قوله ـ تعالى ـ : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(٢) [البقرة : ٢١٤] ، قرأه نافع

__________________

ـ والبيت بلا نسبة فى المقاصد النحوية ٤ / ٣٨٥.

(١) البيت فى ديوانه ص ٦٦ ، والأزهية ص ١٢٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢١٢ ، ٨ / ٥٤٤ ، ٥٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٢٢ ، ٣٣ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٢٨ ، والكتاب ٣ / ٤٧ ، واللامات ص ٦٨ ، والمقتضب ٢ / ٢٨ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ١ / ٣١٣ ، والجنى الدانى ص ٢٣١ ، والخصائص ١ / ٢٦٣ ، ورصف المبانى ص ١٣٣ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٥٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٤٤ ، واللمع ص ٢١١.

(٢) قرأ الجمهور : «يقول» نصبا ، وله وجهان :

أحدهما : أنّ «حتى» بمعنى «إلى» ، أى : إلى أن يقول ، فهو غاية لما تقدّم من المسّ ـ

١٢١

بالرفع على تقدير كونه حالا.

وقرأه الباقون بالنصب على تقدير الاستقبال.

ثم أشرت إلى أن نصب الفعل بـ «أن» واجبة الإضمار بعد الفاء المجاب بها نفى كقوله ـ تعالى ـ : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦].

والمجاب بها طلب وهو : إما أمر ، وإما نهى ، وإما دعاء ، وإما استفهام ، وإما عرض ، وإما تحضيص ، وإما تمن :

فالأمر كقول الراجز : [من الرجز]

يا ناق سيرى عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (١)

والنهى كقول الشاعر : [من البسيط]

__________________

ـ والزلزال ، و «حتى» إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل ، وهذا قد وقع ومضى. فالجواب : أنه على حكاية الحال ، حكى تلك الحال.

والثانى : أنّ «حتى» بمعنى «كى» ، فتفيد العلّة ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ قول الرسول والمؤمنين ليس علة للمسّ والزلزال ، وإن كان ظاهر كلام أبى البقاء على ذلك فإنه قال : «ويقرأ بالرفع على أن يكون التقدير : زلزلوا فقالوا ، فالزّلزلة سبب القول» و «أن» بعد «حتى» مضمرة على كلا التقديرين. وقرأ نافع : برفعه على أنّه حال ، والحال لا ينصب بعد «حتى» ولا غيرها ، لأنّ الناصب يخلّص للاستقبال فتنافيا.

واعلم أنّ «حتى» إذا وقع بعدها فعل : فإمّا أن يكون حالا أو مستقبلا أو ماضيا ، فإن كان حالا رفع نحو : «مرض حتى لا يرجونه» أى فى الحال. وإن كان مستقبلا نصب ، تقول : سرت حتى أدخل البلد وأنت لم تدخل بعد. وإن كان ماضيا فتحكيه ، ثم حكايتك له : إمّا أن تكون بحسب كونه مستقبلا ، فتنصبه على حكاية هذه الحال ، وإما أن يكون بحسب كونه حالا ، فترفعه على حكاية هذه الحال ، فيصدق أن تقول فى قراءة الجماعة : حكاية حال ، وفى قراءة نافع أيضا : حكاية حال. وإنّما نبّهت على ذلك ؛ لأنّ عبارة بعضهم تخصّ حكاية الحال بقراءة الجمهور ، وعبارة آخرين تخصّها بقراءة نافع. قال أبو البقاء فى قراءة الجمهور : «والفعل هنا مستقبل حكيت به حالهم ، والمعنى على المضىّ. ينظر : الدر المصون (١ / ٥٢٣).

(١) الرجز لأبى النجم فى الدرر ٣ / ٥٢ ، ٤ / ٧٩ ، والرد على النحاة ص ١٢٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٩ ، والكتاب ٣ / ٣٥ ، ولسان العرب (نفخ) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ١٨٢ ، ورصف المبانى ص ٣٨١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٧٠ ، ٢٧٤ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٠٢ ، ٣ / ٥٦٢ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٩٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٠ ، وشرح قطر الندى ص ٧١ ، وشرح المفصل ٧ / ٢٦ ، واللمع فى العربية ص ٢١٠ ، والمقتضب ٢ / ١٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٢.

١٢٢

لا يخدعنّك موتور (١) وإن قدمت

تراته فيحيق (٢) الحزن والنّدم

والدعاء كقول الشاعر : [من الطويل]

فيا ربّ عجّل ما أؤمّل منهم

فيدفأ مقرور (٣) ويشبع مرمل (٤)

وكقول الآخر : [من الرمل]

ربّ وفّقنى فلا أعدل عن

سنن السّاعين فى خير سنن

والاستفهام كقول الشاعر : [من البسيط]

هل تعرفون لباناتي (٥) فأرجو أن

تقضى فيرتدّ بعض الرّوح فى الجسد (٦)

والعرض كقول الشاعر : [من البسيط]

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدّثوك فما راء كمن سمعا (٧)

والتحضيض كقول الشاعر : [من البسيط]

لو لا تعوجين يا سلمى على دنف (٨)

فتخمدى نار وجد كاد يفنيه (٩)

والتمنى كقوله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء : ٧٣].

وكقول الشاعر : [من البسيط]

يا ليت أمّ خليد واعدت فوفت

ودام لى ولها عمر فنصطحبا (١٠)

وقيدت الفاء المنتصب بعدها الفعل بإضافتها إلى جواب احترازا من الفاء التى

__________________

(١) الموتور : الذى قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. ينظر : اللسان (وتر).

(٢) الحيق : نزول الشىء بالشىء. ينظر : المقاييس (حيق).

(٣) قرّ اليوم : برد ، والمقرور : الذى نزل به البرد. ينظر : الوسيط (قر).

(٤) المرمل : الذى نفد زاده. ينظر : اللسان (رمل).

والبيت بلا نسبة فى شرح الأشمونى ٣ / ٥٦٣.

(٥) اللبانة : الحاجة من غير فاقة. ينظر : القاموس (لبن).

(٦) البيت بلا نسبة فى شرح الأشمونى ٣ / ٥٦٣ ، وشرح قطر الندى ص ٧٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٨.

(٧) البيت بلا نسبة فى الدرر ٤ / ٨٢ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٩ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٩٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧١ ، وشرح قطر الندى ص ٧٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢.

(٨) الدّنف : المرض الملازم. ينظر : المقاييس (دنف) ، والدنف : المريض الذى اشتد مرضه ، وأشفى على الموت. ينظر الوسيط (دنف).

(٩) البيت بلا نسبة فى الدرر ٤ / ٨٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢.

(١٠) البيت بلا نسبة فى شرح الأشمونى ٣ / ٥٦٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٩.

١٢٣

لمجرد العطف كقولك : «ما تأتينا فتحدّثنا» ، بمعنى : ما تأتينا فما تحدثنا ، أو فأنت تحدثنا.

فلو قصد المتكلم معنى : ما تأتينا محدثا ، أو ما تأتينا فكيف تحدثنا ثبتت الجوابية ، وصح النصب.

ومعنى :

 .........

 ....... نصع :

خلص.

وأشرت بذلك إلى أن النفى الذى ليس نفيا خالصا لا جواب له منصوب نحو : «ما أنت إلّا تأتينا فتحدّثنا» و «ما تزال تأتينا فتحدّثنا» و «ما قام فنأكل إلّا طعامه».

ومنه قول الشاعر : [من الطويل]

وما قام منّا قائم فى نديّنا

فينطق إلّا بالّتى هى أعرف (١)

وكذلك بعد الطلب.

فلو وقع موقع الفاء واو مقصود بها المصاحبة نصب الفعل ـ أيضا ـ بعدها على نحو ما ينصب بعد الفاء.

فمن ذلك قول الشاعر : [من الكامل]

لا تنه عن خلق ، وتأتى مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (٢)

__________________

(١) البيت للفرزدق فى ديوانه ٢ / ٢٩ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٧ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٤٠ ، ٥٤١ ، ٥٤٢ ، والرد على النحاة ص ١٥٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٥٣٥ ، والكتاب ٣ / ٣٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٠ ، وبلا نسبة فى تذكرة النحاة ص ٧١ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٤.

(٢) البيت لأبى الأسود الدؤلى فى ديوانه ص ٤٠٤ ، والأزهية ص ٢٣٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٨ ، وشرح شذور الذهب ص ٣١٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣ ، وللمتوكل الليثى فى الأغانى ١٢ / ١٥٦ ، وحماسة البحترى ص ١١٧ ، والعقد الفريد ٢ / ٣١١ ، والمؤتلف والمختلف ص ١٧٩ ، ولأبى الأسود أو المتوكل فى لسان العرب (عظظ) ، ولأحدهما أو للأخطل فى شرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٢ ، ولأبى الأسود الدؤلى أو للأخطل أو المتوكل الكنانى فى الدرر ٤ / ٨٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٣ ، ولأحد هؤلاء أو للمتوكل الليثى أو الطرماح أو للسابق البربرى فى خزانة الأدب ٨ / ٥٦٤ ـ ٥٦٧ ، وللأخطل فى الرد على النحاة ص ١٢٧ ، وشرح المفصل ٧ / ٢٤ ، والكتاب ٣ / ٤٢ ، ولحسان بن ثابت فى شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٨٨ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٦ / ٢٩٤ ، وأمالى ابن الحاجب ٢ / ٨٦٤ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٨١ ، وجواهر الأدب ص ١٦٨ ، والجنى الدانى ص ١٥٧ ، ورصف المبانى ـ

١٢٤

ومثله قول الآخر فى الأمر : [من الوافر]

فقلت : ادعى وأدعو إنّ أندى

لصوت أن ينادى داعيان (١)

ومثله قول الآخر فى النفى : [من الوافر]

ألم أك جاركم ويكون بينى

وبينكم المودّة والإخاء (٢)

ومن النصب بعد واو الجمع الواقعة بعد نفى قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢].

ومن النصب بعدها فى التمنى قوله تعالى (٣) : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] ـ فى قراءة حمزة ، وابن عامر ، وحفص ـ.

__________________

ـ ص ٤٢٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٦ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٥٣٥ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٣ ، وشرح عمد الحافظ ص ٣٤٢ ، وشرح قطر الندى ص ٧٧ ، ولسان العرب (وا) ، ومعنى اللبيب ٢ / ٣٦١ ، والمقتضب ٢ / ٢٦.

(١) البيت للأعشى فى الدرر ٤ / ٨٥ ، والرد على النحاة ص ١٢٨ ، والكتاب ٣ / ٤٥ ، وليس فى ديوانه ، وللفرزدق فى أمالى القالى ٢ / ٩٠ ، وليس فى ديوانه ، ولدثار بن شيبان النمرى فى الأغانى ٢ / ١٥٩ ، وسمط اللآلى ص ٧٢٦ ، ولسان العرب (ندى) وللأعشى أو للحطيئة أو لربيعة بن جشم فى شرح المفصل ٧ / ٣٥ ، ولأحد هؤلاء الثلاثة أو لدثار بن شيبان فى شرح التصريح ٢ / ٢٣٩ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٨٢٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٢٣ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ٢ / ٨٦٢ ، والإنصاف ٢ / ٥٣١ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٨٢ ، وجواهر الأدب ص ١٦٧ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٩٢ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٦ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٠١ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٤١ ، ولسان العرب (لوم) ومجالس ثعلب ٢ / ٥٢٤ ، ومغنى اللبيب ١ / ٣٩٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣.

(٢) البيت للحطيئة فى ديوانه ص ٥٤ ، والدرر ٤ / ٨٨ ، والرد على النحاة ص ١٢٨ ، وشرح أبيات الكتاب ٢ / ٧٣ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٠٣ ، وشرح شواهد المغنى ص ٩٥٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٤ ، والكتاب ٣ / ٤٣ ، ومغنى اللبيب ص ٦٦٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤١٧ ، وبلا نسبة فى جواهر الأدب ص ١٦٨ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٧ ، ورصف المبانى ص ٤٧ ، وشرح قطر الندى ص ٧٦ ، والمقتضب ٢ / ٢٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣.

(٣) وقرأ : «ولا نكذّب ... ونكون». برفعهما. نافع وأبو عمرو ، وابن كثير والكسائى ، وبنصبهما حمزة وحفص عن عاصم ، وبرفع الأول ونصب الثانى ابن عامر وأبو بكر ، ونقل الشيخ عن ابن عامر : أنه نصب الفعلين ، ثم قال. بعد كلام طويل. : قال ابن عطية : «وقرأ ابن عامر فى رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر : «ولا نكذّب» بالرفع ، «ونكون» بالنصب. فأما قراءة الرفع فيهما ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما ، وهو «نردّ» ، ويكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء : الرد إلى دار الدنيا ، وعدم تكذيبهم بآيات ربّهم ، وكونهم من المؤمنين. ـ

١٢٥

__________________

ـ والثانى : أن الواو واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ مضمر ، والجملة الاسمية فى محل نصب على الحال من مرفوع «نردّ» ، والتقدير : يا ليتنا نردّ غير مكذبين ، وكائنين من المؤمنين ، فيكون تمنى الرّدّ مقيدا بهاتين الحالين ، فيكون الفعلان أيضا داخلين فى التمنى. وقد استشكل الناس هذين الوجهين بأن التمنى إنشاء ، والإنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب ، وإنما يدخلان فى الإخبار ، وهذا قد دخله الكذب ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه :

أحدها : ذكره الزمخشرى ، قال : هذا تمن تضمن معنى العدة ، فجاز أن يدخله التكذيب ؛ كما يقول الرجل : ليت الله يرزقنى مالا ، فأحسن إليك ، وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمنّ فى معنى الواعد ، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب ، وصح أن يقال له : كاذب ، كأنه قال : «إن رزقنى الله مالا أحسنت إليك».

والثانى : أن قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ليس متعلّقا بالتمنى بل هو محض إخبار من الله تعالى بأن ديدنهم الكذب ، وهجّيراهم ذلك ، فلم يدخل الكذب فى التمنى. وهذان الجوابان واضحان ، وثانيهما أوضح.

والثالث : أنا لا نسلم أن التمنى لا يدخله الصدق ولا الكذب بل يدخلانه ، وعزى ذلك إلى عيسى بن عمر ، واحتج على ذلك بقول الشاعر :

منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

قال : «وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقا جازت أن توصف بكونها باطلا وكذا». وهذا الجواب ساقط جدا ، فإنّ الذى وصف بالحق إنما هو المنى ، والمنى : جمع منية ، والمنية : توصف بالصدق والكذب مجازا ؛ لأنها كأنها تعد النفس بوقوعها ، فيقال لما وقع منها : صادق ، ولما لم يقع منها : كاذب ، فالصدق والكذب إنما دخلا فى المنية لا فى التمنى.

والثالث : من الأوجه المتقدمة أن قوله : «ولا نكذّب ... ونكون» خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة استئنافية لا تعلق لها بما قبلها ، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجملة المشتملة على أداة التمنى وما فى حيّزها ، فليست داخلة فى التمنى أصلا ، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربهم ، وأنهم يكونون من المؤمنين. فتكون هذه الجملة وما عطف عليها فى محل نصب للقول ، كأن التقدير : فقالوا : يا ليتنا نردّ ، وقالوا : نحن لا نكذّب ، ونكون من المؤمنين ، واختار سيبويه هذا الوجه ، وشبهه بقولهم : دعنى ولا أعود ، أى : وأنا لا أعود تركتنى أو لم تتركنى ، أى : لا أعود على كلّ حال ، كذلك معنى الآية : أخبروا أنهم لا يكذّبون بآيات ربّهم ، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال ، ردوا أو لم يردوا. وهذا الوجه وإن كان الناس قد ذكروه ورجّحوه ، واختاره سيبويه كما مرّ ، فإن بعضهم استشكل عليه إشكالا ؛ وهو أن الكذب لا يقع فى الآخرة ، فكيف وصفوا بأنهم كاذبون فى الآخرة فى قولهم : «ولا نكذّب ... ونكون». وقد أجيب عنه بوجهين :

أحدهما : أن قوله : «وإنّهم لكاذبون» استئناف لذمهم بالكذب ، وأن ذلك شأنهم كما تقدم ذلك آنفا. ـ

١٢٦

__________________

ـ والثانى : أنهم صمموا فى تلك الحال على أنهم لو ردوا لما عادوا إلى الكفر ؛ لما شاهدوا من الأهوال والعقوبات ، فأخبر الله تعالى أن قولهم فى تلك الحال : «ولا نكذّب» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الردّ ، ووقوع العود ، فيصير قولهم : «ولا نكذّب» كذبا ؛ كما يقول اللّص عند ألم العقوبة : لا أعود ، ويعتقد ذلك ، ويصمم عليه ، فإذا خلص ، وعاد كان كاذبا. وقد أجاب مكى أيضا بجوابين :

أحدهما : قريب مما تقدم.

والثانى : لغيره ، فقال : أى لكاذبون فى الدنيا فى تكذيبهم الرسل ، وإنكارهم البعث للحال التى كانوا عليها فى الدنيا. وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوع التكذيب فى الآخرة ؛ لأنهم ادعوا أنهم لو ردوا لم يكذّبوا بآيات الله ، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، وأنهم لو ردوا لم يؤمنوا ولكذّبوا بآيات الله ، فأكذبهم الله فى دعواهم. وأما نصبهما فبإضمار «أن» بعد الواو التى بمعنى «مع» كقولك : ليت لى مالا وأنفق منه ، فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أن» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها ـ مصدر ، والواو حرف عطف فتستدعى معطوفا عليه وليس قبلها فى الآية إلا فعل ، فكيف يعطف اسم على فعل؟ فلا جرم أنا نقدر مصدرا متوهما يعطف هذا المصدر المنسبك من «أن» وما بعدها ـ عليه ، والتقدير : يا ليتنا لنا ردّ ، وانتفاء تكذيب بآيات ربّنا ، وكون من المؤمنين ، أى : ليتنا لنا ردّ ، مع هذين الشيئين ، فيكون عدم التكذيب والكون من المؤمنين متمنيين أيضا ، فهذه الثلاثة الأشياء ، أعنى : الردّ ، وعدم التكذيب ، والكون من المؤمنين متمناة بقيد الاجتماع ، لا أن كلّ واحد متمنى وحده ، لأنه كما قدمت لك : هذه الواو شرط إضمار «أن» بعدها أن تصلح «مع» فى مكانها ، فالنصب يعين أحد محتملاتها فى قولك : لا تأكل السّمك وتشرب اللبن وشبهه. والإشكال المتقدم ، وهو إدخال التكذيب على التمنى وارد هنا ، وقد تقدم جواب ذلك ، إلا أن بعضه يتعذر ههنا ، وهو كون «لا نكذّب ونكون» مستأنفين سيقا لمجرد الإخبار ، فبقى إمّا لكون التمنى دخله معنى الوعد ، وإمّا أن قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ليس راجعا إلى تمنيهم ، وإمّا لأن التمنى يدخله التكذيب ، وقد تقدم فساده. وقال ابن الأنبارى : «أكذبهم فى معنى التمنى ، لأن تمنيهم راجع إلى معنى : نحن لا نكذّب إذا رددنا ، فغلب عزوجل تأويل الكلام فأكذبهم ، ولم يستعمل لفظ التمنى». وهذا الذى قاله ابن الأنبارى تقدم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ : «وكثيرا ما يوجد فى كتب النحو : أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمنى ، كما قال الزمخشرى : وقرئ «ولا نكذّب ونكون» بالنصب ، بإضمار «أن» على جواب التمنى ، ومعناه : إن رددنا لم نكذّب ونكن من المؤمنين». قال : وليس كما ذكره فإنّ نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب ، لأن الواو لا تقع جواب الشرط ، فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب ، وإنما هى واو مع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها ، وهى واو العطف ، يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة ، وهى المعية ويميزها من الفاء تقدير «مع» موضعها ، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميّزها تقدير شرط قبلها ، أو حال مكانها. وشبهة من قال : إنّها جواب ، أنها تنصب فى المواضع التى تنصب فيها ـ

١٢٧

قال ابن السراج : «الواو تنصب ما بعدها فى غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء. وإنما تكون كذلك إذا لم ترد الاشتراك بين الفعل ، والفعل وأردت عطف الفعل على مصدر الفعل الذى قبلها ـ كما كان فى الفاء ـ وأضمرت «أن». وتكون الواو فى

__________________

ـ الفاء ، فيوهم أنها جواب. وقال سيبويه : والواو تنصب ما بعدها فى غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء ، والواو والفاء معناهما مختلفان ، ألا ترى :

لا تنه عن خلق وتأتى مثله

 .........

لو دخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى ، أراد : لا تجمع بين النهى والإتيان. وتقول : لا تأكل السمك ، وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى». قال الشيخ : ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها ، بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط ، إلا فى النفى ، فإنّ ذلك لا يجوز. «قلت : قد سبق الزمخشرىّ إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخ الجماعة ، قال أبو إسحاق : نصب على الجواب بالواو فى التمنى ، كما تقول : «ليتك تصير إلينا ونكرمك» ، المعنى : ليت مصيرك يقع ، وإكرامنا ، ويكون المعنى : ليت ردّنا وقع وألّا نكذب». وأما كون الواو ليست بمعنى الفاء فصحيح ، على ذلك جمهور النحاة ، إلّا أنى رأيت أبا بكر ابن الأنبارى خرج النصب على وجهين :

أحدهما : أن الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر : فى نصب «نكذّب» وجهان :

أحدهما : أن الواو مبدلة من الفاء ، والتقدير : يا ليتنا نردّ فلا نكذّب ونكون ، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء فى قوله : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) توكيد هذا قراءة ابن مسعود وابن أبى إسحاق : «يا ليتنا نردّ فلا نكذّب». بالفاء منصوبا.

والوجه الآخر : النصب على الظرف ، ومعناه الحال ، أى : يا ليتنا نردّ غير مكذبين. وأما قراءة ابن عامر برفع الأول ، ونصب الثانى فظاهرة مما تقدم ؛ لأن الأول يرتفع على حد ما تقدم من التأويلات ، وكذلك نصب الثانى يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب فى التمنى أو استأنفه ، إلّا أن المنصوب يحتمل أن يكون من تمام قوله : «نردّ» ، أى : تمنوا الرّدّ مع كونهم من المؤمنين. وهذا ظاهر إذا جعلنا «ولا نكذّب» معطوفا على «نردّ» أو حالا منه. وأما إذا جعلنا «ولا نكذّب» مستأنفا فيجوز ذلك أيضا ، ولكن على سبيل الاعتراض ، ويحتمل أن يكون من تمام «ولا نكذّب» أى : لا يكون منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين ، ويكون قوله : «ولا نكذّب حينئذ على حاله ، أعنى من احتماله العطف على «نردّ» ، أو الحالية ، أو الاستئناف ، ولا يخفى حينئذ دخول كونهم من المؤمنين فى التمنى ، وخروجه منه بما قررته لك.

وقرئ شاذّا عكس قراءة ابن عامر ، أى : بنصب «نكذّب» ، ورفع «نكون» ، وتخريجها على ما تقدم ، إلا أنها يضعف فيها جعل «وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» حالا ، لكونه مضارعا مثبتا إلّا بتأويل بعيد ، كقوله :

 .........

نجوت وأرهنهم مالكا

أى : وأنا أرهنهم ، وقولهم : قمت وأصك عينه ، ويدل على حذف هذا المبتدأ قراءة أبىّ : «ونحن نكون من المؤمنين». ينظر الدر المصون (٣ / ٣٧ ـ ٤٠).

١٢٨

هذا المعنى بمعنى «مع» فقط».

وهذا الذى صرح به ابن السراج قصدته بقولى :

والواو كالفا إن تفد مفهوم «مع»

وقبلها طلب او نفى نصع

وقد ينصب الفعل بـ «أن» لازمة الإضمار بعد الفاء وليس قبلها نفى ، ولا طلب كقول الشاعر : [من الوافر]

سأترك منزلى لبنى تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (١)

وإلى هذا أشرت بقولى :

وقد يجىء النّصب بعد الفاء من

بعد كلام واجب بها قرن

ثم بينت أن جواب غير النفى إذا خلا من الفاء ، وقصد به الجزاء جزم بما هو له جواب ؛ لأنه شبيه بالشرط فى جواز وقوعه وعدم جواز وقوعه بالنسبة إلى علم الشخص المتكلم به ؛ بخلاف النفى فإن الشخص المتكلم به محقق لعدم الوقوع فخالف الشرط ، ولم يكن له جواب مجزوم.

وأكثر المتأخرين ينسبون جزم جواب الطلب لـ «إن» مقدرة ، والصحيح أنه لا حاجة إلى تقدير لفظ «إن» بل تضمن لفظ الطلب لمعناها مغن عن تقدير لفظها كما هو مغن فى أسماء الشرط نحو : «من يأتنى أكرمه».

وهذا هو مذهب الخليل وسيبويه (٢).

ولا يجعل للنهى جواب مجزوم إلا إذا صح المعنى بتقدير دخول «إن» على «لا» نحو : «لا تفعل الشّرّ يكن خيرا لك» ؛ فللنهى ههنا جواب مجزوم لأن المعنى يصح بقولك : «إن لا تفعل الشّرّ يكن خيرا لك» ؛ بخلاف قولك : «لا تفعل الشّرّ يكون شرّا لك» ؛ فإن الجزم فيه ممتنع لعدم صحة المعنى بقولك : «إن لا تفعل الشرّ يكن شرّا لك».

وقد أجاز الكسائى الجزم فى جواب ما لا يصح فيه دخول «إن» على «لا» ؛ وقال :

__________________

(١) البيت للمغيرة بن حبناء فى خزانة الأدب ٨ / ٥٢٢ ، والدرر ١ / ٢٤٠ ، ٤ / ٧٩ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥١ ، وشرح شواهد المغنى ص ٤٩٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٠ ، وبلا نسبة فى الدرر ٥ / ١٣٠ ، والرد على النحاة ص ١٢٥ ، ورصف المبانى ص ٣٧٩ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٦٥ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٨٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٥٥ ، والكتاب ٣ / ٣٩ ، ٩٢ ، والمحتسب ١ / ١٩٧ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٧٥ ، والمقتضب ٢ / ٢٤ ، والمقرب ١ / ٢٦٣.

(٢) ينظر الكتاب : (٣ / ٩٤).

١٢٩

«يكتفى بتقدير «إن» داخلة على الفعل دون «لا»».

ويعضد ما ذهب إليه رواية من روى : «من أكل من هذه الشّجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذنا بريح الثّوم» (١) ، و «يؤذينا» ـ بثبوت الياء ـ أشهر.

وإلى ما ذهب إليه الكسائى أشرت بقولى :

وجائز عند الكسائى نحو : «لا

تضم تضم» .......

فإن جزم «تضم» بعد «لا تضم» كجزم «يؤذنا» بعد : «لا يقرب مسجدنا». والجيد «تضام» و «يؤذينا» ـ بالرفع ـ.

ومما انفرد الكسائى بجوازه النصب بعد الفاء المجاب بها اسم أمر نحو :

 ........

 ... «صه فتفضلا»

وانفرد ـ أيضا ـ بجواز نصب ما بعد الفاء المجاب بها خبر بمعنى الأمر نحو : «حسبك حديث فينام النّاس».

فهذه المسائل الثلاث لا يجيزها غير الكسائى.

وأما الجزم عند التعرى من الفاء فجائز بإجماع ؛ وكذا جزم جواب الخبر الذى بمعنى الأمر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصف : ١١ ـ ١٢] ؛ لأن المعنى : آمنوا وجاهدوا.

ومنه قول بعض العرب : «اتّقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه» ؛ لأن المعنى : ليتق الله ، وليفعل.

وألحق الفراء الرجاء بالتمنى فجعل له جوابا منصوبا (٢).

وبقوله أقول ؛ لثبوت ذلك سماعا ؛ ومنه قراءة حفص عن عاصم (٣) : (لَعَلِّي أَبْلُغُ

__________________

(١) جاءت الرواية بإثبات الياء من حديث أبى هريرة مرفوعا : من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ، ولا يؤذينا بريح الثوم».

أخرجه مسلم (١ / ٣٩٤) : كتاب المساجد : باب نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها. (٧١ ـ ٥٦٣) ، والبيهقى (٣ / ٧٦).

(٢) قال الفراء : وقوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ). بالرفع. يرده على قوله (أبلغ) ومن جعله جوابا لـ (لعلى) نصبه ، وقد قرأ به بعض القراء. ينظر : معانى القرآن للفراء (٣ / ٩).

(٣) قوله «فأطلع» العامة على رفعه عطفا على «أبلغ» فهو داخل فى حيز الترجى وقرأ حفص فى ـ

١٣٠

الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧].

ومنه قول الراجز ـ أنشده الفراء (١) : [من الرجز]

علّ صروف الدّهر أو دولاتها

يدلننا اللّمّة (٢) من لمّاتها

فتستريح النّفس من زفراتها (٣)

وأجاز الكوفيون الاستفهام بـ «لعلّ» وإيلاء ما اتصل بها جوابا منصوبا نحو : «لعلّك تشتمنا فأقوم إليك»؟.

ثم أشرت إلى إجراء التقليل مجرى النفى فى إيلائه جوابا منصوبا فيقال : «قلّ ما

__________________

ـ آخرين بنصبه وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جواب الأمر فى قوله «ابن لى» فنصب بأن مضمرة بعد الفاء فى جوابه على قاعدة البصريين كقوله :

يا ناق سيرى عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

وهذا أوفق لمذهب البصريين.

والثانى : أنه منصوب. قال الشيخ عطفا على التوهم لأن خبر لعلل كثيرا جاء مقرونا بأن كثير فى النظم وقليلا فى النثر فمن نصب توهم أن المرفوع الواقع خبرا منصوب بأن والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس. انتهى.

الثالث : أن ينتصب على جواب الترجى فى لعل وهو مذهب كوفى استشهد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ) بنصب فتنفعه جوابا لقوله «لعله» وإلى هذا نحا الزمخشرى قال : تشبيها للترجى بالتمنى والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم ، وفى سورة عبس يجوز أن يكون جوابا للاستفهام فى قوله «وما يدريك» فإنه مترتب عليه معنى. وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلى على جواب التمنى وفيه نظر إذ ليس اللفظ تمنّيا وإنما فيه ترج وقد فرق الناس بين التمنى والترجى بأن الترجى لا يكون إلا فى الممكن عكس التمنى فإنه يكون فيه وفى المستحيل كقوله :

ليت الشباب هو الرجيع على الفتى

والشيب كان هو البدئ الأول

ينظر : الدر المصون (٦ / ٤٢ ، ٤٣).

(١) ينظر : معانى القرآن (٣ / ٩).

(٢) اللّمة : النازلة من نوازل الدنيا. ينظر : المقاييس (لمم).

(٣) الرجز بلا نسبة فى الإنصاف ١ / ٢٢٠ ، والخصائص ١ / ٣١٦ ، والجنى الدانى ص ٥٨٤ ، ورصف المبانى ص ٢٤٩ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٤٠٧ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧٠ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٥٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٣٩ ، واللامات ص ١٣٥ ، ولسان العرب (علل) ، ١٢ / ٥٥٠ (لمم) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٦ ، ومغنى اللبيب ١ / ١٥٥.

١٣١

تأتينا فتحدّثنا» كما يقال : «ما تأتينا فتحدّثنا». فجواز هذا وأمثاله متفق عليه.

وزاد الكوفيون إجراء التشبيه مجرى النفى نحو : «كأنّك أمير فنطيعك» ؛ لأن فيه معنى : ما أنت أمير فنطيعك.

وكذلك أجروا الحصر بـ «إنّما» كقولهم : «إنّما هى ضربة من الأسد فتحطم ظهره» ؛ وعليه قراءة ابن عامر (١) : «فإنّما يقول له كن فيكون».

__________________

(١) قرأ ابن عامر «فيكون» نصبا هنا ، وفى الأولى من آل عمران ، وهى : «كن فيكون. ونعلمه ؛ تحرزا من قوله : «كن فيكون. الحق من ربك» وفى مريم : «كن فيكون. وإن الله ربى» ، وفى غافر : «كن فيكون. ألم تر إلى الذين يجادلون» ، ووافقه الكسائى على ما فى النحل ، ويس ، وهى : «أن يقول له كن فيكون» أما آيتا النحل ويس فظاهرتان ؛ لأن ما قبل الفعل منصوب فيصح عطفه عليه.

وأما ما انفرد به ابن عامر فى هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلام الناس فيها ، وهى لعمرى تحتاج فضل تأمل ، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير ، فقال ابن مجاهد : قرأ ابن عامر «فيكون» نصبا ، وهذا غير جائز فى العربية ، لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلا فى يس والنحل ، فإنه نسق لا جواب ، وقال فى آل عمران : قرأ ابن عامر وحده : «كن فيكون» بالنصب ، وهو وهم قال : «وقال هشام : كان أيوب بن تميم يقرأ : فيكون نصبا ، ثم رجع فقرأ فيكون رفعا وقال الزجاج : كن فيكون : رفع لا غير».

وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعى فيه ظاهر اللفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وجد فى اللفظ صورة أمر فنصبنا فى جوابه بالفاء ، وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى ، فإن ذلك لا يصح لوجهين :

أحدهما : أن هذا ؛ وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر ، نحو : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) أى : فيمدّ وإذا كان معناه الخبر لم ينتصب فى جوابه بالفاء إلا ضرورة كقوله :

سأترك منزلى لبنى تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

وقول الآخر :

لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها

ويأوى إليها المستجير فيعصما

والثانى : أن من شروط النصب بالفاء فى جواب الأمر أن ينعقد منها شرط جزاء نحو : «ائتنى فأكرمك» تقديره : إن أتيتنى أكرمتك ، وههنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير : إن تكن تكن فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلا ، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما ، وإلا يلزم أن يكون الشىء شرطا لنفسه وهو محال ، قالوا : والمعاملة اللفظية واردة فى كلامهم ، نحو ؛ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) ، (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) ، وقال عمر بن أبى ربيعة :

فقلت لجنّاد خذ السّيف واشتمل

عليه برفق وارقب الشّمس تغرب

وأسرج لى الدّهماء واذهب بممطرى

ولا يعلمن خلق من النّاس مذهبى

فجعل «تغرب» جوابا لـ «ارقب» ، وهو غير مترتب عليه ، وكذلك لا يلزم من قوله تعالى أن يفعلوا ، وإنما ذلك مراعاة لجانب اللفظ. ـ

١٣٢

ثم أشرت إلى أن «غيرا» قد تفيد نفيا فيكون لها جواب منصوب كالنفى الصريح فيقال : «غير قائم الزّيدان فنكرمهما».

أشار إلى ذلك ابن السراج ثم قال : «ولا يجوز هذا عندى».

قلت : «وهو عندى جائز» ـ والله أعلم ـ.

وحكى الفراء (١) عن العرب فى المضارع المنفى بـ «لا» الجزم والرفع إذا حسن تقدير «كى» قبله ، وأنهم يقولون : (ربطت الفرس لا يتفلّت» ، و «أوثقت العبد لا يفرّ» و «لا يفرر» : أن ما جزم لأن تأويله : إن لم أربطه فر ، فجزم على التأويل. قال :

وأنشدنى بعض بنى عقيل : [من الطويل]

وحتّى رأينا أحسن الفعل بيننا

مساكتة لا يقرف (٢) الشّرّ قارف (٣)

وقال آخر : [من البسيط]

لو كنت إذ جئتنا حاولت رؤيتنا

أو جئتنا ماشيا لا يعرف الفرس (٤)

بجزم «يقرف» و «يعرف» ورفعهما.

وإلى مثل هذا أشرت بقولى :

والجزم والرّفع رووا فى تلو «لا»

إن كان ما قبل به معلّلا

ثم بينت انتصاب الفعل المعطوف على اسم صريح بـ «أن» مضمرة جائزة الإظهار كقول الشاعر : [من الوافر]

للبس عباءة وتقرّ عينى

أحبّ إلى من لبس الشّفوف (٥)

__________________

ـ أما ما ذكروه فى بيت عمر فصحيح ، وأما الآيات فلا نسلم أنه غير مترتب «عليه» لأنه أراد بالعباد الخلص ، ولذلك أضافهم إليه ، أو تقول إن الجزم على حذف لام الأمر. ينظر : الدر المصون (١ / ٣٥٤ ، ٣٥٥).

(١) ينظر : معانى القرآن (٢ / ٢٨٣).

(٢) قارف : قارب. ينظر : القاموس (قرف).

(٣) البيت فى ديوان الحماسة ٢ / ١٥٠ ، وينظر شرح التسهيل ٤ / ٤٨.

(٤) ينظر شرح التسهيل ٤ / ٤٨.

(٥) البيت لميسون بنت بحدل فى خزانة الأدب ٨ / ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، والدرر ٤ / ٩٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٧٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ١٤٧٧ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٠٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٠ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٦٥٣ ، ولسان العرب (مسن) ، والمحتسب ١ / ٣٢٦ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٦٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٧ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٤ / ٢٧٧ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٩٢ ، والجنى الدانى ص ١٥٧ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٢٣ ، والرد على النحاة ص ١٢٨ ، ورصف ـ

١٣٣

أراد : للبس عباءة وأن تقر عينى ، فحذف «أن» وأبقى عملها دليلا عليها ، ولو استقام الوزن بإظهارها لكان أقيس.

وليست الواو مخصوصة بهذا بل هو جائز مع «أو» والفاء ، و «ثمّ».

فمثال ذلك مع «أو» قراءة السبعة إلا نافعا : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] بنصب «يرسل» عطفا على «وحيا» ، والأصل : أو أن يرسل.

ومثال ذلك مع الفاء قول الشاعر وهو رجل من طئ : [من البسيط]

لو لا توقّع معترّ (١) فأرضيه

ما كنت أوثر إترابا (٢) على ترب (٣)

ومثال ذلك مع «ثمّ» قول الشاعر : [من البسيط]

إنّى وقتلى سليكا ثمّ أعقله

كالثّور يضرب لمّا عافت البقر (٤)

أراد : ثم أن أعقله ، فحذف «أن» وأبقى عملها.

فهذا وأمثاله جائز لكثرة نظائره.

وأما بقاء النصب بعد حذف «أن» فى غير ذلك فضعيف قليل ، ولا يقبل منه إلا ما نقله عدل ، ولا يقاس عليه.

ومما نقل فقبل قول بعض العرب : «خذ اللّصّ قبل يأخذك».

وقول الشاعر ـ أنشده سيبويه (٥) ـ : [من الطويل]

__________________

ـ المبانى ص ٤٢٣ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧١ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٦ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٤٤ ، وشرح قطر الندى ص ٦٥ ، وشرح المفصل ٧ / ٢٥ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١١٢ ، ١١٨ ، والكتاب ٣ / ٤٥ ، والمقتضب ٢ / ٢٧.

(١) المعتر : الفقير ، وقيل : المتعرّض للمعروف من غير أن يسأل. ينظر اللسان (عرر).

(٢) الإتراب : الغنى. ينظر : اللسان (ترب).

(٣) ترب الرجل : أصابه الفقر. ينظر : اللسان (ترب) ، والبيت بلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ١٩٤ ، والدرر ٤ / ٩٢ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧١ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٠٥ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٧.

(٤) البيت لأنس بن مدركة فى الأغانى ٢٠ / ٣٥٧ ، والحيوان ١ / ٢١٨ ، والدرر ٤ / ٩٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٤ ، ولسان العرب (ثور) ، (وجع) (عيف) والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٩ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ١٩٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٦٢ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧١ ، وشرح شذور الذهب ٤٠٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٧ ، ولسان العرب (ثور) ، وهمع الهوامع ٢ / ١٧.

(٥) ينظر الكتاب (١ / ٣٠٧).

١٣٤

فلم أر مثلها خباسة (١) واحد

ونهنهت (٢) نفسى بعد ما كدت أفعله (٣)

قال سيبويه (٤) : «أراد بعد ما كدت أن أفعله».

__________________

(١) الخباسة : المغنم. ينظر : المقاييس (خبس).

(٢) نهنهه عن الأمر : كفه وزجره. ينظر : القاموس (نهنه).

(٣) البيت لامرئ القيس فى ملحق ديوانه ص ٤٧١ ، وله أو لعمرو بن جؤين فى لسان العرب (خبس) ، ولعامر بن جؤين فى الأغانى ٩ / ٩٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٣٧ ، والكتاب ١ / ٣٠٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٠١ ، ولعامر بن جؤين أو لبعض الطائيين فى شرح شواهد المغنى ٢ / ٩٣١ ، ولعامر بن الطفيل فى الإنصاف ٢ / ٥٦١ ، بلا نسبة فى تخليص الشواهد ص ١٤٨ ، وجمهرة اللغة ص ٢٨٩ ، والدرر ١ / ١٧٧ ، ورصف المبانى ص ١١٣ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٢٩ ، ومغنى اللبيب ٢ / ٦٤٠ ، والمقرب ١ / ٢٧٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٨.

(٤) عبارة سيبويه : فحملوه على «أن» ؛ لأن الشعراء قد يستعملون «أن» ههنا مضطرين كثيرا. ينظر : الكتاب (١ / ٣٠٧).

١٣٥

باب عوامل الجزم

(ص)

ب (لا) وبالّلام اجز من فى الطّلب

ك (لا تؤاخد) و (ليعذّر من غبى)

واللّام قد تسكن بعد الفا و (ثمّ)

والواو نحو : (من يكارم فليدم)

وقلّما تجىء فى الخطاب

مع فاعل نحو : (لتعرف ما بى)

وقلّ أن تجزم ذى اللّام و (لا)

(أفعل) أو (نفعل) واللّام اعتلى

وحذف هذى اللّام بعد (قل) كثر

وبعد قول غير أمر قد نزر

ودون قول فى اضطرار حذفا

نحو : (يكن للخير منك) فاعرفا

ويجزم الفعل بـ (لم) و (لمّا)

ماضى معنى نحو (لم أغتمّا)

وحدّ الانتفا بـ (لمّا) واتّصل

بالحال ، وهو ـ مطلقا ـ بـ (لم) حصل

وشذّ رفع بعد (لم) وقد زعم

نصب بها وبطل ذا القول علم

وبعضهم مجزوم (لمّا) قد حذف

وبعد حذفه على (لمّا) وقف

وفصل مجزوم بـ (لم) و (لا) الطّلب

فى شعر استعمله بعض العرب

(ش) ذكر الطلب بعد «لا» واللام الجازمتين يحصل فائدتين لا يحصلان بدونه :

إحداهما : تمييز «لا» المرادة من غير المرادة وهى :

النافية نحو : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ٢] والزائدة نحو : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢].

وتمييز اللام المرادة من غير المرادة وهى التى ينتصب الفعل بعدها وقد ذكرت.

والثانية من الفائدتين : أن الطلب يعم به «لا» فى النهى ؛ نحو قوله تعالى : (لا تَحْزَنْ) [التوبة : ٤٠].

و «لا» فى الدعاء نحو : (لا تعذبنا) وقوله تعالى : (لا تُؤاخِذْنا) [البقرة : ٢٨٦].

ويعم به لام الأمر نحو قوله ـ تعالى ـ : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) [الطلاق : ٧].

ولام الدعاء نحو قوله ـ تعالى ـ : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧].

بخلاف أن يقال : لام الأمر ، و «لا» فى النهى ؛ فإن الدعاء لا يدخل فى ذلك.

ومن ورود الدعاء مجزوما باللام قول أبى طالب : [من الرجز]

يا ربّ إمّا تخرجنّ طالبي

فى مقنب من تلكم المقانب

١٣٦

فليكن المغلوب غير الغالب

وليكن المسلوب غير السّالب (١)

وللام الطلب الأصالة فى السكون من وجهين :

أحدهما : مشترك فيه وهو : كون السكون متقدما على الحركة ؛ إذ هى زيادة ، والأصل عدمها.

والثانى : خاص ، وهو : أن يكون لفظها مشاكلا لعملها ، كما فعل بباء الجر ، لكن منع من سكونها الابتداء بها ؛ فكسرت ، وبقى للقصد تعلق بالسكون ، فإذا دخل عليه واو أو فاء رجع ـ غالبا ـ إلى السكون ليؤمن دوام تفويت الأصل.

وليس التسكين حملا على عين «فعل» ؛ كما زعم الأكثرون ؛ لأن ذلك إجراء منفصل مجرى متصل ، ومثله لا يكاد يوجد مع قلته إلا فى اضطرار.

وتسكين هذه اللام بعد الواو والفاء أكثر من تحريكها ؛ ولذلك أجمع القراء على التسكين فيما سوى قوله ـ تعالى ـ : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩](وَلِيَتَمَتَّعُوا) [العنكبوت : ٦٦] ، مما ولى واوا أو فاء كقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) [البقرة : ١٨٦] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) [البقرة : ٢٨٢] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا) [النساء : ١٠٢] ، وكقوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [النساء : ٩].

وأيضا لو كان تسكين هذه اللام لغير سبب يخصها لشاركتها فيه دون شذوذ لام «كى» الواقعة بعد فاء أو واو.

ويقل دخول هذه اللام على فعل فاعل مخاطب استغناء بصيغة «افعل» والكثير دخولها على فعل ما لم يسم فاعله ـ مطلقا ـ نحو : «لتعن بحاجتى» و «ليزه زيد علينا».

__________________

(١) تقدم تخريج هذا الرجز.

١٣٧

ومن دخولها على فعل فاعل مخاطب ـ مع قلته ـ قراءة عثمان (١) وأبى (٢) وأنس (٣) ـ رضى الله عنهم ـ : «فبذلك فلتفرحوا».

وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتأخذوا مصافّكم» (٤).

ومن دخولها على المضارع المسند إلى المتكلم قوله ـ تعالى ـ : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ، وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا فلأصلّ لكم» (٥).

وقد تسكن هذه اللام بعد «ثمّ» نحو : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الحج : ٢٩].

__________________

(١) هو عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية أمير المؤمنين ، ذو النورين ، ثالث الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، من كبار الرجال الذين عز بهم الإسلام فى بدايته ، وكان غنيّا شريفا فى الجاهلية ، وله مناقبه وآثاره وأعماله المشهورة فى الإسلام. رضى الله عنه. نقم عليه بعض الناس وأحدثوا فتنة كانت نهايتها مقتله رضى الله عنه سنة ٣٥ ه‍. ينظر : الإصابة ت (٥٤٦٤) ، أسد الغابة ت (٣٥٨٩) ، الاستيعاب ت (١٧٩٧) ، الأعلام (٤ / ٢١٠).

(٢) هو أبى بن كعب بن قيس بن عبيد ، من بنى النجار ، أبو المنذر ، صحابى أنصارى ، كان قبل الإسلام حبرا يهوديا وأسلم وكان من كتاب الوحى ، وكان من أقرأ الصحابة للقرآن شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات سنة ٢١ ه‍.

ينظر : الإصابة ت (٣٢) ، الاستيعاب ت (٦) ، الأعلام (١ / ٨٢).

(٣) هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد أبو حمزة الأنصارى الخزرجى ، خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبه ، وأحد المكثرين عنه من الرواية. كان من المقربين للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا له النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان آخر الصحابة موتا بالبصرة سنة ٩٣ ه‍. ينظر : الإصابة ت (٢٧٧) ، أسد الغابة (٢٥٨) ، الاستيعاب ت (٨٤) ، الأعلام (٢ / ٢٤).

(٤) قال الزيلعى فى تخريج أحاديث الكشاف (٢ / رقم ٥٩٦) : غريب. اه.

وأخرج الترمذى (٣٢٣٥) ، وأحمد (٥ / ٢٤٣) من حديث معاذ بن جبل قال : احتبس عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس ، فخرج سريعا ، فثوب بالصلاة ، فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتجوّز فى صلاته ، فلما سلّم دعا بصوته فقال لنا : على مصافكم كما أنتم ، ثم انفتل إلينا ...» فذكر حديثا طويلا.

وأخرج مسلم (١ / ٤٢٣) : كتاب المساجد : باب متى يقوم الناس للصلاة (١٥٩ ـ ٦٠٥) من حديث أبى هريرة. أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقامه.

(٥) أخرجه مالك (١ / ١٥٣) : كتاب قصر الصلاة فى السفر : باب جامع سبحة الضحى ، (٣١) ، وأحمد (٣ / ١٣١ ، ١٤٩ ، ١٦٤) ، والدارمى (١ / ٢٩٥) ، والبخارى (٢ / ٦١٧) : كتاب الأذان : باب وضوء الصبيان (٨٦٠) ، ومسلم (١ / ٤٥٧) : كتاب المساجد : باب جواز الجماعة فى النافلة ، والصلاة على حصير ، (٢٦٦ ـ ٦٥٨) وأبو داود (١ / ٢٢٢) : كتاب الصلاة : باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون؟ (٦١٢) ، والترمذى (١ / ٤٥٤) : أبواب الصلاة : باب ما جاء فى الرجل يصلّى ومعه الرجال والنساء ، (٢٣٤) ، والنسائى (٢ / ٨٥) كتاب الإمامة : باب إذا كانوا ثلاثة وامرأة ، من حديث أنس بن مالك.

١٣٨

ـ وهى قراءة قنبل (١) ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، وورش (٢).

ومن دخول «لا» النهى على فعل المتكلم قول الشاعر : [من الطويل]

إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد

لها أبدا ما دام فيها الجراضم (٣)

ومثله قول الآخر : [من البسيط]

لا أعرفن ربربا (٤) حورا مدامعها

مردّفات على أحناء أكوار (٥)

وإلى دخول لام الأمر ، و «لا» فى النهى على فعل المتكلم ـ بقلة ـ أشرت بقولى :

وقلّ أن تجزم ذى اللّام و «لا»

«أفعل» أو «نفعل» .......

ثم قلت :

 ........

 ..... واللّام اعتلى

أى : دخول اللام على «أفعل» و «نفعل» أكثر من دخول «لا» عليهما.

ثم أشرت إلى حذف لام الأمر ، وبقاء عمله ، وهو على ثلاثة أضرب :

ـ كثير مطرد.

ـ وقليل جائز فى الاختيار.

ـ وقليل مخصوص بالاضطرار.

فالكثير المطرد : الحذف بعد أمر بقول ، كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد المكى المخزومى أبو عمر ، الشهير بقنبل ، من أعلام القراء ، كان إماما متقنا ، انتهت إليه مشيخة الإقراء بالحجاز فى عصره ، ورحل إليه الناس من الأقطار. توفى سنة ٢٩١ ه‍.

ينظر : الأعلام (٦ / ١٩٠) ، النشر (١ / ١٢٠) ، طبقات القراء (٢ / ١٦٥).

(٢) هو عثمان بن سعيد بن عدى المصرى ، الشهير بـ «ورش» ، من كبار القراء ، وغلب عليه لقب «ورش» ؛ لشدة بياضه ، توفى بمصر سنة ١٩٧ ه‍ ، وأصله من القيروان. ينظر : الأعلام (٤ / ٢٠٥) ، غاية النهاية (١ / ٥٠٢).

(٣) الجراضم : الأكول جدا ، ذا جسم كان أو نحيفا. ينظر : اللسان (جرضم)

والبيت للفرزدق فى الأزهية ص ١٥٠ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٤٧ ، وليس فى ديوانه ، وللوليد بن عقبة فى شرح التصريح ٢ / ٢٤٦ ، وللفرزدق أو للوليد فى شرح شواهد المغنى ٢ / ٦٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٢٠ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٢٠٠ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧٤.

(٤) الربرب : القطيع من بقر الوحش. ينظر : اللسان (ربرب).

(٥) الأكوار : جمع كور وهو الرحل. ينظر : اللسان (كور)

والبيت بلا نسبة فى شرح الأشمونى ٣ / ٥٧٣ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٤٦.

١٣٩

يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] أى : ليقيموا ، فحذف اللام لأنه بعد «قل».

وليس بصحيح قول من قال : إن أصله : «قل لهم ، فإن تقل لهم يقيموا» ؛ لأن تقدير ذلك يلزم منه ألا يتخلف أحد من المقول لهم عن الطاعة ، والواقع بخلاف ذلك ؛ فوجب إبطال ما أفضى إليه وإن كان قول الأكثر.

والقليل الجائز فى الاختيار الحذف بعد قول غير أمر كقول الراجز : [من الرجز]

قلت لبوّاب لديه دارها

تيذن فإنّى حمؤها وجارها

أراد : لتيذن ، فحذف اللام وأبقى عملها ، وليس مضطرا لتمكنه من أن يقول :

إيذن ......

وليس لقائل أن يقول : هذا من تسكين المتحرك على أن [يكون](١) الفعل مستحقا للرفع فسكن اضطرارا ؛ لأن الراجز لو قصد الرفع لتوصل إليه مستغنيا عن الفاء ، فكان يقول : تيذن إنى حمؤها وجارها ، فإذا لم يستغن عن الفاء ، فاللام والجزم مرادان.

والقليل المخصوص بالاضطرار : الحذف دون تقدم قول بصيغة أمر ولا بغيرها كقول الشاعر : [من الطويل]

فلا تستطل منّى بقائى ومدّتى

ولكن يكن للخير منك نصيب (٢)

أراد : ولكن ليكن ، فحذف اللام مضطرا وأبقى عملها ، وليس من هذا ما أنشده الفراء (٣) من قول الراجز (٤) : [من الرجز]

من كان لا يزعم أنّى شاعر

فيدن منّى تنهه المزاجر (٥)

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) البيت بلا نسبة فى تخليص الشواهد ص ١١٢ ، والجنى الدانى ص ١١٤ ، ورصف المبانى ص ٢٥٦ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٩٠ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٧٥ ، وشرح شواهد المغنى ص ٥٩٧ ، ومجالس ثعلب ص ٥٢٤ ، ومغنى اللبيب ص ٢٢٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٢٠.

(٣) ينظر : معانى القرآن للفراء (١ / ١٦٠).

(٤) فى أ : الآخر.

(٥) الرجز بلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٥٣٣ ، ورصف المبانى ص ٢٥٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٩٢ ، والشعر والشعراء ١ / ١٠٦ ، ولسان العرب (زجر).

١٤٠