فائدة :
هل المراد بالركن ما هو ركن عندنا أو عندهم؟ الاقرب الاول ، لانه الظاهر عند الاطلاق بالنسبة إلينا.
قال رحمهالله : وهل الرجوع الى كفاية من صناعة أو مال أو حرفة شرط في وجوب الحج؟ قيل : نعم ، لرواية أبي الربيع ، وقيل : لا ، عملا بعموم الآية ، وهو الاولى.
اقول : القول الاول مذهب الشيخ في المبسوط (١) والنهاية (٢) والخلاف (٣).
واحتج عليه بالاجماع ، وبأصالة البراءة ، وبرواية أبي الربيع الشامي قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (٤) فقال : ما يقول الناس فيه؟ قال فقيل له : الزاد والراحلة ، قال فقال أبو عبد الله عليهالسلام : قد سئل أبو جعفر عليهالسلام عن هذا ، فقال : هلك الناس اذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت به عياله ويستغني عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم اياه لقد هلكوا اذن.
فقيل له : ما السبيل ، قال فقال : السعة في المال اذا كان يحج ببعض ويبقي بعض لقوت عياله ، أليس قد فرض الله الزكاة ، فلم يجعلها الا على من ملك مأتي درهم (٥).
والاصل تخالف للدليل ، وكيف يستدل بالاجماع مع وقوع هذا النزاع ،
__________________
(١) المبسوط ١ / ٢٩٦.
(٢) النهاية ص ٢٠٣.
(٣) الخلاف ١ / ٤١١ مسألة ٢.
(٤) سورة آل عمران : ٩٧.
(٥) تهذيب الاحكام ٥ / ٢ ـ ٣ ، ح ١.
والرواية قاصرة عن افادة المطلوب ، بل انما تدل على اشتراط وجود ما يمونه ويمون عياله الى حين ايابه ، ونحن نقول به.
والثاني مذهب السيد المرتضى وابن أبي عقيل وابن الجنيد ، واختاره ابن ادريس ، حتى أنه ادعى الاجماع عليه ، ولعله أقرب ، لعموم قوله تعالى « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (١) وهذا يصدق عليه أنه مستطيع.
ويؤيده قول الصادق عليهالسلام : من كان صحيحا في بدنه مخلا في سربه له زاد وراحلة ، فهو ممن يستطيع الحج (٢). وفي معناها رواية الحلبي عنه عليهالسلام (٣) ورواية محمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام (٤).
قال رحمهالله : يقضى الحج من أقرب الاماكن ، وقيل : يستأجر من بلد الميت وقيل : ان اتسع المال فمن بلده ، والا فمن حيث يمكن ، والاول أشبه.
اقول : اختلف الاصحاب في هذه المسألة ، فذهب الشيخ في المبسوط (٥) والخلاف (٦) الى الاول ، وان كان الافضل اخراجه من بلده ، والمراد بأقرب الاماكن هنا الميقات ، عملا باصالة البراءة ، ولان الواجب ليس الا الحج ، وليس قطع المسافة جزءا منه ، بدليل أنه لو اتفق حضور المكلف بعض المواقيت لا لقصد الحج أجزأه الحج من الميقات اجماعا ، ولو كان قطع المسافة جزءا منه لما صح هذا. واذا لم يكن القطع جزءا ، لم يجب الاستيجار من البلد.
__________________
(١) سورة آل عمران : ٩٧.
(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٣ ، ح ٢.
(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٣ ، ح ٣.
(٤) تهذيب الاحكام ٥ / ٣ ـ ٤ ، ح ٤.
(٥) المبسوط ١ / ٣٠٤.
(٦) الخلاف ١ / ٤١٦ مسألة ١٨.
والقول الثاني ذهب إليه ابن ادريس ، وظاهر كلام الشيخ في النهاية (١) ، وهو فتوى ابن البراج ، عملا بالاحتياط ، ولان المخرج (٢) عنه كان يجب عليه الحج من بلده ، ونفقة الطريق لازمة له ، فمع الموت تكون لازمة في ماله ، ونمنع وجوب الحج من بلده ، ويؤيده الفرض الذي قلناه.
والتفصيل الثالث منقول عن الشيخ رحمهالله جوابا في مسائل سئل عنها. ويمكن أن يحتج له بما احتج به ابن ادريس ، والجواب هو الجواب.
قال رحمهالله : ولو نذر الحج أو أفسد وهو معضوب ، قيل : يجب أن يستنيب. وهو حسن.
أقول : انما كان حسنا لشهادة الظاهر بأن فعل ذلك مع العلم بأن الافساد موجب للقضاء ، وأن النذر يوجب الوفاء ، يقتضي الالتزام باخراج ذلك من ماله وهذا القول ذكره الشيخ في المبسوط قال فيه : فان برئ فيما بعد تولاها بنفسه (٣).
قال رحمهالله : اذا نذر الحج ، فان نوى حجة الاسلام تداخلا ، وان نوى غيرها لم يتداخلا ، وان أطلق قيل : ان حج ونوى النذر أجزأ عن حجة الاسلام وان نوى حجة الاسلام لم يجز عن النذر. وقيل : لا يجزي احداهما عن الاخرى وهو الاشبه.
أقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ رحمهالله في النهاية (٤) والتهذيب (٥) اذا حج بنية النذر أجزأ عن حجة الاسلام ، ولم يتعرض للقسم الاخر.
مصيرا الى ما رواه رفاعة بن موسى النخاس عن الصادق عليهالسلام قال : سألته عن
__________________
(١) النهاية ص ٢٠٣.
(٢) فى « س » : المحجوج.
(٣) المبسوط ١ / ٢٩٩.
(٤) النهاية ص ٢٠٥.
(٥) التهذيب ٥ / ١٣.
رجل نذر أن يمشي الى بيت الله الحرام ، فمشى هل يجزيه ذلك عن حجة الاسلام؟ قال : نعم. قلت : أرأيت لو حج عن غيره ولم يكن له مال وقد نذر أن يحج ماشيا أيجزي ذلك عن مشيه؟ قال : نعم (١).
والقول الثاني ذهب إليه ابن ادريس ، وهو القول الاخر للشيخ ، وهو الحق.
لنا ـ أن النذر لا بدّ له من متعلق ، وذلك المتعلق ليس الا حجة الاسلام ، اذ لو كان حجة الاسلام لزم تحصيل الحاصل ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.
وبيان الشرطية ظاهر ، اذ وجوب حجة الاسلام سابق على النذر ، واذا ثبت التغاير لم يجز احداهما عن الاخرى ، لان التداخل خلاف الاصل.
لا يقال : لو وجب أن يكون متعلق النذر مغايرا لحجة الاسلام ، لما صح نذرها والتالي باطل اجماعا ، فالمقدم مثله.
لانا نلتزم ذلك ، وأي اجماع دل عليه ، بل انما دل على اجزاء حجة الاسلام مع نذرها ، وذلك لا يدل على صحة النذر ، سلمنا لكن النذر له فائدتان : احداهما ايجاب ما لم يكن واجبا. الثانية ايجاب الكفارة مع ترك الملتزم ، وانما صح نذر حجة الاسلام للفائدة الثانية.
لا يقال : فلم لا تحمله عند الاطلاق على حجة الاسلام بعين ما ذكرتم ، عملا بأصالة البراءة.
لانا نقول : حمله على ما تحصل به الفائدتان أولى من حمله على ما تحصل فيه احداهما فقط ، ولما أمكن ذلك عند الاطلاق صرنا إليه بخلاف التقييد.
وبالجملة فهذا الاعتراض قوي ، والجواز ضعيف ، والرواية سالمة عن المعارض ، فيجب العمل بها.
__________________
(١) تهذيب الاحكام ٥ / ١٣ ، ح ٣٥.
فرع :
لو قلنا بعدم التداخل ، فقدم حجة النذر على حجة الاسلام ، فالاقوى أنه لا يجزئ عن احداهما ، أما عن حجة الاسلام فلعدم النية ، وأما عن المنذور فلعدم صلاحية الزمان ، لان وقته بعد حجة الاسلام اجماعا.
وكذا البحث لو نوى غير حجة الاسلام وقدم المنذورة ، ويجيء على مذهب الشيخ قدس الله روحه انها تجزي عن حجة الاسلام ، وقد قواه في المبسوط (١) ، ولا أعرف وجهه ، وهو مذهب الشافعي.
قال رحمهالله : اذا نذر الحج ماشيا وجب ، ويقوم في مواضع العبور.
أقول : هل الوقوف في موضع العبور واجب أو مستحب؟ فيه وجهان :
الوجوب ، لما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه أن عليا عليهالسلام سئل عن رجل نذر أن يمشي الى بيت الله يمر بالمعبر ، قال : ليقم في المعبر حتى يجوز (٢) وظاهر الامر المطلق الوجوب ، كما بيناه في كتاب الاصول. ولان الماشي جامع في مشيه بين القيام والحركة ، ضرورة كون المشى ماهية مركبة منهما ، ونذر المركب يستلزم نذر جميع أجزائه. واذا ثبت كون القيام منذورا وجب الوفاء به اجماعا.
والثاني : الاستحباب ، لان نذر المشي انما ينصرف الى ما يصح المشي فيه ، فيكون موضع العبور مستثنى عادة ، ويعضده أصالة البراءة.
قال رحمهالله : فان ركب طريقه قضى ، وان ركب بعضا ، قيل : يقضي ويمشي مواضع ركوبه. وقيل : بل يقضي ماشيا ، لاخلاله بالصفة المشترطة. وهو أشبه.
__________________
(١) المبسوط ١ / ٣٠٣.
(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٧٨ ، ح ٣٣٩.
أقول : لا خلاف في وجوب القضاء مع ركوب جميع الطريق اختيارا ، سواء كان الوقت معينا أولا. وتجب الكفارة في المعين للخلف.
أما لو أكره على الركوب ، فان كان الوقت معينا لم تجب عليه القضاء ، لعدم تناول النذر له ، وانما أوجب القضاء مع الاختيار للتفريط ، وان لم يكن معينا فاشكال ، ينشأ : من قوله عليهالسلام : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (١). ومن اقتضاء الحج ماشيا ولم يأت ، فيبقى في العهدة ، وهو أقوى. وكذا لو ركب البعض مكرها.
أما لو ركبه اختيارا ، قال الشيخ رحمهالله في كتبه : قضى بأن يركب ما مشيه ويمشي ما ركبه. وقال ابن ادريس : يجب عليه القضاء ماشيا في العام المقبل ، ولعله أقرب.
لنا ـ أنه علق الحج على شرط المسمى ولم يوجد ، وقد عرفت أن عدم الشرط يستلزم عدم المشروط ، فيبقى في عهده التكليف ، ولانه أحوط.
ويمكن أن يحتج للشيخ رحمهالله بأن مشي الطريق ليس جزءا من الحج ، واذا كان خارجا عنه لم يكن صفة له ، إذ المشي يتناول الطريق الموصل الى الحج فكأنه نذر أن يمشي تلك الطريق حاجا. واذا مشى في عامين حاجا ، فقد حصل الامتثال ، ولا يحمل النذر على أنه نذر ايقاع أفعال الحج ما شيا ، فان فرض كذلك لم يتحرج فتواه ، وهذا الوجه ذكره المصنف في نكت النهاية (٢).
قال رحمهالله : ولو عجز قيل : يركب ويسوق بدنة. وقيل : يركب ولا يسوق. وقيل : ان كان مطلقا توقع المكنة من الصفة ، وان كان معينا بوقت سقط فرضه لعجزه ، والمروي الاول ، والسياق ندب.
__________________
(١) سنن ابن ماجة ١ / ٦٥٩ ، برقم : ٢٠٤٣.
(٢) نكت النهاية ص ٦٠٩.
أقول : القول الاول ذكره الشيخ رحمهالله ، مصيرا الى الروايات المشهورة عن أهل البيت عليهمالسلام.
والقول الثاني ذكره المفيد ، نظرا الى سقوط النذر مع تحقق العجز ، عملا بالاصل ، استنادا الى ظاهر رواية صفوان عن ابن أبي عمير عن رفاعة بن موسى قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ـ الحديث (١).
وأما التفصيل ، فقد ذكره المتأخر ، وهو حسن في المطلق.
واما سقوط فرض الحج المعين مع العجز عن المشي ، فليس بجيد ، لان الحج المنذور ماشيا قد يضمن شيئين : أحدهما الحج ، الثاني الاتيان به ماشيا ، وسقوط أحدهما للعجز لا يستلزم سقوط الاخر ، لوجود القدرة عليه ، ويحمل السياق على الندب ، توفيقا بين الادلة.
قال رحمهالله : ولا تصح النيابة عن المسلم المخالف ، الا أن يكون أب النائب.
أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخان قدس الله روحهما.
قال المصنف في المعتبر : وربما كان التفاتهم الى تكفير من خالف الحق ، ولا تصح النيابة عمن اتصف بذلك (٢).
ونحن نقول : ليس كل مخالف للحق لا تصح منه العبادة ، ونطالبهم بالدليل عليه ، ونقول : اتفقوا (٣) على أنه لا يعيد عباداته التي فعلها مع استقامته سوى الزكاة.
والاقرب أن يقال : لا تصح النيابة عن الناصب ، ونعني به من يظهر العداوة والشنان لاهل البيت عليهمالسلام ، وينسبهم الى ما يقدح في العدالة ، كالخوارج ومن ماثلهم.
__________________
(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٠٣.
(٢) المعتبر ٢ / ٧٦٦.
(٣) فى « م » : اتفق.
ودل على ما قلناه رواية وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله عليهالسلام قلت : أيحج الرجل عن الناصب؟ قال : لا ، قلت : ان كان أبي؟ قال : ان كان أبوك فنعم (١).
واعلم أن ابن ادريس منع الاستثناء ، مدعيا الاجماع على المنع مطلقا.
قال الشيخ نجم الدين : ولست أدري الاجماع الذي ادعاه أين هو؟ والتعويل ليس الا على المنقول عن أهل البيت عليهمالسلام ، وهو خبر واحد قد قبله الاصحاب ، وهو يتضمن الحكمين معا ، فقبول أحدهما ورد الاخر ودعوى الاجماع غلط ، قبله محكمات يرغب عنها.
وأقول : ما ذكره سديد.
قال رحمهالله : وهل تصح نيابة المميز؟ قيل : لا ، لاتصافه بما يوجب رفع القلم. وقيل : نعم ، لانه قادر على الاستقلال بالحج ندبا.
اقول : الانسب بالمذهب أنه لا تصح نيابته ، لان حجه انما هو تمرين ، والحكم بصحته انما هو بالنسبة الى ما يراد من تمرينه ، لا لانه تقع مؤثرا في استحقاق الثواب ، اذ شرط التكليف منتف بالنسبة إليه.
قال رحمهالله : ولا تصح نيابة من وجب عليه الحج واستقر ـ الى قوله : ـ ولو تطوع قيل : تقع عن حجة الاسلام ، وهو تحكم.
أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمهالله في المبسوط (٢) ، وهو مذهب الشافعي ، والاستدلال لنا عليها يعرف من الاستدلال على الفرع المذكور في مسألة النذر.
ويمكن أن يحتج الشيخ رحمهالله بأن نية حجة التطوع يستلزم نية الحج المطلق ، ضرورة كون المطلق جزءا من المقيد ، واذا ثبت استلزامها لها ، وجب
__________________
(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٤ ، ح ٨٧.
(٢) المبسوط ١ / ٣٠٢.
صرف المطلق الى حجة الاسلام ، لثبوتها في الذمة والغاء الزيادة ، وهو غلط ، لان المطلق يستحيل وجوده الا في أخذ جزئياته وجزئياته متضادة.
واعلم أن الشيخ رحمهالله في الخلاف (١) جوز التطوع لمن عليه حج واجب وهو وهم ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
قال رحمهالله : ومن استوجر فمات في الطريق ـ الى آخره.
أقول : البحث في هذه المسألة كالبحث في مسألة الاصيل ، وقد تقدم.
قال رحمهالله : ويجب أن يأتي بما شرط عليه : من تمتع ، أو قران أو افراد وروي : اذا أمر أن يحج مفردا أو قارنا ، فحج متمتعا ، جاز لعدوله الى الافضل لا مع تعلق الغرض بالقران أو الافراد.
أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمهالله في كتبه ، قال : لانه عدل الى الافضل.
قال رحمهالله : وكذا لو أمر أن يحج مفردا فقرن جاز أيضا ، لانه أتى بالافراد وزيادة ، تمسكا برواية أبي بصير عن أحدهما في رجل أعطى رجلا دراهم ليحج عنه حجة مفردة يجوز له أن يتمتع بالعمرة الى الحج؟ قال : نعم ، انما خالف الى الفضل والخير (٢).
ولنا ـ أن الاجارة تناولت نوعا معينا ، فلا يجوز العدول الى غيره ، لانها لم يتناوله ، فالاتيان به اتيان بغير ما وقع عليه عقد الاجارة ، فلا يكون مبرءا للذمة.
وتحمل الرواية على من استوجر للتطوع ، وعلم أن قصد المستأجر الاتيان بالافضل ، فيعرف الاذن من قصده إرادة الافضل ، فيجوز الاتيان به لما ذكرناه ويخرج عن العهدة.
__________________
(١) الخلاف ١ / ٤١٦ ، مسألة ١٩.
(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٦ ، ح ٩٢ ، وفيه : والخبر الّذي رواه الخ.
وحملها الشيخ رحمهالله في التهذيب (١) على من وجب عليه التمتع ، فلو أمر بالافراد عنه ، جاز له العدول عنه الى التمتع ، لانه فرض المحجوج عنه وان كان أمر بالافراد ، ومع هذا فهي معارضة برواية الحسن بن محبوب عن علي عليهالسلام (٢).
قال رحمهالله : ولو شرط الحج على طريق معين ، لم يجز العدول ان تعلق بذلك غرض. وقيل : يجوز مطلقا.
أقول : القائل بالجواز مطلقا هو الشيخ رحمهالله ، تمسكا بالاصل ، ولان المقصود بالذات هو الحج وقد فعله ، فيكون مجزيا.
ونحن نقول : ان تعلق بالطريق المعين غرض صحيح لم يجز العدول عنه ، وان صح الحج ويرجع عليه بالتفاوت ، والا جاز.
أما الاول ، فلانه شرط سائغ ، فيجب الوفاء به. أما الاولى ففرضية ، وأما الثانية فاتفاقية. واذا ثبت وجوب الوفاء به ، حرم العدول عنه.
واما الرجوع عليه بالتفاوت ، فلان عقد الاجارة يقتضي تقسيط الاجرة على المسافة والافعال ، فاذا فعل بعض المسافة نقص من الاجرة بقدر ما نقص منها. وقال الشيخ : لا يرجع ، اذ لا دليل عليه وقد بيناه.
وأما صحة الحج مع العدول عن الطريق المعين ، فلاتيانه بالمعقود عليه ذاتا وعليه دلت رواية حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أعطى رجلا حجة يحج عنه من الكوفة ، فحج من البصرة ، قال : لا بأس (٣).
__________________
(١) التهذيب ٥ / ٤١٦.
(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٦ ، ح ٩٣.
(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٥ ، ح ٩١.
قال رحمهالله : ولو صد قبل الاحرام ودخول الحرم ، استعيد من الاجرة بنسبة المتخلف ، ولو ضمن الحج في المستقبل لم يجب اجابته ، وقيل : يلزم.
اقول : القول الاول ذكره الشيخ رحمهالله ، والثاني اختاره المصنف.
والتحقيق أن نقول : الاجارة اما أن يكون معينة أو مطلقة ، فان كانت معينة وصد قبل الاحرام ودخول الحرم ، انفسخت الاجارة واستعيد من الاجرة ما قابل المتخلف ، وعلى المستأجر استيجاره ، أو غيره ان كان عليه حج واجب ، والا فلا فان قصد الشيخ ذلك فصواب والا فلا. وان كانت مطلقة في الذمة ، لم ينفسخ الاجارة ، وعليه الاتيان بها مع المكنة ، لثبوتها في الذمة.
قال رحمهالله : ولو حمله حامل فطاف به ، أمكن أن يحتسب كل منهما طوافه عن نفسه.
أقول : ألحق ابن الجنيد قيدا ، فقال : ما لم يكن الحامل أجيرا ، ولا بأس به ، لان سعيه حينئذ مستحق للمستأجر ، فلا يجوز صرفه في الطواف عن نفسه ، والمطلق يقيد للدليل ، وقد بيناه.
قال رحمهالله : ولو أفسد حجه حج من قابل ، وهل يعاد بالاجرة عليه؟ يبنى على القولين.
أقول : المراد بالقولين ما ذكره الاصحاب في من حج عن نفسه حجة الاسلام فأفسدها ، فان الاصحاب مختلفون فيها ، فذهب بعضهم الى أن الاولى حجة الاسلام والثانية عقوبة ، وآخرون عكسوا.
فان قلنا بالاول ، فقد برأت ذمة المستأجر مع كمالها ، وعليه القضاء في القابل (١) عقوبة ، ولا ينفسخ الاجارة.
وان قلنا بالثاني ، كان الجميع لازما للنائب ، ولا يجزئ عن المنوب ، ويستعاد
__________________
(١) فى « س » : بالقابل.
منه الاجرة ان كانت الاجارة معينة ، وان كانت مطلقة كان على الاجير الحج عن المستأجر بعد حجة القضاء ، لانها تجب على الفور.
قال في المعتبر : ويمكن أن يقال : الحجة الثانية مجزية عن المستأجر ، لانها قضاء عن الحجة الفاسدة ، كما يجزئ عن الحاج نفسه (١).
وهذا القول موجود في أحاديث أهل البيت عليهمالسلام ، لاتيانه بالمعقود عليه ، وهو تحريج غير مستند الى رواية.
روى الحسين بن عثمان عن اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل حج عن رجل ، فاجترح في حجه شيئا يلزمه فيه الحج من قابل والكفارة؟ قال : هي للاولى تامة ، وعلى هذا ما اجترح (٢).
ومن طريق صفوان بن يحيى عن اسحاق بن عمار قلت : ان ابتلي بشيء ففسد عليه حجه حتى يصير عليه الحج من قابل ، أيجزئ عن الاول؟ قال : نعم قلت : ان الاجير ضامن للحج؟ قال : نعم (٣).
وينبغي أن يكون العمل على هذا ، وهو الاقوى عندي.
واعلم أن الشيخ في المبسوط قال : ان أفسد النائب الحج ، فاما أن يكون السنة معينة أو مطلقة ، فان كانت معينة انفسخت الاجارة ، وعليه استيجار من ينوب عنه ، وان كانت مطلقة وجب عليه أن يأتي بحجة النيابة بعد اكمال الحجة الفاسدة وقضاها (٤). وتبعه ابن ادريس. والمعتمد ما ذكرناه نحن.
قال رحمهالله : ولو احصر تحلل بالهدي ولا قضاء عليه.
__________________
(١) المعتبر ٢ / ٧٧٦.
(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٦١ ، ح ٢٥٢.
(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٧ ـ ٤١٨ ، ح ٩٦.
(٤) المبسوط ١ / ٣٢٢.
اقول : البحث في المحصر كالبحث في المصدود ، وقد مر مستوفى.
قال رحمهالله : اذا أوصى أن يحج عنه ولم يعين الاجرة ، انصرف ذلك الى اجرة المثل ، وتخرج من الاصل اذا كانت واجبة ، ومن الثلث اذا كانت مندوبة (١) ، ويستحقها الاجير بالعقد ، فان خالف ما شرط قيل : كان له اجرة المثل والوجه أنه لا اجرة.
أقول : انما كان الوجه عدم استحقاق الاجرة ، لان العقد انما يتناول شيئا معينا ، فاذا لم يفعله وفعل غيره ، يكون قد فعل ما لم يتناوله العقد ، فلا يستحق اجرة لانه يكون متبرعا بفعل ذلك النوع ، ولم أقف لاحد من الاصحاب في هذه المسألة على فتوى قائلها.
قال رحمهالله : اذا عقد الاحرام عن المستأجر [ عنه ] ثم نقل النية الى نفسه لم يصح ، فاذا أكمل الحجة وقعت عن المستأجر عنه ، ويستحق الاجرة. ويظهر أنها لا تجزي عن أحدهما.
اقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمهالله في الخلاف (٢) ، واختارها المصنف في المعتبر (٣).
والحق أن هذه الحجة لا تجزئ عن حجة النيابة ، ولا عن الاجير نفسه ، سواء كانت الاجارة معينة أو مطلقة في الذمة.
أما عن المنوب ، فلان استحضار النية عنه عند كل فعل أو استدامتها شرط ولم يحصل ، واذا بطل الشرط بطل المشروط.
وأما عن النائب ، فلان الحجة اذا كانت معينة ، فالزمان مستحق للمستأجر
__________________
(١) فى « م » : ندبا.
(٢) الخلاف ١ / ٤٧٦ مسألة ٢٤١.
(٣) المعتبر ٢ / ٧٧٠.
فلا يجوز في غير ما وقع عليه عقد الاجارة ، فاذا صرفه عن نفسه يكون قد فعل فعلا منهيا عنه ، والنهي في العبادات يدل على الفساد ، كما بين في أماكنه.
وأما اذا كانت مطلقة ، فلانه قد مضى بعض أفعال الحج ولم ينوه لنفسه ، فلا يكون واقعا عنه ، اذ الاعمال بالنيات ، أي : واقعة بحسب النيات. واذا لم يكن واقعا عنه ، لم يصح حجه عن نفسه ، اذ الحج لا يتبعض ، لانه عبادة واحدة ولا عن المستأجر ، لما ذكرنا من الاخلال بالشرط ، وهو : اما الاستحضار ، أو الاستدامة.
احتج الشيخ رحمهالله بأن الاحرام انعقد عن المستأجر ، فلا يجوز العدول به الى نفسه ، واذا لم يجز العدول لم يصح النقل ، ولان أفعال الحج استحقت لغيره بالنية الاولى ، فلا يصح نقلها ، واذا لم يصح النقل ، فقد تمت الحجة لمن بدأ بالنية له.
والجواب : لا نزاع في أن النقل لا يصح ، ولا تأثير له في وقوع الحج عن الاجير ، ولكن لا يلزم من ذلك صحة الحجة عن المستأجر ، لانا انما أبطلناها لفوات شرطها ، وهو أما الاستحضار أو الاستدامة.
وانما طولنا الكلام في هذه المسألة لكونها من المهمات.
قال رحمهالله : من عليه حجة الاسلام ونذر اخرى ، ثم مات بعد الاستقرار أخرجت حجة الاسلام من الاصل ، والمنذورة من الثلث. ولو ضاق المال الا عن حجة الاسلام اقتصر عليها ، ويستحب أن يحج عنه النذر.
ومنهم من سوى بين المنذورة وحجة الاسلام في الاخراج من الاصل والقسمة مع قصور التركة ، وهو أشبه ، وفي الرواية اذا نذر أن يحج رجلا ومات وعليه حجة الاسلام ، أخرجت حجة الاسلام من الاصل وما نذره من الثلث. والوجه التسوية لانهما دين.
اقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ رحمهالله في كتبه ، مصيرا الى الرواية المروية عن أبي جعفر عليهالسلام قال : سألته عن رجل عليه حجة الاسلام ونذر في شكر ليحجن رجلا ، فمات الذي نذر قبل أن يحج حجة الاسلام وقبل أن يفي بنذره ، فقال : اذا ترك مالا حج عنه حجة الاسلام من جميع ماله ويخرج من ثلثه ما يحج عنه النذر ، وان لم يترك مالا الا بقدر حجة الاسلام حج عنه حجة الاسلام مما ترك وحج عنه وليه النذر فانما هو دين (١).
قال في التهذيب : حج الولي على الاستحباب ، لرواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل نذران عافا الله ابنه ليحجنه ، فعافى الله الابن ومات الأب قال : الحجة على الأب يؤديها عنه بعض ولده ، قلت : هي واجبة على الابن؟ قال : هي واجبة على الأب من ثلثه (٢).
والقول الثاني ذهب إليه ابن ادريس ، محتجا بالعمومات الدالة على وجوب اخراج الدين من الاصل ، وهذا دين ، والاقوى الاول ، والعام يخص للدليل.
واعلم أن قوله « والقسمة مع قصور التركة » أي : اذا كان يمكن اخراج الحجتين من المال من أقرب الاماكن قسط عليهما ، أما لو لم يتسع الا لواحدة فقط أخرجت حجة الاسلام اتفاقا منا.
قال رحمهالله تعالى : وهذا القسم فرض من كان بين منزله اثنا عشر ميلا فما زاد من كل جانب. وقيل : ثمانية وأربعون ميلا.
__________________
(١) تهذيب ٥ / ٤٠٦ ، ح ٥٩.
(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٠٦ ، ح ٦٠.
اقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ في المبسوط (١) والجمل (٢) والاقتصاد (٣) وتبعه أبو الصلاح وابن ادريس.
والقول الثاني ذهب إليه الشيخ المفيد والشيخ في النهاية (٤) والتهذيب ، تعويلا على رواية زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قلت لابي جعفر عليهالسلام في قوله تعالى « ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » (٥) قال عليهالسلام : يعني : أهل مكة ليس لهم متعة ، فكل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان وكل بدور حول مكة ، فهو ممن دخل في هذه الآية ، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة (٦).
وفي معناها رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام (٧).
والشيخ رحمهالله كأنه قسم في المبسوط الثمانية والاربعين على الجوانب الاربعة ، فيكون كل جانب اثنا عشر ميلا ، وباقي الاصحاب عولوا على الاطلاق.
فرع :
لو كان على رأس اثنا عشر ميلا فقط من كل جانب ، أو ثمانية وأربعين على القول الاخر ، وجب التمتع قولا واحدا.
قال رحمهالله : ولا بدّ من وقوع التمتع في أشهر الحج ، وهي شوال وذو
__________________
(١) المبسوط ١ / ٣٠٦.
(٢) الجمل والعقود ص ٢٢٤.
(٣) الاقتصاد ص ٢٩٨.
(٤) النهاية ص ٢٠٦.
(٥) سورة البقرة : ١٩٦.
(٦) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٣ ، ح ٢٧.
(٧) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٣ ، ح ٢٨.
القعدة وذو الحجة ، وقيل : وعشر من ذي الحجة وقيل : والى طلوع الفجر من يوم النحر. وضابط وقت الانشاء ما يعلم أنه يدرك المناسك.
اقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ في النهاية (١) ، واختاره ابن الجنيد ، لان باقي أفعال الحج يصح وقوعهما في طول ذي الحجة كالطواف والسعي وما شابههما لقوله تعالى « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ » (٢) أتى بصيغة الجمع ، وأقل الجمع ثلاثة كما بين في علم العربية. ويؤيده رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام (٣).
والقول الثاني مذهب ابن أبي عقيل والسيد المرتضى قدس الله روحهما ، وتبعهما سلار ، لادراك الحج مع الوقوف بالمشعر في ذلك اليوم ولو قبل الزوال وسيأتي تحقيقه.
والقول الثالث مذهب الشيخ في الجمل (٤) والاقتصاد (٥) ، وتبعه ابن البراج ، نظرا الى وقوع أعظم الاركان ، وهو الوقوف بعرفة فيه.
والقول الرابع مذهبه في أكثر كتبه ، وتبعه ابن حمزة ، نظرا الى أنه يصح إنشاء الاحرام بالحج فيه لمن عرف أنه يدرك المشعر اختيارا.
وقيل خامسا : شوال وذو القعدة وثمان من ذي الحجة ، نظرا الى ما ورد من الحث على الاحرام فيه.
واعلم أن هذا النزاع لفظي فقط ، والا فضابط وقت الانشاء ما يعلم ادراك
__________________
(١) النهاية ص ٢٠٧.
(٢) سورة البقرة : ١٩٧.
(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٤٥ ، ح ١٩٦.
(٤) الجمل والعقود ص ٢٢٤.
(٥) الاقتصاد ص ٢٩٨.
المناسك فيه في أوقاتها المحدودة لها ، وذلك يختلف بحسب اختلاف المكلفين في القوة والضعف والمكنة.
قال رحمهالله : ويجب على الحاج الاحرام من الميقات مع الاختيار ، ولو أحرم بحج التمتع من غير مكة لم يجزيه ، ولو دخل باحرامه مكة على الاشبه وجب استئنافه منها.
أقول : لا أعرف في وجوب الرجوع الى مكة مع المكنة واستئناف الاحرام منها خلافا بين الاصحاب فأنقله ، وانما الجمهور جوزوا الاحرام قبل الميقات ، واختلفوا في الافضل ، فقال الشافعي : الافضل الميقات ، لان النبي عليهالسلام أحرم منه ولو كان مفضولا لما أحرم منه.
وقال أبو حنيفة : ما بعد الميقات أفضل ، وهو القول الاخر للشافعي ، لما روت أمّ سلمة عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من أحرم بحج أو عمرة من المسجد الاقصى وحل منها بمكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (١).
واعلم أن في كلام الشيخ في المبسوط (٢) اجمالا ، وأظنه الذي أوجب هذا الاحتراز.
ولقد سمعت شيخنا كثيرا ما يقول : قد يشير المصنف تارة الى خلاف الجمهور وتارة الى ما يختاره من غير أن يكون مذهبا لاحد ، فيظن أن فيه خلافا ، فاعلم ذلك.
قال رحمهالله : ولو تعذر ذلك قيل : يجزيه ، والوجه أنه يستأنفه حيث أمكن ولو بعرفة ان لم يتعمد ذلك ، وهل يسقط الدم والحال هذه؟ فيه تردد.
أقول : قال في المبسوط : والمتمتع اذا أحرم بالحج من خارج مكة ، وجب عليه الرجوع إليها مع الامكان ، فان تعذر لم يلزمه شيء وتم حجه ولا دم عليه ،
__________________
(١) سنن البيهقى ٥ / ٣٠.
(٢) المبسوط ١ / ٣١١.
سواء أحرم من الحل أو الحرم (١). وبمعناه قال في الخلاف (٢).
والحق ما قاله المصنف ، وهو اختياره في المعتبر (٣).
لنا ـ أن الاحرام عبادة شرعية موقتة بوقت شرعي ، فلا يجوز فعلها قبله ، كغيرها من العبادات ، وانما سوغنا الاحرام من أي موضع أمكن مع عدم التعمد للضرورة ، وليس لما قاله الشيخ وجه.
فرع :
لو خشي مع الرجوع فوت الحج أحرم من حيث لا يفوته. وأما سقوط الدم فشيء ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف ، محتجا باصالة براءة الذمة.
وهل المراد بهذا الدم دم الهدي الواجب على المتمتع أو دم شاة؟ ظاهر كلام الشيخ في الخلاف الثاني.
وسمعت شيخنا يقول : المراد بالدم هنا دم هدي التمتع ، وذاك أن الفقهاء اختلفوا فيه ، فذهب الشافعي الى أنه وجب جبرا لما يصيب الحج من النقص ، وهو ايقاع الاحرام في غير الميقات ، ولهذا لو أحرم بالحج من الميقات سقط فرض الدم ، اذ لا نقص فلا جبران.
وذهب أبو حنيفة الى أنه نسك ، واختاره الشيخ في الخلاف (٤) ، واحتج بالاجماع ، وبقوله تعالى « وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ » (٥)
__________________
(١) المبسوط ١ / ٣١٢.
(٢) الخلاف ٢ / ٤٢٠ مسألة ٣١.
(٣) المعتبر ٢ / ٨٠٥.
(٤) الخلاف ١ / ٤٢٢ مسألة ٣٥.
(٥) سورة الحج : ٣٦.
أخبر الله تعالى أنه من الشعائر ، أي : من جملة العبادات التي تعبدنا بها. وقيل : معناه من معالم الله وأمر بالاكل منها.
ولو كان جبرانا لما ساغ الاكل ، واذا كان اجماعنا منعقدا على أن الهدي نسك ليس بجبران ، فلا معنى للتردد حينئذ.
وان أراد بالدم دم شاة ، فلا معنى للتردد فيه أيضا ، اذ لا وجه لوجوبه ، أما لو تعمد الاحرام من غير مكة ، وجب عليه الرجوع الى مكة مع المكنة وإنشاء الاحرام منها ، كما قدمناه. فلو تعذر الرجوع ، فلا حج له بناء على قاعدتنا.
وقال في المبسوط في باب المواقيت : من أخر الاحرام عن الميقات عامدا وجب الرجوع إليه ، فان لم يمكن فلا حج له ، وقد قيل : انه يجبره بدم وقد تم حجه (١).
فان قلنا بهذا القول هنا قلنا به أيضا في من تعمد الاحرام من غير مكة ، لكنه قول شاذ مناف للاصل ، فاذن العمل على الاول.
وبالجملة فلا وجه للتردد في اسقاط الدم على جميع التقادير.
وانما طولنا الكلام في هذه المسألة لكونها من المهمات ، ولوقوع الاشتباه فيها أيضا.
قال رحمهالله : والافراد والقران فرض أهل مكة ومن بينها وبينه دون اثنا عشر ميلا ، فان عدل هؤلاء الى التمتع اضطرارا جاز ، وهل يجوز اختيارا؟ قيل : نعم ، وقيل : لا ، وهو الاكثر ، ولو قيل بالجواز لم يلزمهم هدى.
أقول : لا خلاف بين علمائنا في تحريم العدول عن التمتع اختيارا ، وانما الخلاف في العدول إليه ، فذهب في النهاية (٢) الى أنه لا يجوز ، واختاره المتأخر
__________________
(١) المبسوط ١ / ٣١٢.
(٢) النهاية ص ٢٠٦.