رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

كان الباشا مرتبكا ومتحيرا بالكلية ، وغير قادر على إيجاد طريق يسلكه ، فقد حمل على أن يصادق على الإجراء الذي اقترحه عليه محمد مصرف والمير آخور بدلا من أن يأمر به من عنده. فترك هذان الرجلان حضرته وتوجها لتوّهما إلى حيث كان يقيم القبوجي بعد أن اصطحبا معهما «چاووشا» ضخم الجثة. أما الرجل ، الذي كان قد أوى إلى مضجعه لينام ، فقد تخوّف بطبيعة الحال من الطريقة الخالية من المجاملة التي أوقظ بها من نومه ، وبصوت يعبر تعبيرا كافيا عما كان يساوره من خوف وفزع سألهما عما يريدانه. ثم أضاف قائلا إنه يرجو أن لا تكون زيارتهما له في مثل ذلك الوقت منطوية على شيء من الأذى. فرد عليه السيد المصرف بقوله «إن هذا ما ستعرفه في الحال ، وإن الله جة التي وجدت من المناسب أن تقابلني بها يوم أمس (١) ، سوف ترد عليك هذه الليلة». وإذ كان البائس المسكين قد استولى عليه الخوف تمام الاستيلاء ، فقد التجأ على ما يقال إلى أخس أنواع التضرع والتوسل ، لكن السيد المصرف دعا إلى الدخول «الچاووش» الضخم (٢) الذي كان يحل الشال من محزمه بهدوء فألقى بلفة من شاله هذا حول عنق القبوچي وقضى بسرعة على حياته وتوسلاته معا (٣).

ومما يدل على أن الذين اقترفوا جريمة القتل النكراء هذه كانوا أبعد ما

__________________

(١) إنه يقصد الخشونة التي قابله بها صادق أفندي في طوزخرماتو حينما أرسل المصرف من قبل الباشا للترحيب به من هناك.

(٢) المعروف في كثير من المراجع أن هذا العريف كان يسمى خالد أغا ، وقد كان معه عند ارتكاب الجريمة رمضان أغا حاجب داود باشا أيضا.

(٣) إن رواية لونكريك للحادث فيها اختلاف غير يسير عن هذه الرواية. فهو يشير إلى أن صادق أفندي لم يضلل الباشا وإنما قابل الوفد الذي أرسل مع الهدايا للترحيب به من طوزخرماتو ، بخشونة صريحة. وكذلك قابل المستقبلين على أبواب بغداد بنفس الطريقة. وهو لم يقابل الباشا الذي كان ينتظره في السراي ، وإنما أجل ذلك إلى اليوم الثاني. وتذكر هذه الرواية كذلك أن صادق أفندي هو الذي فاتح داود باشا بعزله وطلب منه تسليم الحكومة إليه.

١٢١

يكون عن الارتياح من النتائج التي ستترتب عليها أنهم ، لأجل أن يزيلوا الشك ويسكنوا ضجة الناس التي أثيرت بهذه المناسبة ، أطافوا بشخص أريد به أن يمثل القبوجي مرة أو مرتين في الشوارع بعد أن ألبس ملابسه الخاصة. لكن إشاعات اغتياله تمادى الناس في تصديقها حتى وصلت إلى مسامع المقيم الكولونيل تايلور ، الذي ألقى تبعة الجريمة على عاتق الباشا نفسه وصور له عواقبها المحتملة بألوان بارزة. على أن الباشا حاول أن يوري ويورّب بادىء ذي بدء ، لكن زمجرة العاصفة من بعيد التي كانت تتجمع غيومها في استانبول سرعان ما أدت ليس إلى اعتراف سموه فقط بل إلى طلب المشورة والمساعدة بصورة جدية أيضا. ولاعتبارت سياسية ، وقناعة بأن الباشا كان مجبرا على اقتراف جريمة يشيع اقترافها في البلاطات الشرقية أو فوجىء باقترافها من قبل فاعليها الأصليين ، اقتنع المقيم (١) بأن يعرض الأمر على المسؤولين في استانبول بصورة يدافع فيها عنه. وهناك قليل من الشك بأن القضية كانت ، مع شيء من التنازل من جانب الباشا ، ستنتهي في صالحه هو ـ وعند ذاك كان المقيم سيحصل على نفوذ ممتاز لدى الباشا ومفيد جدا للباشوية نفسها ـ لو لا أن تحل بالبلاد النكبة التي أتيت على وصفها من قبل فتؤدي إلى حصول تبدل سياسي وطبيعي في شكل الأشياء العامة كلها ، وحدوث ثورة كلية في مصائر الباشوية وتبديل حكامها.

فقد أفنى الطاعون قوة داود باشا العسكرية بالكلية. ولأجل ان يكون بوسعنا تكوين فكرة عن التدمير التام الذي أصاب جيشه العتيد يجدر بنا أن نذكر أن قطعة عسكرية عدتها ألف رجل ومدربة تدريبا عسكريّا على النسق البريطاني ، لأن الكولونيل تايلور نفسه كان يقودها في يوم من الأيام ، لم يبق منها على قيد الحياة سوى رجل واحد. وقد ترك الباشا بالفعل لوحده في دار

__________________

(١) يلاحظ القارئ من هذا أن الإنكليز منذ ذلك الحين كان يعرف تدخلهم في شؤون العراق الداخلية وتوجيهها بالشكل الذي يضمن مصالحهم. فقد كتب أحد الرحالة الفرنسيين (أوشيه أيلوي ١٨٣٥ م) يقول إن المقيم كان مجبرا على التسامح في أمر الجريمة لرغبته في إبقاء نظام الحكم الذي كان موجودا يومذاك.

١٢٢

كان قد اضطر للالتجاء إليها حينما تهدم قصره ، ومن هناك ، كما سيتبين فيما بعد ، تسلمه رجل يدعى صالح بك كان يمت بصلة الدم إلى بعض الباشوات السابقين ، وتخامره فكرة الحصول على الباشوية لنفسه يومذاك.

وما إن خفت وطأة الطاعون وأدبر شره حتى تقدم أنصار علي (١) باشا نحو بغداد لانتزاع باشويتها له. وكان علي باشا حلب ، قد نصبه الباب العالي لها وأمّن على مساعدة باشا الموصل قاسم أغا له كما يعتقد. وكان الأنصار يتألفون من الشيخ صفوك شيخ شمر الجربا ، وسليمان غنام (٢) الرجل المغامر المتصف ببعض القابليات ، الذي استطاع أن يجمع لفيفا من الغوغاء ويجعلهم من أتباعه. غير أن سكان المدينة ، على ما يظهر ، لم يكونوا ميالين للترحيب به فرابط الحلفاء حول المدينة التي حاولوا كسبها بالقتال من جهة والمفاوضة من جهة أخرى ، وبالخيانة كما تبين فيما بعد من جهة ثالثة. وقد تبين كذلك أن البعض من هؤلاء المتحالفين على الأقل كان يلعب أدوارا مزدوجة ، يدس فيها مع داود وربما مع صالح بك أيضا بينما يتظاهر بكونه يتفانى من أجل علي. وبهذه الاتجاهات المتضاربة دخل الأشخاص الثلاثة ، الذين ذكرت أسماؤهم ، إلى المدينة التي ادّعى قاسم باشا فيها أنه كهية علي باشا. غير أن السكان وقفوا في وجههم وأجبر الشيخ صفوك وسليمان غنام على أن يلوذا بالفرار ، وكان فرار الشيخ صفوك من دار تقع على النهر الذي عبره سباحة إلى الجانب الآخر. ثم قبض على الآخرين ، وحينما تخلى عن قاسم باشم حرسه الخاص اقتاده أحمد أغا التفنگچي باشي العائد لداود إلى بئر قريبة وألقاه فيها (٣).

__________________

(١) هو الحاج محمد علي رضا باشا الذي كانت بعهدته باشوية حلب ، وهو من اللاز الذين يمتون للشراكسة بصلة ويقطنون في الساحل الجنوبي الشرقي من البحر الأسود. وقد صدر الفرمان بتعيينه لباشويات بغداد وحلب وديار بكر والموصل في وقت واحد.

(٢) سيأتي تعريفه فيما بعد.

(٣) يقول لونكريك بهذه المناسبة «.. غير أن العنف الخالي من الحكمة الذي أبداه قاسم (المقبل على السكر كما قيل) وسوء سلوك أحلافه الشمريين والعقيل سرعان ما ـ

١٢٣

على أن هذه الإجراءات المتصفة بالعنف كان من شأنها أن تعزز صداقة صفوك وسليمان غنام لعلي. فحاصروا المدينة لمدة ثلاثة أشهر ، وصار مدفع الباشا الجديد الذي وصل إلى معسكره في هذه الأثناء يقصف المدينة من جميع الجهات. وأخيرا ، نفد صبر الأهلين وبادر شخص من التجار كان يدعى الحاج خليل إلى الاتصال بعلي الذي سمح لقواته في إحدى الليالي بالدخول إلى المدينة عن طريق الباب الجنوبية.

وفي أثناء هذه الإجراءات كلها كان داود المنكود الحظ ، وهو يعاني ما يعاني من تأثيرات الطاعون الذي أصيب به فنجا منه بأعجوبة ، بعد أن تخلى عنه جميع من بقي من أهله ورجاله وحتى نسائه عدا اثنتين منهن تمسكتا به إلى النهاية ـ يقبع مختفيا في دار رجل بغدادي يعرف بلقب قره بيبر (١) وكان قد فرّ ملتجئا إليها بعد أن تهدم قصره كما تمت الإشارة إليه من قبل. وقد كان قبل

__________________

ـ استفز همم البغداديين ، ولم يكن فيهم شيء ثابت سوى ترددهم. فقاموا بوجه الجائرين. وقد أشيع يومئذ أن قاسم باشا كان ينوي الاحتيال على رئيسه ليحكم بغداد بنفسه ... وعندما قرئ فرمان عزل داود باشا على الجميع طلب قاسم تنفيذ ذلك في الحال. غير أن مجلس الشورى. المؤلف من الضباط وأشراف البلد ، أصروا على تأجيل التنفيذ ... فخفوا إلى الاجتماع في دار صالح بك ، وجرى نقاش بينهم .. وتقرر وجوب تنحية قاسم.

وفي صباح اليوم الثالث عشر من حزيران ذهب قاسم إلى ديوانه وطلب إحضار داود ، فعاد من بعثوا لإحضاره خائبين. ثم سمعت جلبة وضوضاء في الخارج ، فكان ذلك أن قوة من المماليك والأهالي والعقيل قد أحاطت بالبناية وأصبح الحاكم الجديد أسيرا في حوزتها. وعند ما حاول أتباعه في الداخل ومريدوه في الخارج الدفاع والهجوم على المتجمهرين توسعت أعمال الفوضى وكثر إطلاق النار فسحبت المدافع من القلعة وسطا المتجمهرون على القنابل والذخيرة .. وبعد ظهر اليوم استسلم قاسم .. أما سليمان غنام الذي بقي مسيطرا على جناح من السراي حتى مغيب الشمس فقد سرق عند حلول الظلام جميع ما تمكن من حمله ، ثم أضرم النار في القاعة الكبرى وفر هاربا والسيف بيده مارا بالأزقة والشوارع الخالية».

(١) أي النيص الأسود بالتركية ، وهو محمد أغا من ملتزمي الاحتساب ، وزوج حبيبة خانم.

١٢٤

ذلك الوقت يعيش في الدرجة الأولى على خدمات رجل يدعى سيد هندي ، كان في يوم من الأيام من أصحاب الزوارق (بلام) لكنه أصبح في الأيام الأخيرة من اللائذين المفيدين بالمقيمية البريطانية. إذ كان هذا الرجل يجلب يوما إلى سمو الباشا وجبة واحدة من الرز ويأخذ لقاءها قطعة من النقود عادة. وهكذا كان سيد الثلاثين ألف جندي السابق يعتاش في أيام محنته وإهماله على يد رجل فقير من أصحاب الزوارق ، وأصبح الآن مدينا بحياته والقيام بأوده خلال العذاب والمرض لشخص متواضع من أصحاب الدكاكين.

على أن مكان اختفاء داود قد أصبح معروفا لدى صالح (١) بك ، الذي شاع في بغداد أنه كان يطمح بكرسي الوزارة نفسه ، فبعث أناسا يأتون بالباشا المعزول إلى حضرته ، غير أن صاحب البيت والنساء اقترحوا على الباشا ، وهم يتخوفون من عواقب تسليمه ، أن يفر هاربا من باب في الدار تطل على شارع آخر وعرضوا عليه مساعدتهم في هذا الشأن كذلك. لكن الحياة وقد طالت مرارتها عليه بتأثير المعاناة الشخصية والشعور بالخسارة الجسيمة وضرورة التخفي المستمر ، قد أصبحت في نظر داود المنحوس الطالع عديمة القيمة بحيث لا تستحق أي مقدار آخر من النضال والمقاومة. فرد المقترح بقوله : «كلا ، إن المقاومة أو الهرب قد فات أوانهما ، وسأذهب إلى أي مكان أدعى إليه وإلى أي مصير يكون». فأركب على حصان لأنه لم يكن يقوى على السير ، وأخذ إلى دار (٢) صالح بك التي يشغلها الآن المقيم البريطاني وأقيم فيها أنا

__________________

(١) إن الحاج صالح بك هو الابن الثالث لسليمان باشا الكبير ، أشهر ولاة المماليك في العراق. أما أخواه الآخران فيهما صادق بك وهو الأكبر ، وسعيد باشا. وقد ثار صادق بك في أواخر ١٨١٨ م على داود باشا بعد أن التجأ إلى عشيرة زبيد بقصد مناصرته ، لكن داود باشا صالحه وعفا عنه. بينما كان سعيد باشا واليا في بغداد قبل داود فأساء التصرف في الحكم. وثار عليه داود نفسه فاستولى على بغداد بمساعدة محمود باشا بابان في السليمانية وقتل سعيدا فتسلم الباشوية في مكانه. والمعروف أن داود كان قد تزوج بنتا من بنات سليمان باشا الكبير أخت الإخوة الثلاثة هؤلاء.

(٢) كانت هذه الدار في مكان مديرية كمرك بغداد الحالية. وقد جاء في (عنوان المجد) ـ

١٢٥

ضيفا عليه في الوقت الحاضر. وهناك استقبل باحترام وتقدير لكن مضيفه ، أو بالأحرى آسره ، سرعان ما أطلعه على محاولته التي يقصد بها أخذ الباشوية إليه هو نفسه وطلب منه أن يساعده في ذلك. وبهذا يستطيع القارىء أن يحصل على فكرة حسنة عن عقلية داود وملكته في الإقناع ، حيث إن المؤتمر الذي بدأ بشكل يهدد مصلحة الباشا السابق ويعمل ضدها قد انتهى بترتيب يوافق فيه صالح بك على إعادة داود إلى الوزارة وقيامه هو بإشغال منصب الكهية في معيته.

لكن هذه الترتيبات كلها قضت عليها خيانة الحاج خليل. فقد أصبح علي الآن سيد المدينة. إذ احتلها جنده لكنه لم يجد من يعتمد عليه فيها. ولذلك بعث بإحضار داود باشا إليه في الحال ، واستقبله بكل ما يمكن من المجاملة قائلا له بأن يأمن على حياته ، لكنه طلب إليه أن يشد الرحال إلى استانبول التي ستكون حياته مضمونة فيها كذلك. ثم أخبر الباشا الهابط من عليائه بأنه حر في أن يأخذ ما يريد من ثروته وممتلكاته ، ويقابل من يشاء ممن بقي على قيد الحياة من أسرته. ومما لا شك فيه إن هذا الرفق تجاه خصمه الأخير كان متفقا مع الأوامر التي تلقاها علي باشا في استانبول ، لكننا علينا أن لا ننكر ما له من الفضل في هذا الشأن. فقد كان بوسعه ان ينفذ هذه الأوامر بشيء أقل من المجاملة ـ وكان بوسعه كذلك ، حتى من دون أن يورط نفسه بشيء ، أن يجعل تلك الأوامر غير نافذة المفعول ، إلا فيما يختص بحياة داود نفسها. لكنه أبدى

__________________

ـ للحيدري بشأن هذه الدار : «.. ومنها بيت السيد رحمة الله أغا الجيبه جي ، وهو من البيوت القديمة الرفيعة .. لم يبق منهم أحد ، ودارهم صارت لصالح بك نجل المرحوم سليمان باشا والي بغداد ثم صارت للقنصل الإنكليزي». وفي رواية أخرى إن قاسم باشا العمري حين دخل بغداد قبل علي رضا باشا وذهب إلى السراي طلب إحضار داود باشا من عند صالح بك فلم يلب طلبه ، فركب زورقا في مساء اليوم الثالث من دخوله وذهب إلى دار صالح بك الكائنة على الشط (وهي الدار التي صارت إلى بيت دلة بعد ذلك وإلى يومنا هذا) وطالب بتسلميه إليه. ولعل الدارين معا كانتا لصالح بك.

١٢٦

كل ما كان عنده من رفق فحمل داود معه بلا شك مقدارا غير يسير من ثروته التي كان من الممكن لعلي أن يستولي عليها لنفسه باتباع طريقة أخرى. على أنها كانت شيئا قليلا من الناحية النسيبة ، وربما كانت تضحية سياسية منه. فإن اللعبة التي كان عليه أن يلعبها يومذاك كانت تنطوي بالتأكيد على المصالحة والتساهل ـ لأن المصادرات التي أجراها من بعد ذلك كانت تكفي لتعويضه عما فاته في هذا الشأن.

ولما تربع على دست الحكم بهذه الطريقة اتخذ علي لنفسه أسلوب المصالحة والتوفيق كما قلت ، لكن غرضه الأول كان ينطوي على تنحية جميع المعروفين من أنصار الباشا الأخير عن الميدان. فالتجأ في تنفيذ ذلك من دون تورع إلى الطريقة الشرقية الاعتيادية ، وهي طريقة الغدر (١) والاغتيال الناجحة باستمرار على ما فيها من اختلاف وتفاوت في الشكل والتطبيق ، وبرغم كل الخبرة التي تنطوي عليها والحسد الذي تثيره الاستعانة بها. وكان عدد من الگرج ، الذين ظلوا على قيد الحياة وعملوا في قوة الحرس ، أو كانوا ضباطا وموظفين في معية داود باشا ، قد توقعوا هبوب العاصفة التي استهدفت رفاقهم بعد ذلك ففروا هاربين من المدينة. لكن عددا يناهز الثمانية عشر أو العشرين منهم ظل مقيما في مكانه ، ومن جملتهم صالح بك الطامع الأخير بالباشوية. فدعي هؤلاء في يوم من الأيام معا بحجة الاستماع لقراءة الفرمان الصادر بإعفائهم الذي وصل مؤخرا من استانبول على ما قيل. وقد حضر كلهم تقريبا إلى ديوان الباشا ، ما عدا صالح بك نفسه الذي كان إما مريضا أو مرتابا من الدعوة فابتعد عن الحضور. فقوبلوا بأقصى ما يمكن من المجاملة ، وتناولوا

__________________

(١) لم تكن خطة القضاء على المماليك في بغداد من بنات أفكار علي رضا ، وإنما كانت خطة رسمية أمرته بتنفيذها المراجع المختصة في الباب العالي لأن الدولة العثمانية كانت قد ضاقت ذرعا بهم وأرادت أن تضع حدا لاستقلالهم عنها. ويقول لونكريك في هذا الشأن «.. ومن بعد ذلك قرئت الأوامر الرسمية الصادرة من استانبول التي تسوغ هذه الأعمال الوحشية مع ما كان فيها من حكمة ، وطلب كل مملوك داخل المدينة وخارجها».

١٢٧

القهوة والچبوق ، وبينما كان الفرمان على وشك أن يقرأ دعي الباشا لتناول الفطور في الخارج ، فكان ذلك بمثابة إشارة للبدء بالمجزرة. إذ قام رجل يدعى علي أغا ودعا لفيفا من الأرناؤوط الذين كانوا قد أعدّوا لهذا العمل. على ان هؤلاء ظلوا ساكنين مترددين ، لأنهم كانوا حسب ما يظهر غير راغبين في هذا العمل أو أن طبيعة هذه الخدمة قد أفزعتهم. فصرخ بهم علي أغا يقول : «ما بالكم؟» ، «لماذا تترددون؟ اضربوا ـ فإما أن تقتلوهم أو تقتلون أنتم» ، ثم انتضى سيفه هو نفسه فضرب الگرجي الذي كان يجلس بجانبه. وحينما كان المساكين يهمون بالوقوف ويسلون سيوفهم ، بعد أن أدركوا في وقت متأخر طبيعة الدعوة والأمر ، ألقى علي أغا بنفسه على الرجل الذي كان قد جرحه قبل أن يتمكن من سل سلاحه ، وبادر الأرناؤوط في اللحظة نفسها إلى اطلاق النار من مسدساتهم وانقضوا على الذين لم تصبهم الطلقات. وقد كان النزال قصير الأمد ، فقتل الگرج كلهم ، ومنهم من قتل في مكانه ومنهم من قتل في أثناء هروبه بعد أن أبدوا مقاومة عنيفة. وهكذا تخلّص علي باشا من آخر غلمان داود.

ويكاد يبدو من الغريب الذي لا يصدق تقريبا أن رجالا في مثل منزلتهم لا يستطيعون أن يتكهنوا بوقوع محاولة مثل هذه ، فيبادروا إلى الفرار والنجاة بأنفسهم كلهم. لكننا يجب أن نتذكر أولا أن الهرب إلى بلاد بعيدة معادية له أخطاره ومحاذيره ، ويبدو من الوجهة الثانية ان تدابير غير اعتيادية كثيرة قد اتخذت لتضليل الضحايا في هذا الشأن. ومن الممكن ان يذكر هنا ، على سبيل الحكم على مقدار الغدر والخيانة المنطويين في هذا العمل ، إن أول شخص ضرب في مشهد الدم هذا هو رجل (١) كان قد هرب من خدمة داود والتحق بعلي باشا في حلب ثم رافقه من هناك بصفة كونه كهية للباشا الجديد ، وقد حضر إلى ديوان الباشا بهذه الصفة ـ هذه هي أمانة العثمانيين ، وجزاء الخدمة في تركيا!

__________________

(١) يقول صاحب «مرآة الزوراء» إن المماليك المرتدين الذين كانوا بصحبة علي رضا باشا هم رستم وسعدون وأبو بكر ، وقد حثوه على قتل داود.

١٢٨

ولم يستقم هرب صالح بك مدة طويلة من الزمن. فإنه بطريقة مماثلة قد جرى تضليله بسيل من الألطاف والإنعامات ، فكان يمشي في حلم من الأمانة الوهمية الخداعة حتى حدث ذات يوم ، بينما كان يمر في طريقه من مكتب الكهية إلى غرفة الباشا الذي دعي للمثول بين يديه ، أن قبض عليه فجأة في الممر الضيق وسحب جانبا فأزهقت روحه خنقا(١).

ومن الغضاضة أن أعمد هنا إلى أن آتي بالتفصيل على وصف السلسلة المتلاحقة من أعمال الغدر والجريمة والجشع التي أعقبت هذه الحوادث ، ولا أريد أن أطالب بشرف تدوين تاريخ علي باشا. لكنني أود أن أقول إنه ما كادت تنقضي الفترة التي كانت تسمح بمرورها الفطنة ويحتمها الحذر حتى صودرت (٢) جميع ممتلكات الذين كان لهم أدنى اتصال بالباشا السابق ،

__________________

(١) إن رواية لونكريك تختلف عن هذه ، فهو يقول إن صالح بك وقع من ظهر حصانه فقتل أمام الدار التي حكم فيها بغداد عدة أسابيع مضطربة. أما سليمان فائق بك فيورد في (تاريخ بغداد) رواية قتله بشكل آخر. فهو يقول : «لقد كان الحاج أبو بكر الكتخدا السابق قد أرسل قبل الحادثة من يستدعي الحاج صالح بك للحضور إلى دار الحكومة من الدار التي كان قد اتخذها مسكنا له أيام العصيان ، فلما حضر أخذه إلى مكان آخر ، ولما أطلقت المدافع إيذانا بتنفيذ الخطة المرسومة تقدم نحوه وقطع حبل حياته.

ويقول أحد الذين حضروا هذا المشهد المرعب إنه كان مارا باتجاه الميدان فشاهد جمعا من الجنود المدججين بالسلاح يدخلون دار الحاج أبي بكر أغا ، فلما اقترب من الباب أبصر الحاج صالح بك يخرج راكبا وبحالة اضطرب ظاهر ، ولما وصل إلى خارج الباب احتشد حوله قسم من أولئك الجنود وأنزلوه قسرا ووقعوا به ضربا وطعنا. وقد سمعه يتلفظ بكلمة آمنت بالله وملائكته إلى آخرها ويرددها باضطراب ثم أعقبها بالشهادتين وخر صريعا ، فتقدموا منه وحزوا رأسه وأخذوه وتركوا جثته في أحد الأزقة مكشوفة ومطروحة على الأرض ولا شيء يستر عورته». ومما يجدر ذكره أن سليمان فائق بك صاحب هذه الرواية عاصر هذا الحادث وكان فتى يافعا حينما وقع ، وكان ينتمي لأوساط الطبقة الحاكمة يومذاك.

(٢) كانت حوادث التعذيب وانتهاك الحرمات التي استعملت في مصادرة الممتلكات سببا ـ

١٢٩

واستمر وضع اليد عليها حتى يومنا هذا. وليست هذه سوى حوادث اعتيادية لا بد أن تحدث عند تبدل الحكام ، ولا تلفت النظر إليها كثيرا إلا من جانب الفرقاء الذين يهمهم الأمر. كما لم يكن هذا أسوأ ما حدث. فقد فرضت رسوم باهظة على التجارة ، وترك الفلاحون ليكونوا تحت رحمة التعسف الذي كان يمارسه خدام (١) الباشا ، ووصلت التأثيرات السيئة لسوء إدارته العامة إلى درجة

__________________

ـ في ثورة عبد الغني جميل مفتي بغداد يومذاك علي باشا (علي رضا) ، وقد أيدته في ذلك معظم محلات بغداد وخاصة محلة قنبر علي. وكان السبب المباشر للثورة ما شمل أسرة رضوان أغا ، أحد المماليك المقتولين ، من تعذيب وإهانة. فقد استجارت زوجة هذا القتيل بالمفتي عبد الغني جميل زادة ، فأجارها واصطدم بالباشا نفسه.

(١) تذكر بعض المراجع من هؤلاء حمدي بك المهردار صهر الوالي نفسه ، وملا علي الخصي كاتب مقاطعة الخالص ، ومحمد الليلاني ، وعلي أغا اليسرجي ، وعبد القادر ابن زيادة الموصلي ، وعثمان سيفي بك ، وحاج أفندي أي أسعد ابن النائب كهية علي رضا باشا.

١٣٠

أصبحت فيها البلاد يبابا قفرا ، تغشاه القبائل العربية في كل مكان ، وتعبث فيه إلى حد أبواب المدينة نفسها. أما ماليته ووارداته فقد هبطت إلى حد العدم نسبيا من حيث اعتمادها على الزراعة ، بينما كان الرعب والمقت لشخصه وحكومته يتخللان طبقات الناس كلها باستثناء المخلوقات التي كانت تحيط به.

١٣١
١٣٢

(٧)

مظهر المدينة من داخل الأسوار وخارجها ـ سياسة علي باشا ـ شمر جربا ـ محاصرتهم بغداد ـ دعوة قبائل عنزة ـ صرفهم دون أصول ـ رفضهم الانصراف ـ محاصرتهم للمدينة ـ اشتباك جند الباشا وحلفائه من العرب مع عنزة ـ اندحار جند الباشا وذبح شيخ الجربا ـ التجاء سكان المناطق المجاورة إلى بغداد ـ الحمير البيض (المطايا) والعبيد السود ـ مخادع النساء وعاداتهن ـ المجوهرات ـ أشغالهن ـ زياراتهن ـ أصواتهن ـ سلوكهن العام.

ليس بوسعك أن تحسبي ، بالنسبة للظروف التي أتيت على وصفها في رسالتي السابقة ، أن تكون بغداد متشحة بحلل الازدهار القشيبة حينما دخلت إليها. فقد فضحت أول ركبة ركبتها للتجوال فيها الحالة التعسة التي كانت عليها ، وكشفت للأنظار الآثار العميقة التي خلفها ذلك الفيض من الكوارث الذي غمرها في السنين الأخيرة. ففي ما وراء المجموعة الصغيرة من الأبنية ، التي بقيت قائمة بعد الفيضان والطاعون مباشرة ، تمتد بقايا الخراب المتسع ، وتقوم فجأة من وسط الأنقاض هنا وهناك بعض الدور الجديدة كما تقوم الأشباح من بين السكان المقبورين. ومن الغريب أن فسحا كبيرة من الأرض قد انخسفت بتأثير الماء المتراكم وضغطه فكونت تجاويف وأوجار عميقة ما بين البساتين التي تملأ مساحة غير يسيرة من القسم الجنوبي من المدينة. ولذلك فإني أقدر أن ما يقرب من ثلثي المساحة التي يتكوّن منها الجانب الشرقي من النهر قد جرد هذا التجريد من الأبنية القابلة للسكن. وقد أخذت حتى الأبنية التي ظلت قائمة تظهر عليها الآن التأثيرات التي أثر فيها الماء على أساساتها بوجود الكثير من الشقوق الخطرة. بينما تكون الجبهة المواجهة للنهر ، على منظرها الحسن المؤثر في النفوس الذي تبدو فيه من بعيد ، في حالة شديدة من التضعضع والتصدع في الحقيقة. فقد استولى الخراب بالكلية

١٣٣

على قصر داود باشا الذي كان يشغل موقعا فسيحا يمتد إلى ضفة النهر. وقد بدأ الباشا الذي يسكن الآن في دار كان يشغلها ابن من أبناء الباشوات المتأخرين ، في الأيام الأخيرة ، بإعادة تشييد السور العائد لقصر داود ليجعل منه على ما علمت ثكنة (١) لجنوده.

وليس المنظر في الجانب الآخر من النهر مما يبعث على شيء أكثر من هذا بهجة وانتعاشا. فإن الجزء الذي يشغله الآن الأعراب في الدرجة الأولى ، بعد أن كان يحتوي في السابق على دور الكثيرين من الأتراك الموسرين ، لا يزال أكثر تهدما وخرابا من الجانب الشرقي. إذ لا يمر الراكب هناك إلا من بين جدران متهدمة أو مائلة للانهدام ، وأنقاض كان في يوم من الأيام كتلة كثيفة من المساكن. أما سور المدينة في كلا الجانبين فهو متهدم كذلك ومتداع ، ولا تزال تظهر فيه الثغرات الكبيرة التي دخل منها ماء الفيضان إلى البلدة على نفس الحالة التي تركها فيها الماء المتدفق يومذاك.

ويعد المنظر خارج الأسوار في حالة فريدة من الوحشة والاكتئاب ـ فهو يعد في الحقيقة نموذجا لما تكون عليه الحالة الحاضرة في أنحاء الباشوية كلها. ففيما عدا ضفاف النهر التي تنتشر فيها بساتين النخيل (٢) إلى امتداد أميال ثلاثة من كل جهة ، يمتد سهل أجرد من جميع الجهات حتى يصل إلى أبواب السور نفسها من دون أن يحده شيء سوى الأفق البعيد. ولا ينكر أن هذه البادية تنبعث فيها الحياة في الوقت الحاضر بوجود خيام الأعراب ومنازلهم ، وقطعان الأغنام والماشية ، وجماعات الإبل ، وحركة الذهاب والإياب لكثير من الخيالة والراجلين. ولكن حتى مظهر الحياة الوقتي هذا والضجيج الحاصل بنتيجة ذلك يعزى إلى الضغط الخاص الذي تفرضه الظروف الخارجية على المدينة.

__________________

(١) قد يفهم من هذا ان قصر داود ربما كان في موقع القشلة التي تضم وزارتي المالية والعدلية في الوقت الحاضر.

(٢) جاء في النص ٤٣٢ من الجزء الرابع من رحلة أوليا جلبي الذي زار بغداد في ١٦٥٦ م أن جانب الكرخ كان فيه في تلك السنة حوالي ألفي بستان وحديقة نخيل معمورة. نقلا عن كتاب النخل لعباس العزاوي.

١٣٤

فقد كنت ذكرت عند وصولي إلى المدينة لأول مرة أني علمت بأن قبيلة من القبائل العربية المعادية كانت تخيم بالقرب منها. على أنني لم أكن أعرف يومذاك كم كنا قريبين من مشاهدة موقعة تحتدم بين الأعراب أنفسهم. فإن فتح سياسة علي باشا ، المبنية مثل سياسة أسلافه والكثيرين من الحكام في الشرق والغرب على قاعدة «فرق تسد» الخطرة على الدوام ، قد انهارت في هذه الحالة وتركته في وضع حرج جدا. فقد كان يفعل كما أسلافه ، الذين كان البعض منهم على جانب من القوة بحيث يستطيع أن يسيطر جماعيا على القبائل العربية العديدة المحيطة به ، أن يزرعوا بذور الشقاق بينها ، ويحركوا قبيلة على أخرى حينما كانت تهددهم إحداها أو تضغط بشدة عليهم. وهذه في رأيي سياسة خطرة ما لم تساندها قوة تكفي في الوقت الحرج لجعل السياسي المهيمن في معزل عن الحوادث الفجائية المؤسفة ومسيطرا عليها. وإذا لم تكن في يده قوة فإنه من المحتمل جدا أن يأخذ كل فريق بالاعتداء والتجاوز على غيره ، كما هي الحالة في وضع علي باشا اليوم ، ويلعب دور الصديق والعدو بصورة دورية حتى ينقلب من كونه خادما وحليفا إلى سيد مسيطر.

إذ كانت قبيلة الجربا (١) قد جيء بها إلى القسم الشمالي من الباشوية

__________________

(١) يلاحظ في هذه الرحلة أن صاحبها يكرر كلمة جربا ليعني بها عشيرة شمر بصورة عامة. وتعد شمر من أكبر عشائر العرب على الإطلاق ، وكان موطنها الأصلي في نجد بين جبلي أجأ وسلمى ثم هاجر قسم منها إلى العراق. وهنا سكن بعضهم في الجنوب (في لواءي الكوت وديالى غالبا) وهم شمر طوقة ، وسكن القسم الآخر وهو الأكبر في ديرة واسعة تمتد من شمالي بغداد إلى منطقة جبل سنجار حيث يوجد القسم الأعظم منهم في الوقت الحاضر. وقد كانت ولا تزال الرئاسة في هذه القبائل إلى آل محمد ، أو الجربا ، ولذلك غلب هذا الاسم عليهم في بعض الأدوار ومنها الدور الذي وصل به صاحب هذه الرحلة إلى بغداد على ما يبدو من تسميته. وقد جاء في الجزء الأول من (عشائر العراق) «أن هذه التسمية قديمة ترجع إلى أميرهم الأول الذي يدعون به فيقال (آل محمد) ، والجرباء هذه أم سالم بنت محمد المذكور ..» ثم ورد فيه قول المؤلف «والجرباء نبز وصل إليهم من أمهم والعرب لا يزالون يتنابزون بأمثال هذه ، يقال إنها أصابها مرض جلدي فتركها أهلها ورحلوا إلى ـ

١٣٥

لتساعد الباشا الأخير على طرد عشيرة أخرى من عشائر اللصوص وقطاع الطرق. وكانت الخدمات التي قدمها الشيخ صفوگ لعلي باشا قد أهّلته ، على ما يرى هو ، لأن يحظى بالمزيد من التسامح والامتيازات. لكن عليا كان يفكر تفكيرا يختلف عما كان يفكر به رفيقه السابق في هذا الشأن ، فرفض مطاليب صفوگ وهدده بالسخط عليه. وعلى أثر ذلك تراجع أولا إلى القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين ، وأخذ يقطع الطرق وينهب القوافل ويسلب السياح والمسافرين. ولأجل أن يعرض على سيده السابق نموذجا من قوته وسطوته ، جاء بعد ذلك بقبيلته كلها وأحدق ببغداد نفسها (١).

فظلت المدينة محاصرة ثلاثة أشهر ، وصارت القرى المجاورة تنهب متى شاء وأراد هذا اللص الجلد ، من دون أن تبدر أية معارضة له من جانب الباشا ـ والحقيقة أن الباشا لم يكن يملك الوسائل اللازمة لذلك. وفي نهاية تلك المدة قوّض الأعراب خيامهم على حين غرة واختفوا عن الأنظار ، وليس بوسع أحد أن يعلم ما إذا كان السبب في ذلك تناقص العلف وقلة السلب المتيسر ، أم ظهور عوامل أخرى في الأفق. وبذلك وجدت بغداد نفسها في صباح يوم من أيامها الجميلة متحررة من زوارها المزعجين. وتراجع صفوگ إلى منازله في شمال العراق. لكنه وعد بأن يعيد الزيارة في السنة التالية ، فأخاف الباشا بهذا التهديد بحيث إنه بعث يطلب مساعدة عنزة. وهذه عشيرة

__________________

ـ موطن آخر ثم تعافت فلزمها هذا الاسم ...» وقبيلة أمهم على ما هو معروف محفوظة فهي من الفضول من طي (من بني لام). وتتألف أسرة الشيوخ من خسمة عشر ابنا من أبناء فرحان باشا الذي توفي في أواخر القرن الماضي (التاسع عشر). وتنحصر الرئاسة الآن في أبناء عجيل الياور وهو ابن عبد العزيز من أبناء فرحان المذكور.

(١) كان المعروف يومذاك ـ على ما يذكر بعض المؤرخين ـ أن صفوقا اختلف مع علي رضا باشا فاستغل هذه الفرصة يحيى باشا الجليلي والي الموصل وحركه ضد الباشا في بغداد. وقد ثبت ذلك حينما وجد بين الأسلاب التي تركها صفوك ، بعد أن دحره جند الباشا بالقرب من الكاظمية ، كتاب خاص موجه من يحيى باشا إليه ينطوي على العلاقة التي كانت تربط بينهما.

١٣٦

أخرى قوية جدا ، وقد وعدها الباشا بتسليم أراضي الجربا لها إذا عملت على طردها منها. ولم يعتمد على هذه الوسيلة وحدها بل حاول أن يحدث انقساما في قبيلة الجربا نفسها. وباستعمال السلطة التي كان يدعي بها أسلافه ، مهما كانت اسميتها في حالته هو ، في خلق من يقع اختياره عليه وتنصيبه للمشيخة أقدم على ترشيح شاب اسمه شلاش لمنصب شيخ عشيرة الجربا. على أن عددا قليلا من أفراد العشيرة فقط اهتموا لهذا الترشيح ، بينما تمسك القسم الأكبر والأهم منهم بشيخهم القديم صفوگ. لكن عنزة ، وقد أسال لعابها في الوقت نفسه مطمح التمتع بمراعي الجربا الممرعة ، جاءت ملبية النداء بما لا يقل عن خمسة وثلاثين ألف محارب ليضمنوا القضاء على خصومهم. وما حل هذا الوقت حتى كانت مخاوف الباشا ومحميه شلاش قد زالت بتراجع صفوگ لسبب أو آخر إلى مسافة أبعد. فأرسل سموه من يخبر حلفاءه الجدد بأن خدماتهم لم تبق لها حاجة ولا أظنك تعجبين إذا علمت أن عنزة ، التي انتعشت فيها الآمال القديمة وجاءت من مناطق بعيدة في البادية يشح فيها الخير والعشب ، قد أغضبتها هذه المعاملة التي عوملت بها. فقد رفضوا مغادرة مكانهم رفضا باتا حتى يكون الباشا قد نفذ من جانبه الالتزام الذي تلزمه به الاتفاقية ، لأنهم قد قاموا من جانبهم بما كان يترتب عليهم أن يفعلوه. واحتلوا موقعا في جوار المدينة يؤدي إلى أضيق مسافة من الجزيرة التي تحجز بين دجلة والفرات تأكيدا على ما قر رأيهم عليه.

وحينما استثيرت مخاوف الباشا بهذا العمل من جديد دعا محميه شلاشا لمساعدته في الدفاع عن بغداد وطرد عنزة عنها. بينما قام هو من جانبه بتحشيد جيشه المؤلف من بضع مئات من الخيالة الألبانيين ، والجند النظامي ، وساقه مع المدفعية ليستعرض أمام عنزة. ثم أطاع شلاش الأوامر وجاء بفريق العشيرة التابع له إلى ما يقرب من بغداد. وبالشعور الذي يتميز به العرب عادة عمد حتى الشيخ صفوگ نفسه ، الشيخ المعادي له ، إلى إنفاذ مفرزة تتألف من ألفي رجل لمساعدته في هذه المناسبة. وكتب إلى شلاش يقول : «أنا وأنت عدوان متخاصمان ، ويمكننا ان نسوّي النزاع بيننا في موسم مناسب. لكن شرف العشيرة في الوقت الحاضر قد تعرض للخطر ، ولا أستطيع السكوت عن ذلك

١٣٧

ما لم أقدم معونتي للمحافظة عليه». على أن المساعدة كان إنفاذها عبثا ، لأن عنزة كانت أقوى من أن تستطيع الجربا مهاجمتها بنجاح حتى لو كانت العشيرة كلها قد عبئت لهذا الغرض. فقد وقعت مناوشات طفيفة بادىء ذي بدء من دون أن يكون لها تأثير مهم في كلا الفريقين ، ولكن في اليوم الذي سبق وصولي إلى بغداد نفسه أدت مناوشة من هذه المناوشات إلى وقوع اشتباك عام ـ على حد التعابير التي يستعملها العرب على الأقل ـ فاندحر الباشا وحلفاؤه في هذا الاشتباك اندحارا تاما ، وقعت فيه حتى المدافع لمدة ما في أيدي عنزة. لكن ثقل الحرب والخسارة وقع كله على عاتق الجربا التي قطّع شلاش شيخها الجديد إربا إربا فيها وخسرت من الرجال ، على ما يقال ، أكثر مما وقع في أية حرب عربية منذ عدة سنين خلت. وبدافع من بعض الاحترام الباقي لسلطة السلطان استبقت عنزة جند الباشا والتفتت بانتقامها إلى أعدائها من العرب. وقد كان مضمون الهوسات المتعالية في الموقعة «خل النظام واقتل الجربا» وهذا ما فعلوه في الحقيقة والواقع. أما المدافع فإن بدو البادية الجهال لم يكونوا يفهمون على ما يبدو أي الاشياء كانت هي ، وعلى كل حال فقد كانوا يجهلون كيفية استعمالها. ولذلك تركت في ميدان المعركة حتى استعادها جند الباشا ، الذي شجعه رفق العدو به ، من دون معارضة وتقهقر راجعا بسرعة إلى حيث صار يحتمي بسور المدينة.

فعلى مثل هذا كانت الحالة العامة في بغداد حينما وصلت إليها. وإن الخوف من عنزة قد دفع كل قروي وبستاني ، وجميع القبائل العربية الصغيرة التي كانت متعودة على النزول في الريف المحيط ببغداد ، إلى داخل الأسوار. واضطر جميع من كان يملك قطعانا من الأغنام أو الماشية أو الجمال في المناطق المجاورة إلى أن يلتجىء إلى داخل السور أيضا فيشغل الفسح الوسيعة التي خلفها الفيضان. وهذا من شأنه ان يضيف بالتأكيد إلى تكاثر الناس وتدفق الحياة في الداخل ، لكنه أيضا يزيد بصورة مزعجة في الضوضاء والفوضى المستحكمة في الشوارع. وهذه القطعان من الحيوانات هي التي كنت من قبل قد ألمحت إلى مرورها في رواحها وغدوها من تحت شباكي في كل صباح. وحينما كنا نحاول في الصباح الباكر أن نمر من بعض الشوارع أو نخرج من

١٣٨

أبواب المدينة كنا نحسد أنفسنا على الصبر والتحمل الذي كنا نبديه قبل أن نستطيع المرور. أليست هذه صورة جميلة لولاية كان يجب أن تكون من أعظم الولايات ازدهارا وإنتاجا في الامبراطورية التركية جميعها؟

٢٠ تشرين الثاني

لقد ركبنا وتجولنا كثيرا منذ أن دونت آخر تاريخ يومي إليكم ، فقد مررنا بجميع المحلات المسكونة في بغداد ، وزرنا معظم المشاهد التي تستحق الزيارة والالتفات. وكان من بين الأماكن التي زرناها مرقد السيدة الظريفة ، سريعة الخاطر ، زبيدة (١) زوجة هارون الرشيد. على أنني ليس عندي ما أعلق به على هذا المرقد سوى أنه يتألف من برج مستدق فريد في شكله يشبه المسلة ، ويحمل على قاعدة طويلة بشعة جدا ، ويحتوي الجزء السفلي منها على مكان القبر. لكنني لم أدخل إلى الداخل لأرى ما يوجد فيه. فإنهم هنا يبدون اعتراضات كنت أرغب في تحاشيها ، خاصة وقد كانت رغبتي في استطلاع المراقد الإسلامية قد حيل دونها في مناسبات كثيرة من قبل. وسوف لا أعمد إلى تسليتكم بالأفكار والمشاعر التي ربما تكون قد خطرت في فكري عند زيارتي لقبر هذه الحسناء الشهيرة ، التي نقرن كلنا باسمها بعض ذكريات الشباب المفرحة ، مع أن الأيام التي كانت تجلس فيها زبيدة وتسلي نفسها بالاستماع إلى القصص والمغامرات كما كان يفعل زوجها وسيدها لم أستطع تخيلها أمامي. لكن قصر الخليفة قد اختفى من الوجود ، وأصبح حتى موقعه

__________________

(١) كان الرحالة نيبور أول من أشار إلى أن هذا القبر هو قبر زبيدة زوجة هارون الرشيد حينما زار بغداد في ١٧٦٦ م ، وقد أورد نص الكتابة الذي يؤيد قوله هذا. لكن الدكتور مصطفى جواد يرى غير هذا الرأي في كتاب (دليل خارطة بغداد) ص ١٧٠ على أساس أن زبيدة كانت قد دفنت في مقابر قريش أي في مشهد الإمامين الكاظمين. وهو يقول إن القبة المذكورة هي تربة زمرد خاتون زوجة الخليفة المستضيء بالله وأم الخليفة الناصر لدين الله العباسي المتوفاة سنة ١٢٠٢ م بتصريح عدد من المؤرخين.

١٣٩

مجهولا. ورحل المجد عن هذه الأرض ، فاختفت الروحية التي كانت توحي لأبنائها وبناتها العزم والقوة لتهيم في مجالات أخرى ، وعلى هذا فلنترك تربة زبيدة ونلتفت إلى مناظر أخرى.

ومن الأشياء التي لا بد ان تلفت نظر الغريب في تجوالاته ببغداد ، إلى جانب العدد الكبير من الأعراب الذين يلوحون له على الفطرة ، كثرة الحمير البيض (المطايا) والعبيد السود القبحاء الذين تعج بهم الشوارع والأسواق جميعها. فإن الناس يقبلون هنا إقبالا شديدا على الحمير البيض ولا يستبدلون هذا بأي لون آخر. ولذلك فمن النادر أن تجد شخصا له منزلة محترمة ، رجلا كان أو امرأة ، وهو يركب غير هذا الحيوان الأبيض ـ عدا الطبقات العسكرية التي تحتقر أي شيء يقل عن الجواد العربي الأصيل. ويفضل المثقفون ورجال الدين هذا الحيوان الذي تكثر فيه الوداعة ، وكذلك تفعل السيدات كلهن. ولذلك فإن عدد الحمير التي تسخر للركوب هنا كبير جدا. ولما كان نساء الطبقات الرفيعة في المجتمع نادرا ما يتحركن من دون أن يصحبهن عدد كبير من نساء الحاشية اللواتي يركبن على الشاكلة نفسها ، فإنهن حينما يقمن بزيارة البيوت المجاورة يصبح صوت الجوقة النهيقية شيئا غير محتمل. وهذا النوع من الحمير ينتمي إلى عرق (١) أصيل خاص ، ويباع بأثمان عالية جدا ـ فلا يعد مبلغ الأربعين أو الخمسين پاونا استرلينيا ثمنا غير شائع بالنسبة لحيوان من هذا النوع كبير الحجم ، أصيل العرق ، دقيق الخطى ، وترخّت هذه الحيوانات ترخيتا بديعا ، ويشق منخر كل منها ، كما يصنعون في إيران أيضا ، لأجل ان يصبح أطول نفسا في العادة ـ أن نفس هذه الحيوانات يعلم الله على جانب كاف من الطول حينما تأخذ بالنهيق!

ويشيع الولع بالعبيد السود هنا بقدر الولع باقتناء الحمير البيض ، وإذا ما أردنا أن نحكم بالمظاهر نجد أن قيمة هؤلاء تزداد بازدياد القبح الذي يتحلون به

__________________

(١) وهو عرق الحمير الحساوية المعروف الذي ظل يستعمل للركوب كما تستعمل الخيول إلى ما قبل سنوات في بغداد.

١٤٠