مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم : (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

(وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٨٩)

المرحلة الرابعة : مرحلة البناء من أجل الثورة : شرحت هذه الآيات مرحلة اخرى من نهضة وثورة بني إسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أوّلاً : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبلَةً). فالأمر الإلهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وأن تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

ثم تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً ، فقالت : (وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ). ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثورية قالت : (وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة ، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي.

لذلك فإنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل ، وخاصه في الجانب الروحي :

١ ـ الإهتمام أوّلاً بمسألة بناء المساكن ، وعزل مساكنهم عن الفراعنة.

٢ ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر.

٣ ـ التوجه إلى العبادة ، وخاصه الصلاة التي تحرر الإنسان من عبودية العباد.

الملفت للنظر أنّ بني إسرائيل من أولاد يعقوب ، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً ، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة ، وسعوا في عمران هذا الوطن ، إلّاأنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إلى مثل هذا الوضع المأساوي.

٣٦١

ثم أشارت إلى إحدى علل طغيان فرعون وأزلامه ، فتقول على لسان موسى : (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ).

إنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة ، أي إنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إضلال الناس شاؤوا أم أبوا ، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئاً غير هذا ، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإلهية توقظ الناس وتوحدّهم وبذلك لا يبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم ، فلا يجدوا بدّاً من معارضة الانبياء.

ثم يطلب موسى عليه‌السلام من الله طلباً فيقول : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ).

«الطمس» : في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أنّ ماورد في بعض الروايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفاً وحجراً بعد هذه اللعنة ، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماماً وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثم اضافت : (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ). أي : أسلبهم قدرة التفكير والتدبر أيضاً لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء ، وسينفتح أمامنا طريق الثورة ، وتوجيه الضربه النهائية لهؤلاء.

اللهم إن كنت قد طلبت ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعاً من روح الإنتقام والحقد بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإيمان أبداً : (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). ثم خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه : الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إسرائيل (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل ، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين ، بل استمرّا في برنامجكما الثوري (وَلَا تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ).

(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣)

٣٦٢

الفصل الأخير من المجابهة مع الظالمين : هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة ، فتقول أوّلاً : إنّنا جاوزنا ببني إسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة ، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ). إلّاأنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إسرائيل : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا). «البغي» : يعني الظلم ، «والعدو» : بمعنى التعدي ، أي إنّ هؤلاء إنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم ، أي على بني إسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعاً.

فإنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق ، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به ، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه ، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان : (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَءَامَنتُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا الَّذِىءَامَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ). فلست مؤمناً بقلبي فقط ، بل إنّي من المسلمين عملياً : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

ولمّا تحققت تنبؤات موسى عليه‌السلام الواحدة تلو الاخرى وأدرك فرعون صدق هذا النبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته ، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول : آمنت أنّه لا إله إلّاالذي آمنت به بنو إسرائيل!

إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت ، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أيّة قيمة ، أو يكون دليلاً على حسن نيّته أو صدق قوله ، ولهذا فإنّ الله سبحانه خاطبه فقال : (ءَالنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

لكن (فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً). آية للحكام المستكبرين ولكلّ الظالمين والمفسدين ، وآية للفئات المستضعفة.

والمراد من البدن هنا ، جسد فرعون الذي فارقته الروح ، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث إنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق ، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة ، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

٣٦٣

ويقول في نهاية الآية : إنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله ، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإنّ الكثير معرضون عنها (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ).

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إسرائيل ، والرجوع إلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة ، فتقول : (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ).

إنّ التعبير ب (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) يمكن أن يكون إشارة إلى أرض مصر ، أم أراضى الشام وفلسطين.

ثم يضيف القرآن الكريم : (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الْطَّيّبَاتِ). إلّاأنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ). وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى ، وأدلة صدق دعوته ، إلّا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وإذا لم يتذوقوا طعم عقاب الاختلاف اليوم ، فسيذوقونه غداً.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (٩٧)

لا تدع للشك طريقاً إلى نفسك : لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والامم السابقة ، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صحة ذلك ، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال ، وليسألوهم عن ذلك ، لأنّ كثيراً من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء. إلّاأنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء ، خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ). ليثبت عن هذا الطريق بأنّه : (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

ثم تضيف الآية التالية : (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) من بعد ما اتّضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.

٣٦٤

إنّ الآية السابقة تقول بأنّك إن كنت في شك فاسأل اولئك المطلعين العالمين ، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك ، وإلّا فإنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلّاالخسران.

ثم أنّها تخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إيمانهم ، فإنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية ، وتوغّلوا في طريق الباطل إلى الحدّ الذي فقدوا معه الضمير الإنساني الحي تماماً ، وتحولوا إلى موجودات لايمكن اختراقها ، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التعبير : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ).

وحتى إذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإنّهم لا يؤمنون : (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) ولا أثر لإيمانهم في ذلك الوقت.

(فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (٩٨)

الامّة التي آمنت في الوقت المناسب : تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصة ، والأقوام السابقة بصورة عامّة ، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإيمان بالله في وقت الإختيار والسلامة ، إلّاأنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإلهي أظهروا الإيمان الذي لم يكن نافعاً لهم آنذاك. وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام ، فتقول : (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا). ثمّ استثنت قوم يونس فقالت : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّاءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ). أي إلى آخر عمرهم.

قصة إيمان قوم يونس :كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ ، أنّه عندما يئس يونس من إيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق ، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم ، في حين أنّ عالماً كان معهم أيضاً اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم ، وأن يستمر في إرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.

يونس عليه‌السلام اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم ، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة للتضرع والدعاء ، وأظهروا الإيمان والتوبة.

إنّ هذه التوبة والإيمان والرجوع إلى الله ، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن وعي مقترن

٣٦٥

بالإخلاص قد أثر أثره ، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه إلى مجاريها ، ولمّا رجع يونس إلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.

ثم إنّ القصة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الامّة ، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر ، وهكذا يفهم من هذه الرواية منطق الإسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة ، والعلم الممتزج بالاحساس بالمسؤولية.

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) (١٠٠)

لا خير في الإيمان الإجباري : لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإيمان الاضطراري لا يجدي نفعاً أبداً ، ولهذا فإنّ الآية الاولى من هذه الآيات تقول : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأَمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا). وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألماً لعدم إيمان جماعة من هؤلاء ، فإنّ من مستلزمات أصل حرية الإرادة والاختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون ، وإذا كان الأمر كذلك (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

إنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة اخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإسلام بصورة مكررة ، حيث يقولون : إنّ الإسلام دين السيف ، وقد فرض بالقوة والإجبار على شعوب العالم ، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاخرى ـ بأنّ الإيمان الإجباري لا قيمة له ، والدين والإيمان شيء ينبع عادة من أعماق الروح ، لا من الخارج وبواسطة السيف ، خاصه وأنّها حذرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من إكراه وإجبار الناس على الإيمان والإسلام.

الآية التالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضاً ، وهي أنّ البشر وإن كانوا أحراراً في اختيارهم ، إلّا أنّه (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ولهذا فإنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل ، ولم يكونوا مستعدين للاستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم ، وسوف لا يوفقون للإيمان وهم على هذا الحال ، إذ (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ).

٣٦٦

(قُلِ انْظُرُوا مَا ذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣)

الموعظة والنصيحة : كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الإيمان يجب أن يكون اختيارياً لا بالجبر والاكراه ، ولهذا فإن الآية الاولى هنا ترشد الناس إلى الإيمان الاختياري ، وتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

إنّ هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإرادة ، فهي تقول : إنّ الإيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة ، أي إنّ هذا الأمر في اختياركم.

ثم تضيف أنّه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالة على الحق ، فلا داعي للعجب من عدم إيمان البعض ، لأنّ الآيات والدلالات والإنذارات تنفع الذين لهم الإستعداد لتقبل الحق ، أمّا هؤلاء فإنّه (وَمَا تُغْنِى الْأَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَايُؤْمِنُونَ) (١).

ثم تقول ـ بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والإستفهام ـ : هل ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون إلّاأن يروا مصيراً كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين السابقين الذين عمهم العقاب الإلهي ، مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشدّاد وأعوانهم وأنصارهم؟! (فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ).

وتحذرهم الآية أخيراً فتقول : يا أيّها النبي (قُلْ فَانتَظِرُوا إِنّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ). فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق ، ونحن بانتظار المصير المشؤوم الذي ستلاقونه ، مصير المتكبرين الماضين.

ومن أجل أن لايتوهم متوهم أنّ الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح ، تضيف الآية : إنّنا إذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة ، نقوم بانقاذ عبادنا الصالحين : (ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَءَامَنُوا).

__________________

(١) «نذر» : جمع نذير ، أي المنذر ، وهو كنايه عن الأنبياء والقادة الإلهيين أو هي جمع إنذار ، بمعنى تحذير وتهديد الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإلهيين.

٣٦٧

ثم تقول في النهاية : إنّ هذا ليس مختصاً بالامم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين ، بل (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ).

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠٧)

الحزم في التعامل مع المشركين : هذه الآيات والآيات التي تليها ، هي آخر آيات هذه السورة ، وتتحدث جميعاً حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إلى الحق ، وهي فهرست أو خلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت مراراً في هذه السورة.

إنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحياناً أن من الممكن أن يلين النبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئياً إلى جانب الإعتقاد بالله بنحو من الانحاء. إلّاأنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم احلامهم هذه إلى الأبد ، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام ، ولا معبود إلّاالله ، لاتزيد كلمة ولا تنقص اخرى. ففي البداية يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخاطب جميع الناس : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مِّن دِينِى فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ) ولا تكتفي الآية بنفي آلهة اولئك ، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِى يَتَوَفكُمْ). ومن أجل تأكيد أكبر تضيف : أنّ هذه ليست إرادتي فقط ، بل (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة ، تطرقت إلى بيان دليل ذلك ، دليل من الفطرة ، ودليل من العقل :

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا) وهنا أيضاً لم يكتف بجانب الإثبات ، بل نفي الطرف

٣٦٨

المقابل لتأكيد الأمر ، فقالت الآية : (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

«الحنيف» : تعني الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الانحراف إلى جادة الصواب والاستقامة.

وبعد الإشارة إلى بطلان الشريك بالدليل الفطري ، تشير إلى دليل عقلي واضح ، فتقول : (وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَايَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ). إذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.

وهنا أيضاً لم تكتف الآية بجانب النفي ، بل إنّها تؤكّد إضافةً إلى النفي على جانب الإثبات فتقول : (وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) ، وكذلك (وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ) لأنّ عفوه ورحمته وسعت كل شيء (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (١٠٩)

الكلمة الأخيرة : هاتين الآيتين تضمّنت إحداهما موعظة ونصيحة لعامة الناس ، واختصت الثانية بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بيّنها الله سبحانه على مدى هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس. فتقول أوّلاً ، وكقانون عام : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ). هذه التعليمات وهذا الكتاب السماوي ، وهذا الدين وهذا النبي كلها حق ، والأدلّة على كونها حقّاً واضحة ، وبملاحظة هذه الحقيقة : (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ). أي إنّي لست مأموراً بإجباركم على قبول الحق ، لأنّ الإجبار على قبول الإيمان لا معنى له ، ولا أستطيع إذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإلهي ، بل إنّ واجبي ومسؤوليتي هي الدعوة والإبلاغ والإرشاد والهداية والقيادة.

ثم تبيّن وظيفة وواجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جملتين : الاولى (وَاتَّبَعَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ). فإنّ الله قد حدّد مسيرك من خلال الوحي ، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه قيد أنملة.

والثانية : إنّه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة ، فلا تدع للخوف

٣٦٩

من سيل المشاكل إلى نفسك طريقاً ، بل (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ). فإنّ أمره حق ، وحكمه عدل ، ووعده متحقق لا محالة.

نهاية تفسير سورة يونس

* * *

٣٧٠

١١

سورة هود

محتوى السورة : إنّ هذه السورة بأكملها نزلت بمكة ... وطبقاً لما ورد في «تاريخ القرآن» أنّها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة على المرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونزلت في السنوات الأخيرة التي قضاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، أي بعد وفاة عمّه أبي طالب عليه‌السلام وزوجته خديجة عليها‌السلام ... وبطبيعة الحال فإنّ هذه السورة جاءت في فترة من أشد الفترات صعوبة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك يلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وللمؤمنين.

ويُشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين وخاصة قصة نوح النبي عليه‌السلام الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء الكثيرين.

إنّ سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين معه وهم أمام الكم الهائل من الأعداء ، كما أنّ فيه درساً لمخالفيهم من الاعداء.

إنّ آيات هذه السورة ـ كسائر السور المكية ـ تتناول أصول المعارف الإسلامية ولا سيما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام ، ومسألة المعاد والعالم بعد الموت ، وصدق دعوة النبي.

في هذه السورة ـ إضافة إلى قصّة نوح النبي ـ إشارة إلى قصص الأنبياء هود وصالح وإبراهيم ولوط وموسى عليهم‌السلام ومواقفهم الشجاعة بوجه الشرك والكفر والانحراف والظلم.

٣٧١

شيبتني سورة هود : إنّ آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين ـ في الحرب والسلم ـ لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة ، بل عليهم أن يواصلوا مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم.

وعلى هذا فإنّنا نقرأ في الدرّ المنثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «شيّبتني هود وأخواتها».

إنّ هذه السورة فيها آيات مؤثرة اخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإلهي ، وآيات تتعلق بما ناله الأقوام السابقون من جزاء ، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية ... فلا عجب إذاً أن يشيب الإنسان عندما يفكر في مثل هذه المسؤوليات ...

مسألة دقيقة اخرى ينبغي الإلتفات إليها في هذا المجال ، وهي أنّ كثيراً من هذه الآيات تؤكّد ما ورد في السورة السابقة ـ أي سورة يونس.

التأثير المعنوي لهذه السورة : في تفسير البرهان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ هذه السورة اعطي من الأجر والثواب بعدد من صدّق هوداً والأنبياء عليهم‌السلام ومن كذّب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حساباً يسيراً».

ومن الوضوح بمكان أنّ مجرد التلاوة لا يعطي هذا الأثر ، وإنّما يكون هذا الأثر إذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي يقرّب الإنسان إلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء وجحدوا دعواتهم.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

الاصول الأربعة في دعوة الأنبياء : تبدأ هذه السورة ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء ، ليلتفت الناس إلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق. وذكر الحروف المقطعة (الر) ـ نفسه ـ دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف

٣٧٢

بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء مع ما فيه من عظمة وإعجاز بالغين ، ثم يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.

أوّلاً : إنّ جميع آياته متقنة ومحكمة (كِتَابٌ أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ).

وثانياً : إنّ تفصيل حاجات الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ـ مادية كانت أو معنوية ـ مبيّن فيها أيضاً (ثُمَّ فُصّلَتْ).

هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة ، من أين انزل ، وكيف؟! انزل من عند ربّ حكيم وخبير (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). فبمقتضى حكمته احكمت آيات القرآن ، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقاً لحاجات الإنسان.

إنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله ... فاستحكام القرآن من حكمته ، وشرحه وتفصيله من خبرته.

إنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت ، كما تدل على أنّه نازل من إله فرد ، ولهذا فلا يوجد أي تضاد في آياته ، ولا يُرى بينها أي اختلاف.

وفي الآية التالية يبيّن أهم مايحتويه القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).

والثاني من محتويات الدعوة السماوية : (إِنَّنِى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ). نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر ، واحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!

وثالث ما في منهج دعوتي إليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ).

ورابعها هو أن تعودوا إلى الله بالتوبة ، وأن تتصفوا ـ بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الاستغفار ـ بصفات الله ، فإنّ العودة إليه تعالى لا تعني إلّاالإقتباس من صفاته (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).

ثم تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو التالي (يُمَتّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى). فاذا عملنا بهذه الاصول فإنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إلى نهاية العمر ، وفوق كل ذلك فإنّ كُلاً يُعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول ... (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ). وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية : (وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ). حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإلهي.

٣٧٣

واعلموا أنّ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) كائنا من كنتم ، وفي أي محل ومقام أنتم ، وهذه الجملة تشير إلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لا تتصوروا أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوباً جديداً من الحياة ... (وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (٥)

هذه الآية تشير ـ على العموم ـ إلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها أعداء الإسلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك بالاستفادة من طريقة النفاق والإبتعاد عن الحق ، فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق. لذلك فإنّ الآية تقول : (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ).

«يثنون» : مشيرة إلى كل عمل خفي ـ ظاهري وباطنيّ ـ قام به أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. لذلك فإنّ القرآن يعقّب مباشرة : أن أحذروهم ، فإنّهم حين يستخفون تحت ثيابهم فإنّ الله يعلم ما يخفون وما يعلنون ... (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (٦)

جميع الأحياء ضيوف مأدبته : الآية السابقة أشارت إلى سعة علم الله وإحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون ، والآية محل البحث تُعدّ دليلاً على تلك الآية المتقدمة ، فإنّها تتحدث عن الرازق لجميع الموجودات ولايمكن يتمّ ذلك إلّابالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه. تقول الآية (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا). ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر ، وحيثما كانت فإنّ الرزق يصل إليها منه.

وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم الله (كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ).

٣٧٤

ملاحظات

١ ـ بالرغم من أنّ كلمة «دابّة» مشتقة من مادة «دبيب» التي تعني السير ببطء وبخطى قصيرة ، ولكنها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيره ببطء أو بسرعة.

٢ ـ «الرزق» : هو العطاء المستمر ، ومن هنا كان عطاء الله المستمر للموجودات رزقاً.

٣ ـ «المستقر» : تعني المقر ، لأنّ جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ من «قرّ» على وزن «حرّ» وتعني كلمة القرّ البرد الشديد الذي يجعل الإنسان والموجودات الاخرى يركنون إلى بيوتهم ، ومن هنا جاءت بمعنى التوقف والسكون أيضاً.

و «المستودع» و «الوديعة» : من مادة واحدة ، وهاتان الكلمتان في الأصل تعنيان «اطلاق الشيء وتركه».

٤ ـ «الكتاب المبين» : معناه المكتوب الواضح البيّن ، ويشير إلى علم الله الواسع ، وقد يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ أيضاً.

تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة : طريقة إيصال الرزق من الله تعالى إلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً. من الجنين الذي يعيش في بطن امّه ولا يعلم أحد من أسراره شيئاً ، إلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض ، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر ، وفي الأصداف ... جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفى على علمه ، وكما يقول القرآن : (عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).

الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعّبر عن الموجودات التي تطلب الرزق ب «الدابّة» وفيها إشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع «الطاقة» و «الحركة». ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلابد لها من طاقة ، أي ما يكون منشأً للحركة.

وفي جواب السؤال هل أنّ رزق كل أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إلى آخره ، وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى؟

نقول : إنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت ، إلّاأنّه مشروط بالسعي والجد ، وإذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط.

المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزق ـ في الواقع ـ بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب ، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات ، ويتصورون أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمّنوا حياتهم!

٣٧٥

إنّ آيات القرآن والأحاديث الإسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألّا يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً ، بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع ، والله سبحانه يضمن لهم الرزق.

وبالطبع أنّ بعض الأرزاق مثل نور الشمس والمطر والعقل والفكر والاستعداد تصل إلى الإنسان سعى لها أم لم يسع.

ولكن هذه المواهب إذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا ، أو أنّها ستبقى بلا أثر!

إنّ النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية ، وأنّ الفرار من العمل ـ بزعم أنّ الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالة ـ غير صحيح ...

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

الهدف من الخلق : في هذه الآية بُحثت ثلاث نقاط أساسية :

المطلب الأوّل : يبحث عن خلق عالم الوجود ـ وخصوصاً بداية الخلق ـ الذي يدل على قدرة الله وعظمته سبحانه (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ).

إنّ المقصود من كلمة «اليوم» هو الزمان ، سواء كان قصيراً أو مديداً جدّاً بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلاً ، وقد نبّهنا على هذا المعنى في ذيل الآية (٥٤) من سورة الأعراف بشرح وافٍ في هذا المجال ، فلا حاجة للتكرار والإعادة.

ثم يضيف سبحانه أنّ عرشه كان على الماء (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ).

«العرش» : في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف ، كما يطلق على الأسرّة العالية كأسرّة الملوك والسلاطين الماضين ، ويطلق أيضاً على خشب بعض الأشجار ، وغير ذلك.

ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضاً ويقال «استوى فلان على عرشه» كناية عن بلوغه القدرة كما يقال «ثُلّ عرش فلان» كنايةً عن ذهاب قدرته. كما ينبغي الإلتفات إلى هذه الدقيقة ، وهي أنّ العرش يطلق أحياناً على عالم الوجود ، لأنّ عرش قدرة الله يستوعب جميع هذا العالم.

٣٧٦

إنّه في بداية الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة «مع غازات مضغوطة للغاية ، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة».

وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة الذائبة ، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إلى الخارج ، وأخذ هذا الوجود المترابط بالإنفصال ، ثم تشكلت بعد ذلك الكواكب السيارة والمنظومات الشمسية والأجرام السماوية.

فعلى هذا نقول : إنّ عالم الوجود ومرتكزات قدرة الله كانت مستقرة بادىء الأمر على المواد المتراكمة الذائبة.

والمطلب الثاني : الذي تشير إليه الآية آنفة الذكر هو الهدف من خلق الكون ، والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإنسان نفسه الذي يمثل ذروة الخلائق ... هذا الإنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشقّ طريق التكامل نحو الله تعالى. يقول الله سبحانه : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن عملاً بهذه الدار الدنيا.

«ليبلوكم» : كلمة مشتقة من مادة «البلاء» و «الإبتلاء» ومعناها الاختبار والامتحان.

والمطلب الثالث : الذي تشير إليه الآية آنفة الذكر ـ هو مسألة المعاد الذي لا ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم ، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل الإنسان وتكامل الإنسان يعني التهيؤ إلى الحياة في عالم أوسع وأكمل ، ولذلك يقول سبحانه : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ).

وكلمة «هذا» التي وردت ـ في الآية آنفة الذكر ـ على لسان الكفار ، إشارة إلى كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن المعاد ... أي إنّ ما تدّعيه أيها النبي في شأن المعاد سحر مكشوف وواضح ، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن الحقيقة ، والقول الذي لا أساس له.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١)

٣٧٧

استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم : في هذه الآيات ـ وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين ـ بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجر الإنسان إلى هاوية الظلام والفساد.

وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الإكتراث بها وبالمسائل المصيرية ، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم حين يسمعون تهديد الانبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم ، ثم تمرّ عليهم عدة أيام يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم ، نراهم يقولون باستهزاء مبطّن : ما السبب في تأخر العذاب الإلهي ، وأين عقاب الله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ).

فهذه عادة الجاهلين والمغترين ، فكلما وجدوا شيئاً لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية.

لكن القرآن يحذرهم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم ، ويبيّن لهم أن لا دافع لعذاب الله إذا جاءهم (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) وأنّ الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم (وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار البركات الإلهية. حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيُوسٌ كَفُورٌ).

والمراد من «الإنسان» في مثل هذه الآيات هو الأفراد الذين لم يتلقوا تربية سليمة والمنحرفون عن جادة الحق.

ونقطة الضعف الثالثه عند هؤلاء أنّهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شيء ، ولذلك يشير القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة بقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيَاتِ عَنّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).

ثمّ يستثني الله سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر ، ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال ، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر وضيق الأفق ، حيث يقول سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

هؤلاء لا يَغترّون عند وفور النعمة فينسون الله ، ولا ييأسون عند الشدائد والمصائب

٣٧٨

فيكفرون بالله ، بل إنّ أرواحهم الكبيرة وافكارهم السليمة جعلتهم يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر الله وأداء مسؤولياتهم ولذلك فإنّ لهؤلاء ثواباً ومغفرة من الله (أُولئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

الامة المعدودة وأصحاب المهدي عليه‌السلام : في روايات عديدة وصلتنا عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الامة المعدودة تعني النفر القليل ، وفيها إشارة إلى أصحاب المهدي عليه‌السلام وأنصاره.

ولكن أنّ ظاهر الآية من الامة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين ، وقد وردت رواية عن الإمام علي عليه‌السلام في تفسير الامة المعدودة تشير إلى ما بيناه ، وهو الزمان المعين ، فيمكن أن تكون الروايات الآنفة تشير إلى المعنى الثاني من الآية ، وهو ما اصطلح عليه ب «بطن الآية».

(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤)

سبب النّزول

وردت في شأن نزول الآيات المتقدمة روايتان ، ويحتمل أن تكون كليهما صحيحتين جميعاً. الاولى : في تفسير مجمع البيان روي عن ابن عباس : إنّ رؤساء مكة من قريش ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد! إن كنت رسولاً فحوّل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة. فأنزل الله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ) الآية. والثانية : روي العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : «إنّي سألت ربّي أن يوالي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربّي أن يجعلك وصيي ففعل». فقال رجلان من قريش : والله لصاع من تمر في شنّ بال أحبّ إلينا مما سأل محمّد ربّه ، فهلا سأله مُلكاً يعضده على عدوه ، أو كنزاً يستعين به على فاقته. فنزلت الآية.

٣٧٩

التّفسير

القرآن المعجزة الخالدة : يبدو من هذه الآيات أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوكل إبلاغ الآيات ـ نظراً للجاجة الأعداء ومخالفتهم ـ لآخر فرصة ، لذا فإنّ الله سبحانه ينهى نبيّه في أوّل آية نبحثها عن ذلك بقوله : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ). لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء ، أو مجيء الملائكة لتصديقه (أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ).

إنّ هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النبي ويتبعوا الحق ، بل هدفهم اللجاجة والعناد والتحجج الواهي ، فلذلك تأتي الآية معقبة : (إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ). سواءً قبلوا دعواك أم لم يقبلوا ، وسخروا منك أم لم يسخروا ، فالله هو الحافظ والناظر على كل شيء (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ وَكِيلٌ). أي لا تكترث بكفرهم وإيمانهم فإنّ ذلك لا يعنيك ، وإنّما وظيفتك أن تبلغهم ، والله سبحانه هو الذي يعرف كيف يحاسبهم ، وكيف يعاملهم.

وبما أنّ الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النبي كانوا أساساً منكرين لوحي الله ، ويقولون : إنّ هذه الآية ليست نازلة من قبل الله ، وإنّ هذا الكلام افتراه محمّد ـ وحاشاه من ذلك ـ على الله كذباً ، لذلك تأتي الآية التالية لتبيّن بصراحة تامة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ).

فقل لهم يا رسول الله ـ إن كانوا صادقين في دعواهم أنّ ما تقوله ليس من الله وأنّه من صنع الإنسان ـ فليأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات ، وليدعوا ـ سوى الله ـ ما شاؤوا (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

أمّا إذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين ، ولم يلبوا طلبك على الإتيان بعشر سور مفتريات كسور القرآن ، فاعلموا أنّ ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أنّ هذه الآيات نزلت من خزانة علم الله ، ولو كانت من صنع بشر ، فهم بشر أيضاً ... فلماذا لا يقدرون على ذلك : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ). واعلموا أيضاً أنّه لا معبود سوى الله ، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة (وَأَن لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ). فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة (فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ). أي بعد ما دعوناكم للإتيان بمثل هذه السور ، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على ذلك ، فهل يبقى شك في أنّ هذه الآيات منزلة من قبل الله ، ومع هذه المعجزة البينة ما زلتم منكرين ، أم أنّكم تسلمون وتقرّون حقاً؟

٣٨٠