والفصح كلام عربي ، من ذلك : رجل فصيح ، وقد أفصح ، إذا بيّن ، وأفصح الصبح ، إذا تبيّن ، قال الشاعر ، وهو حسّان :
قد دنا الفصح فالولايد ينظمن |
|
سراعا اكلّة المرجان |
يقول ذلك لآل الحرث بن أبي شمر (١) الغسّاني وهم نصارى.
باب بيع الغرر والمجازفة وما يجوز بيعه وما لا يجوز
قد بيّنا أن ما يباع كيلا أو وزنا ، فلا يجوز بيعه جزافا ، فإن بيع كذلك ، كان البيع باطلا ، وكذلك ما يباع كيلا ، فلا يجوز بيع الجنس منه بعضه ببعض وزنا ، لأنّا أخذ علينا التساوي فيما يباع كيلا بالمكيال ، فإذا بيع بالوزن ، ربما ردّ إلى الكيل ، فيزيد أحدهما على الآخر ، فيؤدي إلى الربا ، فإن بيع بغير جنسه ، جاز بيعه وزنا ، فأمّا ما يباع وزنا ، فلا يجوز بيعه كيلا ، سواء بيع بجنسه ، أو بغير جنسه ، بغير خلاف ، فإنّ كان ما يباع وزنا ، يتعذر وزنه ، جاز أن يكال ، ثمّ يعتبر مكيال منه ، ويؤخذ الباقي على ذلك الحساب.
وكذلك ما يباع بالعدد ، لا يجوز بيعه جزافا ، فإن تعذر العدد فيه ، وزّن منه مكيال ، وعدّ ، وأخذ الباقي على حسابه.
ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك ، حلب منه شيئا ، واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال ، أو مدة من الزمان ، على ما رواه أصحابنا (٢) ، وإن جعل معه عرضا آخر ، كان أحوط.
وقد روي (٣) أنّه لا بأس أن يعطي الإنسان الغنم ، والبقر ، بالضريبة ، مدّة من الزمان ، بشيء من الدراهم ، والدنانير ، والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة ، أجود في الاحتياط ، ويمكن أن يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه ،
__________________
(١) ج : لأبي الحرث بن أبي شمس.
(٢) و (٣) الوسائل : الباب ٩ من أبواب عقد البيع وشروطه.
وهو أن يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع ، مدة من الزمان ، على ما وردت بمثله الأخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ، ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأنّ الإجارة لا تصحّ هاهنا ، لأنّ الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة ، دون استحقاق أعيان منها.
والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لأنّه غرر ، وبيع مجهول ، والرسول عليهالسلام ، نهى عن بيع الغرر ، فمن أثبت ذلك عقدا (١) يحتاج إلى دليل شرعي ، والذي ورد فيه ، أخبار آحاد شذاذ ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا ، لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى ، إلى الأدلة القاطعة.
ولا يجوز أن يبيع الإنسان أصواف الغنم ، وشعرها على ظهورها ، فإن أراد بيعها ، جعل معها شيئا آخر.
وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : يجوز ذلك ، إذا كان مشاهدا (٢).
والأوّل قول شيخنا أبي جعفر (٣) والأظهر عندي قول شيخنا المفيد رحمهالله ، لأنّه غير موزون ، ما دام على ظهور الغنم ، وانما يصير موزونا إذا فارقها ، فلو حرّمنا بيعه قبل مفارقتها ، لحرمنا عليه (٤) بيع ثمرة جميع الأشجار ، ما عدا النخل قبل مفارقتها للشجر.
وكذلك لا يجوز أن يبيع (٥) ما في بطون الأنعام ، والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك ، جعل معه شيئا آخر ، ليسلم من الغرر ، فإن لم يكن ما في البطون حاصلا ، كان الثمن في الآخر ، على ما روي في الأخبار (٦) ، من طريق الآحاد.
والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع ، لأنّه غرر وجزاف ، منهي عنهما.
__________________
(١) ل. ق : عقدا شرعيا.
(٢) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب اشتراط البائع على المبتاع ، ص ٦٠٩.
(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
(٤) ل. ق : علينا.
(٥) ج : لا يجوز بيع.
(٦) الوسائل : الباب ١٠ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ١٠.
وقد روي أنّ من اشترى أصواف الغنم ، مع ما في بطونها في عقد واحد ، كان البيع صحيحا ماضيا.
والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها زيادة غرر إلى غرر.
ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الصياد ما يضرب بشبكته لأنّ ذلك مجهول.
ولا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشيء معلوم ، جزية رءوس أهل الذمّة ، وخراج الأرضين ، وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك ، إذا كان قد أدرك شيء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ، لأنّه يؤمن من الغرر ، على ما رواه بعض أصحابنا (١) ولا يجوز ذلك ما لم يدرك شيء من هذه الأجناس ، أورد ذلك شيخنا في نهايته ، في باب الغرر (٢).
والأولى عندي ترك العمل بذلك ، لأنّ هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار آحاد.
وروي أنّه لا بأس أن يشتري الإنسان تبن البيدر ، لكلّ كر من الطعام تبنة ، يعني تبن الكر ، فالهاء ضمير الكر ـ بشيء معلوم ، وإن لم يكل بعد الطعام (٣).
أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الغرر (٤).
والأولى ترك العمل بها ، لأنّه شراء مجهول ، ومبيع غير معلوم وقت العقد ، والبيع يحتاج في صحّته إلى أن يكون معلوم المقدار ، وقت العقد عليه ، وهذا غير معلوم ولا محصّل ، فالبيع باطل ، لأنّه لا فرق بين ذلك ، وبين من قال بعتك هذه الصبرة الطعام ، كل قفيز بدينار ، ولم يخبركم فيها وقت البيع والعقد ، ولا كالها ذلك الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها ، فإذا كالها ، صح البيع المتقدّم ، وهذا باطل بالإجماع.
__________________
(١) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ٣ ـ ٤.
(٢) و (٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
(٣) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب عقد البيع وشروطه.
وقال شيخنا في نهايته : وإذا اشترى إنسان من غيره شيئا من القصب أطنانا معروفة ، ولم يتسلمها ، غير أنّه شاهدها ، فهلك القصب قبل أن يقبض ، كان من مال البائع ، دون المبتاع ، قال شيخنا : لأنّ الذي اشتري منه في ذمته (١).
قال محمّد بن إدريس : هذا البيع ما هو في الذمة ، بل بيع عين مرئية مشاهدة ، فكيف يكون في الذمة ، وأيضا لو كان في الذمة ، طالبه بعوضه وببدله ، فأمّا قوله رحمهالله : « كان من مال البائع دون المبتاع » فصحيح ، إذا لم يمكن البائع المبتاع من قبضه ، فامّا إذا مكّنه من قبضه ، ولم يقبضه ، وتركه عند بايعه ، بعد ان مكنه من قبضه ، فإنّه يهلك من مال المبتاع ، دون البائع ، فليلحظ ذلك ، فهذا تحرير الفتيا.
ولا يجوز بيع ما في الآجام من السمك ، لأنّ ذلك مجهول فإن كان فيها شيء من القصب ، فاشتراه ، واشترى معه ما فيها من السموك ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن أخذ شيئا من السمك ، وباعه إيّاه مع ما في الأجمة ، كان البيع ماضيا ، لأنّه يؤمن مع ذلك الغرر ، على ما روي (٢).
والاحتياط عندي ، ترك العمل بهذه الرواية لأنّها من شواذ الأخبار ، لأنّ المعلوم ، إذا أضيف إلى المجهول ، والمجهول إذا أضيف إلى المعلوم ، صيّر ذلك المعلوم مجهولا ، وهذه كلها أخبار آحاد ، يوردونها في أبواب الغرر ، وبيع المجازفة ، فلا تترك الأصول ، ويرجع إليها ، بل لا يعرج عليها.
وروي (٣) أنّه لا بأس أن يندر لظروف السمن والزيت وغيرهما ، شيء معلوم ، إذا كان ذلك معتادا بين التجار ، ويكون ممّا يزيد تارة ، وينقص اخرى ، ولا يكون ممّا يزيد ، ولا ينقص ، فإن كان مما يزيد ، ولا ينقص ، لم يجز
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
(٢) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ٢ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦.
(٣) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب عقد البيع وشروطه.
ذلك على حال.
ومن وجد عنده سرقة ، كان غارما لها ، إن هلكت ، ويرجع على من باعه إيّاها ، إذا أتى ببينة أنّه اشتراها منه ، ومتى اشتراها مع العلم بأنّها سرقة ، كان لصاحب السرقة أخذها ، ولم يكن للمشتري الرجوع على البائع بالثمن ، لأنّه ما غره ، بل أعطاه الثمن بلا عوض ، لأنّه يعلم أنّ السرقة لا يملكها السارق ، فقد ضيّع الثمن بدفعه اليه ، وإن لم يعلم أنّها سرقة ، كان له الرجوع على بائعها ، إذا كان موجودا ، بالثمن ، وبما غرمه عليها وأنفقه ، إذا لم يحصل له في مقابلة ذلك نفع ، فإن كان قد مات رجع على ورثته بذلك ، إن كان قد خلف في أيديهم بقدر ذلك ، فإن لم يترك شيئا ، فلا سبيل له على الورثة بحال.
ولا يجوز أن يشتري من الظالم شيئا يعلم أنّه ظلم بعينه وانفراده ، ولم يكن مأخوذا على جهة الخراج والزكوات ، ولا بأس أن يشتري منه إذا لم يعلم الشيء بعينه وانفراده ، ظلما وغصبا ، وإن علم أنّ بايعه ظالم ، وترك ذلك أفضل.
ولا بأس بشراء ما يأخذه السلطان الظالم ، من الغلات ، والثمرات ، والأنعام ، على جهة الخراج ، والزكاة ، على ما قدّمناه ، وان كان الآخذ له غير مستحق لذلك.
ومن غصب غيره متاعا ، وباعه من غيره ، ثم وجده صاحب المتاع عند المشتري ، كان له انتزاعه من يده ، فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، كان المغصوب منه مخيّرا ، في الرجوع على من شاء منهما ، فإن رجع على الغاصب ، رجع عليه بأكثر القيم إلى يوم الهلاك ، وإن رجع على المشتري ، رجع عليه بأكثر القيمة من وقت شرائه إلى وقت هلاكه ، ويرجع المشتري على الغاصب ، بما غرمه من المنافع ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، إلا أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب ، واشتراه ، فيلزمه القيمة وغيرها لصاحبه ، ولا درك له على الغاصب ، من رجوع بالثمن ، ولا غيره ، لأنّه ما غرّه ، بل دخل مع العلم.
فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول الغارم ، لأنّه الجاحد لزيادة القيمة المدّعاة ، وصاحب السلعة هو المدّعي.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه إيّاه (١). وهذا القول غير واضح ، والمعتمد على ما قلناه.
وقال أيضا رحمهالله : فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول صاحبه. وقد قلنا ما عندنا في ذلك.
وقال أيضا رحمهالله : ومتى أمضى المغصوب منه البيع ، لم يكن له بعد ذلك ، درك على المبتاع ، وكان له الرجوع على الغاصب ، بما قبضه من الثمن فيه (٢).
وهذا على مذهب من يقول من باع ملك غيره بغير إذنه يكون العقد موقوفا على اجازة صاحبه ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وسطرنا ، أنّ شيخنا أبا جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مسائل خلافه (٣).
ومتى ابتاع بيعا فاسدا ، فهلك المبيع في يده ، أو حدث فيه فساد ، كان ضامنا لقيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم التلف والهلاك ، ولأرش ما نقص من قيمته بفساده ، لأنّه باق على ملك صاحبه ، ما انتقل عنه ، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشيء المغصوب ، إلا في ارتفاع الإثم بإمساكه.
ولا بأس أن يشترط الإنسان على البائع ، فيما يشتريه منه شيئا من أفعاله ، إذا كان مقدورا له ، فأمّا إذا لم تكن مقدورا له ، فلا يجوز اشتراطه فما هو في مقدوره ، مثل أن يشتري ثوبا على أن يقصره أو يخيطه ، وما أشبه ذلك ، وكان البيع ماضيا ، ويلزمه ما شرط له ، بغير خلاف في ذلك عند أصحابنا ، وإجماعهم الحجة على صحّة ذلك ، وأمّا ما ليس في مقدوره ، مثل أن يبيع الزرع على أن يجعله سنبلا ، والرطب على أن يجعله تمرا ، فإن باع ذلك ، بشرط أن يدعه في
__________________
(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة باب بيع الغرر والمجازفة.
(٣) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٧٥.
الأرض ، أو الشجر إلى وقت بلوغه ، وإدراكه ، أو ما يريد المبتاع ، كان البيع صحيحا ، والشرط لازما ، وإن باع ذلك مطلقا من الاشتراط يجب على البائع تبقيته إلى أوان الحصاد والصرام.
ولا بأس أن يبيع الإنسان ثوبا منشورا ، ويستثني منه نصفه ، أو ثلثه ، أو ما أراد منه من الأذرع ، لأنّ ذلك استثناء معلوم من معلوم ، ولا بدّ من نشر الثوب عند البيع ، بحيث ينظر المشتري طوله وعرضه ، ولا يحتاج مع نشره إلى ذرعه ، فإن لم ينشره ، فلا بدّ من الاخبار بذرعه ، وذكر صفته ، لأنّه غير مرئي ، فيكون بيع خيار الرؤية. وقد قلنا فيما مضى ، أنّه لا يجوز أن يبيع متاعا بدينار غير درهم ، لأنّه مجهول ، وبيّنا أنّه من أين كان مجهولا ، فلا وجه لإعادته.
ولا بأس ببيع الجوارح التي تصلح للصيد ، من الطير ، والسباع من الوحش ، وكذلك لا بأس ببيع ما يحل بيع جلده ، من سائر السباع ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، من كتابنا هذا.
ولا بأس ببيع عظام الفيل ، واتخاذ الأمشاط منها ، وغيرها من الآلات ، ولا بأس باستعمال ما يعمل منها.
ولا يشتري الإنسان الجلود ، إلا ممّن يثق من جهته ، أنّه لا يبيع إلا ذكيا ، فإن اشتراها ممّن لا يثق به ، فلا بأس بذلك ، ما لم يعلم أنّها غير ذكية ، وكذلك لا بأس بابتياعها من أسواق بلدان المسلمين.
ولا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي ، وكذلك بيع العنب ممن يجعله خمرا ، فإنّه مكروه وليس بحرام ، ويكون الإثم على من يجعله كذلك ، لا على بايعه ، واجتناب ذلك أفضل ، فأمّا إن اشتراط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا ، وعقدا (١) على ذلك ، مشترطا ومقرونا بالعقد ، فهذا حرام (٢).
__________________
(١) ج : أو عقدا.
(٢) ل. ق : وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا بعضي الله به ، من قتل مؤمن أو قطع طريق وما أشبه ذلك.
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : بيع العصير ممّن يجعله خمرا ، مطلقا مكروه ، وليس بفاسد ، وبيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام ، ولا يبطل البيع ، لما روي عن النبي عليهالسلام أنّه لعن الخمر وبائعها (١). وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا يعص الله به ، من قتل مؤمن ، أو قطع طريق ، وما أشبه ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (٢).
وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ العقد لا دليل على بطلانه ، لقوله عزوجل : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وليس انضمام هذا الشرط الفاسد الباطل إليه ، مما يفسده ، بل يبطل الشرط ، ويصح العقد.
ومن اشترى من إنسان ماله ، فإن كان ماله حلالا ، فالبيع حلال طلق ـ بكسر الطاء ـ وإن كان ماله حراما ، فالبيع باطل ، لأنّه يشتري مالا يملكه ، وإن كان مختلطا لا يتميز له ، فالبيع صحيح ، إلا أنّه مكروه.
ويكره استعمال الصور ، والتماثيل التي هي على صور الحيوان ، فأمّا صور الأشجار وغيرها ، ممّا لا يكون على صور الحيوان ، فلا بأس ، وقد روي أنّه لا كراهة في ذلك إذا استعمله مستعملة في الفرش ، وما يوطأ بالأرجل (٣).
ولا بأس ببيع الحرير والديباج ، وأنواع الإبريسم ، والفرق بين الديباج ، والحرير ، هو أنّ الديباج ما كان من الحرير مدبجا ، منقوشا ، موشوا (٤) ، والحرير بخلاف ذلك ، ولا يجوز لبسه إذا كان محضا منهما ، غير مختلط بالنسبة في شيء ، يجوز الصلاة فيه للرجال خاصة ، ولا يجوز أيضا الصلاة فيه لهم ، إلا ما كان مختلطا حسب ما قدّمناه ، فيما مضى من كتاب الصلاة.
__________________
(١) مستدرك الوسائل : ج ٢ ، الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢ ، ولفظه هكذا : لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الخمر ، وغارسها ، وعاصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليها ، وبائعها ..
(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في ان الخراج بالضمان ، ص ١٣٨.
(٣) الوسائل : الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.
(٤) ل : موشيا.
وقال شيخنا في نهايته : ولا يجوز بيع شيء من الكلاب ، إلا كلب الصيد خاصة ، فإنّه لا بأس ببيعه ، والانتفاع بثمنه (١).
وقد قلنا فيما تقدّم من كتابنا هذا ، أنّ بيع كلب الزرع ، وكلب الحائط ، وكلب الماشية أيضا جائز ، ودليلنا على موافقة شيخنا في غير كتاب النهاية ، وإنّما أورد في النهاية ألفاظ الأحاديث ، إيرادا ، آحادا ومتواترة ، ولم يحرر فيها شيئا ، كما اعتذر به لنفسه ، في خطبة مبسوطة.
وأهل الذمّة سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا ، إذا باعوا ما لا يجوز للمسلم بيعه ، من الخمر ، والخنزير ، وغير ذلك ، ثمّ أسلم كان له المطالبة بالثمن ، وكان حلالا له ، وإذا أسلم وفي ملكه شيء من ذلك ، لم يجز له بيعه على حال.
وقد روي (٢) أنّه إذا كان عليه دين ، جاز أن يتولّى بيع ذلك غيره ، ممن ليس بمسلم ، ويقضي بذلك دينه ، ولا يجوز له أن يتولاه بنفسه ، ولا أن يتولّى عنه غيره من المسلمين.
والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ترك العمل بهذه الرواية الضعيفة ، لأنّها مخالفة للأدلّة القاهرة ، وهو أنّ ثمن الخمر حرام على المسلمين ، ولأنّها عندنا غير مملوكة ، ولا يجوز قضاء الدين بمال حرام ، وأيضا فيد الوكيل يد موكله.
ومن غصب من غيره مالا ، ويشتري به جارية ، كان الفرج له حلالا ، وعليه وزر المال ، ولا يجوز له أن يحجّ به ، فإن حجّ به ، لم يجزه عن حجة الإسلام ، هكذا روي في بعض الأخبار (٣) ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤).
والذي أقوله في ذلك ، أنّه إن كان اشترى الجارية بعين المال المغصوب ، فالشراء باطل ، ولا يجوز له وطء هذه الجارية ، ولا يصحّ له التصرّف فيها بحال ،
__________________
(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
(٢) الوسائل : الباب ٥٧ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.
(٣) الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.
وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان ذلك صحيحا ، وحل له وطء الجارية ، لأنّ الشراء وقع في الذمة ، لا بالعين المغصوبة.
وشيخنا أبو جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، وأورده ، لأنّ ذلك خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، رواية السكوني وهو مخالف ، عامي المذهب ، فقال شيخنا في جواب مسألة سئل عنها ، من جملة المسائل الحائريات ، المنسوبة إلى أبي الفرج بن الرملي ، فقال السائل : وعن رجل اشترى ضيعة ، أو خادما بمال ، أخذه من قطع الطريق ، أو من سرقة ، هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له أن يطأ هذا الفرج الذي قد اشتراه بمال من سرقة ، أو قطع الطريق ، وهل يجوز لأحد أن يشتري من هذه الضيعة ، وهذا الخادم ، وقد علم أنّه اشتراه بمال حرام ، وهل يطيب لمشتري هذه الضيعة ، أو هذا الخادم ، أو هو حرام ، فعرّفنا ذلك.
فقال : الجواب : إن كان الشراء وقع بعين ذلك المال ، كان باطلا ، ولم يصح جميع ذلك ، وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان الشراء صحيحا ، وقبضه ذلك المال فاسدا ، وحل وطء الجارية ، وغلة الأرض ، والشجر ، لأنّ ثمن الأصل في ذمّته ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمهالله ، وآخر جوابه للسائل (١) وهو الحق الواضح.
فأمّا الحج بهذا المال ، فإن كانت حجة الإسلام ، لم يجب عليه قبل ذلك ، ولا استقرت في ذمته ، ثم حج بهذا المال الحرام ، ووجد بعد ذلك ، القدرة على الحج بالمال الحلال ، وحصلت له شرائط وجوب الحج ، فإنّ حجّته الاولى بالمال الحرام ، لم تجزه ، والواجب عليه الحج ثانيا ، فأمّا إن كان الحج وجب عليه ، واستقر في ذمّته ، قبل غصب المال ، ثم حج بذلك المال ، فالحجة مجزية
__________________
(١) لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.
عنه ، لأنّه قد حصل بالمواضع ، وفعل أفعال الحج بنفسه ، إلا الهدي ، إن كان اشتراه بعين المال المغصوب ، فلا يجزيه عن هديه الواجب عليه ، ووجب عليه شراء هدي ، أو الصوم بدلا عنه ، عند تعذر القدرة عليه ، إلا أنّه لا يفسد عليه حجّه ، لأن الهدي ليس بركن.
وكلّ شيء من المطعوم والمشروب ، يمكن للإنسان اختباره من غير إفساد له ، كالأدهان الطيبة المستخبرة بالشم ، وصنوف الطيب ، والحلاوات ، والحموضات ، فقد روي أنّه لا يجوز بيعه بغير اختباره (١) ، فإن بيع من غير اختبار له ، كان البيع غير صحيح ، والمتبايعان فيه بالخيار ، فإن تراضيا بذلك ، لم يكن به بأس.
وهذه الرواية ، يمكن العمل بها على بعض الوجوه ، وهو أنّ البائع لم يصفه ، فإذا لم يصفه يكون البيع غير صحيح ، لأنّه ما يعرف بمشاهدته إذا طعمه (٢) ، فلا بدّ من وصفه ، فأمّا إذا وصفه ، وضبطه بالوصف ، فالبيع صحيح ، ويعتبر فيه ما اعتبرناه في بيع خيار الرؤية ، في المرئيات ، لأنّه لا يمكن معرفته بالرؤية ، بل بالطعم ، فإن وجد طعمه أو ريحه كما وصف البائع له ، فلا خيار له ، وإن وجده بخلاف وصف بايعه ، كان بالخيار ، ولا دليل على بطلان هذا العقد ، لأنّ الله تعالى ، قال « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقال تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع.
ويمكن أن يقال أنّ بيع العين ، المشاهدة المرئية لا يجوز أن تكون موصوفا ، لأنّه غير غائب ، فيباع بيع خيار الرؤية بالوصف ، فإذن لا بد من شمّه ، وذوقه ، لأنّه حاضر ، مشاهد ، غير غائب ، فيحتاج إلى الوصف ، فهذا وجه قويّ.
وما لا يمكن اختباره إلا بإفساده وإهلاكه ، كالبيض ، والبطيخ ، والقثاء ، والرمان ، وأشباه ذلك ، فابتياعه جائز مطلقا ، وبشرط الصحة ، أو البراءة من العيوب ، فإن اشتراه مطلقا ، أو بشرط الصحة ، ثمّ كسره المبتاع ، فإن وجد فيه
__________________
(١) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب عقد البيع وشروطه ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
(٢) ل. ق : بمشاهدته طعمه.
فاسدا ، كان للمبتاع ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وليس له رد الجميع ، واسترجاع الثمن ، فيما قد تصرّف فيه ، ولا له ردّ المعيب ، دون ما سواه ، وله ردّ الجميع ، إذا لم يتصرف في جميع المبيع ، وقامت له بذلك بيّنة ، فأمّا إذا تصرّف في ذلك ، فليس له رده ، وإجماع أصحابنا أنّ المشتري ، متى تصرّف في المبيع ، ثمّ وجد العيب ، فليس له الرد ، وله الأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وكيفية ذلك ، هو أن يقوّم ما بين قيمته صحيحا ، وقشره صحيح ، وبين كونه فاسدا وقشره صحيح ، فما يثبت ، يرجع بمقداره من الثمن ، ولا يقوّم مكسورا ، لأنّ الكسر نقص حدث في يد المشتري ، فلا يرجع بجنايته وحدثه على غيره.
هذا فيما كان لفاسده ومكسوره ، بعد كسره قيمة فأمّا إذا لم يكن لفاسده ومكسوره قيمة بعد كسره ، مثل بيض الدجاج ، إذا كان فاسدا ، فإن كان هكذا فالبيع باطل ، لأنّه لا يجوز بيع ما لا قيمة له.
وعلى هذا لا يجوز بيع الحشرات ، مثل الخنافس ، والجعلان ، وبنات وردان ، والذباب ، وغير ذلك ، ومتى أتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، لأنّه لا قيمة له.
وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإن وجد فيه فاسدا ، كان للمبتاع ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وإن شاء ردّ الجميع ، واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب دون ما سواه (١).
وأطلق الكلام في ذلك إطلاقا على لفظ الخبر الذي أورده.
والتحرير والفتيا على ما حررناه ، فإنّه رحمهالله ، رجع وحرّر ذلك في مبسوطة (٢).
ولا بأس بابتياع الأعمى ، وشرائه ، وحكمه فيما ذكرناه ، حكم البصراء سواء ولا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره شيئا ، متاعا ، أو حيوانا ، أو غير ذلك ، بالنقد والنسيئة ويشترط ان يسلفه البائع شيئا في مبيع ، أو يستسلف منه في
__________________
(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
(٢) المبسوط : كتاب البيوع ، حكم المبيع إذا وجد به عيب ، ص ١٣٥.
شيء ، أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل ، أو يستقرض منه ، وإذا ابتاع على ذلك ، كان البيع صحيحا ، ووجب عليهما الوفاء بما اشترطا فيه ، لأنّه شرط لا يخالف الكتاب والسنة ، فلا مانع يمنع من ذلك ، لقوله عليهالسلام : المؤمنون عند شروطهم (١) وقوله : الشرط جائز بين المسلمين (٢).
وقد أبي ذلك ، كثير من مخالفي مذهب أهل البيت عليهمالسلام ، بغير حجّة ولا برهان.
وإذا ابتاع الإنسان أرضا ، فبنى فيها ، أو غرس ، وأنفق عليها ، فاستحقها عليه إنسان آخر ، كان للمستحق قلع البناء ، والغرس ، وأجرتها مدة ما كانت في يده ، ويرجع المبتاع على البائع ، إن كان غره بقيمة ما ذهب منه ، وغرّمه ، وأنفق عليها ، فإن كان ما غرسه قد أثمر ، وأينع ، فالثمرة والزرع ، لصاحب الغرس والبذر ، ولصاحب الأرض قلعه ، لقوله عليهالسلام : الزرع لمن زرعه وإن كان غاصبا (٣) المراد به ، نماؤه ، وقوله عليهالسلام في قلعه : ليس لعرق ظالم حق (٤).
وقد روي في بعض الأخبار ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أنّه إن كان ما غرسه ، قد أثمر ، كان ذلك لرب الأرض ، وعليه للغارس ما أنفقه ، واجرة مثله في عمله (٥).
وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّه مناف لأصول المذهب ، ولما عليه كافة
__________________
(١) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.
(٢) عوالي اللئالى : ج ٣ ، ص ٢٢٥ ، ح ١٠٣.
(٣) لم نجد العبارة في الكتب الروائية إلا أن في الوسائل : الباب ٣٣ من أبواب الإجارة ، الحديث ٢ عن عقبة بن خالد قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال : زرعت بغير اذني فزرعك لي وعليّ ما أنفقت أله ذلك أم لا؟ فقال : للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه ، وأورده في الباب ٢ من كتاب الغصب أيضا.
وفي سنن أبي داود ، كتاب البيوع ، الباب ٣٢ ( الرقم ٣٤٠٣ ) قال صلىاللهعليهوآله : « من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ». ورواه أيضا ابن ماجة في سننه في الباب ١٣ من كتاب الرهون ( الرقم ٢٤٦٦ ) فراجع
(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الغصب ، ح ١.
(٥) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
المسلمين ، لأنّ نفس الغراس ، ملك للغارس ، فكيف يستحقها رب الأرض ، ومن أي وجه صارت له ، وأيّ دليل دلّ على ذلك ، ولا يرجع في ذلك إلى سواد مسطور ، أو خبر واحد من أضعف أخبار الآحاد ، إن كان قد ورد ، ويترك الأدلة القاهرة ، والأصول الممهّدة ، من أدلة العقل ، وأدلة السمع ، ولقد شاهدت جماعة من أصحابنا الذين عاصرتهم ، يخبطون في ذلك ، خبط عشواء ، وكلّ منهم يقول قولا غير محصّل ، ليصححوا ما ليس بصحيح ، كأنهم وجدوه مسطورا في كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، فالحمد لله على التوفيق لإصابة الحق.
فإن فسدت الأرض بالغرس ، كان لربها عليه أرش ما فسد ، ويرجع هو على البائع له بذلك.
ومن كان له على غيره مال ، أو متاع إلى أجل ، فدفعه إليه قبل حلول الأجل ، كان بالخيار بين قبضه ، وتركه إلى وقت حلول الأجل ، وكان ذلك في ضمان المديون عليه ، وليس لأحد أن يجبره على قبضه قبل أجله.
وإذا كان له على غيره مال بأجل ، فسأله تأخيره عنه إلى أجل ثان ، فأجابه إلى ذلك ، كان بالخيار ، إن شاء أمضى الأجل الثاني ، وإن شاء لم يمضه ، بغير خلاف بين أصحابنا فيه : لأنّه بمنزلة الهبة الغير مقبوضة ، فللإنسان أن يرجع فيها.
ومتى تقايل المتبايعان البيع ، انفسخ العقد ، فإن عقداه بعد الإقالة بأجل ، لم يكن للبائع الرجوع فيه ، ووجب عليه الوفاء به ، بخلاف تلك المسألة المتقدّمة.
والفرق بينهما ، أنّ تلك كانت بأجل ، وحلّ الأجل ، ثم سأل التأخير في الأجل ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، فأجيب إلى ذلك ، فللمجيب الرجوع في هبته ، والمسألة الأخيرة بعد فسخ البيع ، وعقده ثانيا إلى أجل ثان ، لا يجوز الرجوع فيه لأنّه ما حلّ ، ثم أجّله بعد ذلك ، لأنّ هذا الأجل ، أجل أول مستحق على البائع ، بالشرط المقابل للعوض الذي هو المبيع ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، لأنّه غير متبرّع به ، فافترق الأمران.
ولا يصح بيع بإكراه ، ولا يثبت إلا باختيار صاحبه وإيثاره.
وإذا باع الإنسان ملكا لغيره ، والمالك حاضر ، فسكت ، ولم يطالب ، ولا أنكر ذلك ، لم يكن ذلك دلالة على إجازته البيع ، ووكالته فيه ، ولا دليلا على أنّه ليس المبيع ملكا له ، وكذلك إن صالح عليه مصالح ، وهو ساكت ، لم يمض الصلح عليه ، وكان له المطالبة به وانتزاعه.
وبيع الأب على الابن ، إذا كان كبيرا مكلفا غير مولى عليه ، غير ماض ، ولا جائز ، بل باطل ، فإن كان صغيرا أو كبيرا غير مكلّف ، جاز بيعه عليه ، وصح ، لأنّه وليّه ، والناظر في أموره ، بخلاف العاقل المكلّف ، لأنّه ولي نفسه.
إذا باع مجهولا ومعلوما ، بطل البيع فيهما معا ، لأنّه لا يمكن التوصّل إلى الحصة في ثمن المعلوم بجهالة الآخر ، فلا يمكن التوصل إلى ما تسقط في مقابلته ، وقد بيّنا فيما مضى ، أنّه إذا باع ما يملك وما لا يملك ، في عقد واحد ، أو شاة وخنزيرا في عقد واحد ، صح البيع في أحدهما ، وبطل في الآخر ، لأنّه يسقط الثمن عليهما ، ويمكن التوصّل إلى الحصّة في ثمن المملوك منهما ، لأنّ الثمن يتقسط على القيمة ، كالعبدين ، والثوبين ، قسط عليهما ، وما يتقسط على الأجزاء ، كالحبوب ، والأدهان ، فإنّه يمسكه بحصّة من غير تقويم ، ولا تقسيط ، لأنّ ذلك متساوي الأجزاء ، فهو متساوي القيم.
وإذا قال : بعتك هذه الدار ، وآجرتك هذه الدار الأخرى ، بألف ، كان صحيحا ، لأنّه لا مانع منه ، فإذا قلنا البيع والإجارة صحيحان ، فإنّه يأخذ كل واحد حصّته ، من الثمن الذي هو العوض في مقابلتهما ، بقيمة المبيع ، واجرة مثل الدار ، وهكذا اعتبار التقسيط في جميع ما قدّمناه ، من بيع السلعتين ، فليلحظ ذلك.
إذا باع الإنسان بهيمة ، أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، كان جائزا ، فإن استثنى يدها ، أو رجلها ، أو عضوا منها ، كان استثناؤه باطلا.
وقال شيخنا في مبسوطة في باب الغرر ، وإن باع بهيمة أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، لم يجز ، لأنّ الحمل يجري مجرى عضو من أعضائها (١).
وقال رضياللهعنه أيضا : وإن باع جارية حبلى بولد حرّ ، لم يجز ، لأنّ الحمل يكون مستثنى ، وهذا يمنع صحة البيع (٢).
وما قدّمناه من صحة استثناء الحمل للبائع ، هو الصحيح الذي لا خلاف فيه ، بين أصحابنا ، أنّ الحمل بمجرّد العقد من الحامل للبائع (٣) فكيف إذا اشترطه ، إلا أن يشترطه المشتري ، وهذا قول شيخنا في نهايته (٤) ، وجميع كتبه ، إلا فيما أشرنا إليه ، لكون هذا الكتاب مجمع مذهب المخالف له ، وقد ذكر فيه مذهبنا ، ومذهب غيرنا ، وما ذكره فيه مذهب الشافعي ، لأنّ في أحد قوليه ، أنّ الحمل لا يتقسط الثمن عليه ، ويجريه مجرى عضو من أعضاء الحامل ، ومذهبنا بغير خلاف بيننا ، يخالف مذهب الشافعي في هذه المسألة ، وابن البراج من أصحابنا ، نظر في هذه المسألة في المبسوط ، ظنها اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، فنقلها إلى جواهر الفقه ، كتاب له ، وعمل بها ، واختارها ، تقليدا لما وجده من المسطور المذكور ، وما استجمل لهذا الشيخ الفقيه ، مع جلالة قدره ، مثل هذا الغلط والتقليد لما يجده في الكتب ، ويضمنه كتبه ، وهذا قلة تحصيل منه ، لما يقوله ويودعه تصانيفه ، وانّما ذكرت هذه المسألة عنه على غثاثتها ، لشهرتها عند من يقف على جواهر الفقه ، وأنّها عندهم كالصحيح من القول ، فذكرتها دالا على عوادها.
بذر دود القز ، يجوز بيعه ، ولا دليل على حظره ، وكذلك دوده ، لأنّه مرجوّ نفعه ، بخلاف غيره من الدود ، لأنّه لا نفع فيه ، فلا يجوز بيعه ، ويجوز أيضا بيع زنابير العسل ، وهو النحل ، إذا رآها ، وقد اجتمعت في بيتها ، وحبسها حتى لا
__________________
(١) و (٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص ١٥٦.
(٣) ج : لأنّ الحمل يجرى مجرى العقد من الحامل.
(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
يمكنها أن تطير ، جاز بيعها حينئذ ، ولا يجوز بيعها وهي تطير في الهواء ، وكذلك لا يجوز بيع السمك في الماء ، والطير في الهواء.
وإذا استأجر أرضا ليزرعها ، أو كانت له أرض مملوكة ، فدخل الماء فيها ، والسمك ، كان المالك والمستأجر أحقّ به ، لأنّ غيره لا يجوز أن يتخطى في الأرض المستأجرة ، فإن تخطى فيها أجنبي ، وأخذه ، ملكه بالأخذ ، لأنّ الصيد لمن اصطاده.
وكذلك إن عشش في دار إنسان ، أو في أرضه طائر ، وفرّخ فيها ، أو دخل ضبي في أرضه ، كان صاحب الأرض والدار ، أحقّ به ، فإن خالف أجنبي ، وتخطّى ، فأخذه ، كان أحق به ، لأنّه ملكه بالأخذ والاصطياد.
إذا طفرت سمكة ، فوقعت في زورق إنسان ، فأخذها بعض الركاب ، كانت له ، دون صاحب الزورق ، لما قدّمناه.
وإذا نصب شبكة ، فوقع فيها طائر ، كان للناصب ، وإن أخذه غيره ، وجب عليه ردّه عليه ، لأنّه في حكم الآخذ له ونهي النبي عليهالسلام عن بيعتين في بيعة ، قيل أنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد به ، إذا قال : بعتك هذا الشيء بألف درهم نقدا ، وبألفين نسيئة بأيّهما شئت خذه ، فإن هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصحّ ، لأنّه لا يلزمه بيع داره ، ولا يجوز أن يثبت في ذمته ، لأنّ السلف في بيع الدار ، لا يصح على ما قدّمناه في باب السلم.
باب اجرة السّمسار والدلّال والناقد والمنادي
أجرة الكيّال ، ووزّان المتاع ، على البائع ، لأنّ عليه توفية المتاع ، وتسليمه إلى المشتري ، ولا يقدر إلا بالوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، فيجب عليه
ذلك ، لأنّ كلّ ما لا يتمّ الواجب إلا به ، فهو واجب مثله ، وقد قلنا أنّ التسليم واجب على البائع ، ولا يتم التسليم ، إلا بالوزن والكيل ، وإفراده من جنسه بهما ، واجرة الناقد للثمن ، ووزانه على المبتاع ، لأنّ عليه توفية المال على الكمال لما قدّمناه من الدلالة في اجرة وزن المتاع ، وكيله ، فلا وجه لإعادة ذلك.
ومن نصب نفسه لبيع الأمتعة ، كان له اجرة البيع ، على البائع الذي هو موكّله ، دون المبتاع ، ومن كان منتصبا للشراء ، كان اجره على المبتاع الذي هو موكّله ، دون البائع ، فإن كان ممن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة ما يبيع ، من جهة البائع ، إن كان وكيلا له ، واجرة على ما يشتري ، من جهة المبتاع ، لأنّه وكيله في عقد الشراء بالقبول.
ولا يجوز له أن يأخذ على سلعة واحدة أجرين ، من البائع والمشتري ، لأنّ العقد لا يكون إلا بين اثنين ، لأنّه يحتاج إلى إيجاب وقبول ، بل يأخذ الأجرة ممن يكون عاقدا له ، ووكيلا له ، إمّا في الإيجاب ، وإمّا في القبول ، فليلحظ ذلك.
ولا يظن ظانّ على شيخنا أبي جعفر ، فيما ذكره في نهايته ، في قوله : « فإن كان ممّن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة على ما يبيع ، من جهة البائع ، واجرة على ما يشتري من جهة المبتاع » (١) انّ المراد بذلك في سلعة واحدة يستحق أجرين ، وإنما المراد بذلك ، أن من كان ذلك صنعته ، يبيع تارة للناس ، ويشتري لهم تارة ، فيكون له اجرة على من يبيع له ، في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها ، كان له اجرة على من اشترى له تلك السلعة ، لا أنّه يشتري سلعة واحدة ، ويبيعها في عقد واحد ، لأنّ المشتري غير البائع ، والبائع غير المشتري ، وانّما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه ، فليتأمّل ذلك.
وإذا دفع الإنسان إلى السمسار متاعا ، ولم يأمره ببيعه ، فباعه ، كان البيع باطلا وقال شيخنا في نهايته : كان بالخيار بين إمضاء البيع ، وبين فسخه (٢).
__________________
(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال.
وهذا على مذهب من قال : إنّ من باع ملك غيره بغير إذنه ، يكون البيع موقوفا على اختيار صاحبه ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وحكينا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه (١) ، وهو الحق اليقين.
فإن أمره ببيعه ، ولم يذكر له لا نقدا ولا نسيئة كان (٢) البيع باطلا.
ومن قال بالأوّل قال كان صاحب السلعة بالخيار ، والصحيح ما اخترناه ، لأنّه بيع غير مأمور به ، بل منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.
وكذلك إن قال : بعها نقدا ، فباعها نسيئة ، كان الحكم في ذلك ما ذكرناه ، والخلاف ما صورناه.
فإن قال له : بعضها نسيئة بدراهم معلومة ، فباعها نقدا بدون ذلك ، كان على ما ذكرناه ، والخلاف فيه ما حكيناه.
وإذا اختلف الواسطة وصاحب المتاع ، فقال الواسطة قلت لي : بعه بكذا وكذا ، وقال صاحب المتاع : بل قلت بعه بكذا ، أكثر من الذي قال ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان القول في ذلك ، قول صاحب المتاع مع يمينه ، وله أن يأخذ المتاع إن وجده بعينه ، وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، كان صاحبه مخيرا ، بين أن يرجع على أيّهما شاء ، بقيمته أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، فإن رجع على الواسطة ، لم يكن للواسطة أن يرجع على المشتري ، لأنّه يقول : صاحب المتاع ظلمني ، فكيف يرجع بالظلم على غير الظالم؟ فأمّا إن رجع على المشتري ، فللمشتري أن يرجع على الواسطة ، بمنافعه التي ضمنها ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، فأمّا الثمن فلا يرجع عليه به ، لأنّ الإتلاف حصل في يده ، فإن اختلفا في القيمة ، كان القول قول الجاحد لزيادة ما اتفقا عليه ، وهو الواسطة ، أو المشتري ، وصاحبه يدّعي أكثر من ذلك ، فعليه
__________________
(١) الخلاف : كتاب البيع المسألة ٢٧٥.
(٢) ق : فباع نسيئة كان.
البيّنة ، لقوله عليهالسلام المتفق عليه « على الجاحد اليمين وعلى المدّعي البيّنة » (١).
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، ضمن الواسطة من الثمن (٢) ، ما حلف عليه صاحب المتاع (٣).
وهذا غير واضح ، لأنّ صاحب المتاع ، للزيادة والمدّعى عليه (٤) البيّنة ، ولا يكون القول قوله في ذلك مع يمينه ، على ما دللنا عليه.
وإذا اختلفا في النقد ، كان القول قول صاحبه ، لأنّ الواسطة هو المدّعي هاهنا ، وصاحبه ، الجاحد المنكر ، فالقول قوله في ذلك مع يمينه.
ومتى هلك المتاع من عند الواسطة ، من غير تفريط من جهته ، كان من مال صاحبه ، ولم يلزم الواسطة شيء ، لأنّه أمين ، فإن كان هلاكه بتفريط من جهة الواسطة ، كان ضامنا لقيمته يوم تفريطه فيه.
فإن اختلفا في التفريط ، كان على صاحب المتاع ، البيّنة ، أنّ الواسطة فرّط فيه ، فإن عدمها ، فعليه اليمين بأنّه لم يفرط في ذلك ، ولم يلزمه شيء.
وإذا قال الإنسان لغيره : بع لي هذا المتاع ، ولم يسمّ له ثمنا ، فباعه بفضل من قيمته ، كان البيع ماضيا ، لأنّه زاده خيرا ، والثمن على تمامه وكماله لصاحب المتاع ، وإن باعه بأقل من ثمنه ، كان البيع غير صحيح.
وقال شيخنا في نهايته : كان ضامنا لتمام القيمة ، حتى يسلّمها إلى صاحب المتاع على الكمال ، ولا ضمان على الواسطة فيما بغلبة عليه ظالم ، والدرك في جودة المال على المشتري ، وفي جودة المتاع على بايعه ، دون الواسطة في الابتياع (٥) ، لأنّه وكيل ، والوكيل لا درك عليه ، بل العهدة والدرك يرجع على
__________________
(١) الوسائل : الباب ٣ و ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، ولفظه : ( اليمين على المدعى عليه ) أو « اليمين على من أنكر »
(٢) ج : الواسطة الثمن.
(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..
(٤) ج : لأن صاحب المتاع المدعي للزيادة عليه.
(٥) إلى هنا ينتهي كلام الشيخ « قدسسره » في النهاية ، كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..