فتح القدير - ج ٥

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٥

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٠

من أين لي هذا ، فيقول : باستغفار ولدك لك». وإسناده صحيح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس (وَما أَلَتْناهُمْ) قال : ما نقصناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (لا لَغْوٌ فِيها) يقول : باطل (وَلا تَأْثِيمٌ) يقول : كذب. وأخرج البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا ، فيتحدّثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدّثان بما كانوا في الدنيا ، فيقول أحد هما : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا ، فدعونا الله فغفر لنا». وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت : لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قد الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) قال : اللطيف. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عنه : أن قريشا لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قائل منهم : احبسوه في وثاق ، تربّصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، فأنزل الله في ذلك (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (رَيْبَ الْمَنُونِ) قال : الموت.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

قوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) «أم» هذه هي المنقطعة كما تقدّم فيما قبلها ، وكما سيأتي فيما بعدها ، أي : بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة من غير خالق لهم. قال الزجاج : أي : أخلقوا باطلا لغير شيء لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون؟! وجعل (مِنْ) بمعنى اللام. قال ابن كيسان : أم خلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون. وقيل : المعنى : أم خلقوا من غير أب ولا أمّ ، فهم كالجماد لا يفهمون ولا تقوم عليهم حجّة (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي : بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم ، فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرّون أن الله خالقهم ، وإذا أقرّوا لزمتهم الحجّة (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهم لا يدّعون ذلك فلزمتهم الحجّة ، ولهذا أضرب عن هذا وقال : (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي : ليسوا على يقين من الأمر ، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي : خزائن أرزاق العباد ، وقيل : مفاتيح الرحمة. قال مقاتل : يقول : أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟

١٢١

وكذا قال عكرمة. وقال الكلبي : خزائن المطر والرزق (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي : المسلّطون الجبّارون. قال في الصّحاح : المسيطر : المسلّط على الشيء ليشرف عليه ، ويتعهد أحواله ، ويكتب عمله ، وأصله من السّطر لأن الكتاب يسطّر. وقال أبو عبيدة : تسيطرت عليّ : اتّخذتني خولا لك. قرأ الجمهور «المصيطرون» بالصاد الخالصة ، وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام بالسين الخالصة ، ورويت هذه القراءة عن حفص ، وقرأ خلاد (١) بصاد مشمّة زايا (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي : بل أيقولون إن لهم سلما منصوبا إلى السماء يصعدون به ، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم ، ويصلون به إلى علم الغيب كما يصل إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوحي. وقوله : (فِيهِ) صفة لسلم ، وهي للظرفية على بابها ، وقيل : هي بمعنى على ، أي : يستمعون عليه كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (٢) قاله الأخفش. وقال أبو عبيدة : يستمعون به. وقال الزجاج : المعنى : أنهم كجبريل الّذي يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي ، وقيل : هي في محلّ نصب على الحال ، أي : صاعدين فيه (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) إن ادّعى ذلك (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجّة واضحة ظاهرة (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي : بل أتقولون لله البنات ولكم البنون. سفّه سبحانه أحلامهم ، وضلّل عقولهم ووبّخهم ، أي : أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصّنفين ، ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما ، وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه فهو بمحلّ سافل في الفهم والعقل ، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد. ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي : بل أتسألهم أجرا يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي : من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون ، أي : مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل. قال قتادة : يقول : هل سألت هؤلاء القوم أجرا يجهدهم فلا يستطيعون الإسلام (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي : بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب ، وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب. قال قتادة : هذا جواب لقولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) يقول الله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون. قال ابن قتيبة : معنى يكتبون يحاكمون بما يقولون (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي : مكرا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيهلكونه بذلك المكر (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي : الممكور بهم ، المجزيون بكيدهم ، فضرر كيدهم يعود عليهم (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وقد قتلهم الله في يوم بدر ، وأذلهم في غير موطن ، ومكر سبحانه بهم : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣) (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي : بل أيدّعون أنّ لهم إلها غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم. ثم نزّه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : عن شركهم به ، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له. ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم ، فقال : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) الكسف جمع

__________________

(١). في تفسير القرطبي (١٧ / ٧٥) : حمزة.

(٢). طه : ٧١.

(٣). آل عمران : ٥٤.

١٢٢

كسفة ، وهي القطعة من الشيء ، وانتصاب ساقطا على الحال ، أو على أنه المفعول الثاني ، والمركوم : المجعول بعضه على بعض. والمعنى : أنهم إن يروا كسفا من السماء ساقطا عليهم لعذابهم لم ينتهوا عن كفرهم ، بل يقولون : هو سحاب متراكم بعضه على بعض ، وقد تقدّم اختلاف القراء في «كسفا». قال الأخفش : من قرأ كسفا ، يعني بكسر الكاف وسكون السين جعله واحدا ، ومن قرأ كسافا ، يعني بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعا. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتركهم ، فقال : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي : اتركهم وخلّ عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم ، أو يوم قتلهم ببدر ، أو يوم القيامة. قرأ الجمهور : (يُلاقُوا) وقرأ أبو حيوة «يلقوا» وقرأ الجمهور : «يصعقون» على البناء للفاعل. وقرأ ابن عامر وعاصم على البناء للمفعول ، والصعقة : الهلاك على ما تقدّم بيانه (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) هو بدل من يومهم ، أي : لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الّذي كادوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ، بل هو واقع بهم لا محالة (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي : لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابا في الدنيا دون عذاب يوم القيامة ، أي : قبله ، وهو قتلهم يوم بدر. وقال ابن زيد : هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا ، وذهاب الأموال والأولاد. وقال مجاهد : هو الجوع والجهد سبع سنين ، وقيل : عذاب القبر ، وقيل : المراد بالعذاب هو القحط ، وبالعذاب الّذي يأتي بعده هو قتلهم يوم بدر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما يصيرون إليه من عذاب الله ، وما أعدّه لهم في الدنيا والآخرة (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) إلى أن يقع لهم العذاب الّذي وعدناهم به (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بمرأى ومنظر منّا ، وفي حفظنا وحمايتنا ، فلا تبال بهم. قال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك فلا يصلون إليك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي : نزّه ربك عمّا لا يليق به ، متلبسا بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك. قال عطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص : يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول : سبحان الله وبحمده ، أو سبحانك اللهمّ وبحمدك ؛ عند قيامه من كلّ مجلس يجلسه. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع بن أنس : حين تقول إلى الصلاة. قال الضحاك يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وفيه نظر لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام ، ويكون التسبيح بعد التكبير ، وهذا غير معنى الآية ، فالأوّل أولى. وقيل : المعنى : صلّ لله حين تقوم من منامك ، وبه قال أبو الجوزاء وحسان بن عطية. وقال الكلبي : واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة ، وهي صلاة الفجر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أمره الله سبحانه أن يسبّحه في بعض الليل. قال مقاتل : أي صلّ المغرب والعشاء ، وقيل : ركعتي الفجر (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي : وقت إدبارها من آخر الليل ، وقيل : صلاة الفجر ، واختاره ابن جرير ، وقيل : هو التسبيح في إدبار الصلوات ، وقرأ الجمهور (إِدْبارَ) بكسر الهمزة على أنه مصدر ، وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السّميقع ويعقوب والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع ، أي : أعقاب النجوم ، وأدبارها : إذا غربت ، ودبر الأمر : آخره ، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة «ق».

١٢٣

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) قال : المسلّطون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : أم هم المنزلون. وأخرجا عنه أيضا (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) قال : عذاب القبر قبل يوم القيامة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وبان مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآخرة إذا قام من المجلس يقول : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، فقال رجل : يا رسول الله ؛ إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ، قال كفّارة لما يكون في المجلس». وأخرجه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج الترمذي وابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه». قال الترمذي : حسن صحيح. وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال : حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) قال : الركعتان قبل صلاة الصبح. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) قال : ركعتي الفجر.

* * *

١٢٤

سورة النجم

هي إحدى وستون آية ، وقيل ثنتان وستون آية وهي مكية جميعها في قول الجمهور. وروي عن ابن عباس وعكرمة أنها مكية إلا آية منها. وهي قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) الآية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة النجم بمكة. وأخرج أيضا عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن مسعود قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم ، فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد الناس كلهم ، إلّا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : أوّل سورة استعان بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها والنجم. وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر قال : «صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ النجم ، فسجد بنا فأطال السجود». وأخرج ابن مردويه عن عائشة : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ النجم ، فلما بلغ السجدة سجد فيها». وأخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يسجد فيها. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد في النجم بمكة ، فلمّا هاجر إلى المدينة تركها. وأخرج أيضا عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسجد في شيء من المفصّل منذ تحوّل إلى المدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

قوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) التعريف للجنس ، والمراد به جنس النجوم ، وبه قال جماعة من المفسرين ،

١٢٥

ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

أحسن النّجم في السّماء الثّريّا

والثّريّا في الأرض زين النّساء

وقيل : المراد به الثريا ، وهو اسم غلب فيها ، تقول العرب : النجم وتريد به الثريا ، وبه قال مجاهد وغيره. وقال السدّي : النجم هنا هو الزهرة ؛ لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها ، وقيل : النجم هنا النبت الّذي لا ساق له ، كما في قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (١) قاله الأخفش. وقيل : النجم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : النجم القرآن ، وسمّي نجما لكونه نزل منجّما مفرّقا ، والعرب تسمّي التفريق تنجيما ، والمفرّق : المنجم ، وبه قال مجاهد والفراء وغير هما ، والأوّل أولى. قال الحسن : المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقيل : المراد بها النجوم التي ترجم بها الشياطين ، ومعنى هويه : سقوطه من علو ، يقال : هوى النجم يهوي هويّا ؛ إذا سقط من علو إلى سفل ، وقيل : غروبه ، وقيل : طلوعه ، والأوّل أولى ، وبه قال الأصمعي وغيره ، ومنه قال زهير :

فشجّ بها الأماعز وهي تهوي

هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء

ويقال : هوى في السير ؛ إذا مضى ؛ ومنه قول الشاعر :

بينما نحن بالبلاكث فالقا

ع سراعا والعيس تهوي هويّا

خطرت خطرة على القلب من ذك

راك وهنا فما استطعت مضيّا

ومعنى الهويّ على قول من فسّر النجم بالقرآن ؛ أنه نزل من أعلى إلى أسفل ، وأما على قول من قال إنه الشجر الّذي لا ساق له ، أو أنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يظهر للهويّ معنى صحيح ، والعامل في الظرف فعل القسم المقدّر ، وجواب القسم قوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي : ما ضلّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحق والهدى ولا عدل عنه ، والغيّ : ضدّ الرشد ، أي : ما صار غاويا ، ولا تكلّم بالباطل ، وقيل : ما خاب فيما طلب ، والغيّ : الخيبة ، ومنه قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

وفي قوله : (صاحِبُكُمْ) إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله ، والخطاب لقريش (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي : ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره ، فعن على بابها. وقال أبو عبيدة : إنّ عن بمعنى الباء ، أي : بالهوى. قال قتادة : أي : ما ينطق بالقراءة عن هواه (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي : ما هو الّذي ينطق به إلا وحي من الله يوحيه إليه. وقوله : (يُوحى) صفة لوحي تفيد الاستمرار التجدّدي ، وتفيد نفي المجاز ، أي : هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) القوى : جمع قوّة ، والمعنى : أنه علمه جبريل الّذي هو شديد قواه ، هكذا قال أكثر المفسرين إن المراد جبريل. وقال الحسن :

__________________

(١). الرّحمن : ٦.

١٢٦

هو الله عزوجل ، والأوّل أولى ، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) المرّة : القوّة والشدّة في الخلق ، وقيل : ذو صحة جسم وسلامة من الآفات ، ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مرّة سويّ (١)». وقيل : ذو حصافة عقل ومتانة رأي. قال قطرب : العرب تقول لكلّ من هو جزل الرأي حصيف العقل : ذو مرّة ، ومنه قول الشاعر :

قد كنت قبل لقاكم ذا مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه

والتفسير للمرّة بهذا أولى ؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله : (شَدِيدُ الْقُوى) قال الجوهري : المرّة : إحدى الطبائع الأربع ، والمرّة : القوّة وشدّة العقل ، والفاء في قوله : (فَاسْتَوى) للعطف على علّمه ، يعني جبريل ، أي : ارتفع وعلا إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير. وقيل : معنى استوى قام في صورته التي خلقه الله عليها ؛ لأنه كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الآدميين ، وقيل : المعنى : فاستوى القرآن في صدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الحسن : فاستوى : يعني الله عزوجل على العرش (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى ، والمراد بالأفق الأعلى : جانب المشرق ، وهو فوق جانب المغرب ، وقيل : المعنى : فاستوى عاليا ، والأفق : ناحية السماء ، وجمعه آفاق. قال قتادة ومجاهد : هو الموضع الّذي تطلع منه الشمس ، وقيل : هو يعني جبريل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج ، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي : دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى ، أي : قرب من الأرض ، فتدلّى ، فنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ثم تدلّى فدنا ، قاله ابن الأنباري وغيره ، قال الزجّاج : معنى دنا فتدلى واحد ، أي : قرب وزاد في القرب ، كما تقول : فدنا مني فلان وقرب ، ولو قلت : قرب مني ودنا جاز. قال الفراء : الفاء في «فتدلى» بمعنى الواو ، والتقدير : ثم تدلّى جبريل ودنا ، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أن تقدّم أيهما شئت. قال الجمهور : والّذي دنا فتدلى هو جبريل ؛ وقيل : هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : دنا منه أمره وحكمه ، والأوّل أولى ، وقيل : ومن قال : إن الّذي استوى هو جبريل ومحمد ، فالمعنى عنده : ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة فتدلى ، أي : هوى للسجود ، وبه قال الضحّاك. (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي : فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين ، أي : قدر قوسين عربيين. والقاب والقيب ، والقاد والقيد : المقدار ، ذكر معناه في الصّحاح. قال الزجاج : أي : فيما تقدّرون أنتم ، والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا. وقيل «أو» بمعنى الواو ، أي : وأدنى ، وقيل : بمعنى بل ، أي : بل أدنى. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قدر ذراعين ، والقوس : الذّراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض الحجازيين ، وقيل : هي لغة أزد شنوءة. وقال الكسائي : «فكان قاب قوسين» أراد قوسا

__________________

(١). «السوي» : صحيح الأعضاء.

١٢٧

واحدة (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي : فأوحى جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحى ، وفيه تفخيم للوحي الّذي أوحي إليه ، والوحي : إلقاء الشيء بسرعة ، ومنه الوحاء وهو السرعة ، والضمير في عبده يرجع إلى الله ، كما في قوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١) وقيل : المعنى : فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى ، وبالأوّل قال الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. وقيل : فأوحى الله إلى عبده محمد. قيل : وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد ، أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل ، أو إلى محمد ، ولم يبينه لنا ، فليس لنا أن نتعرّض لتفسيره. وقال سعيد بن جبير : الّذي أوحى إليه هو (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلخ (٢) ، و (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) إلخ (٣). وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها [يا محمد] (٤) ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. وقيل : إن «ما» للعموم لا للإبهام ، والمراد كل ما أوحى به إليه ، والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي : ما كذب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه بصره ليلة المعراج ، يقال : كذبه ؛ إذا قال له الكذب ولم يصدقه. قال المبرد : معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه. قال الجمهور (ما كَذَبَ) مخففا ، وقرأ هشام وأبو جعفر بالتشديد ؛ و «ما» في (ما رَأى) موصولة أو مصدرية ، في محل نصب بكذب ، مخففا ومشدّدا (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى). قرأ الجمهور : (أَفَتُمارُونَهُ) بالألف من المماراة ، وهي المجادلة والملاحاة ، وقرأ حمزة والكسائي : «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم ، أي : أفتجحدونه ، واختار أبو عبيد القراءة الثانية : قال : لأنهم لم يماروه وإنما جحدوه ، يقال : مراه حقه ، أي : جحده ، ومريته أنا : جحدته. قال : ومنه قول الشاعر :

لئن هجوت أخا صدق ومكرمة

لقد مريت أخا ما كان يمريكا

أي : جحدته. قال المبرد : يقال مراه عن حقه وعلى حقه : إذا منعه منه ودفعه عنه (٥). وقيل : على بمعنى عن. وقرأ ابن مسعود والشعبي ومجاهد والأعرج «أفتمرونه» بضم التاء من أمريت ، أي : أتريبونه وتشكّون فيه. قال جماعة من المفسرين : المعنى على قراءة الجمهور : أفتجادلونه ، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا مسجد بيت المقدس ، أي : أفتجادلونه جدالا ترمون به دفعه عمّا شاهده وعلمه ، واللام في قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) هي الموطئة للقسم ، أي : والله لقد رآه نزلة أخرى ، والنزلة : المرة من النزول ، فانتصابها على الظرفية ، أو منتصبة على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : رأى جبريل نازلا نزلة أخرى ؛ أو على أنه صفة مصدر مؤكد محذوف ، أي : رآه رؤية أخرى. قال جمهور المفسرين :

المعنى أنه رأى محمد جبريل مرّة أخرى ، وقيل : رأى محمد ربّه مرّة أخرى بفؤاده (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) الظرف منتصب برآه ، والسّدر : هو شجر النّبق ، وهذه السدرة هي في السماء السادسة كما في الصحيح ،

__________________

(١). فاطر : ٤٥.

(٢). الشرح : ١ ـ ٨.

(٣). الضحى : آية ٦ إلى آخر السورة.

(٤). من تفسير القرطبي (١٧ / ٩٢)

(٥). من تفسير القرطبي (١٧ / ٩٣)

١٢٨

وروي أنها في السماء السابعة. و (الْمُنْتَهى) : مكان الانتهاء ، أو هو مصدر ميمي ، والمراد به الانتهاء نفسه ، وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء ، وقيل : غير ذلك. وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه. (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي : عند تلك السدرة جنّة تعرف بجنة المأوى ، وسمّيت جنة المأوى لأنه أوى إليها آدم ، وقيل : إن أرواح المؤمنين تأوي إليها. قرأ الجمهور (جَنَّةُ) برفع جنة على أنها مبتدأ وخبرها الظرف المتقدّم. وقرأ عليّ وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزرّ بن حبيش ومحمد بن كعب ومجاهد وأبو سبرة الجهني «جنّة» فعلا ماضيا من جنّ يجن ، أي : ضمّه المبيت ، أو ستره إيواء الله له. قال الأخفش : أدركه كما تقول جنّة الليل ، أي : ستره وأدركه ، والجملة في محل نصب على الحال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) العامل في الظرف رآه أيضا ، وهو ظرف زمان ، والّذي قبله ظرف مكان ، والغشيان بمعنى التغطية والسرّ ، وبمعنى الإتيان ، يقال : فلان يغشاني كل حين ، أي : يأتيني ، وفي الإبهام في قوله : (ما يَغْشى). من التفخيم ما لا يخفى ، وقيل : يغشاها جراد من ذهب ، وقيل : طوائف الملائكة. وقال مجاهد : رفرف أخضر ، وقيل : رفرف من طيور خضر ، وقيل : غشيها أمر الله ، والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا للصورة البديعة ، أو للدلالة على الاستمرار التجددي (ما زاغَ الْبَصَرُ) أي : ما مال بصر النبي عما رآه (وَما طَغى) أي : ما جاوز ما رأى ، وفي هذا وصف أدب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك المقام حيث لم يلتفت ، ولم يمل بصره ، ولم يمدّه إلى غير ما رأى ، وقيل : ما جاوز ما أمر به (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي : والله لقد رأى تلك الليلة من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف ، وقيل : رأى رفرفا سدّ الأفق ، وقيل : رأى جبريل في حلّة خضراء ، قد ملأ ما بين السماء والأرض ، له ستّمائة جناح ، كذا في صحيح مسلم وغيره ، وقال الضحاك : رأى سدرة المنتهى ، وقيل : هو كل ما رآه تلك الليلة في مسراه وعوده ، و «من» للتبعيض ، ومفعول «رأى» : «الكبرى» ، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا ، أي رأى شيئا عظيما من آيات ربه ، ويجوز أن تكون «من» زائدة (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ـ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) لما قصّ الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين موبخا ومقرّعا : (أَفَرَأَيْتُمُ) أي : أخبروني عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها؟ وهل أوحت إليكم شيئا كما أوحى الله إلى محمد؟ أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع؟ ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب وعظم اعتقادهم فيها. قال الواحدي وغيره : وكانوا يشتقون لها اسما من أسماء الله تعالى ، فقالوا من الله اللات ، ومن العزيز العزّى ، وهي تأنيث الأعز بمعنى العزيزة ، ومناة من منى الله الشيء إذا قدّره. قرأ الجمهور : (اللَّاتَ) بتخفيف التاء ، فقيل : هو مأخوذ من اسم الله سبحانه كما تقدّم ، وقيل : أصله لات يليت ، فالتاء أصلية ، وقيل : هي زائدة ، وأصله لوى يلوي ؛ لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها ، أو يلتوون عليها ، ويطوفون بها. واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء أو بالهاء؟ فوقف عليها الجمهور بالتاء ووقف عليها الكسائي بالهاء ، واختار الزجاج والفراء الوقف بالتاء لاتباع رسم المصحف فإنها تكتب بالتاء ، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وحميد (اللَّاتَ) بتشديد التاء ، ورويت القراءة عن ابن كثير ، فقيل : هو اسم رجل كان

١٢٩

يلتّ السّويق ويطعمه الحاج ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه ، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل. قال مجاهد : كان رجلا في رأس جبل [له غنيمة يسلي (١) منها السمن ، و] (٢) يتخذ من لبنها وسمنها حيسا (٣) ، ويطعم الحاج ، وكان ببطن نخلة ، فلما مات عبدوه. وقال الكلبي : كان رجلا من ثقيف له صرمة غنم ، وقيل : إنه عامر بن الظّرب العدواني ، وكان هذا الصنم لثقيف ، وفيه يقول الشاعر (٤) :

لا تنصروا اللّات إنّ الله مهلكها

وكيف ينصركم من ليس ينتصر

قال في الصحاح : واللات اسم صنم لثقيف ، وكان بالطائف ، وبعض العرب يقف عليها بالتاء ، وبعضهم بالهاء. (وَالْعُزَّى) صنم قريش وبني كنانة. قال مجاهد : هي شجرة كانت بغطفان ، وكانوا يعبدونها ، فبعث إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، وقيل : كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة. وقال سعيد بن جبير : العزى : حجر أبيض كانوا يعبدونه. وقال قتادة : هي بيت كان ببطن نخلة (وَمَناةَ) صنم بني هلال. وقال ابن هشام : صنم هذيل وخزاعة. وقال قتادة : كانت للأنصار. قرأ الجمهور (مَناةَ) بألف من دون همزة ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي بالمدّ والهمز (٥). فأما قراءة الجمهور فاشتقاقها من منى يمني ، أي صبّ ؛ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقرّبون بذلك إليها. وأما على القراءة الثانية فاشتقاقها من النوء ، وهو المطر لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ، وقيل : هما لغتان للعرب ، ومما جاء على القراءة الأولى قول جرير :

أزيد مناة توعّد يا ابن تيم

تأمّل أين تاه بك الوعيد

ومما جاء على القراءة الأخرى قول الحارئي :

ألا هل أتى التّيم بن عبد مناءة

على الشّنء فيما بيننا ابن تميم

وقف جمهور القراء عليها بالتاء اتباعا لرسم المصحف ، ووقف ابن كثير وابن محيصن عليها بالهاء. قال في الصحاح : ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة ، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء ، وهي لغة. قوله : (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هذا وصف لمناة ، وصفها بأنها ثالثة وبأنها أخرى ، والثالثة لا تكون إلا أخرى. قال أبو البقاء : فالوصف بالأخرى للتأكيد ، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى ، والعرب إنما تصف به الثانية ، فقال الخليل : إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى) (٦) وقال الحسين بن الفضل :

__________________

(١). «يسلي» : يجمع.

(٢). من تفسير القرطبي (١٧ / ١٠٠)

(٣). «الحيس» : الطعام المتّخذ من التمر والأقط والسمن.

(٤). هو شداد بن عارض الجشمي.

(٥). أي : مناءة.

(٦). طه : ١٨.

١٣٠

فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : أفرأيتم اللات والعزّى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل : إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم لأنها كانت عند المشركين عظيمة ، وقيل : إن ذلك للتحقير والذم ، وإن المراد المتأخرة الوضيعة كما في قوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) (١) أي : وضعاؤهم لرؤسائهم. ثم كرّر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها فقال : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) أي : كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث ، وتجعلون لأنفسكم ما تحبّون من الذكور ، قيل : وذلك قولهم إن الملائكة بنات الله ، وقيل : المراد كيف تجعلون اللات والعزّى ومناة ، وهي إناث ، في زعمكم شركاء لله ، ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث. ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائرة ، فقال : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) قرأ الجمهور : (ضِيزى) بياء ساكنة بغير همزة ، وقرأ ابن كثير بهمزة ساكنة ، والمعنى : أنها قسمة خارجة عن الصواب جائرة عن العدل مائلة عن الحق. قال الأخفش : يقال : ضاز في الحكم ، أي : جار ، وضاز حقه يضيزه ضيزا ، أي : نقصه وبخسه ، قال : وقد يهمز ، وأنشد :

فإن تنأ عنّا ننتقصك وإن تغب (٢)

فحقّك (٣) مضئوز وأنفك راغم

وقال الكسائي : ضاز يضيز ضيزا ، وضاز يضوز ضوزا ؛ إذا تعدّى وظلم وبخس وانتقص ، ومنه قول الشاعر (٤) :

ضازت بنو أسد بحكمهم

إذ يجعلون الرّأس كالذّنب

قال الفراء : وبعض العرب يقول : ضئزى بالهمز ، وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز «ضيزى». قال البغوي : ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت ، إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى. قال المؤرّج : كرهوا ضم الضاد في ضيزى ، وخافوا انقلاب الياء واوا ، وهي من بنات الواو ، فكسروا الضاد لهذه العلّة ، كما قالوا في جمع أبيض بيض ، وكذا قال الزجاج : وقيل : هي مصدر كذكرى ، فيكون المعنى : قسمة ذات جور وظلم. ثم ردّ سبحانه عليهم بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي : ما الأوثان أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلا أسماء محضة ، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها ؛ لأنها لا تبصر ولا تسمع ، ولا تعقل ولا تفهم ، ولا تضرّ ولا تنفع ، فليست إلا مجرّد أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ، قلّد الآخر فيها الأوّل ، وتبع في ذلك الأبناء الآباء. وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى ، كما تقول في تحقير رجل : ما هو إلا اسم ، إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) (٥) يقال : سميته زيدا وسميته بزيد ، فقوله «سمّيتموها» صفة

__________________

(١). الأعراف : ٣٨.

(٢). في تفسير القرطبي : تقم.

(٣). في تفسير القرطبي : فقسمك.

(٤). هو امرؤ القيس.

(٥). يوسف : ٤٠.

١٣١

لأصنام ، والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام ، أي : جعلتموها أسماء لا جعلتم لها اسما. وقيل : إن قوله : (هِيَ) راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة ، والأوّل أولى. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما أنزل بها من حجّة ولا برهان. قال مقاتل : لم ينزل لنا كتابا لكم فيه حجة كما تقولون إنها آلهة ، ثم أخبر عنهم بقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إلا الظنّ الّذي لا يغني من الحق شيئا ، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم وتحقيرا لشأنهم ، فقال : (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي : تميل إليه وتشتهيه ؛ من غير التفات إلى ما هو الحق الّذي يجب الاتباع له. قرأ الجمهور : (يَتَّبِعُونَ) بالتحتية على الغيبة ، وقرأ عيسى بن عمر وأيوب وابن السّميقع بالفوقية على الخطاب ، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وابن عباس وطلحة وابن وثّاب. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي : البيان الواضح الظاهر بأنها ليست بآلهة ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يتبعون ، ويجوز أن يكون اعتراضا ، والأوّل أولى. والمعنى : كيف يتبعون ذلك والحال أن قد جاءهم ما فيه هدى لهم من عند الله ؛ على لسان رسوله الّذي بعثه الله بين ظهرانيهم ، وجعله من أنفسهم (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) «أم» هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة التي للإنكار ، فأضرب عن اتباعهم الظنّ الّذي هو مجرد التوهم ، وعن اتباعهم هوى الأنفس وما تميل إليه ، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم. ثم علّل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي : أن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عزوجل ، فليس لهم معه أمر من الأمور ، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة وأطماعهم الفارغة ، ثم أكّد ذلك وزاد في إبطال ما يتمنونه فقال : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) و «كم» هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير ، ومحلها الرفع على الابتداء ، والجملة بعدها خبرها ، ولما في كم من معنى التكثير جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك ، والمعنى : التوبيخ لهم بما يتمنون ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له ، فكيف هذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم ، وهو معنى قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم بالشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ) أن يشفعوا له (وَيَرْضى) بالشفاعة له لكونه من أهل التوحيد ، وليس للمشركين في ذلك حظّ ، ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ، ولا يرضاها ؛ لكونهم ليسوا من المستحقّين لها.

وقد أخرج ابن جرير وعن ابن عباس (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) قال : إذا انصبّ. وأخرج ابن المنذر عنه قال : هو الثريا إذا تدلت. وأخرج عنه أيضا قال : أقسم الله أنه ما ضلّ محمد ولا غوى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (ذُو مِرَّةٍ) قال : ذو خلق حسن. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرّتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صوته فسدّ الأفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ـ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) قال : خلق جبريل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستّمائة جناح»

١٣٢

وأخرجه أحمد عنه أيضا. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) قال : مطلع الشمس. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن مسعود في قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قال : «رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل له ستّمائة جناح». وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قال : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه حلّتا رفرف أخضر ، قد ملأ ما بين السماء والأرض». وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه قال : دنا ربه فتدلى. وأخرج قال : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دنا فتدلى إلى ربه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال : دنا ربه فتدلى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قال : دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين. وأخرج الطبراني وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : القاب : القيد ، والقوسين : الذراعين. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لما أسري بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقترب من ربه ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، ألم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر. وأخرج النسائي وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج مسلم والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عنه في قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ـ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال : رأى محمد ربه بقلبه مرّتين. وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد ، والترمذي وحسّنه ، وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : رأى محمد ربه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بعينه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال : رأى محمد ربه مرّتين ، مرّة ببصره ومرّة بفؤاده. وأخرج الترمذي وحسّنه ، والطبراني وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا قال : لقد رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عزوجل. وأخرج النسائي ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عنه أيضا قال : أتعجبون أن تكون الخلّة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد؟ وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذرّ قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ربك؟» قال : نور أنّى أراه؟». وأخرج مسلم وابن مردويه عنه «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ربك؟ قال : رأيت نورا». وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره. وأخرج مسلم عن أبي هريرة في قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال جبريل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود : «لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يصعد من الأرواح فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها» (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال : فراش من ذهب. وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن ابن مسعود قال : «الجنة في السماء السابعة العليا ، والنار في الأرض السابعة السفلى». وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان اللات رجالا يلتّ السّويق للحاجّ. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه : أن العزى كانت ببطن نخلة ، وأن اللات كانت بالطائف ، وأن

١٣٣

مناة كانت بقديد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (ضِيزى) قال : جائرة ، لا حقّ لها.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢))

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي : أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من الدار الآخرة ، وهم الكفار ، يضمّون إلى كفرهم مقالة شنعاء وجهالة جهلاء ، وهي أنهم يسمّون الملائكة المنزّهين عن كلّ نقص تسمية الأنثى ، وذلك أنهم زعموا أنها بنات الله ، فجعلوهم إناثا ، وسمّوهم بنات (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) جملة في محل نصب على الحال ، أي : يسمونهم هذه التسمية والحال أنهم غير عالمين بما يقولون ، فإنهم لم يعرفوهم ، ولا شاهدوهم ، ولا بلّغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها ، بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة. وقرئ «ما لهم بها» أي : بالملائكة أو التسمية (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : ما يتبعون في هذه المقالة إلا مجرّد الظنّ والتوهم. ثم أخبر سبحانه عن الظنّ وحكمه فقال : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي : إن جنس الظنّ لا يغني من الحق شيئا من الإغناء ، والحقّ هنا العلم. وفيه دليل على أن مجرّد الظن لا يقوم قيام العلم ، وأن الظانّ غير عالم. وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم وهي المسائل العلمية ، لا فيما يكتفى فيه بالظنّ ، وهي الحقائق العملية ، وقد قدّمنا تحقيق هذا. ولا بدّ من هذا التخصيص ، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ونحو ذلك ظنية ، فالعمل بها عمل بالظن ، وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور ، فكانت أدلة وجوبه العمل بما فيها مخصصة لهذا العموم ، وما ورد في معناه من الذمّ لمن عمل بالظنّ والنهي عن اتباعه (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أي : أعرض عمّن أعرض عن ذكرنا ، والمراد بالذكر هنا القرآن ، أو ذكر الآخرة ، أو ذكر الله على العموم ، وقيل : المراد بالذكر هنا الإيمان ، والمعنى : اترك مجادلتهم فقد بلّغت إليهم ما أمرت به ، وليس عليك إلا البلاغ ، وهذا منسوخ بآية السيف (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : لم يرد سواها ، ولا طلب غيرها ، بل قصر نظره عليها ؛ فإنه غير متأهّل للخير ، ولا مستحقّ للاعتناء بشأنه. ثم صغّر سبحانه شأنهم ، وحقّر أمرهم فقال : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي : إن ذلك التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ، ليس لهم غيره ،

١٣٤

ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين. قال الفرّاء : أي : ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة ، وقيل : الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى جعلهم للملائكة بنات الله ، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى ، والأوّل أولى. والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الّذي يندرج تحته الظنّ الفاسد ، والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم واتباعهم مجرّد الظن. وقيل : معترضة بين المعلّل والعلّة ، وهي قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض ، والمعنى : أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق ، وأعرض عنه ، ولم يهتد إليه ، وأعلم بمن اهتدى فقبل الحق وأقبل إليه وعمل به ، فهو مجاز كلّ عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ. وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصرّ على الضلالة وسبقت له الشقاوة ، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال كما علم حال الفريق الراشد. ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته وعظيم ملكه ، فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : هو المالك لذلك والمتصرّف فيه لا يشاركه فيه أحد ، واللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) متعلّقة بما دلّ عليه الكلام ، كأنه قال : هو مالك ذلك ، يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ؛ ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه. وقيل : إن قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معترضة ، والمعنى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى ؛ ليجزي. وقيل : هي لام العاقبة ، أي : وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلا منهما بعمله. وقال مكي : إن اللام متعلقة بقوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) وهو بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. قرأ الجمهور (لِيَجْزِيَ) بالتحتية. وقرأ زيد ابن عليّ بالنون ، ومعنى (بِالْحُسْنَى) أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بسبب أعمالهم الحسنى ، ثم وصف هؤلاء المحسنين فقال : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأول في قوله : (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) وقيل بدل منه ، وقيل بيان له ، وقيل منصوب على المدح بإضمار أعني ، أو في رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يجتنبون كبائر الإثم. قرأ الجمهور : (كَبائِرَ) على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثّاب كبير على الإفراد ، والكبائر : كل ذنب توعّد الله عليه بالنار ، أو ذمّ فاعله ذمّا شديدا ، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها ، والفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه. وقال مقاتل : كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار ، والفواحش : كلّ ذنب فيه الحد. وقيل : الكبائر : الشرك ، والفواحش : الزنا ، وقد قدّمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) منقطع (١). وأصل اللمم في اللغة ما قلّ وصغر ، منه : ألمّ بالمكان قلّ لبثه فيه ، وألمّ بالطعام قلّ أكله منه ، قال المبرد : أصل اللمم أن تلمّ بالشيء من غير أن تركبه. يقال : ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه. قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنوّ والقرب ، ومنه قول جرير :

__________________

(١). في تفسير القرطبي (١٧ / ١٠٨) : متصل.

١٣٥

بنفسي من تجنّبه عزيز

عليّ ومن زيارته لمام

وقول الآخر :

متى تأتنا تلمّم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا (١) ونارا تأجّجا

قال الزجاج : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرّة بعد المرّة ، ولا يتعمق فيه ، ولا يقيم عليه ، يقال : ألممت به ؛ إذا زرته وانصرفت عنه ، ويقال : ما فعلته إلا لمما وإلماما ، أي : الحين بعد الحين ، ومنه إلمام الخيال. قال الأعشى :

ألمّ خيال من قتيلة بعد ما

هي حبلها من حبلنا فتصرّما

قال في الصحاح : ألمّ الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة ، وأنشد غيره :

بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب

وقل إن تملّينا فما ملّك القلب

وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية ، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب ، وقيل : هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة ، وقيل : هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب ، وبه قال مجاهد والحسن والزهري وغيرهم ، ومنه :

إن تغفر اللهم تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا؟

اختار هذا القول الزجاج والنحاس. وقيل : هو ذنوب الجاهلية ، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام ، وقال نفطويه : هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعبادة. قال : والعرب تقول : ما تأتينا إلا إلماما ، أي : في الحين بعد الحين. قال : ولا يكون أن يلمّ ولا يفعل ؛ لأن العرب لا تقول ألمّ بنا إلا إذا فعل ، لا إذا همّ ولم يفعل ، والراجح الأول ، وجملة : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) تعليل لما تضمنه الاستثناء ، أي : إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس يخلو عن كونه ذنبا يفتقر إلى مغفرة الله ويحتاج إلى رحمته ، وقيل : إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه. ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده فقال : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم. وقيل : المراد آدم فإنه خلقه من طين (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) أي : هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنّة ، والأجنّة : جمع جنين هو الولد ما دام في البطن ، سمّي بذلك لاجتنانه ، أي : استتاره ، ولهذا قال : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) فلا يسمّى من خرج عن البطن جنينا ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تمدحوها ولا تبرئوها عن الآثام ولا تثنوا عليها ، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع ، وجملة : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) مستأنفة مقررة

__________________

(١). «الجزل» : الكثير العظيم.

١٣٦

للنهي ، أي : هو أعلم بمن أتقى عقوبة الله وأخلص العمل له. قال الحسن : وقد علم سبحانه من كلّ نفس ما هي عاملة ، وما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة. ثم لمّا بيّن سبحانه جهالة المشركين على العمون خصّ بالذمّ بعضهم ، فقال : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي : تولى عن الخير ، وأعرض عن اتباع الحق (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي : أعطى عطاء قليلا ، وأعطى شيئا قليلا ، وقطع ذلك وأمسك عنه ، وأصل أكدى من الكدية وهي الصّلابة ، يقال : لمن حفر بئرا ثم بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتمّ ، ولمن طلب شيئا فلم يبلغ آخره ، ومنه قول الحطيئة :

فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه

ومن يبذل المعروف في النّاس يحمد

قال الكسائي وأبو زيد : [أكدى الحافر وأجبل : إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا ، فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى : إذا بلغ إلى الصّلب] (١). ويقال : كديت أصابعه : إذا محلت (٢) من الحفر ، وكديت يده : إذا كلّت فلم تعمل شيئا ، وكدت الأرض : إذا قلّ نباتها ، وأكديت الرجل عن الشيء رددته ، وأكدى الرجل : إذا قلّ خيره. قال الفراء : معنى الآية : أمسك من العطية وقطع. وقال المبرد : منعه منعا شديدا. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دينه ، فعيّره بعض المشركين فترك ورجع إلى شركه. قال مقاتل : كان الوليد مدح القرآن ، ثم أمسك عنه فأعطى قليلا من لسانه من الخير ثم قطعه. وقال الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه أمر العذاب ، فهو يعلم ذلك (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ـ وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي : ألم يخبر ولم يحدّث بما في صحف موسى؟ يعني أسفاره ، وهي التوراة ، وبما في صحف إبراهيم الّذي وفي ، أي : تمّم وأكمل ما أمر به. قال المفسرون : أي : بلّغ قومه ما أمر به وأدّاه إليهم ، وقيل : بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه. ثم بيّن سبحانه ما في صحفهما فقال : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى ، ومعناه : لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، و «أن» هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن مقدّر ، وخبرها الجملة بعدها ، ومحل الجملة الجرّ على أنها بدل من صحف موسى وصحف إبراهيم ، أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) عطف على قوله : (أَلَّا تَزِرُ) وهذا أيضا ممّا في صحف موسى ، والمعنى : ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ، ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٣) ، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ونحو ذلك ،

__________________

(١). من تفسير القرطبي (١١ / ١١٢)

(٢). في تفسير القرطبي : كلّت.

(٣). الطور : ٢١.

١٣٧

ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور ، فإن الخاصّ لا ينسخ العام ، بل يخصصه ، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي : يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة (ثُمَّ يُجْزاهُ) أي : يجزى الإنسان سعيه ، يقال : جزاه الله بعمله وجزاه على عمله ، فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان والمنصوب إلى سعيه. وقيل : إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله : (الْجَزاءَ الْأَوْفى) فيكون الضمير راجعا إلى متأخّر عنه هو مفسر له ، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعا إلى الجزاء الّذي هو مصدر يجزاه ، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيرا للجزاء المدلول عليه بالفعل ، كما في قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) (١) قال الأخفش : يقال : جزيته الجزاء (٢) وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي : المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره فيجازيهم بأعمالهم.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) قال : الكبائر : ما سمّى الله فيه النار ، والفواحش : ما كان فيه حدّ الدنيا. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنّى وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه». وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي ، في الشعب ، عن ابن مسعود في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : زنا العينين : النظر ، وزنا الشفتين : التقبيل ، وزنا اليدين : البطش ، وزنا الرجلين : المشي ، ويصدّق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم. وأخرج مسدد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : هي النظرة والغمزة والقبلة والمباشرة ، فإذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنا. وأخرج سعيد بن منصور ، والترمذي وصحّحه ، والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب منها. قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا؟

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) يقول : إلا ما قد سلف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمة : من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة : من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود ، فذلك الإلمام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس قال : اللمم كل شيء بين الحدّين حدّ الدنيا وحدّ الآخرة يكفّره الصلاة ، وهو دون كلّ موجب ، فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا ؛ وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء

__________________

(١). المائدة : ٨.

(٢). من تفسير القرطبي (١٧ / ١١٥)

١٣٨

ختمه الله بالنار وأخّر عقوبته إلى الآخرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبيّ صغير قالوا : هو صدّيق ، فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كذبت يهود ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلا أنه شقيّ أو سعيد ، فأنزل الله عند ذلك (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية كلها». وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البرّ منكم ، سمّوها زينب». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) قال : قطع ، نزلت في العاص بن وائل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : أطاع قليلا ثم انقطع. وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والشيرازي في الألقاب ، والديلمي ، قال السيوطي : بسند ضعيف ، عن أبي أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون ما قوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفي عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهنّ ، وزعم أنها صلاة الضحى» وفي إسناده جعفر بن الزبير ، وهو ضعيف. وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : سهام الإسلام ثلاثون سهما لم يتمّمها أحد قبل إبراهيم عليه‌السلام قال الله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى). وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يقول إبراهيم الّذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا ، والّذي في صحف موسى. (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سهل بن معاذ ابن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الّذي وفّى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إلى آخر الآية» وفي إسناده ابن لهيعة. وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس. قال : لما نزلت : (وَالنَّجْمِ) فبلغ (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال : وفي (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) إلى قوله : (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى). وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه قال : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فأنزل الله بعد ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) ، فأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ـ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ـ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) استرجع واستكان. وأخرج الدار قطني في الأفراد ، والبغوي في تفسيره ، عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) قال : «لا فكرة في الرب» (٢).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠)

__________________

(١). الطور : ٢١.

(٢). أي لا تحيط به الفكرة. [تفسير البغوي : ٤ / ٢٥٥].

١٣٩

وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي : هو الخالق لذلك والقاضي بسببه. قال الحسن والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار. وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر ، وقيل : أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه ، وأبكى من شاء بأن غمّه. وقال سهل بن عبد الله : أضحك المطيعين بالرحمة ، وأبكى العاصين بالسخط (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي : قضى أسباب الموت والحياة ، ولا يقدر على ذلك غيره ، وقيل : خلق نفس الموت والحياة ، كما في قوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (١) وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء ، وقيل : أمات في الدنيا وأحيا للبعث وقيل : المراد بهما النوم واليقظة. وقال عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله ، وقيل : أمات الكافر وأحياء المؤمن ، كما في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٢) و (أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ـ مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) المراد بالزوجين الذكر والأنثى من كل حيوان ، ولا يدخل في ذلك آدم وحوّاء فإنهما لم يخلقا من النطفة ، والنطفة : الماء القليل ، ومعنى : (إِذا تُمْنى) إذا تصبّ في الرحم وتدفق فيه ، كذا قال الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح وغيرهم ، يقال : منى الرجل وأمنى ، أي : صب المنيّ. وقال أبو عبيدة (إِذا تُمْنى) إذا تقدّر ، يقال : منيت الشيء : إذا قدّرته ، ومني له أي : قدّر له ، ومنه قول الشاعر (٣) :

حتّى تلاقي ما يمني لك الماني (٤)

والمعنى : أنه يقدّر منها الولد. (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي : إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده. قرأ الجمهور : (النَّشْأَةَ) بالقصر بوزن الضربة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمدّ بوزن الكفالة ، وهما على القراءتين مصدران (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي : أغنى من شاء وأفقر من شاء ، ومثله قوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٥) وقوله : (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) (٦) قاله ابن زيد ، واختاره ابن جرير ، وقال مجاهد وقتادة والحسن : أغنى : موّل ، وأقنى : أخدم ، وقيل : معنى أقنى : أعطى القنية ، وهي ما يتأثل من الأموال. وقيل : معنى أقنى : أرضى بما أعطى ، أي : أغناه ، ثم رضّاه بما أعطاه. قال الجوهري : قني الرجل قنى ، مثل غني غنى ، أي : أعطاه ما يقتنى ، وأقناه : أرضاه ، والقنى : الرضا. قال أبو زيد : تقول

__________________

(١). الملك : ٢.

(٢). الأنعام : ١٢٢.

(٣). هو أبو قلابة الهذلي.

(٤). وصدره : ولا تقولن لشيء سوف أفعله.

(٥). الرعد : ٢٦.

(٦). البقرة : ٢٤٥.

١٤٠