تفسير ابن عرفة - ج ٣

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٣

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤١٦

قد يقال : ظاهر الآية أن هارون عليه‌السلام كان نبيا فقط ، فيجاب بأنه رسول نبي بدليل قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ) [سورة طه : ٤٣ ـ ٤٤] ، غير أن رسالته على جهة التبعية لموسى ؛ بقوله (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ) [سورة طه : ٢٩ ـ ٣٠].

قال الزمخشري : الرسول الذي معه من الله تعالى والنبي هو نبي عن الله تعالى ، وإن لم يكن معه كتاب كيوشع.

ابن عرفة : إنما الرسول المأمور بالتبليغ فيما أوحى له به ، والنبي هو الذي يوحى إليه ولم يؤمر بالتبليغ.

ابن عرفة : وفي هذه الآية عندي رد على شيخنا القاضي ابن عبد السّلام [٥٢ / ٢٥١] حيث كان في ميعاده ، يقول في تفسير طه في قوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [سورة طه : ٣٦] بعد قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي) [سورة طه : ٢٩ ـ ٣٠] إلي من أمري ، قال : هذه الآية حجة للمعتزلة في قولهم : إن النبوة مكتسبة ، وكان ابن مرزوق يشنع عليه ، وعزم على تكفيره ؛ لكنه ذكره بأثره كلاما يدل على سلامة عقيدته مع أن تلك الآية لا حجة لهم فيها ؛ لأن القائلين بأنها مكتسبة بالدعاء والتفرغ إلى الله تعالى ؛ لكن قبل خاتم النبوة ، وأما الآن فلا ؛ لأن موسى دعا بذلك ؛ فاستجاب دعائه ، كما يدعوا الإنسان بأن يكون وليا أو عالما.

قال ابن عرفة : قال : فقوله في هذه الآية (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) دليل على أن نبوة هارون عليه‌السلام محض تفضل من الله تعالى ، ورحمته ليس باكتساب بوجه.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا).

ابن عرفة : هذا كله تشريف لإبراهيم صلّى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آله وسلم بما يخصه في ذاته وما يخص ذريته ؛ لأن إسماعيل عليه الصلاة والسّلام من ذريته.

ابن عطية : الجمهور على أن الذبيح إسماعيل.

وقال ابن رشد في المقدمات : الأكثرون على أنه إسحاق.

وقال اللخمي : الأصح أنه إسماعيل.

١٢١

ابن عرفة : وكان بعض الطلبة ، يقول : إطلاق صادق بلفظ اسم الفاعل على الذات حقيقة ، وعلى القول مجاز ، فيقال : رجل صادق ، وقول صادق ؛ فإنما الحقيقة قول صادق بوصف المعنى بالمعنى ، وظاهر الآية العكس ؛ لأنهم قالوا في قوله : مررت برجل حسن الوجه لا بصفته ، فكذلك هذا وصف إسماعيل بصفه وعده.

قال ابن عرفة : وأجيب الفرق بين القول والوعد والصدق ينسب إلى القائل في قوله حقيقة إلى صاحب الوعد مجاز ، أو إنما يقال : فلان وفى في وعد أوعدني فأوفى إلي ؛ فقولك كان هنا مجازا.

قوله تعالى : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ).

إعادة لفظ كان تنبيه على أن كل وصف منها منتقل بالمدح عليه.

قوله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا).

فيه تشريف له بوجهين :

أحدهما : أن لفظ الضدية منسوبة إلى الله عزوجل.

والثاني : وصف الرضا.

قال الزمخشري : أصله مرضو.

وقال ابن عطية : أصله مرضوي ، والصحيح ما قال الزمخشري ؛ لقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [سورة التوبة : ٧٢] فهو من ذوات الواو ، ولذلك لم يمد ورش مرضاة ، وأمالها الكسائي.

قلت : قال صاحبنا ابن القصار : اعتبر أصل المادة وهو رضو ؛ فجاءت واو في آخر الفعل قبلها كسرة فقلبت ياء ؛ لأن مصدره رضوان ، وراعا ابن عطية أصل الإعلال ؛ لأنه لما أعل رجح إلى الياء ، وأصل الإعلال عندهم إنما يعتبر في الفعل.

قيل لابن عرفة : اعتبر ابن عطية في الفعل ، وهو رضيت ورضينا.

قال ابن عطية : إنما وصف إسماعيل بصدق الوعد ؛ لأنه وعد رجلا أن يلقاه في موضع فانتظره إسماعيل يوما وليلة ، وقيل : انتظره سنة.

ابن عرفة : والعجب من الزمخشري على تأخره على ابن عطية كيف لم يذكر القول الأول؟

١٢٢

قال ابن عطية : وفعله نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم قبل البعثة ، ذكره النقاش ، وخرجه الترمذي.

ابن عرفة : وذكر عياض في الشفاء : أنه انتظر موعوده ثلاثة أيام ، وذكر ابن ماجه حديثا.

قال ابن عرفة : والعطف في الآية تدل أن الرسالة أشرف من يصدق الوعد والأمر بالصلاة والزكاة مستند إلى تبليغه عن الله أشرف من وصف الرسالة فقط ، والرضا مع ذلك أشرف من الجميع.

قوله تعالى : (اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ).

قيل : إنه ولد قبل وفاة آدم عليه‌السلام بمائة سنة.

ابن عرفة : والظاهر أنه نبي فقط ؛ لأن هذه الأوصاف ذكرت على معنى التشريف له فيعتبر في ذلك أعلاها ؛ فلو كان رسولا لمدح بوصف الرسالة.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ).

قال ابن عرفة : انظر هل هذا من الإشارة إلى القريب بلفظ البعيد للتعظيم؟ مثل : (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [سورة يوسف : ٣٢] أولا كان بعضهم سيعمله منه محتجا بأنه إذا اجتمع في الكلام القريب وبعيد يغلب القريب بدليل تغلبهم ضمير المخاطب [٥٢ / ٢٥٢] على الغائب والمشار إليهم هنا منهم زكريا وهو بعيد ، ومنهم إدريس وهو قريب ، وكان بعضهم يقول بالعكس أولا ؛ لأن المشار إليهم مجموع مشتمل على قريب وبعيد.

وقد قال المنطقيون : فاعتبر هنا في المجموع أدناه وهو البعيد ، فلذلك أشير إليه بلفظ البعيد.

قوله تعالى : (مِنَ النَّبِيِّينَ).

قال ابن عرفة : كونه خبر المبتدأ يوجب إشكالا ؛ وهو توهم خص النبيين في هؤلاء ، ولزم من البيان الجنس ، فيجاب بأنه أعم ، والخبر يكون أعم من المبتدأ ، أورده بعض الطلبة بأن هذا عام لا أعم إذ لا يقول : زيد الرجال ، كما يقول : زيد الحيوان ، وأجاب ابن عرفة بأن كونه تاما لا ينافي هنا كونه أعم فهو هنا عام وأعم ، قيل لابن عرفة : ما أفاد قوله تعالى : (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أنه معلوم لا غرابة فيه ، قال : فائدته تشريف آدم بنيتهم إليه.

١٢٣

قوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ).

ولم يقل : آيات الله ، أو القهار ، أو العزيز ، أو الجبار شبيه بالأدنى على الأعلى ؛ إشارة إلى أنهم إذا سمعوا آيات الرحمن والرحمة يبكون ويسبحون ؛ فأحرى إذا سمعوا آية التخويف والموعظة.

قوله تعالى : (سُجَّداً).

قال أبو حيان : حال مقدرة ؛ لأنهم حال الخرور والقعود.

قال أبو حيان : ك (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [سورة البروج : ٣].

قال ابن عرفة : شهود ليس إلا جمع ، وشهود وقعود يحتمل الجمع والمصدر ، كما أن (بُكِيًّا) يحتمل الجمع إذا تلوها هم بأنفسهم هل يكون أحرى فيمن جاورهم أو مساويا أبدا؟ قلنا : يحتمل الأخروية والتساوي ، ويحتمل أن يكون من جاورهم بسماعها من غيرهم أمرا ، كما قال النبي صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم : " إني أحب أن أسمعه من غيري".

قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ).

العطف بالفاء يقتضي كمال القرب بين زمنهم وزمن هؤلاء المخالفين لهم ؛ ولذلك قال ابن عطية : بينهم ستون سنة ، وأنه أقل ما تبدل فيه الأحوال ، وكذلك قال النبي صلّى الله وعلى آله الطيبين وسلم : " : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ، والمراد القرب بينهم وبين أخرهم وهو عيسى عليه‌السلام ، وحينئذ يحصل كمال البعد بينهم بمجموعهم وبين المخالفين لهم ، هذا إن قلنا : إن الخلف في النصارى ، وإن قلنا : إن اليهود فيهم فيكون المراد من بعدهم ، والخلف بالفتح في الخير وبالسكون في الشر ، ومنه حديث خرجه مسلم في كتاب الزكاة : " ما من يوم يأتي إلا وملكان يناديان فيه يقول أحدهما اللهم أعط منفق خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسك تلفا".

قال ابن عرفة : والمراد بالأول الإنفاق في الواجب والمندوب والإمساك عن النفقة الواجبة ؛ لأنه إخبار من المشرع بالدعاء له وعليه ففيه ذم فاعله ؛ فدل على أنه واجب.

قوله تعالى : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ).

قال ابن عرفة : قالوا : اتباع الشهوات سبب لإضاعة الصلاة ؛ لأن من اتبع شهوة النفس مكنها من غرضها في الراحة والتكاسل عن الطاعة.

١٢٤

قال ابن عرفة : بل المراد على العكس ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة العنكبوت : ٤٥].

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ).

قيل لابن عرفة : إن قلت : التوبة تستلزم الإيمان لأنها إما من الكفر أو المعاصي ؛ فما أفاد قوله (وَآمَنَ؟) فالجواب : إما بأنه على التوزيع فمن تاب المراد به المعاصي ، ومن آمن أي من الكفر ، وإما أن التائب تقبل توبته إذا تاب وتحققت حالته ، وإن ازدادت على ما كانت عليه قبل ذلك ، فقوله (آمَنَ) إشارة إلى هذا.

قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً).

الواو إما للحال ؛ أي يدخلون الجنة في حال عدم الظلم ، ويحتمل أن تكون جملة مستقلة وهو أولى لاقتضائه عدم ظلمهم قبل الدخول وبعده.

قوله تعالى : (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ).

لأنهم عبدوا الله استنادا للوعد بها لمن أطاعه وهو أمر فجيب عنهم.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا).

يحتمل أن يكون اسم فاعل أو اسم مفعول ، إما أنه كان وعد مأتيا أو مأتيا مدركا.

قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً).

بهذا مثل

علا لا حب لا يهتدى بمناره

[٥٢ / ٢٥٢] ؛ أي ليس فيها لغو يسمع ، واللغو الساقط من القول.

قوله تعالى : (إِلَّا سَلاماً).

ذكر أبو حيان فيه ثلاث أوجه :

أحدهما : أنه استثناء متصل ؛ لأن السّلام في الجنة لغو ؛ لأنه لا فائدة فيه إذ لا خوف فيها فيحتاج إلى التأمين منه.

الثاني : أنه منقطع.

والثالث : أنه مثل :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

١٢٥

قيل لابن عرفة : فهو إذا منقطع ؛ لأن سيبويه أنشد هذا البيت في باب الاستثناء المنقطع ، فقال ابن عرفة : الفرق بينهما أنه على هذا الوجه يكون المراد به المدح ؛ فهو من تأكيد المدح بما يقتضيه الذم ، والبكرة والعشي حملها ابن عطية على معايب تريد الزمان ، قال : وروى أن أهل الجنة تسدلهم الأبواب بقدر الليل في الدنيا فيعرفون البكر عند افتتاحها والعشي عند ابتدائها ، والليل إنما هو به والشمس ، وقال تعالى (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [سورة الإنسان : ١٣].

فقال ابن عرفة : يحتمل أن يراد لا يرون شمسا محرقة ؛ لأن الشمس يحجبها عنهم كثرة أنوارها فلا يرونها ، والزمهرير شدة البرد ، وهذا أمر جائز ممكن لا مانع يمنع منه ، أو يحتمل أن يكون مثل قولهم : ضربته الظهر والبطن أي رزقهم هاهنا مستمر.

قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا).

قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : إنما قال (نُورِثُ) ولم يقل : نعطي أو نجازي ؛ إشارة إلى أنها ليست عوضا عن الأعمال بوجه ، ولم يأخذها أحد بالاستحقاق ، وإنما كالميراث الذي أخذ كوارث بغير معاوضة والاستحقاق ، قال :

وفي هذا تشريف لهم من وجهين :

أحدهما : لفظ العباد من حيث إضافته إلى الله تعالى.

والثاني : تقيا ؛ لأنه أخص من المتقي.

قوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا).

قال الفخر : أي .... (١) ، ويحتمل أن يكون هذا من كلام بعض أهل الجنة لبعض ؛ أي ما نزلنا هذه المنازل إلا بأمر ربك.

قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

عموم العالم ؛ ومع أنه مردود بقوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [سورة الكهف : ٩٩] ، ورد في بعض الأحاديث ما يدل على أنه في هذه الآية يعني الذهول ؛ لأنه استدل بها.

قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ).

أي اصطبر على المشاق لعبادته ؛ وهذا أمر لجميع الناس.

__________________

(١) بياض في المخطوطة ، وسقط أيضا.

١٢٦

قال ابن عرفة : خطابا للمعدوم على تقدير وجوده ؛ لأنه يتناول من هو موجود حين نزول الآية ، ومن سيوجد إلى قيام الساعة.

قوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).

إما أن يراد هل تعلم له شبيها؟ وهل تعلم من تسمى باسمه موصوفا بهذه الصفة؟ وهو كونه رب السموات والأرض ، وليس المراد شبيها بالإطلاق ؛ بل سميا على هذه الكيفية.

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ).

قال الزمخشري : أن يراد بالإنسان الجنس أو بعضه ويتم الكفار.

قال ابن عرفة : إن كانت القضية خارجية فالمراد البغض ، وإن كانت حقيقة فالمراد كل من يوجد إلى قيام الساعة فهو بمظنة المخالفة.

قال الزمخشري : فإن قلت : لم جازت إرادة جنس الإنسان وكلهم غير قابلين ذلك؟ قلت : لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم ، كما يقال : بني فلان قتلوا فلانا ، وإنما القاتل رجل منهم ، وكذلك قال في البقرة في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا) [سورة البقرة : ١١٤] ، وفي آل عمران في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران : ١٧٣].

وكذلك قال التلمساني : في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة في الباب الثالث ، قال : يقال لمن تبرجت لرجل واحد تبرجين للرجال بالنكاح.

ابن عرفة : وهذه قضية شرطية مؤكدا فيها الشرطية بإذا المقتضية لتحقيق الوقوع ، وبما ، وباللام ، وسوف ، وأدخل على ذلك همزة الاستفهام على سبيل الإنكار لذلك على ما هو عليه.

قوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً).

[٥٣ / ٢٥٣] هذه الآية أصل في إلحاق المثل بمثله.

قيل لابن عرفة : فيها حجة لأهل السنة في إعادة العدم بعينه.

وقالت المعتزلة : إنما يعاد مثله.

قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً).

١٢٧

الواو للحال من الضمير في خلقنا ، ويرد فيه السؤال الثاني أن التأثير فيه بالإيجاد إن كان حالة عدمه فيلزم عليه اجتماع الوجود والعدم وهو محال ، وإن كان حالة وجوده فيلزم عليه تحصيل الحاصل حسبما أورده في أصول الدين ، وأجابوا بأن التأثير فيه حالة الأثر وإيجاده به ؛ أي بذلك الأثر.

قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا).

النزع : هو أخذ الشيء بقوة ، مثل (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [سورة الأعراف : ٤٣] ، (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [سورة الأعراف : ٢٧] ينزع عنهما لباسهما ومن نزع الروح من الجنة.

قوله تعالى : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا).

ذهب ابن الطراوة إلى أن في الآية نفي وإضافة ، وهي مبتدأ وأشد خبره ، والفعل معلق عن العمل فيها.

قال الزمخشري : وذهب الخليل إلى أنها معرفة وارتفعت على الحكاية تقدير الكلام لننزعن الذين قال فيهم أشد.

ورده ابن عرفة بأن حذف الموصول وإبقاء بعض صلته لا يجوز.

قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا).

ابن عرفة : ليس المراد نفس العلم ؛ لأنه لا شركة فيه ، وإنما المراد بالعلم هنا ورد أثره.

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ).

الضمير عائد على (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

قال الزمخشري : أي مرتل الألفاظ مخلصات المقاصد محكمات ، أو مشبهات فرضها للبيان المحكمات ، وتبين الرسل قولا وفعلا ، أو ظاهرات الإعجاز فيها فيمن يقدر على معارضتها أو حججا وبراهين ، والوجه أن يكون حالا مؤكدا بل مبينة لأنها حين نزولها لا تكون بينة إلا بعد تبيان الرسل لها ، قال : ويجاب بأنه بينها عنه تلاوتها عليهم فهي بينة حينئذ لا مبينة يحتمل أن تكون اسم فاعل مفعول فهو المراد أنها بينة في نفسها أو مبنية ببيان غيرها لها.

قوله تعالى : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً).

فأجيب بأنهم قالوا : أينا لتوهم أن التفضيل بين الكفرة.

١٢٨

ورده ابن عرفة بأن الكلام في التفضيل إنما هو من الفريقين ، قال : وإنما عادتهم يجيبون بوجهين :

الأول : لو قال أينا لكان فيه لين وتأسيس لهم وتلطف في خطابهم لأجل الإقبال عليهم بالخطاب وخلطة مع التعلم في الضمير.

الثاني : أن المضمرات على الصحيح جزئية ، والشخص يرى لا يدخل تحت الجزئي ، ولف الفريق كلي والكل يشتمل على الجزئي وغير فيدخل تحت الحاضر والغاية.

قوله تعالى : (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

ولم يقل : أحسن مقاما وخير نديا.

قال ابن عرفة : أجاب البيانيون بأن أحسن أخص ولا يوصف بالحسن إلا الحسن.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ).

نقل ابن عصفور في شرح مقربه عن الأعمش : أنه يجوز عنده ملكت كم فلان ، ونقل أيضا ابن مالك في شرح كافيته ، ونقل عن بعضهم : أنه يجوز زيد كيف.

وكان بعضهم يقول : إن كتاب سيبويه قياس الأمثلة بكونه يحمل كم الخبرية على كم الاستفهامية تشبيها في اللفظ.

فإن قلت : قوله تعالى : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) يدل على أن مقام الكافر ليس فيه خير.

قوله تعالى : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً).

يقتضي مشاركتهم في الخير ، وأنهم متصفون بمطلق الحسن ، قال : والجواب : أن الأول أخروي ؛ لأن الكفار ادعوا أنهم خير من المؤمنين بحسن ثباتهم وكثرة أموالهم ؛ فأنكر ذلك عليهم بأن المؤمنين خير منهم في الآخرة.

قوله تعالى : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً).

يعني أنهم كانت دنياهم أحسن من دنيا هؤلاء.

قال ابن عطية : الناس يعترفون في زمن طويل أشده مائة سنة ، وقيل : ثمانون ، وقيل : غير ذلك إلى الثلاثين ، قوله في سورة هود وقد تقدم أيضا في الأنعام.

١٢٩

ابن عرفة : والعصر فيما بينهم هم الذين أدرك أصغرهم أكبرهم ، قال : فعصر الصحابة انقض بانقضاء آخرهم مدة ، وكذلك عصر التابعين ، كما أن عصر شهود ابن القداح انقضا بموت الفقيه أبي عبد الله السكوني.

قيل لابن عرفة : نص ابن عقبة ورد على امتناع كون الشرط مستقلا ، والجواب : [٥٣ / ٢٥٣ و] وماضيا ، وهو غير أدنى به في الآية ، فأجاب بأن ذلك بحيث يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، وإذا لا تجزم إلا في التصغر ، فلا يقع الحضور هنا المنهي عنه.

قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا).

إما أمر حقيقة ، أو نهى بمعنى الخبر ، والمراد يمدد له مدا حالة كونه في الصلاة ، وأما بعد ذلك فيمكن.

قوله تعالى : (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ).

هذه القضية مانعة الخلق وليست مانعة الجمع ؛ لأنه يخلو أحدهما عن عذاب الدنيا بالقتل أو بالأسر وبالحيرة والغم حيث قتل أصحابه وأسروا ، وأما في الآخرة فيحتمل أن يقال الأمرين.

قوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً).

دليل على أن المقام في قوله تعالى : (خَيْرٌ مَقاماً) اسم مكان ؛ لأنه من مقابلته.

قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً).

قال ابن عرفة : يزيد من أفعال السنة ، مثل : على زيد لا من الأفعال المتصلة ، مثل : قام زيد ؛ لأن العلو يستدعي معلوا عليه ، كما أن الزيادة تقتضي مزيدا عليها ، قال : فإن قلت : ظاهر الآية يقتضي جواز اجتماع الأمثال وهو باطل عندنا ، فالجواب بوجوه متعددة :

أحدها : أن الزيادة هنا باعتبار القوة العلمية لا الطاعة متعددة وإن كانت كلها تقتضي الهداية.

الثاني : أنه إذا قلنا : إن العرض لا يبقي زمانين وهو مذهب أهل السنة فتصح الزيادة ؛ بمعنى أنه بعدم عرض ، ويخلفه عرض آخر أكبر منه فهو زيادة في الهدى ، وإنما يشكل إذا قلنا : إنه يبقى زمانين.

١٣٠

الوجه الثالث : أن الزيادة في الهداية بمعنى الزيادة في محلها ؛ فتكون الزيادة في جوهر أيضا مضافا للجوهر الأول.

قال ابن عرفة : والعلم إنما يقوم بمحمل واحد لكن عندنا نحن إذا قام للعمل أوجب العلمية لذلك المحل فقط ، والمعتزلة يقولون : أوجبها لجميع الذات.

قال ابن عرفة : وذكر الخلاف في العلوم ، هل تتفاوت أم لا؟ فإيمان أبي بكر هل كان كإيمان غيره أم لا؟

قال الزمخشري : أن يزيد معطوف على (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ؛) لأنه أمر في معنى الخبر.

ابن عرفة : العذاب في الدنيا بالقتل والأسر يحصل لهم العلم الضروري بحقيقة ما أمرهم به الرسول ويزداد المؤمنون عند مشاهدة ذلك إيمانا أعلى منهم.

فإن قلت : إنما يعملون ذاك في الآخرة ، قلنا : الجملة الشرطية يكفي في حصولها حصول أحد أجزائها فيزدادون هدى عند رؤية الكفار العذاب الدنيوي.

قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ).

الزمخشري : هي أعمال الآخرة كلها ، وقيل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر وكذلك قال ابن عطية ، ونقله حديثا.

قوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ).

قربت بالهمزة لأنها همزة الاستفهام ، ودخلت على ألف الوصل لكن حذفت تلك ولم تحذف هذه لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر.

قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ).

ابن عرفة : الميراث انتقال الشيء من ملك ، فإن أريد مطلق الانتقال فهو هنا حقيقة ، وإن أريد سبب مخصوص فهو في الآية مجاز ، والقول تارة يراد به لفظة ، كقوله : سمعت ما يقوله زيد ، وتارة يراد به مدلوله ، كقوله : الأمر فوق ما يريد زيد ، والمراد سنكتب ما يقول لفظه في ، ونرث ما يقول مدلوله ، ويحمله الزمخشري على الوجهين ، فقال : (وَنَرِثُهُ) معنى ما يقول ، وهو المال والولد ونحوا بينه وبين هذا القول في الآخرة ، ويأتينا منفردا عنه غير قابل له ولا سيما قوله هذا : ولا يقلبه بل [...].

١٣١

ابن عرفة : القول ماض ؛ لقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) فلم يعبر هاهنا وفي سنكتب ما يقول ، فالجواب : جاء بوضع المستقبل موضع الماضي إشارة إلى دوام ذلك وبقائه ، وإما باعتبار أنه قال ذلك في الماضي ، ولم يزل مسند بما عليه يعتقده ويكرره ، وإما للمشاكلة باعتبار ما قبله وما بعده ؛ لأن قبل الأول : (سَنَكْتُبُ) ، وبعده (وَنَمُدُّ) ، وقبل الثاني : (وَنَرِثُهُ) وبعده (وَيَأْتِينا).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ).

[٥٣ / ٢٥٤] ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم الكلام على كفر الكافرين وعبادة الآلهة من دون الله تعالى ؛ مع قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أوحى إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لئلا يقع في نفسه منه حزن عليهم وتأسف وفقا لك ؛ لأن المصنوع صنعة فاسدة إذا رأى الجاهل بها لا يتأتى لفساده ، وإذا رآه العالم بالصنعة يتأثر لفساده ؛ فكذلك النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تأثره بكفر هؤلاء ليس كتأثر غيره لعلمه بحقائق الأمور وعواقبها ، فجاءت هذه الآية على سبيل التسلية له من الحزن الواقع بنفسه والرؤية عليه ، لا مما يقصر ؛ أي لم تعلم أنا أرسلنا الشياطين وعلى الكافرين الضلالة والهداية ؛ أي بفعلنا وقدرتنا ، فالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، ففوض أمر هذا إلى الله ولا تحزن عليهم بوجه فقد وفيت بها بما طغت به إذ لو شئت لمنعناهم قهرا.

وقال ابن عطية : أرسلنا شيطانا ويحل بينهم وبينهم اعتزال في قوله : على بينهم وبينهم ، ؛ لأنه يتبع الريب أي وهو معتزلي فيقول أحيانا وينقل كلامه بعينه ، فيعتزل من حيث لا يشعر.

فإن قلت : كيف يفهم هذا ؛ لأن ظاهر الآية تقدم كفرهم على إرسال الشياطين عليهم؟ مع أن إرسال الشياطين في كفرهم ، قلت : الجواب : فإن المراد بالكافرين الصابرين من الكفر.

كما قال الزمخشري في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة : ١] ؛ أي الصابرين للتقوى ، وأما بأن المراد شدة الإزعاج والتهيج بقوة ، ويكون المتقدم عليهم الإرسال بوسوسة حقيقة ليس فيه إزعاج بقوة ، والدليل عليه تأكيد إن بالمصدر مع أن مادته تقتضي الشدة.

قوله تعالى : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا).

١٣٢

أي لا تطل بقاؤهم ولا تطلب استعمال هلاكهم ؛ فإنما نمهلهم مدة قليلة نعدها عدا ؛ لقوله تعالى : في سورة يوسف : (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [سورة يوسف : ٢٠].

قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً).

المراد هنا حقيقة الوفد دون خاصيته ؛ لأن خاصية الوفد أنهم يقومون على ..... (١) ولا يزالون.

قوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً).

سوقهم للعذاب بقوة ، وهل المراد سوقهم للدخول إلى جهنم فخص الكفار والعصاة ، وسوقهم إلى الخلد فخص الكفار ، والأمر يحتمل وهو عبارة القرآن يذكر الطريقين وقيلت من الواسطة.

قوله تعالى : (وِرْداً).

أي عطاشا إهانة لهم واستخفافا لهم كأنهم يردوا عطاشا ، وأنشد الزمخشري عليه قول الأعرابي :

لنا ناقة وهو البيت المشهور.

قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ).

إما فاعل في المعنى أو مفعول ؛ أي لا يملكون أي يشفعوا أو يشفع لهم ، كما يقول : إن الله يفعل الممكن لا المحال ، ويقول في الممكن أنه لا يفعل.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

قال الزمخشري ، وعن ابن مسعود : أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأصحابه ذات يوم : " أيعجز أحدكم أن يتخذ كل مساء وصباح عند الرحمن عهدا ، قالوا : وكيف ذلك؟ قال : يقول عند كل مساء وصباح : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك أنني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر ، وتباعدني عن الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عهدا توفنيه يوم القيامة ،

__________________

(١) كلمة غير واضحة بالمخطوطة.

١٣٣

أنك لا تخلف الميعاد ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الرحمن عهدا ليدخلوا الجنة".

قال الطبراني : هذا الحديث أخرجه ابن حنبل في مسنده وفيه بعض تغيير.

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً).

قال ابن عرفة : اتخاذ الولد على ثلاث أنواع :

إما بالنسب وهي الوطئ والولادة.

وإما بانتسابه به وإضافته إليه وإلحاقه به ، وهو ابن عرفة. (١) وأن لم يكن من صلبه.

وإما منزلة الولد وإلحاقه به في اللفظ فقط فاقتضت الآية تقبيح الجميع ، وإن كان بعضها أقبح من بعض ، ويؤخذ من الآية منع وصف الله بالصفات الموهمة لفظا وإن أتمما الوسط [٥٣ / ٢٥٤ و] سليما لاقتضائها تقبيح من ينسب إليه الولد لفظا ، قال : وهل هذا أقبح من مقالة الفلاسفة لأنهم زعموا أن الله عالم بالأشياء جملة دون تفصيل ، وأنه يفعل فعلا واحدا جمليا وذلك الفعل يتولد منه الأشياء المتعددة بتفاصيلها على اختلاف أنواعها.

قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ).

بأن قلت : لم نسب التفطر للسماوات والانشقاق للأرض ، والمعنى فيهما ، قال : فأجيب بأن الانفطار يقتضي تسنن ما هو غال على غيره وهو في مظنة وقوعه ، والتشقق أعم من أن يكون من فوق أو من أسفل ، قال : والانفطار والانشقاق بينهما عموم وخصوص ؛ لأن مفطر مضارع انفطر كأمر فطر يقتضي كون ذلك بشدة وتكلف وكذلك انفطر.

قوله تعالى : (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا).

أفاد قوله (تَخِرُّ) دفعة واحدة وتبقى صحيحة كما يخر الحائط ويبقى صحيحا قطعة واحدة ، فلما قال : هذا أفاد أنها قطعت حين خرورها وتفرقت انفرادها.

قال المفسرون : كاد إما بمعنى قارب أو بمعنى أنه.

__________________

(١) بياض في المخطوطة ، وسقط.

١٣٤

ابن عرفة : والإفادة على مذهب الفلاسفة حقيقة ؛ لأنهم يجعلون لهذه الأشياء حياة وإدراكات تدرك بها الأمور ، وعلى مذهبنا نحن فجائز .... (١).

قوله تعالى : (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

قال ابن عطية : استدرك بعضهم بهذه على أن الولد لا يكون عبدا.

ابن عطية : هذا انتزاع وهو انتزاع بعيد.

قيل لابن عرفة : وجه بعده أن العبودية بالنسبة إلى الله تعالى إنما هي بمعنى الخلق ، والاختراع بالنسبة إلى الخلق بمعنى التملك وزيادة الخلق ، وفي الثاني أعم لاقتنائها بملك المنافع خاصة ، والتعليل بالعلة البسيطة أقوى من التعليل بالعلة المركبة.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا).

فسر بوجهين :

أحدهما : (أَحْصاهُمْ) أي جمعهم ، (وَعَدَّهُمْ) أي عد لعادهم ؛ فعلى هذا الإشكال في الآية كالجمع لا يستلزم العدة التي في أحصاهم أي علم جملهم وعدتهم ؛ أي علم آحادهم ، فيرده السؤال : وهو أن العلم بالجملة يستلزم العلم بالآحاد كما هو عند البصريين ، فلا فائدة في قوله (عَدَّهُمْ ؛) فالجواب : أنه أتى به تنبيها على مخالفة القديم المتعلق بالجملة.

قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).

مع المؤمنين يقع بينهم محض التباغض ، فالجواب : إما بأن التردد موجود منهم لا في كلهم ؛ ألا ترى أن ملة إبراهيم كل أحد يحبها.

قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ).

أخذ منه أنه ليس في القرآن أعجمي ابن ريحان : بأنه يؤتي فيه بالعجمي ويكون مدلوله عربي.

قوله تعالى : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ).

__________________

(١) ورد في الحاشية : (السماوات والأرض والجبال لها حياة والإدراكات تدرك بها الأمور ، عند الفلاسفة وعندنا جائز إذ تكون بها الحياة).

١٣٥

يحتمل الخصوص بمعنى الإشارة إن حصل التقوى بالفعل ، والنذارة لهم أجمعين ، فيقال للشخص : إن كنت تقيا ؛ قلت : هذا وإن خالفت عوقبت بعده ؛ قلت : فتكون قضيته حقيقية.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ).

هذا على سبيل التسلية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتطاول موتهم كثيرا (أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) [سورة طه : ١٢٨].

قوله تعالى : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).

رد على ... (١) تفيف اللسان في لمن الأطباء في قولهم : المحسوسات ، قال : لأنه لا يقال : أحس ، وإنما يقال : أحسّ.

قوله تعالى : (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً).

الصوت الخفي ، وإن لم يسمع لهم الصوت الخفي فأحرى القوي ؛ لأن الرسل لا تكلمهم إلا كلاما خفيا وهؤلاء الرسل ليس لهم صوت خفي ، فأحرى ما فوقه.

__________________

(١) كلمة غير واضحة.

١٣٦

سورة طه

قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى).

قال الزمخشري : فعل أمر ؛ لأنه كان يقوم في التهجد على رجل واحدة ، فأمر الله أن يطأها ؛ أعني الأرض ، فقيل : طه.

قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى).

قال الزمخشري : اختار إمام الحرمين في الإرشاد أن جبريل عليه‌السلام فهم معنى الكلام القديم وعبر عنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألفاظ كئيبة ؛ فالألفاظ حادثة والمعنى قديم.

وذكر ابن التلمساني في شرح المعالم اضطراب ، وأخبر أن جبريل عليه‌السلام تلقاه من اللوح المحفوظ ونزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (لِتَشْقى).

قال الزمخشري : معناه التعب.

قال ابن عرفة : بل هو مشقته شدة التعب ، وأما التعب ، فهو مأمور به ؛ لقوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [سورة الشرح : ٧].

قوله تعالى : [٥٣ / ٢٥٥] (وَالسَّماواتِ الْعُلى).

ابن عرفة : إن أريد ذات العلو فيصدق على جميعها ، وإن أريد التي هي أعلا من غيرها فإنما يصدق على فوق تلك القمر.

قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

قال ابن عرفة : تأوله ابن عطية بوجوه :

أحدها : صرف الاستواء إلى معنى القمر ، واختار عز الدين بن عبد السّلام عدم تكفير من يقول بالجهة.

قيل لابن عرفة : عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث النوار غيرها ، فذكر النبي صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم دليل عدم تكفير من يقول بالتجسيم ، فقال : هذا صعب ولكن تجاسرت على قوله اقتدائه بالشيخ عز الدين ؛ لأنه سبقني لذلك.

١٣٧

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما).

من عطف الخاص على العام وهو من العام الباقي على عمومه.

وكان بعضهم يقول : أكثر عمومات القرآن المشتملة على الأحكام الظنية مخصوصة ؛ إلا قوله (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [سورة البقرة : ٢٢١].

ويحكيه ابن الحاجب ، وكان الطيبي يقول : بل مخصوص بالمسلم تكون أخته تائبة ؛ فهل أن يزوجها من مشرك فمن لا ففيها أقوال وإنما المجتمع عليه تزوج المسلمة من المشرك.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

قال ابن عرفة والأكثرون : أن المراد بالأسماء المسميات ، فالمراد بالأسماء السمع والبصر.

ذكر الآمدي في [.....] ، قال : والخلاف [...].

قيل لابن عرفة : ذكر بعضهم الخلاف هل هو أسماء الذات باعتبار تعدد الصفات وأسماء للذات باعتبار الصفات ، وقد وقع للفخر في المحصول كلام ، فقال : إنها باعتبار الصفات خمسة وهي سقطة عظيمة ، والصحيح عندهم أنه لا يقال : إنما هو ولا غيره فلا يلزم عليه التعدد بوجه.

قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى).

ابن عرفة : والخبر إن كان غريبا يعبر عنه بالباء ؛ كقوله (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [سورة النمل : ٢٢] وما دونه يعبر عنه بالخبر أو الحديث ، وقال في سورة ص (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [سورة ص : ٢١] ولا أن هذه القضية .... (١) وأعجب من تلك فهلا كان الأمر بالعكس ، فأجيب بوجهين :

الأول : أن قضية موسى أخبر بها التوراة والإنجيل ؛ فحصل لنا العلم بها فلم يكن فيها من الغرابة ما في قضية داود.

الثاني : قال ابن عرفة : عادتهم يجيبون بأن الخبر الذي يعلم بغرابته بالبديهة لا يحتاج إلى التعيين عنه باللفظ الدال على الغرابة.

قوله تعالى : (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً).

__________________

(١) كلمة غير واضحة بالمخطوطة.

١٣٨

قال ابن عطية : أي حسيت.

ابن عرفة : يجعله على مبادئ الرؤية.

قال الزمخشري : أبصرها إبصارا بينا لا شك فيه.

قال ابن عرفة : وقول الزمخشري أصوب لموافقته في أول الآية ؛ في قوله تعالى : (رَأى ناراً) قال : وأبصر النار في شجرة عناب ، وقيل : عوسج ، وقيل : علقم.

قال الثعالبي : وكل شجرة يخرج منها النار إلا شجر العناب.

وكذلك نقل الزمخشري ، عن ابن عباس في سورة يس ، قال : ومن أمثالهم" في كل شجر نار واستمجد المرخ والعقار" ؛ فقطع الرجل منهما غصنين ليعصر منهما الماء ليعصر المرخ ، وهو ذكر عليه العقار ، وهي أنثى فيخرج الماء.

قوله تعالى : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ).

(أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) [سورة النمل : ٧] فإما أن يجمع بين ذلك بأن موسى قال جميع ذلك ، ونقل إلينا بعض القصة في سورة وبعضها في سورة أخرى ، وإما أن يجاب بما انفرد به اللخمي من جواز نقل المضاف بالمعنى مع أن المازري أنكر عليه الإنكار التام.

قيل لابن عرفة : هذا الإشكال فيه ؛ لأن جبريل عليه‌السلام نقله عن اللوح المحفوظ مكتوبا سورا كما هي في المصحف ، فقال : يحتمل أن يكون يلقاه من الله تعالى فيرد الإشكال فيحتاج إلى الجواب ، بما قلناه مع اثنين السؤال فيما حكاه الله تعالى عن قول موسى بألفاظ مختلفة ، في قوله تعالى : (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) [سورة النمل : ٧] أو أجد على النار هدى وفي [٥٣ / ٢٥٥] غيره من الآيات بخلاف ذلك ، فإما أن يكون بعضها أعم وبعضها أخص ، ويكون موسى تكلم بالأخص في كون تارة لفظة ، وإما أن يكون تكلم بأنه قال : مشتركة بين معان واستعمل فيها بناء على القول بعموم التصرف [...] بعد مدلول وعده البعض الآخر ، [...] تطلق بينهما عموم وخصوص من دون وجهه ، فلا يصح التعبير بأحدهما عن الآخر بوجه مع أن موسى صلّى الله عليه وعلى نبينا وعليهما وسلم ؛ إنما تكلم بالعبرانية ؛ لأنه عجمي ، ولا أن تكون الترجمة كلامه بما يراد به سواه.

قوله تعالى : (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ).

١٣٩

قال ابن عرفة : الذم بالأمر التصديقي والتصويري ، فالتصديقي أكد بإن لأنها تأكيد لنفس .... (١) عنه ، والتصويري أكد بأنا عبارة عن الذات ...... (٢) لأنهما كانا من جلد حمار ميت ، قيل : لأنه جعله قول الله تعالى.

ابن عطية : والعرف عند الملوك بخلع النعال ....... (٣) حمار أو بغيرها.

فقيل لابن عرفة : قد صلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في نعليه هو والصحابة فلما سلم عليهما ، قال : وإنما نزعهما ، قال : إن جبريل أخبر في أن فيها أذى ، ومنع الصحابة من خلع نعالهم مع أن المصلي يناجي ربه ، فقال : قضية موسى أشد وأغرب ؛ لأنها أفعال سماع للخالق هي أشد من مسألة المثليات حيث لا يسمع كلامه أو فعله ، كان في أول الإسلام ، قلت : أمر يجاب بأن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أفضل من موسى عليه الصلاة والسّلام ، وقد تقرر أن من عادة الملوك أن كبراء أعدائهم وذوو المئات [.....] من رعاياهم إذا دخلوا عليهم لا يغيرون من حياتهم شيئا ، فالصالحين والفقهاء فيما يلزم من أمر موسى عليه الصلاة والسّلام بخلع نعليه أن يجعلها النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم كان .... (٤) هذا علينا في الصحابة حيث لم يفعلوا فعالهم فعل ذلك تلزمه بهم أنهم أشرف الأمم ، واقتدوا بهم فيما فعل ذلك فاختلف لهم ذلك.

قوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ).

قال ابن عرفة : اخترته بعضهم أن من خير بين شيئين بعد منتقل لكن الأصل الحقيقة.

قوله تعالى : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى).

قال ابن عرفة : استمع إنما يتعدى بنفسه ؛ لقوله تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [سورة الزمر : ١٧ ـ ١٨] ولم يذكرها ابن عصفور في الأفعال التي تتعدى تارة بنفسها ، وتارة بحرف الجر ، فيحتمل أن يتعلق بما يوحى ، بقوله (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) ، قيل له : الفاء يمتنع تعلق ما بعدها بما قبلها ، ورد بقوله

__________________

(١) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

(٢) طمس في الصفحة.

(٣) طمس في المخطوطة.

(٤) يوجد سقط بالمخطوطة.

١٤٠