مسألة (١٢)
في اتصال «نون الوقاية» باسمي الفاعل والتفضيل (١)
جاء في «شواهد التوضيح» ١١٨ ـ ١١٩ :
مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية الأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لنفيها خفاء الإعراب. فلما منعوها ذلك كان كأصل متروك ، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل ، كقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لليهود : فهل أنتم صادقوني (٢) وقول الشاعر :
وليس بمعييني وفي الناس ممتع |
|
صديق إذا أعيا عليّ صديق |
وكقول الآخر :
وليس الموافيني ليرفد خائبا |
|
فإنّ له أضعاف ما كان أمّلا |
ولما كان لأفعل التفضيل شبه بفعل التعجب ، اتصلت به النون المذكورة أيضا في قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «غير الدجال أخوفني عليكم» (٣).
والأصل فيه : أخوف مخوفاتي عليكم. فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه ، فاتصل «أخوف» بها مقرونة بالنون ، كما اتصل «معيي» و «الموافى» بها في البيتين المذكورين.
__________________
(١) موارد المسألة : «شرح الشاطبي» ، و «شرح المرادي» ١ : ١٦٧ ، و «شرح الأشموني» ١ : ١٢٦ ، و «مغنى اللبيب» ٤٥١ ، و «همع الهوامع» (الضمير) ، و «الأشباه والنظائر» ٤ : ٤٣.
(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الطب ـ باب ما يذكر في سمّ النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ) ٧ : ٣٢ ، و «أحمد» في «مسنده» ٢ : ٤٥١ ، عن أبي هريرة.
(٣) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الفتن وأشراط الساعة ـ باب ذكر الدجال وصفته وما معه) ٨ : ١٩٧ ، عن النوّاس بن سمعان. و «أحمد» في «مسنده» ٥ : ١٤٥ ، عن أبي ذر.
ولحاقها مع هذين في غاية من القلة ، فلا يقاس عليه.
قال «ابن حجر» في «فتح الباري» ١٠ : ٢٤٥ :
«فهل أنتم صادقوني»؟ كذا وقع في هذا الحديث في ثلاثة مواضع.
قال «ابن التين» : ووقع في بعض النسخ : «صادقيّ» بتشديد الياء بغير نون ، وهو الصواب في العربية ؛ لأن أصله : صادقوني ، فحذفت النون للإضافة ، فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ، ومثله : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ)(١) ، وفي حديث بدء الوحي : «أو مخرجيّ هم» ا ه.
وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد ، فقد وجّهها غيره. (٢)
قال «العكبريّ» في «إعراب الحديث النبوي» : ٦٠ :
قوله : غير الدجال أخوف ظاهر اللفظ يدل على أن غير الدجال هو الخائف ، لأنك إذا قلت : زيد أخوف على كذا ، دل على أن زيدا هو الخائف ، وليس معنى الحديث على هذا ، وإنما المعنى : إنى أخاف على أمتي من غير الدجال أكثر من خوفي عليهم منه ، فعلى هذا يكون فيه تأويلان :
أحدهما : أن «غير» مبتدأ ، و «أخوف» خبر مبتدأ محذوف ، أي : غير الدجال أنا أخوف على أمتي منه.
والثاني : أن يكون «أخوف» على النسب ، أي : غير الدجال ذو خوف شديد على أمتي ، كما تقول : فلانة طالق ، أي : ذات طلاق.
__________________
(١) إبراهيم : ٢٢.
(٢) كابن مالك ، وقد صدرت المسألة بقوله.
المعرف بأداة التعريف
قال «الشاطبي» عند قول «ابن مالك» :
«أل» حرف تعريف أو اللام فقط |
|
فنمط عرّفت قل فيه النّمط |
«النمط» : ضرب من البسط ، والنمط أيضا : الجماعة من الناس أمرهم واحد. وفي الحديث «خير هذه الأمة النمط الأوسط ، يلحق بهم التالي ، ويرجع إليهم الغالي» (١).
__________________
(١) نسب «ابن منظور» في «لسان العرب» (نمط) هذا الحديث لـ «عليّ» ـ كرم الله وجهه ـ والمعنى الذي أراد «علي» أنه كره الغلوّ والتقصير في الدين.
وقال «الغزالي» ـ ٥٠٥ ه في «إحياء علوم الدين» ١ : ١٣٨ : قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «عليكم بالنّمط الأوسط الذي يرجع إليه الغالي ، ويرتفع إليه التالي»
قال «العراقيّ» ـ ٨٠٦ ه : رواه «أبو عبيد» في «غريب الحديث» موقوفا على «عليّ» ، ولم أجده مرفوعا.
«تنبيه عزيز» قال «محمد الخضر حسين» ـ ١٣٧٧ ه في ترجمته لـ «الغزالي» : ... فلا عجب أن يبلغ كتاب «الإحياء» في الغوص على أسرار الشريعة ، والبحث عن دقائق علم الأخلاق ، وأحوال النفس ، غاية بعيدة ، فكتاب «الإحياء» من صنع عقل نشأ في قوة ، ورسخ في علوم الشريعة ، وخاض في العلوم العقلية ، فوقف على كبيرها وصغيرها ، وفرّق بين سليمها ومعيبها ، وخلص بعد هذا من كدور الهوى ، وظلمات الحرص على عرض الدنيا.
وقد كان الناقدون لكتاب «الإحياء» يعيبونه بما احتواه من بعض الأحاديث الضعيفة ، أو الموضوعة ، وربما اعتذروا عن مؤلفه بأنه لم يكن طويل الباع في علم الحديث ، بل نقلوا عنه أنه كان يقول عن نفسه : «أنا مزجى البضاعة في علم الحديث».
وقد قام بإصلاح هذا النقص «الحافظ العراقيّ» ، فألّف في تخريج أحاديثه كتابا في مجلدين ، ثم اختصره في مجلد سماه : «المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار».
وإذا وجد العلماء في كتاب «الإحياء» مآخذ معدودة ، فإنه من صنع بشر ، غير معصوم من الزلل ، وكفى كتاب «الإحياء» فضلا وسموّ منزلة أن تكون درر فوائده فوق ما يتناوله العد ، وأن يظفر منه طلاب العلم ، وعشاق الفضيلة ، بما لا يظفرون به من كتاب غيره ، «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا» ا ه. وانظر في «الوسيط في علوم ومصطلح الحديث» : ٣٥٤.
وهذا كله وإن جاء في غير موضعه ، لكنّ الكلام ذو شجون. (أي : متداخل بعضه في بعض ، ومشتبك بعضه ببعض ، يقال : شجر متشجّن ، إذا التفّ بعضه ببعض).
قال «أبو عبيد» : الطريقة ، يقال : الزم هذا النمط.
قال : والنمط أيضا : الضرب من الضّروب ، والنوع من الأنواع ، يقال : ليس هذا من ذلك النمط ، أي : من ذلك النوع. وهذا المعنى يقال في المتاع والعلم ، وغير ذلك.
مسألة (١٣)
في «أل» الزائدة (١)
قال «الشاطبي» : حكى البغداديون أن من العرب من يقول : (قبضت الأحد عشر الدرهم)
وفي الحديث : «أن امرأة كانت تهراق الدماء» (٢)
والحديث عند «ابن مالك» حجة في إثبات القوانين ، وبناء القياس.
وقال «ابن هشام» في «المغنى» ٥٩٩ :
فالدماء : تمييز على زيادة «أل».
قال «ابن مالك» : أو مفعول على أن الأصل «تهريق» ، ثم قلبت الكسرة فتحة ، والياء ألفا ، كقولهم : جاراة وناصاة وبقي ، وهذا مردود ؛ لأن شرط ذلك تحرك الياء ، كجارية وناصية وبقي. ا ه
__________________
(١) المراد بالزائدة هنا ما ليست موصولة ، وليست للتعريف ، ولو لم تصلح للسقوط.
(٢) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب الطهارة ـ باب المستحاضة) ١ : ٦٢ هكذا :
«عن أم سلمة ، زوج النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاستفتت لها أم سلمة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ...»
وأخرجه «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الطهارة ـ باب في المرأة تستحاض) ١ : ٧١ ، و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الحيض ـ باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر) ١ : ١٨٢ ، وفي (كتاب الطهارة ـ باب الاغتسال من الحيض) ١ : ١٢٠.
و «الدارمي» في «سننه» في (كتاب الصلاة والطهارة ـ باب غسل المستحاضة ، وباب إذا اختلطت على المرأة أيام حيضها) ١ : ١٩٩ ، ٢٢١ ، و «أحمد» في «مسنده» ٦ : ٢٩٣ ، وانظر «التلخيص الحبير» ١ : ١٧٩.
في الجميع جاءت الرواية : «تهراق الدم» عدا «الموطأ».
قال «السيوطي» في «الهمع» في (العوامل) :
واختلف في نصب الفعل اللازم اسما تشبيها بالمتعدي.
أجازه بعض المتأخرين ، قياسا على تشبيه الصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدي ، نحو : زيد تفقأ الشحم ، أصله : تفقأ شحمه ، فأضمرت في «تفقأ» ، ونصبت «الشّحم» تشبيها بالمفعول به. واستدلّ بما روي في الحديث : «كانت امرأة تهراق الدماء» ومنعه «الشّلوبين» ، وقال : لا يكون ذلك إلا في الصفات.
وتأوّلوا الأثر على أنه إسقاط حرف الجرّ ، أو على إضمار فعل ، أي : بالدماء ، أو يهريق الله الدماء منها. قال «أبو حيان» : وهذا هو الصحيح ؛ إذ لم يثبت ذلك من لسان العرب.
وقال «السهيلي» في «أماليه» ٧٣ :
وأما «تهراق الدماء» فإن «الدماء» مفعول بالإراقة ، والمعنى : تهريق الدماء ، ولكن العرب تعدل بالكلمة إلى وزن ما هو في معناها ، وهي في معنى تستحاض ، وتستحاض على وزن ما لم يسم فاعله. والتي تهريق الدماء هي التي تستحاض ، ولا يجوز أن يقال : هي تهراق الماء والخل ، لعدم هذا المعنى فيه. ا ه.
ويمكننا أن نستخلص في إعراب «الدماء» خمسة أعاريب :
(١) أنه تمييز على اعتبار «أل» زائدة.
(٢) أنه مفعول على أن الأصل تهريق ، وهو قول «ابن مالك» ، أو مفعول بالإراقة ، وهو قول «السهيلي».
(٣) أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به. وهو قول بعض المتأخرين.
(٤) أنه على إسقاط حرف الجر ، أي : بالدماء.
(٥) أنه على إضمار فعل ، أي يهريق الله الدماء منها.
مسألة (١٤)
في العلم بالغلبة
درجة العلم بالغلبة (أي التغلب بالشهرة) درجة تلحقه بالعلم الشخصي في أحكامه ، فمظهر الكلمة أنها معرفة بـ «أل» ، أو بالإضافة ، ولكن حقيقتها أنها صارت معرفة بعلمية الغلبة. ومن أمثلة العلم بالغلبة : المدينة ، والعقبة ، وإمام النحاة ، وغيرها مما هو علم بالغلبة كالنابغة ، والأعشى ، والأخطل ... وأصل النابغة : الرجل العظيم ، وأصل الأعشى : من لا يبصر ليلا. وأصل الأخطل :
الهجّاء. ثم تغلّب على كل أصل مما سبق الاستعمال والاشتهار في العلمية وحدها.
فـ «أل» التي في العلم بالغلبة قد صارت قسما مستقلا من «أل» الزائدة اللازمة (أي : التي لا تفارق الاسم الذي دخلت عليه) ، ويسمى «أل :التي للغلبة» ولم تبق للعهد كما كانت ، وبالرغم من أنها زائدة ، ولازمة فإنها تحذف وجوبا عند ندائه ، أو إضافته ، مثل : (يا رسول الله قد بلّغت رسالتك) ، (هذا مصحف عثمان) ، (يا نابغة ، أسمعنا من طرائفك) (١).
فلا يجوز بقاؤها من واحد منهما ، فلا تقول : (يا الأعشى) ولا (يا الأخطل) وفي الحديث (٢) : «إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» (٣).
__________________
(١) انظر النحو الوافي ١ : ٤٣٥.
(٢) الحديث أورده «الشاطبي» في شرحه ، و «ابن الناظم» في شرحه : ٤٠.
(٣) أخرجه «أحمد» في «مسنده» ٣ : ٤١٩ ، وفيه : سأل رجل «عبد الله بن خنبش» : كيف صنع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين كادته الشياطين؟ قال : جاءت الشياطين إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الأودية وتحددت عليه من الجبال ، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، قال : فرعب ، قال جعفر : أحسبه قال : جعل يتأخر ، قال : وجاء جبريل عليهالسلام فقال : يا محمد قل ، قال : ما أقول؟ قال : قل : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ، فطفئت نار الشياطين ، وهزمهم الله ـ عزوجل ـ.
«المبتدأ والخبر»
مسألة (١٥)
في دخول الباء الزائدة على المبتدأ
عرّف «ابن هشام» المبتدأ بقوله : «اسم أو بمنزلته ، مجرّد عن العوامل اللفظية أو بمنزلته ، مخبر عنه ، أو وصف رافع لمكتفى به»
فمن أمثلة ما هو بمنزلة المجرد عند «ابن عصفور» قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ومن لم يستطع فعليه بالصوم» (١)
فالباء عنده زائدة في قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «بالصوم» ، والصوم : مبتدأ ، وعليه : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وكأنه قال : الصوم واجب عليه.
وهناك رأي آخر ذكره «الرضي» ، وهو أن من أسماء الأفعال الظروف وشبهها تجر ضمير مخاطب كثيرا ، وضمير غائب شاذ قليلا ، نحو قوله : (عليه شخصا ليسني) ونحو الحديث.
__________________
(١) قطعة من حديث ، وتمامه : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء».
أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب النكاح ـ باب قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ٦ : ١١٧.
و «مسلم» في «صحيحه» في أول (كتاب النكاح) ٤ : ١٢٨.
و «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب ما جاء في فضل النكاح) ١ : ٥٩٢ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب النكاح ـ باب التحريض على النكاح). ٢ : ٢١٩.
وفي «بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني» ١٦ : ١٣٨
وقال «البغداديّ» في «تخريج أحاديث شرح الكافية للرضي» (مخطوط) : قال «السيوطي» في «الجامع الكبير» : قد جاء في السنن الستة ، وفي مسند «أحمد» ، وفي الضياء ، وفي سنن ابن حبان ، عن ابن مسعود. ا ه.
الباءة : يطلق على الجماع والعقد ، وجاء : كسر شديد يذهب بشهوته. وانظر «شرح مسلم» للنووي ٩ : ١٧٢.
فيكون قوله «عليه» : اسم فعل أمر ، ومعناه ليلزم ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا ، و «بالصوم» : مفعول به زادت معه الباء ، وهو حسن من جهة المعنى ، ولكنه ضعيف من جهة الصناعة ، وذلك لأن الأصل في فعل الأمر أن يكون للمخاطب لا للغائب ، ولأن زيادة الباء مع المفعول غير ثابتة في غير هذا الموضع حتى يحمل عليها ما هنا. (١)
مسألة (١٦)
في تركيب «أو مخرجيّ»؟ (٢)
الأصل في : «أو مخرجيّ هم» (٣) : أو مخرجوي هم ، أي : بعد إسقاط النون للإضافة ، فاجتمعت واو ساكنة وياء ، فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وأبدلت الضمة ، التي كانت قبل الواو كسرة ، تكميلا للتخفيف ، كما فعل باسم مفعول «رميت» حين قيل فيه : «مرميّ» ، وأصله : مرمويّ.
ومثل : «مخرجيّ» من الجمع المرفوع المضاف إلى ياء المتكلم ، قال أبو ذويب الهذليّ :
أودى بنيّ وأودعوني حسرة |
|
عند الرّقاد وعبرة ما تقلع |
و «مخرجيّ» : خبر مقدم ، و «هم» : مبتدأ مؤخر ، ولا يجوز العكس ؛ لأن مخرجيّ
__________________
(١) انظر «شرح الرضي للكافية» في (أسماء الأفعال) ، وتعليق «محمد محي الدين عبد الحميد» علي «أوضح المسالك» ١ : ١٣٢ ، و «الكافي شرح الهادي» ١٣٨٩ ، و «شرح الشاطبي».
(٢) موارد المسألة : «شواهد التوضيح» : ١٣ ، و «شرح الشاطبي» ، و «شرح قطر الندى» ٣٥٣ (الفاعل).
(٣) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب بدء الوحي) عن «عائشة» ١ : ٣ ، قال له ورقة :
«هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أو مخرجيّ هم؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا موزّرا ...»
وفي «سيرة ابن هشام» ١ : ٢٠٤ قال «ورقة» :
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم |
|
شهدت فكنت أوّلهم ولوجا |
نكرة ، فإن إضافته غير محضة ، إذ هو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، فلا تتعرف بالإضافة. وإذا ثبت كونه نكرة ، لم يصح جعله مبتدأ ، لئلا تخبر بالمعرفة عن النكرة ، دون مصحح.
ولو روي «مخرجيّ» مخفف الياء ، على أنه مفرد ، لجاز وجعل مبتدأ ، وما بعده فاعل سد مسدّ الخبر ، كما تقول : أو مخرجي بنو فلان؟ لأن «مخرجي» صفة معتمدة على استفهام ، مسندة إلى ما بعدها ، لأنه وإن كان ضميرا فهو منفصل ، والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر. ومنه قول الشاعر :
منجز أنتم وعدا وثقت به |
|
أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب |
ومن هذا القبيل قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أحي والداك (١)؟ والاعتماد على النفي كالاعتماد على الاستفهام ، ومنه قول الشاعر.
خليليّ ما واف بعهدي أنتما |
|
إذا لم تكونا لي على من أقاطع |
مسألة (١٧)
الجملة الواقعة خبرا وهي نفس المبتدأ معنى لا تحتاج لرابط (٢)
الجملة إن كانت نفس المبتدأ في المعني لم تحتج إلى رابط ، كقول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (أفضل ما قلته أنا والنبيّون من قبلي : لا إله إلا الله) (٣).
__________________
(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الجهاد ـ باب الجهاد بإذن الأبوين) ٤ : ١٨.
(٢) موارد هذه المسألة : «شرح شذور الذهب» ٢٠٨ ، و «شرح الكافية» للرضي ٢ : ٣٥٠ ، و «شرح قطر الندى» ١٦٥ ، و «شرح الأشموني» ١ : ١٩٧ ، و «همع الهوامع» (المبتدأ والخبر) ، و «النحو الوافي» ١ : ٦٥٥.
(٣) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب القرآن ـ باب ما جاء في الدعاء) ١ : ٢١٥ ، و «الترمذي» في «سننه» في (كتاب الدعوات ـ باب في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله) ٥ : ٢٣١.
فـ «أفضل» مبتدأ ، و «ما» اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة ، والجملة بعده صلة.
وجملة : (لا إله إلا الله) هي الخبر ، وقد استغنت عن الرابط ؛ لأنها نفس المبتدأ في المعنى ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ : أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (دَعْواهُمْ فِيها : سُبْحانَكَ اللهُمَ)(٢).
ونحو (أوّل قولي إني أحمد الله) بكسر «إنّي» فجملة «إني أحمد الله» جملة أخبر بها عن هذا المبتدأ ، وهي مستغنية عن عائد يعود على المبتدأ ؛ لأنها نفس المبتدأ في المعنى ، فكأنه قيل : أول قولي هذا الكلام المفتتح بـ «إني».
وأما فتح «أنّي» فلها ضابط ، وهو أن تقع خبرا عن قول ، وخبرها قول كأحمد ونحوه ، وفاعل القولين واحد ، فما استوفى هذا الضابط كالمثال المذكور جاز فيه الفتح على معنى أوّل قولي حمد الله.
مسألة (١٨)
مسوّغات الابتداء بالنكرة (٣)
المبتدأ محكوم عليه دائما بالخبر ، والمحكوم عليه لا بد أن يكون معلوما عند الحكم ، ولو إلى حدّ ما ، وإلا كان الحكم لغوا لا قيمة له ، لصدوره عن مجهول.
وصارت الجملة غير مفيدة إفادة تامة مقصودة.
__________________
(١) يونس : ١٠.
(٢) يونس : ١٠.
(٣) موارد المسألة : «شرح ابن الناظم» : ٤٤ ، و «شرح الشاطبي» و «مغني اللبيب» ٦٠٩ ، ٦١٠ ، و «أوضح المسالك» ١ : ١٤٤ ، و «النحو الوافي» ١ : ٤٨٥. وانظر «أمالي السهيلي» : ٩٩ ، مسألة في تذكير الشاة.
لكن إذا أفادت النكرة الفائدة المطلوبة صح وقوعها مبتدأ ، وقد أوصل النحاة مواضع النكرة المفيدة حين تقع مبتدأ إلى نحو أربعين موضعا ، والأساس الذي تقوم عليه هو «الإفادة» ، فعلى هذا الأساس وحده يرجع الحكم على صحة الابتداء بالنكرة ، أو عدم صحته. فمن مسوغات الابتداء بالنكرة :
أـ حذف الموصوف ، وبقاء الصفة ، نحو قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (سوداء ولود خير من حسناء عقيم) (١) أي : امرأة سوداء.
ب ـ النكرة المتعلق بها معمول ، وهو المجرور ، نحو : (رغبة في الخير خير) ويجري مجرى هذا ما كان مثله في كون النكرة عاملة عمل الفعل النصب في معمول ، ومن ذلك قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (أمر بمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة) (٢).
ج ـ النكرة المضافة إلى نكرة ، نحو قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد) (٣).
__________________
(١) رواه «الطبراني» في الكبير ، و «الديلمي» ، عن «معاوية بن حيدة» ، قال «الهيثمي» : فيه «على بن الربيع» ، وهو ضعيف.
ورواه «ابن حبان» في الضعفاء ، من رواية : «بهز بن حكيم عن أبيه عن جده» قال «العراقي» في تخريج أحاديث «إحياء علوم الدين» : لا يصح.
وأورده في «الميزان» في ترجمة : «علي بن الربيع» من حديثه عن «بهز عن أبيه عن جده» ، وقال :
قال «ابن حبان» : هذا منكر لا أصل له ، ولما كثرت المناكير في رواية «علي» المذكور بطل الاحتجاج به. وذكره «ابن الأثير» في «النهاية» ، ورفعه «الأزهري» وأخرجه غيره عن «عمر» مرفوعا.
انظر «فيض القدير» ٤ : ١١٥ ، و «كشف الخفاء» ١ : ٤٥٧.
(٢) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (باب الزكاة ـ باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) ٣ : ٨٢.
و «أحمد» في «مسنده» ٥ : ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧٨.
(٣) أخرجه «مالك» في «الموطأ» في (كتاب صلاة الليل ـ باب الأمر بالوتر) ١ : ١٢٣ ، وأخرج قريبا منه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب إقامة الصلاة ـ باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس) ١ : ٤٤٩ ، وانظر «التلخيص الحبير» ٢ : ١٥٥.
د ـ كون الظرف والمجرور غير مختص ، كقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (في أربعين شاة شاة) (١).
والمسوغ هنا تقدم الخبر ، وهو جار ومجرور على المبتدأ ، نحو : (في الدار رجل) و (عند زيد نمرة).
ه ـ النكرة مؤخرة ، والخبر نكرة وهو مقدم ، والمسوّغ وجود البيان ، كقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «مسكين مسكين رجل لا زوج له» (٢) فرجل : هو المبتدأ عند «ابن مالك» ، ومسكين : خبره. وفي هذا النوع يجب تقديم الخبر.
مسألة (١٩)
في ثبوت خبر المبتدأ بعد «لو لا» (٣)
إذا وقع المبتدأ بعد «لو لا» الامتناعية
فالجمهور أطلقوا وجوب حذف الخبر ، بناء على أنه لا يكون بعدها إلا كونا مطلقا ، ولحنوا «المعري» في قوله :
يذيب الرعب منه كلّ عضب |
|
فلو لا الغمد يمسكه لسالا |
__________________
(١) أخرجه «ابن ماجه» في «سننه» في (كتاب الزكاة ـ باب صدقة الغنم» ١ : ٥٧٧ ، ٥٧٨ ، و «أحمد» في «مسنده» ٣ : ٣٥ ، عن «ابن عمر».
(٢) وفي «مجمع الزوائد» في (كتاب النكاح ـ باب الحث على النكاح) ٤ : ٢٥٢ : رواه «الطبراني» في الأوسط ، ورجاله ثقات ، عن أبي نجيح مرفوعا ، إلا أن أبا نجيح لا صحبة له. بنحوه. وفي «تقريب التهذيب» ٢ : ٣٧٤ : أبو نجيح هو يسار المكي ، مولى ثقيف ، مشهور بكنيته ، ثقة ، من الثالثة ، وهو والد «عبد الله بن أبي نجيح» مات سنة : ١٠٩ ه.
(٣) موارد المسألة : «شواهد التوضيح» ٦٥ ، و «شرح الشاطبي» و «أوضح المسالك» ١ : ١٥٦ ، و «التصريح على التوضيح» ١ : ١٧٩ ، و «شرح المرادي» ١ : ٢٨٨ ، و «همع الهوامع».
وقيد «الرماني» و «ابن الشجري» و «الشلوبين» وجوب حذف الخبر بما إذا كان الخبر كونا مطلقا.
فلو أريد كون بعينه لا دليل عليه لم يجز الحذف ، نحو : لو لا زيد سالمنا ما سلم ، ومنه حديث «عائشة» : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم» (١).
وذهب «الكوفيون» إلى أن الاسم المرفوع بعد «لو لا» فاعل بفعل
__________________
(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه) ١ : ٤٠ ، برواية : «يا عائشة : لو لا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين ...».
وفي (كتاب الحج ـ باب فضل مكة وبنيانها) ٢ : ١٥٦ برواية : «لو لا حدثان قومك بالكفر» ، ورواية : «لو لا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية» ، ورواية : «لو لا حداثة قومك بالكفر» ، ورواية : «لو لا أن قومك حديث عهد بجاهلية».
وفي (كتاب التمني ـ باب ما يجوز من «الّلو» ، وقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً)) ٨ : ١٣٠ ، برواية : «لو لا أنّ قومك حديث عهدهم بالجاهلية» و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الحج ـ باب جدر الكعبة وبابها» ٤ : ١٠٠ ، برواية : «لو لا حدثان قومك بالكفر» ، ورواية : «ولو لا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية» بتنوين «حديث» ورفع «عهدهم» على إعمال الصفة المشبهة.
و «الترمذي» في «سننه» في (أبواب الحج ـ باب ما جاء في كسر الكعبة) ٢ : ١٨١ ، برواية :
«لو لا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية».
و «النسائي» في «سننه» في (كتاب مناسك الحج ـ باب بناء الكعبة) ٥ : ٢١٤ ، برواية : «لو لا حدثان قومك بالكفر».
قال «السيوطي» في «شرحه على سنن النسائي» ٥ : ٢١٤ : الخبر في هذه الرواية محذوف وجوبا ، أي : موجود. وبرواية : «لو لا حداثة عهد قومك بالكفر» ، ورواية : «لو لا أن قومك حديث عهد بجاهلية».
قال «السيوطي» في «شرحه على سنن النسائي» ٥ : ٢١٥ : كذا روي بالإضافة وحذف الواو ـ وقال «المطرزي» : لا يجوز حذف الواو في مثل هذا ، والصواب : حديثو عهد.
وتعقب «السندي» هذا في «حاشيته على شرح السيوطي على سنن النسائي» رادّا على «المطرزي» بقوله : وردّ بأنه من قبيل : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فقد قالوا : تقديره : أول فريق كافر ، أو فوج كافر. يريدون أن هذه الألفاظ مفردة لفظا ، وجمع معنى ، فيمكن رعاية لفظها ، ولا يخفى أن لفظ «القوم» كذلك.
وأجيب أيضا : بأن (فعيلا) يستوي فيه الجمع والإفراد.
وأخرجه «أحمد» في «مسنده» ٦ : ١٠٢ ، ١٧٦ ، ١٨٠ ، بروايات مقاربة لما ذكر.
وانظر «فتح الباري» ١ : ٢٢٤ ، و «التلخيص الحبير» ٢ : ٢٦١.
محذوف. وقيل : هو مرفوع بـ «لو لا».
وقال «السيوطي» في «همع الهوامع» في (المبتدأ والخبر) :والظاهر أن الحديث حرّفته الرواة بدليل أنّ في بعض رواياته : «لو لا حدثان قومك». وهذا جار على القاعدة.
وقد بينت في كتاب «أصول النحو» من كلام «ابن الضائع» و «أبي حيان» : أنه لا يستدل بالحديث على ما خالف القواعد النحوية ، لأنه مروي بالمعنى ، لا بلفظ الرسول. والأحاديث رواها العجم والمولدون ، لا من يحسن العربية ، فأدوها على قدر ألسنتهم. (١)
وفي التصريح ١ : ١٧٩ : قال «ابن أبي الربيع» : لم أر هذه الرواية ، يعني بهذا اللفظ ، من طريق صحيح ، والروايات المشهورة في ذلك : «لو لا حدثان قومك» «لو لا حداثة قومك» «لو لا أن قومك حديثو عهد بجاهلية» ونحو ذلك.
__________________
(١) أقول : هذا الكلام لا يصبر على السّبر أمام المناقشة العلمية الجادة ، وهو في صورته برّاق يجذب الأسماع ، وفي حقيقته زائف واهن كبيت العنكبوت ، والحق ما قاله الإمام «ابن مالك» علّامة جيّان ، لا ما اختاره «أبو حيّان». ومذهب «ابن الضائع» مذهب ضائع.
وتقليد «الجلال» لهما خاو من توفيق ذي الجلال.
وما ذكره «ابن الطيّب» كلام طيّب ، وهذا نصه في مؤلّفه : «فيض نشر الانشراح من روض طي الاقتراح» ورقة : ٣٩ ، ٤١ (مخطوط) : قد تقرر في علوم الاصطلاح أن شرط الرواية بالمعنى عند من يجيزها : العلم بما يحيل المعنى أو ينقصه ، والإحاطة بمواقع الألفاظ ، فلا يجوز لمن خشي الإخلال ، وعري عن معرفة ما اشترطوه ...
ثم قال : من شروط الرواية بالمعنى : أن يقول الراوي بالمعنى بعد كمال مرويه أو كما قال) (أو نحوه) مما يدل على الشك.
وهذا لا نكاد نجده في شيء من الدواوين الحديثية إلا في ألفاظ بعض الصحابة ، كأنس ، وابن مسعود ، كما نبه عليه «الخطيب» وغيره. والصحابة وإن رووا بالمعنى فإنه لا يضرنا في الاستدلال بكلامهم ، والاستشهاد به ، لأنهم عرب فصحاء ، فما غيرهم ممن تقدمهم من الكفار بأولى منهم ، كما هو ظاهر ، وعدم ذكرهم لما اشترطوه دليل على أنهم لم يرووا بالمعنى ، إذ تركهم للشرط ، ربما يكون تدليسا ، ويبعد اتصاف جميع رواة الكتب الستة ، وغيرها بالدّلسة. والله أعلم.
ومنها : أن لا يكون المروي مدونا في كتاب ، وأما المدون في كتاب فقد اتفقوا على منع روايته بالمعنى. وحكى عليه «ابن الصلاح» الإجماع. وما استدل به «ابن مالك» وغيره إنما هو من المدون في الكتب الصّحاح ، ومصنفوها إنما رووها عن كتب شيوخهم ، وهكذا.
وقال «ابن مالك» في «شواهد التوضيح» : ٦٥ :
تضمن هذا الحديث ثبوت خبر المبتدأ بعد «لو لا» ، وهو مما خفي على النحويين إلّا «الرماني» و «الشجري».
وقد يسرت لي في هذه المسألة زيادة على ما ذكراه. فأقول ـ وبالله أستعين ـ : إن المبتدأ المذكور بعد «لو لا» على ثلاثة أضرب :
(١) مخبر عنه بكون غير مقيّد.
(٢) ومخبر عنه بكون مقيّد ، لا يدرك معناه عند حذفه.
(٣) ومخبر عنه بكون مقيّد ، يدرك معناه عند حذفه.
فالأول ، نحو : (لو لا زيد لزارنا عمرو) ، فمثل هذا يلزم حذف خبره ، لأن المعنى : لو لا زيد ، على كل حال من أحواله ، لزارنا عمرو. فلم تكن حال من أحواله أولى بالذكر من غيرها ، فلزم الحذف لذلك ، ولما في الجملة من الاستطالة المحوجة
__________________
ـ وبالجملة من أمعن النظر في أئمة الحديث ، وعلم احتياطهم ، وما كانوا عليه من التحرز في الرواية بالمعنى والإتقان علم علما ضروريا أن مثل «البخاري» و «مسلم» لم يدخلوا في صحاحهم ما هو مروى بالمعنى أصلا ، فأنت ترى «مسلما» كيف يتحرز في «صحيحه» في ألفاظ شيوخه ، إذا روى عن جماعة كلهم عن واحد ، وتختلف عباراتهم في التحديث ، والإخبار ، فيقول : قال فلان : حدثنا ، وقال فلان : أخبرنا ، مع أنهم صرحوا باتحاد التحديث والإخبار ، ومع ذلك يحتاط في ألفاظهم ، فضلا عن ألفاظ الحديث. فالقول بأن مثل هؤلاء يروون بالمعنى مع هذا التحفظ البالغ ، والاحتياط الخارج عن الطوق بعيد جدا.
والذي تدل له الاصطلاحات وهو الظاهر أنهم يجيزون الرواية بالمعنى ، في نحو الوعظ ، والتقرير باللسان.
وأما ما يثبتونه في الدواوين فلا معنى للقول فيه بالرواية بالمعنى ، ولا سيما مع عدم التنبيه عليه ، ولا ذكر الشروط المشروطة ممن يقول به ، ويميل إليه. ثم اعتناؤهم في الروايات والجمع بينها ، وضبطها والوقوف عندها من غير إقدام على تبديلها ، ولا اجتراء على إبطالها ظاهر في أن المقصود الألفاظ حتى إنهم لا يغيرون لغة ضعيفة لأخرى مشهورة ، بل صرحوا بإبقاء الألفاظ على ما هي عليه ، ولو كانت ملحونة غير صالحة.
وأجازوا قراءتها على القواعد دون تغييرها وإصلاحها. فلو كان المعتمد هو الرواية بالمعنى دون الألفاظ ما أبقوا ذلك ، ولا أجازوه ولا تركوا الألفاظ التي ظاهرها اللحن والتصحيف مثبتة ، بل يصلحون ذلك اعتمادا على ما اختاروه من أن المقصود المعنى ، على أنا نجدهم يتأولون ذلك ، ويخرّجونه على الوجوه البعيدة ، ويتكلفون له أكثر مما يتكلفون للآي القرآنية.
وكونهم يعتنون هذا الاعتناء بمجرد كلام الرواة اللحانين المغيرين لأصل الأحاديث مما لا معنى له مع تنصيصهم على إبقاء اللحن في مواضعه ، وعدم إصلاحه. والله أعلم.
إلى الاختصار.
الثاني : وهو المخبر عنه بكون مقيّد ، ولا يدرك معناه إلا بذكره ، نحو : (لو لا زيد غائب لم أزرك). فخبر هذا النوع واجب الثبوت ؛ لأن معناه يجهل عند حذفه.
ومنه قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر» أو «حديث عهدهم بكفر».
فلو اقتصر في مثل هذا على المبتدأ ، لظن أن المراد : لو لا قومك على كل حال من أحوالهم لنقضت الكعبة ، وهو خلاف المقصود ، لأن من أحوالهم بعد عهدهم بالكفر فيما يستقبل. وتلك الحال لا تمنع من نقض الكعبة ، وبنائها على الوجه المذكور.
ومن هذا النوع قول «عبد الرحمن بن الحارث» لـ «أبي هريرة» : «إنّي ذاكر لك أمرا ، ولو لا مروان أقسم عليّ فيه لم أذكره لك» (١).
ومن هذا النوع قول الشاعر :
لو لا زهير جفاني كنت منتصرا |
|
ولم أكن جانحا للسّلم إن جنحوا |
ومثله :
لو لا ابن أوس نأى ما ضيم صاحبه |
|
يوما ولا نابه وهن ولا حذر |
الثالث : وهو المخبر عنه بكون مقيّد يدرك معناه عند حذفه ، كقولك : (لو لا أخو زيد ينصره لغلب) ، و (لو لا صاحب عمرو يعينه لعجز) ، و (لو لا حسن الهاجرة يشفع لها لهجرت).
فهذه الأمثلة وأمثالها ، يجوز فيها إثبات الخبر وحذفه ، لأن فيها شبها بـ (لو لا زيد لزارنا عمرو) ، وشبها بـ (لو لا زيد غائب لم أزرك)
فجاز فيها ما وجب فيهما من الحذف والثبوت.
ومن هذا النوع قول «أبي العلاء المعري» في وصف سيف :
فلو لا الغمد يمسكه لسالا
__________________
(١) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب الصوم ـ باب الصائم يصبح جنبا) ٢ : ٢٣٣.
مسألة (٢٠)
في سد الحال مسد الخبر (١)
قالوا : (أخطب ما يكون الأمير قائما)
التقدير : إذ كان ، أو إذا كان قائما. وقائما : نصب على الحال من الضمير في «كان» ، وحذفت جملة «كان» التي هي الخبر للعلم بها ، وسد الحال مسدها.
وهذه الحال لا تصلح خبرا لمباينتها المبتدأ ، إذ الخطابة لا يصح أن يخبر عنها بالقيام.
وجعل «قائما» حالا مبنيّ على تمام «كان».
وامتنع جعل «كان» ناقصة ، وجعل المنصوب خبرها ، لأمرين :
الأول : إن العرب لم تستعمل في هذا الموضع إلّا أسماء منكورة مشتقة من المصادر ، فحكمنا بأنها أحوال ، إذ لو كانت أخبارا لـ «كان» المضمرة لجاز أن تكون معارف ونكرات ، ومشتقة وغير مشتقة.
الثاني : وقوع الجملة الاسمية مقرونة بالواو موقعه ، كقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد» (٢).
__________________
(١) موارد المسألة : «شرح ابن الناظم» : ٥٠ ، و «شرح الأشموني» ١ : ٢١٩ ، و «شرح الكافية للرضي» ١ : ١٠٥ ، و «شرح الشاطبي» مخطوط ، و «مغنى اللبيب» ٥٣٧ ، و «شرح قواعد الإعراب» للكافيجي ص : ٤٧ (آلة كاتبة).
(١) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الصلاة ـ باب ما يقال في الركوع والسجود) ٢ : ٤٩ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الصلاة ـ باب في الدعاء في الركوع والسجود) ١ : ٢٣١. وانظر «مختصر سنن أبي داود» ١ : ٤٢٠.
وقال «البغدادي» في «تخريج أحاديث شرح الكافية للرضي» ورقة / ٣ / (مخطوط) : أخرجه «البزار» عن ابن مسعود. كذا في الذيل للسيوطي ، وتمامه عند «مسلم» و «أبي داود» و «النسائي» عن أبي هريرة : «فأكثروا الدعاء». كذا في الجامع الصغير.
وقول الشاعر :
خير اقترابي من المولى حليف رضا |
|
وشرّ بعدي عنه وهو غضبان |
الشاهد في الحديث وقوع الجملة الاسمية الحالية مقرونة بالواو مع الخبر ، وسادا عنه.
قال «ابن هشام» في «مغنيه» : ٥٣٧ :
والحديث من أقوى الأدلة على انتصاب «قائما» في (ضربي زيدا قائما) على الحال ، لا على أنه خبر لـ «كان» محذوفة ، إذ لا يقترن الخبر بالواو.
مسألة (٢١)
في رفع ونصب «سبّوح قدّوس»
قال «الشاطبي» عند قوله : (وبعد لو لا غالبا حذف الخبر ..) : ... ما جرى من الأسماء مجرى المصادر ، نحو : «سبوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح» (١).
وفي «الكتاب» ١ : ١٦٥
أما «سبّوحا قدّوسا ربّ الملائكة والرّوح» فليس بمنزلة : سبحان الله ؛ لأن السّبّوح والقدوس اسم ، ولكنّه على قوله : أذكر سبوحا قدّوسا ، وذاك أنه خطر على باله ، أو ذكره ذاكر فقال : سبّوحا ، أي : ذكرت سبّوحا ، كما تقول : أهل
__________________
(١) أخرجه «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الصلاة ـ باب ما يقال في الركوع والسجود) ٢ : ٥١.
و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب الصلاة ـ باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده) ١ : ٢٣٠.
و «النسائي» في «سننه» في (كتاب الافتتاح ـ باب الدعاء في السجود» ٢ : ٢٢٤ عن عائشة.
و «أحمد» في «مسنده» ٦ : ٣٥ ، وغيرهم.
ذاك ، إذا سمعت الرجل ذكر الرجل بثناء أو بذمّ كأنه قال : ذكرت أهل ذاك ؛ لأنه حيث جرى ذكر الرجل في منطقة ، صار عنده بمنزلة قوله : أذكر فلانا ، أو ذكرت فلانا ، كما أنّه حيث أنشد ثم قال : صادقا ، صار الإنشاد عنده بمنزلة قال ، ثم قال : صادقا وأهل ذاك ، فحمله على الفعل متابعا للقائل والذاكر. فكذلك :سبّوحا قدّوسا ، كأن نفسه صارت بمنزلة الرجل الذاكر والمنشد حيث خطر على باله الذكر ، ثم قال : سبّوحا قدّوسا ، أي : ذكرت سبّوحا ، متابعا لها فيما ذكرت وخطر على بالها.
وخزلوا الفعل لأنّ هذا الكلام صار عندهم بدلا من «سبّحت» كما كان مرحبا بدلا من رحبت بلادك وأهلت.
ومن العرب من يرفع فيقول : «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» كما قال : أهل ذاك وصادق والله.
وكلّ هذا على ما سمعنا العرب تتكلّم به رفعا ونصبا.
وفي «همع الهوامع» في «المفعول به» :وأما «سبوح قدوس» فيقالان بالرفع عند سماع من يذكر الله على إضمار مذكورك فليسا بمصدرين ، وبالنصب على إضمار : ذكرت سبوحا قدوسا ، أي :أهل ذلك ، فاختلف على هذا الفعل الناصب واجب الإضمار ، أو جائزه.
فقال «الشلوبين» وجماعة بالأول ، وآخرون بالثاني.
«كان» وأخواتها
مسألة (٢٢)
في استعمال أفعال بمعنى «صار» (١)
ألحق قوم ، منهم «ابن مالك» بـ «صار» في العمل ما وافقها في المعنى من الأفعال. من ذلك : (آض ، وعاد ، وآل ، ورجع وحار ، واستحال ، وتحول ، وارتد)
نورد بعض الأحاديث الواردة في ذلك : قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) (٢)
فلا ترجعوا بمعنى : لا تصيروا. وكفارا : منصوب على الخبر ، أي : كالكفار.
يضرب : استئناف لبيان صيرورتهم كالكفرة ، أو المراد : لا ترتدوا عن الإسلام إلى ما كنتم عليه من عبادة الأصنام حال كونكم كفارا ضاربا بعضكم رقاب بعض.
والأول أقرب (٣).
__________________
(١) موارد المسألة : «شواهد التوضيح» : ١٣٩ ، و «شرح الشاطبي» ، و «شرح الأشموني» ١ : ٢٢٩ ، و «همع الهوامع» (كان وأخواتها).
(٢) أخرجه «البخاري» في «صحيحه» في (كتاب العلم ـ باب الإنصات للعلماء) ١ : ٣٨ ، وفي (كتاب الفتن ـ باب قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : لا ترجعوا بعدي كفارا ...) ٨ : ٩١ عن ابن عمر.
و «مسلم» في «صحيحه» في (كتاب الإيمان ـ باب لا ترجعوا بعدي كفارا ...) قال في حجّة الوداع : ويحكم أو قال : ويلكم ، لا ترجعوا بعدي ... الحديث ١ : ٥٨ و «النسائي» في «سننه» في (كتاب تحريم الدم ـ تحريم القتل) ٧ : ١٢٦ ، و «أبو داود» في «سننه» في (كتاب السنة ـ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) ٤ : ٢٢١ ، و «أحمد» في «مسنده» ٤ : ٣٥١ ، وفيه :
«إني مكاثر بكم الأمم فلا ترجعن بعدي .. الحديث» في مسند الصنّابحي الأحمسي رضياللهعنه. انظر «فتح الباري» ١٣ : ٢٦.
(٣) انظر «حاشية السندي» على «شرح السيوطي» لـ «سنن النسائي» ٧ : ١٢٦.