الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤
وقال يمدح المستنصر صاحب إفريقية : [الكامل]
إنّ البشائر كلّها جمعت |
|
للدين والدنيا وللأمم |
في نعمتين جسيمتين هما |
|
برء الإمام وبيعة الحرم (١) |
قال ابن الأبار : وأخبرني بعض أصحابنا ـ يعني أبا عمرو بن عبد الغني ـ أنه أنشدهما الخليفة فسبقه إلى عجز البيت الثاني ، فقلت له على البديهة : [البسيط]
فخر لشعري على الأشعار يحفظه |
|
خليفة الله كان الله حافظه |
وأشار بقوله «وبيعة الحرم» إلى ما ذكره ابن خلدون وغير واحد من المؤرخين أنّ أهل مكة خطبوا للمستنصر صاحب تونس بعرفة ، وكتبوا له بيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف ، وقد ذكر ابن خلدون نصّ البيعة في ترجمة المستنصر ، فليراجعها من أرادها.
وقال ابن الأبار : [الوافر]
ألا اسمع في الأمير مقال صدق |
|
وخذه عن امرئ خدم الأميرا |
متى يكتب ترد وشلا أجاجا |
|
وإن يركب ترد عذبا نميرا (٢) |
وقال مجيبا للتجاني : [الخفيف]
أيها الصاحب الصفيّ ، مباح |
|
لك عنّي فيما نصصت الروايه |
إن عناني إسعاف قصدك فيها |
|
فلكم لم تزل بها ذا عنايه |
ولها شرطها فحافظ عليه |
|
ثم كافىء وصيّتي بالكفايه |
وتحام الإخلال جهدك ، لاقي |
|
ت من الله عصمة وحمايه |
ونصّ استدعاء التجاني : [الخفيف]
إن رأى سيدي الذي حاز في العل |
|
م مع الحلم والعلا كل غايه |
وحوى المجد عن جدود كرام |
|
كلّهم في السماح والفضل آيه |
أن أرى عنه بالإجازة أروي |
|
كلّ ما فيه لي تصحّ الروايه |
من حديث وكلّ نظم ونثر |
|
وفنون له بهنّ درايه (٣) |
__________________
(١) في أ: «بر الإمام وبيعة الحرم».
(٢) الوشل : الماء القليل يسيل من صخرة أو جبل. والأجاج : المر الملح من الماء.
(٣) في ه : «من حديث ومن نظام ونثر».
فله في ذاك الثواب من اللّ |
|
ه ومنا الثناء دون نهايه |
دام في رفعة وعزّ وسعد |
|
وأمان ومكنة وحمايه |
ما تولى جيش الظلام هزيما |
|
وعلت للصباح في الأفق رايه |
ولابن الأبار ترجمة واسعة ذكرتها في «أزهار الرياض ، في أخبار عياض ، وما يناسبها ممّا يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض» فلتراجع فيه.
وأمّا التجاني أبو عبد الله هذا المذكور فقد وصفه قريبه أبو الفضل محمد حفيد عمّه في كتابه «الحلى التيجانية ، والحلل التجانية» ؛ قال ابن رشيد : وجمعه باسمنا حفظه الله تعالى وشكره ، وقال في موضع آخر : إنه باسمه واسم صاحبه الوزير ابن الحكيم ، رحمهما الله تعالى! انتهى.
وقال ابن مفوّز أبو الحسين : [مجزوء الرجز]
إذا عرتك عيلة |
|
يعجز عنها ما تجد |
فلتقتصد فإنه |
|
ما عال قطّ مقتصد (١) |
وقال [أيضا] : [مجزوء الخفيف]
حاز دنياه كلّها |
|
محرزا أكبر المنن |
من حوى قوت يومه |
|
آمنا سالم البدن |
وقال [مجزوء الرجز]
أعن أخاك في الذي |
|
يأمله ويرتجيه |
فالله في عون الفتى |
|
ما كان في عون أخيه |
وقال : [مجزوء الرجز]
أنفس ما أودعته |
|
قلبك ذكرى موقظه |
وخير ما أتلفته |
|
مال أفاد موعظه |
وقال أبو البركات القميحي : أنشدنا أبو العباس بن مكنون ، وقد رأى اهتزاز الثمار وتمايلها ، مرتجلا : [الرجز]
__________________
(١) عال : افتقر.
حارت عقول الناس في إبداعها |
|
ألسكرها أم شكرها تتأوّد (١) |
فيقول أرباب البطالة : تنثني |
|
ويقول أرباب الحقيقة : تسجد |
قال الشيخ أبو البركات القميحي : قلت لابن مكنون : ما الذي يدلّ على أنهما في وصف الثمار؟ فقال : وطّئ أنت لهما ، فقلت : [الكامل]
يا من أتى متنزّها في روضة |
|
أزهارها من حسنها تتوقّد |
أنظر إلى الأشجار في دوحاتها |
|
والريح تنسف والطيور تغرّد |
فترى الغصون تمايلت أطرافها |
|
وترى الطيور على الغصون تعربد (٢) |
قال ابن رشيد : غلط المذكور في نسبته البيتين لابن مكنون ، وإنما هما لأبي زيد الفازازي من قصيدة أولها : [الكامل]
نعم الإله بشكره تتقيّد |
|
فالله يشكر في النوال ويحمد |
مدّت إليه أكفّنا محتاجة |
|
فأنالها من جوده ما تعهد |
والبيتان في أثنائها ، غير أنّ أولهما في ديوانه هكذا : [الكامل]
تاهت عقول الناس في حركاتها
انتهى.
ورأيت في «روضة التعريف» للسان الدين بعدهما بيتا ثالثا ، وهو : [الكامل]
وإذا أردت الجمع بينهما فقل |
|
في شكر خالقها تقوم وتقعد |
وحكي أنّ حافظ الأندلس إمام الأدباء ، ورئيس المؤلّفين ، حسنة الزمان ، نادرة الإحسان ، أبا محمد عبد الله بن إبراهيم الصنهاجي الحجاري صاحب كتاب «المسهب» كان سبب اتّصاله بعبد الملك بن سعيد جدّ علي بن موسى صاحب «المغرب» أنه وفد عليه في قلعته ، فلمّا وقف ببابه (٣) وهو بزيّ بداوة ازدراه البوّابون ، فقال لهم : استأذنوا لي على القائد ، فضحكوا به ، وقالوا له : ما كان وجد القائد من يدخل عليه في هذه الساعة إلّا أنت؟ فمدّ يده إلى دواة في حزامه وسحاءة (٤) ، وكتب بها : بباب القائد الأعلى ـ لا زال آهلا بأهل الفضيلة ـ! رجل وفد عليه من شلب بقصيدة مطلعها : [الوافر]
__________________
(١) تتأود : تعوج وتتلوى ، وتنثني.
(٢) تعربد : المعنى مأخوذ من عربدة السكران أي إيذائه للناس. والاستعارة هنا تفيد الحركة وليس المعنى المباشر.
(٣) في ب ، ه : «وقف على بابه».
(٤) السحاءة : القشرة ، أو الجلدة. وأراد هنا الورقة التي يكتب عليها.
عليك أحالني الذّكر الجميل
فإن رأى سيدي أن يحجب من بلده شلب ومن قصيده هذا فهو أعلم بما يأتي ويذر ، ولا عتب على القدر ، ورغب إلى أحد غلمانه ، فأوصل الورقة ، فلمّا وقف عليها القائد قال : من شلب ، وهذا مطلع قصيدته ، ما لهذا إلّا شأن ، ولعلّه الوزير ابن عمّار ، وقد نشر إلى الدنيا ، عجّلوا بالإذن له ، فدخل (١) وبقي واقفا لم يسلّم ولا كلّم أحدا ، فاستثقله الحاضرون ، واستبردوا مقصده ، ونسبوه للجهل وسوء الأدب ، فقال له أحدهم : ما لك لا تسلّم على القائد ، وتدخل مداخل الأدباء والشعراء؟ فقال : حتى أخجل جميعكم قدر ما أخجلتموني على الباب مع أقوام أنذال ، وأعلم أيضا من هو الكثير الفضول من أصحاب القائد أعزّه الله تعالى فأكون أتّقيه إن قدّر لي خدمته ، فقال له عبد الملك : أتأخذنا بما فعل السفهاء منّا؟ قال : لا ، والله ، بل أغفر لك ذنوب الدهر أجمع ، وإنما هي أسباب نقصدها لنحاور بها مثلك أعزك الله تعالى ، ويتمكّن التأنيس ، وينحلّ قيد الهيبة ، ثم أنشد من رأسه ولا ورقة في يده : [الوافر]
عليك أحالني الذّكر الجميل |
|
فصحّ العزم واقتصر الرحيل (٢) |
وودّعت الحبيب بغير صبر |
|
ولم أسمع لما قال العذول |
وأسلبت الظلام عليّ سترا |
|
ونجم الأفق ناظره كليل |
ولم أشك الهجير وقد دعاني |
|
إلى أرجائك الظلّ الظليل (٣) |
وهي طويلة ، فأكرمه وقرّبه ، رحم الله تعالى الجميع!.
وأهديت للمعتمد بن عباد شمعة ، فقال في وصفها أبو القاسم بن مرزقان الإشبيلي وهو ممّن قتل في فتنة المعتمد (٤) : [السريع]
مدينة في شمعة صوّرت |
|
قامت حماة فوق أسوارها |
وما رأينا قبلها روضة |
|
تتّقد النار بنوّارها |
تصيّر الليل نهارا إذا |
|
ما أقبلت ترفل في نارها (٥) |
كأنها بعض الأيادي التي |
|
تحت الدّجى تسري بأنوارها |
من ملك معتمد ماجد |
|
بلاده أوطان زوّارها |
__________________
(١) في ب ، ه : «فأذنوا له ودخل وبقي واقفا».
(٢) في ب ، ه : «واقتضي الرحيل».
(٣) الهجير : شدة الحر عند منتصف النهار.
(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٢٦١.
(٥) رفل رفلا ورفولا : جر ذيلة وتبختر في سيره.
وقال أبو الأصبغ بن رشيد الإشبيلي : لمّا هطلت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة : [المتقارب]
لقد آن للناس أن يقلعوا |
|
ويمشوا على السّنن الأقوم (١) |
متى عهد الغيث يا غافلا |
|
كلون العقيق أو العندم (٢) |
أظنّ الغمائم في جوّها |
|
بكت رحمة للورى بالدم |
وفيها أيضا : [الخفيف]
لا تكن دائم الكآبة ممّا |
|
قد غدا في الثرى نميرا نجيعا |
لطم البرق صفحة المزن حتى |
|
سال منه على الرياض نجيعا |
وله في دولاب : [البسيط]
ومنجنون إذا دارت سمعت لها |
|
صوتا أجشّ وظلّ الماء ينهمل (٣) |
كأنّ أقداسها ركب إذا سمعوا |
|
منها حداء بكوا للبين وارتحلوا |
وله فيمن اسمه مالك : [الوافر]
غزاليّ الجفون شقيق بدر |
|
تبسّم عن عقيق فوق درّ |
له نفحات مسك أيّ مسك |
|
له نفثات سحر أيّ سحر |
شكوت له الهوى والهجر منه |
|
فقال : عليك باسمي سوف تدري |
تعلّمت القساوة من سميّي |
|
وأحرقت القلوب بنار هجري |
وقال أبو بكر بن حجاج الغافقي في موسى وسيم إشبيلية الذي كان شعراؤها يتغزّلون فيه(٤): [الكامل]
من مبلغ موسى المليح رسالة |
|
بعثت له من كافري عشّاقه |
ما كان خلق راغبا عن دينه |
|
لو لم تكن توراته من ساقه |
وقال : [السريع]
__________________
(١) السنن ـ بفتح السين والنون ـ نهج الطريق.
(٢) العقيق : حجر كريم أحمر.
(٣) المنجنون : دولاب الماء الذي تسقى به الأرضون (الناعورة ، الساقية).
وينهمل : يتساقط.
(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٢٦١.
إنّ الزويليّ فتى شاعر |
|
قد أعجب العالم من نظمه |
وأنت يا موسى قد اخترته |
|
واختار موسى قبل من قومه |
وقال : [البسيط]
على معاذ قرون لو يعاينها |
|
فرعون ما قال أوقد لي على الطين |
قالت له عرسه إذ جاء ينكحها |
|
ما ذا دهيت به من كل عنّين (١) |
هلّا استعنت بميمون ، فقال لها |
|
إني استعنت على نفسي بميمون |
وقال أبو وهب (٢) عبد الرؤوف النحوي ، وكان له حظّ في قرض الشعر ، وكان سناطا(٣):[السريع]
ليس لمن ليست له لحية |
|
بأس إذا حصّلته ، ليسا |
وصاحب اللحية مستقبح |
|
يشبه في طلعته التيسا |
إن هبّت الريح تلاهت به |
|
وماست الريح به ميسا |
وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى القلفاط : [مجزوء الرمل]
يا غزالا عنّ لي فاب |
|
تزّ قلبي ثم ولّى |
أنت منّي بفؤادي |
|
يا منى نفسي أولى |
وقال أحمد بن المبارك الحبيبي في الناصر قبل أن يلي عهد جدّه : [السريع]
يا عابد الرحمن فقت الورى |
|
بهذه العليا وهذا الكرم |
ما جعل الله الندى في امرئ |
|
إلّا وقد جنّبه كلّ ذم (٤) |
واستدعى الوزير عبيد الله بن إدريس أبا بكر أحمد بن عثمان المرواني ، ونادمه ليلة ، فلمّا قرب الصباح قال له : أين ما يحدّث عنك من حسن الشّعر؟ فهذا موضعه ، فقال : الدواة والقرطاس ، فأمر له بإحضارهما ، فجعل يفكر ويكتب إلى أن أنشده هذه الأبيات : [البسيط]
بتنا ندامى صفاء يستحثّ لنا |
|
في جامد الفضّة التبر الذي سبكا |
__________________
(١) عرسه ، بكسر العين : عروسه ، زوجته. والعنين : الذي لا يستطيع أن يأتي النساء.
(٢) في ب ، ه : «أبو وهب بن عبد الرؤوف».
(٣) السناط : الذي ليس في عارضيه شعر.
(٤) الندى : الكرم والجود.
كلّ مصيخ إلى ما قال صاحبه |
|
ولا يبالي أصدقا قال أم إفكا (١) |
موقّرون خفاف عند شربهم |
|
ولا يخافون فيما أحدثوا دركا |
لا تعد منّ إذا أبصرتهم فرحا |
|
أما ترى الصبح من بشر بهم ضحكا |
وقال أبو محمد عبد الله المرواني في الخيري (٢) : [الطويل]
عجبت من الخيريّ يكتم عرفه |
|
نهارا ويسري بالظلام فيعرب (٣) |
فتجني عروس الطيب منه يد الدجى |
|
ويبدو له وجه الصباح فيحجب |
وقال إبراهيم بن إدريس العلوي : [الكامل]
للبين في تعذيب نفسي مذهب |
|
ولنائبات الدهر عندي مطلب |
أمّا ديون الحادثات فإنها |
|
تأتي لوقت صادق لا يكذب |
وخرج الأديب النحوي هذيل الإشبيلي يوما من مجلسه ، فنظر إلى سائل عاري الجسم ، وهو يرعد (٤) ويصيح : الجوع والبرد ، فأخذ بيده ، ونقله إلى موضع بلغته الشمس ، وقال له : صح الجوع ، فقد كفاك الله مؤونة البرد.
ومرّ المعتمد بن عباد ليلة مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كثير التندير (٥) والتهكّم ، يمزج ذلك بانحراف يضحك الثكلى ، فقال لابن عمار : تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه ، فضربا عليه الباب ، فقال : من هذا؟ فقال ابن عباد : إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة ، فقال : والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحته له ، فقال : فإني ابن عباد ، فقال : مصفوع ألف صفعة ، فضحك ابن عباد حتى سقط إلى الأرض ، وقال لوزيره : امض بنا قبل أن يتعدّى الصفع من القول إلى الفعل ، فهذا شيخ ركيك ، ولمّا كان من غد تلك الليلة وجّه له ألف درهم ، وقال لموصلها : قل له هذه (٦) حقّ الألف صفعة التي كانت البارحة.
وكان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب ، وكان له في السرقة كلّ
__________________
(١) الإفك : الكذب والافتراء.
(٢) الخيري : نوع من الورد.
(٣) العرف ، بفتح فسكون : الرائحة الطيبة. ويعرب : يفضح ويظهر.
(٤) يرعد : يرتجف.
(٥) التندير : الفكاهة والنكتة والنادرة. وفي ب : «كثير التهكم والتندير».
(٦) في ه : «هذا حق الألف صفعة».
غريبة ، وكان مسلطا على أهل البادية ، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب ؛ لأنّ ابن عباد أمر بصلبه على ممرّ أهل البادية لينظروا إليه ، فبينما هو على خشبته على تلك الحال إذ جاءت إليه زوجته وبناته ؛ وجعلن يبكين حوله ويقلن : لمن تتركنا نضيع بعدك؟ وإذا ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسباب ، فصاح عليه : يا سيدي ، انظر في أي حالة أنا ، ولي عندك حاجة فيها فائدة لي ولك ؛ قال : وما هي؟ قال : انظر إلى تلك البئر ، لمّا أرهقني الشّرط رميت فيها مائة دينار ، فعسى تحتال في إخراجها ، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك خلال ما تخرجها ، فعمد البدوي إلى حبل ودلّى نفسه في البئر بعد ما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها ، فلمّا حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل ، وبقي حائرا يصيح ، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها ، وفرّت به ، وكان ذلك في شدّة حرّ ، وما سبّب الله شخصا يغيثه إلّا وقد غبن عن العين وخلصن ، فتحيّل ذلك الشخص مع غيره على إخراجه ، وسألوه عن حاله ، فقال : هذا الفاعل الصانع احتال عليّ حتى مضت زوجته وبناته بثيابي وأسبابي ، ورفعت هذه القصة (١) إلى ابن عباد ، فتعجّب منها ، وأمر بإحضار البازي الأشهب ، وقال له : كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة؟ فقال له : يا سيدي ، لو علمت قدر لذّتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها ، فلعنه وضحك منه ، ثم قال له : إن سرّحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقا يقلك أتتوب من هذه الصنعة الذميمة؟ فقال : يا مولاي ، كيف لا أقبل التوبة وهي [التي](٢) تخلصني من القتل؟ فعاهده وقدّمه على رجال أنجاد ، وصار من جملة حراس أحواز المدينة.
ويحكى أنّ منصور بني عبد المؤمن لمّا أراد بناء صومعة إشبيلية العظيمة القدر أحضر لها العرفاء والصّنّاع من مظانّهم ، فعرّف بشيخ مغفّل صحيح المذهب عارف بالبناء الذي يجهله كثير من الصناع ، فأحضر ، فقال له المنصور : كم تقدّر أن ينفق على هذه الصومعة؟ فضحك وقال:يا سيدي ، البنيان إنما هو مثل ذكر ليس يقدّر حتى يقوم ، فكاد المنصور يفتضح من الضحك ، وصرف وجهه عنه ، وبقيت حكايته يضحك عليها زمانا.
وكان أحمد المقريني المعروف بالكساد شاعرا وشّاحا زجّالا إشبيليّا ، وقال في موسى الذي تغزّل فيه ابن سهل : [الخفيف]
ما لموسى قد خرّ لله لمّا |
|
فاض نور أغشاه ضوء سناه (٣) |
وأنا قد صعقت من نور موسى |
|
لا أطيق الوقوف حين أراه |
__________________
(١) في ه : «ورفعت هذه القضية».
(٢) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.
(٣) في ب : «غشاه ضوء سناه».
وقال في رثائه : [السريع]
فرّ إلى الجنّة حوريّها |
|
وارتفع الحسن من الأرض |
وأصبح العشّاق في مأتم |
|
بعضهم يبكي على بعض |
وقال فيه : [الرمل]
هتف الناعي بشجو الأبد |
|
إذ نعى موسى بن عبد الصمد |
ما عليهم ويحهم لو دفنوا |
|
في فؤادي قطعة من كبدي (١) |
ولابن سهل الإسرائيلي في موسى هذا ما هو مثبت في ديوانه.
وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة : المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب ، فيلسوفا طبيبا ماهرا ، آية الله في المعرفة بالأندلس ، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلّمها ، ولمّا تغلّب طاغية الروم على مرسية عرف له حقّه ، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود ، وقال له يوما وقد أدنى منزلته : لو تنصّرت (٢) وحصّلت الكمال كان لك عندي كذا ، وكنت كذا ، فأجابه بما أقنعه ؛ ولمّا خرج من عنده قال لأصحابه : أنا عمري كلّه أعبد إلها واحدا ، وقد عجزت عمّا يجب له ، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني؟ انتهى.
وقال أبو عبد الله محمد بن سالم القيسي الغرناطي يخاطب السلطان على ألسنة أصحابه الأطباء الذين ببابه مورّيا بأسمائهم : [الخفيف]
قد جمعنا ببابكم سطر علم |
|
لبلوغ المنى ونيل الإراده |
ومن اسمائنا لكم حسن فال |
|
سالم ثم غالب وسعاده |
وقال أبو عبد الله بن عمر الإشبيلي الخطيب : [المتقارب]
وكلّ إلى طبعه عائد |
|
وإن صدّه المنع عن قصده |
كذا الماء من بعد إسخانه |
|
يعود سريعا إلى برده |
وقال الكاتب أبو زيد عبد الرحمن العثماني لمّا تغيّر حاله بإشبيلية : [الخفيف]
لا تسلني عن حالتي فهي هذي |
|
مثل حالي لا كنت يا من يراني |
__________________
(١) في أ: «ما عليهم وحدهم».
(٢) تنصرت : أي اعتنقت النصرانية.
ملّني الأهل والأخلّاء لمّا |
|
أن جفاني بعد الوصال زماني (١) |
فاعتبر بي ولا يغرّك دهر |
|
ليس منه ذو غبطة في أمان |
ودخل الأديب النحوي أبو عمران موسى الطرياني (٢) إلى بعض الأكابر يوم نيروز ، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة ، فنظر إلى مدينة أعجبته ، فقال له صاحب المجلس : صفها وخذها ، فقال : [مجزوء الرجز]
مدينة مسوّره |
|
تحار فيها السّحره |
لم تبنها إلّا يدا |
|
عذراء أو مخدّره (٣) |
بدت عروسا تجتلى |
|
من درمك مزعفره |
وما لها مفاتح |
|
إلّا البنان العشره |
ورفع إلى القائد أبي السرور صاحب ديوان سبتة قصيدة يعرّض له فيها بزاد ، وقد عزم على سفر ، فأنعم عليه بذلك ، ثم أتبعه بتحف ممّا يكون في الديوان ممّا يجلبه الإفرنج إلى سبتة ، ولم يكن التمس منه ذلك ولا خطر بخاطره ، فكتب إليه : [المتقارب]
أيا سابقا بالذي لم يجل |
|
بفكري ولم يبد لي في خطاب |
ويا غائصا في بحار الندى |
|
ويا فاتحا للعلا كلّ باب |
كذا فلتكن نعم الأكرمين |
|
تفاجي بنيل المنى والطّلاب (٤) |
ولم أر أعظم من نعمة |
|
أتتني ولم تك لي في حساب |
سأشكرها شكر عهد الرضى |
|
وأذكرها ذكر غضّ الشباب |
وكتب مجاهد صاحب دانية إلى المنصور بن أبي عامر الأصغر ملك بلنسية رقعة ، ولم يضمّنها غير بيت الحطيئة : [البسيط]
دع المكارم لا ترحل لبغيتها |
|
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي |
فأحرجت (٥) المنصور ، وأقامته وأقعدته ، فأحضر وزيره أبا عامر بن التاكرني فكتب عنه:[الكامل]
__________________
(١) الأخلاء : جمع خلّ ، وهو الصديق.
(٢) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج : «الطبراني».
(٣) المخدّرة : ذات الخدر.
(٤) تفاجي : أصلها تفاجىء ، فحذف الهمزة وهو جائز.
(٥) في ب ، ه : «فأخرجت المنصور».
شتمت مواليها عبيد نزار |
|
شيم العبيد شتيمة الأحرار |
فسلا المنصور عمّا كان فيه.
ومن شعر المذكور في المنصور : [الكامل]
انهض على اسمك إنه منصور |
|
وارم العدوّ فإنه مقهور |
ولو اغتنيت عن النهوض كفيتهم |
|
فبذكر بأسك كلّهم مذعور |
ولتبلغنّ مدى مرادك فيهم |
|
ويكون يوم في العدا مشهور |
وقال له المنصور يوما : والله لقد سئمت من هؤلاء الجند ، ووددت الراحة منهم ، فقال له:يصبر مولاي فلا بدّ من السآمة ، فهي على حالتين : إمّا ممّن يكون أمرك إليه ، أو يكون أمره إليك ، والحمد لله الذي رفعه عن الحالة الأولى!.
وقال بعض الهجائين في رندة (١) : [مجزوء الكامل]
قبحا لرندة مثل ما |
|
قبحت مطالعة الذنوب |
بلد عليه وحشة |
|
ما إن يفارقه القطوب (٢) |
ما حلّها أحد فين |
|
وي بعد بين أن يؤوب (٣) |
لم آتها عند الضّحى |
|
إلّا وخيّل لي الغروب |
أفق أغمّ وساحة |
|
تملا القلوب من الكروب (٤) |
وقال حبلاص الشاعر الرندي (٥) : [الكامل]
لا تفرحن بولاية سوّغتها |
|
فالثور يعلف أشهرا كي يذبحا |
وله في بعض رؤساء الملثمين من قصيدة : [الطويل]
ولو لم تكن كالبدر نورا ورفعة |
|
لما كنت غرّا بالسحاب ملثّما |
__________________
(١) هو أبو الفتح بن فاخر التونسي. انظر المغرب ج ١ ص ٣٤٤.
(٢) القطوب : التجهّم والعبوس.
(٣) البين : البعد. ويؤوب : يعود.
(٤) تملا : أصلها تملأ بالهمزة.
(٥) انظر المغرب ج ١ ص ٣٣٦.
وما ذاك إلّا للنوال علامة |
|
كذا القطر مهما لثم الأفق انهمى (١) |
فاهتزّ الملثّم وأعجبه ، وأمر له بكسوة وذهب.
ولمّا ذكر أبو بكر بن عمر الرندي (٢) في مجلس بعض الرؤساء بحضرة أبي الحسن علي بن سعيد ، وأطنب في الثناء عليه ، وعمر المجلس بشكره ، وأخبر بذلك ، أطرق ساعة ثم قال : [الكامل]
لا تذكرن ما غاب عني من ثنا |
|
أطنبت فيه فليس ذلك يجهل |
فمتى حضرت بمجلس وجرى به |
|
خبري فإنّ الذكر فيه يجمل |
ولمّا نفى بنو ذي النون أرقم من نسبهم لأنه كان ابن أمة مهينة ، واقعها أبو الظافر في حال سكره ، ولم يكن فيهم من ينظم ويتولّع بالأدب غيره ، وولي ابنه يحيى ، وكان أحسد من طلعت عليه الشمس ، فمال على أرقم بالأذيّة حتى فرّ عن مملكته (٣) ، وقال مرتجلا : [الطويل]
لئن طبتم نفسا بتركي دياركم |
|
فنفسي عنكم بالتفرّق أطيب |
إذا لم يكن لي جانب في دياركم |
|
فما العذر لي أن لا يكون تجنّب |
زعمتم بأني لست فرعا لأصلكم |
|
فهلّا علمتم أنني عنه أرغب |
وحسبي إذا ما البيض لم ترع نسبة |
|
بأني إلى سيفي ورمحي أنسب |
وإن مدّت الأيام عمري للعلا |
|
يشرّق ذكري في الورى ويغرّب |
وكتب الوزير الكاتب أبو محمد بن سفيان إلى أبي أمية بن عصام (٤) قاضي القضاة بشرق الأندلس (٥) «عين زمانه» ، فوقعت نقطة على العين ، فتوهّمها ، وظنّ أنه أبهمها واعتقدها ، وعددها وانتقدها ، فقال : [الكامل]
لا تلزمنّي ما جنته يراعة |
|
طمست بريقتها عيون ثناء (٦) |
حقدت عليّ لزامها فتحوّلت |
|
أفعى تمجّ سمامها بسحاء |
__________________
(١) القطر : المطر. انهمى : انهمر.
(٢) انظر ترجمته في القدح ص ١٦٨.
(٣) في ب ، ه : «فمال على أرقم بالأذاية ففرّ عن مملكته».
(٤) انظر القلائد ص ١٣٩.
(٥) في ب ، ه : «قاضي قضاة شرق الأندلس».
(٦) اليراعة : القلم.
غدر الزمان وأهله عرف ولم |
|
أسمع بغدر يراعة وإباء |
وشرب المأمون بن ذي النون مع أبي بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي وحفل من رؤساء ندمائه كان لبون وابن سفيان وابن الفرج وابن المثنى (١) ، فجرت مذاكرة في ملوك الطوائف في ذلك العصر ، فقال كلّ واحد ما عنده بحسب غرضه ، فقال ابن أرفع رأسه ارتجالا (٢) : [البسيط]
دعوا الملوك وأبناء الملوك فمن |
|
أضحى على البحر لم يشتق إلى نهر |
ما في البسيطة كالمأمون ذو كرم |
|
فانظر لتصديق ما أسمعت من خبر |
يا واحدا ما على علياه مختلف |
|
مذ جاد كفّك لم نحتج إلى المطر |
وقد طلعت لنا شمسا فما نظرت |
|
عين إلى كوكب يهدي ولا قمر |
وقد بدوت لنا وسطى ملوكهم |
|
فلم نعرّج على شذر ولا درر |
فداخل ابن ذي النون من الارتياح ما ليس عليه مزيد ، وأمر له بإحسان جزيل عتيد.
وقال أبو أحمد عبد المؤمن الطليطلي : [الطويل]
رأيت حيائي قادحا في معيشتي |
|
ويصعب تركي للحياء ويقبح (٣) |
وقد فسد الناس الذين عهدتهم |
|
وقد طال تأنيبي لمن ليس يصلح |
وله : [الطويل]
ولمّا غدوا بالغيد فوق جمالهم |
|
طفقت أنادي لا أطيق بهم همسا (٤) |
عسى عيس من أهوى تجود بوقفة |
|
ولو كوقوف العين لاحظت الشمسا |
وقال الزاهد أبو محمد عبد الله بن العسال (٥) : [الطويل]
أعندكم علم بأني متيّم |
|
وإلّا فما بال المدامع تسجم (٦) |
__________________
(١) في ب ، ه : «وابن مثنى» بدون الألف واللام.
(٢) انظر الصلة : ٨٧٤. والمغرب ج ٢ ص ١٨.
(٣) قادحا في معيشتي : معيبا فيها.
(٤) الغيد : جمع غيداء ، الفتاة المتثنية دلا.
(٥) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢١. وفي أ: «الغسال» وهو خطأ.
(٦) تسجم الدموع : تسال.
وما بال عيني لا تغمّض ساعة |
|
كأني في رعي الدراري منجّم (١) |
وكان الوزير أبو جعفر الوقشي تيّاها معجبا بنفسه ، ومن شعره في غرضه الفاسد : [الطويل]
إذا لم أعظّم قدر نفسي وإنني |
|
عليم بما حازته من عظم القدر |
فغيري معذور إذا لم يبرّني |
|
ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر |
وله : [الطويل]
يرومون بي غير المكان الذي له |
|
خلقت ، وبعضي منكر ذاك من بعضي |
فقولوا لبدر الأفق يترك سماءه |
|
ويحتلّ من أجل التواضع في الأرض |
وقال : [الطويل]
تكبّر وإن كنت الصغير تظاهرا |
|
وباعد أخا صدق متى ما اشتهى قربا (٢) |
وكن تابعا للهرّ في حفظ أمره |
|
ألست تراه عندما يبصر الكلبا |
وقال له بعض ندماء ملكه يوما صاحب جيان ، ابن همشك : يا أبا جعفر ، أنت جملة محاسن ، وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكلّ فضيلة ، غير أنك قد قدحت في ذلك كلّه بكثرة عجبك ، وإذا مشيت على الأرض تشمئزّ منها ، فقال له : كيف لا أشمئزّ من شيء أشترك معك في الوطء عليه؟ فضحك جميع من حضر من جوابه. وله ، جوابا (٣) لمن اعتذر عن غيبته عنه : [الطويل]
لك الفضل في أن لا تلوح لناظري |
|
وتبعد عني ما بقيت مدى الدهر |
فوجهك في لحظي كما صوّر الردى |
|
ولفظك في سمعي حديث عن الفقر |
ومن حاز ما قد حزته من ركاكة |
|
وغاب فلا يحتج إلى كلفة العذر |
وله أيضا : [الخفيف]
لك يومان لم تلح لعياني |
|
ولك الفضل في زيادة شهر |
ولك الفضل في زيادة عام |
|
ولك الفضل في زيادة دهر |
__________________
(١) الدراري : الكواكب العظام التي لا تعرف أسماؤها.
(٢) في ب : «ما اشتهى القربا».
(٣) في ب ، ه : «وله جواب لمن اعتذر عن غيبته عنه».
ولك الفضل أن تغيّب عني |
|
ذلك الوجه ما تطاول عمري |
وله ، وقد شرب على صهريج فاختنق الأسد الذي يرمي بالماء ، فنفخ فيه رجل أبخر (١) ، فجرى : [السريع]
ليث بديع الشكل لا مثل له |
|
صيغ من الماء له سلسله |
يقذف بالماء على حينه |
|
كأنه عاف الذي قبّله |
صو قال أبو الوليد هشام الوقشي : [السريع]
برّح بي أنّ علوم الورى |
|
اثنان ما إن فيهما من مزيد |
حقيقة يعجز تحصيلها |
|
وباطل تحصيله لا يفيد |
وقال : [السريع]
وفاره يركبه فاره |
|
مرّ بنا في يده صعده (٢) |
سنانها مشتمل لحظه |
|
وقدّها منتحل قدّه |
يزحف للنساك في جحفل |
|
من حسنه وهو يرى وحده |
قلت لنفسي حين مدّت لها ال |
|
آمال والآمال ممتدّه |
لا تطمعي فيه كما الشّعر لا |
|
يطمع في تسويده خدّه (٣) |
وقال : [الخفيف]
عجبا للمدام ما ذا استعارت |
|
من سجايا معذّبي وصفاته |
طيب أنفاسه وطعم ثنايا |
|
ه وسكر العقول من لحظاته |
|
||
وسنا وجهه وتوريد خدّي |
|
ه ولطف الديباج من بشراته |
والتداوي منها بها كالتداوي |
|
برضا من هويت من سطواته (٤) |
وهي من بعد ذا عليّ حرام |
|
مثل تحريمه جنى رشفاته |
ومن تآليفه «نكت الكامل للمبرد» ، وقد مرّ ذكر هذا الرجل الفرد قبل هذا.
__________________
(١) الرجل الأبخر : الذي نتنت رائحة فمه.
(٢) الفاره الأول : أراد به فرسا. والفاره الثاني : أراد به غلاما حسنا. والصعدة ـ بفتح فسكون ـ الرمح.
(٣) كذا في أ، ب ، وفي ج ، ه : «كما الشمس ... لا يطمع في تدنيسه حده».
(٤) في ج : «والتداوي منها بها لا التداوي» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ه.
وحضر يوما مجلس ابن ذي النون ، فقدّم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي ، فتهافت جماعة من خواصّه عليها يقصدون التندير فيه ، وجعلوا يكثرون من أكلها ، وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر ، فقال له المأمون : يا قاضي ، أرى هؤلاء يأكلون أذنيك ، فقال : وأنا أيضا آكل عيونهم ، وكشف عن الطبق ، وجعل يأكل منه ، وكان هذا من الاتفاق الغريب.
وكان الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف ، وكيف لا ووالده الوزير أبو جعفر ، وصهره أبو الحسين بن جبير ، وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسين (١) بن الحسن بن الحاسب شيخ هذه الطريقة ، وقد رزق أبو الحسن المذكور فيها ذوقا مع صوت بديع ، أشهى من الكأس للخليع ، قال أبو عمران بن سعيد : ما سمعته إلّا تذكّرت قول الرصافي (٢) : [الكامل]
ومطارح ممّا تجسّ بنانه |
|
لحنا أفاض عليه ماء وقاره |
يثني الحمام فلا يروح لو كره |
|
طربا ورزق بنيه في منقاره |
وكنت أرتاح إلى لقائه ، ارتياح العليل إلى شفائه ، ولم أزل أقرع بابا (٣) بابا ، وأخرق للاتصال حجابا حجابا ، حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه ، وجلست بين يديه ، فحينئذ حرّضه حسبه على الإكرام ، وتلقّى بما أوسع من البشر والسلام ، وقال : ليعلم سيدي أني كنت أودّ الناس في لقائه ، وأحبّهم في إخائه ، والحمد لله الذي جعلني أنشد : [الطويل]
وليس الذي يتّبّع الوبل رائدا |
|
كمن جاءه في داره رائد الوبل (٤) |
ثم قام إلى خزانة ، فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تحبس أوتاره ، وتلحن أشعاره ، واندفع يغنّي دون أن أسأله ذلك ، ولا أتجشّم تكليفه الدخول في تلك المسالك : [الطويل]
وما زلت أرجو في الزمان لقاءكم |
|
فقد يسّر الرحمن ما كنت أرتجي |
__________________
(١) في ب ، ه «ونسخة عند ج : «أبو الحسن بن الحسن بن الحاسب».
(٢) انظر ديوان الرصافي ص ١٠١.
(٣) في ب ، ه : «ولم أزل أقرع بابا فبابا» وفيها «حجابا فحجابا».
(٤) في أ: «وليس الذي يستتبع الوبل رائدا» وقد أثبتنا ما في ب ، ه ، وديوان أبي الطيب المتنبي وهذا من قصيدة له أولها :
كدعواك كل يدعي صحة العقل |
|
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل |
انظر ديوان المتنبي بشرح العكبري ج ٣ ص ٢٩٤.
فذكركم ما زلت أتلوه دائبا |
|
إذا ذكروا ما بين سلمى ومنعج (١) |
فلمّا فرغ من استهلاله وعمله قبّلت رأسه ، وقلت له : لا أدري علام أشكرك قبل ، هل على تعجيلك بما لم تدعني أسألك في شأنه أم على ما تفردت بإحسانه؟ فما هذا الصوت؟ قال : هذا نشيد خسروانيّ من تلحيني ، قال : وأنشدني لنفسه : [الطويل]
حننت إلى صوت النواعير سحرة |
|
فأضحى فؤادي لا يقرّ ولا يهدا |
وفاضت دموعي مثل فيض دموعها |
|
أطارحها تلك الصبابة والوجدا |
وزاد غرامي حين أكثر عاذلي |
|
فقلت له أقصر ولا تقدح الزّندا |
أهيم بهم في كلّ واد صبابة |
|
وأزداد مع طول البعاد لهم ودّا |
وأنشدني لنفسه : [الكامل]
ولقد مررت على المنازل بعدهم |
|
أبكي وأسأل عنهم وأنوح |
وأقول إن سألوا بحالي في النوى |
|
ما حال جسم فارقته الروح |
قال : وكتب إليّ : [البسيط]
يا حسرة ما قضت من لذّة وطرا |
|
أين الزمان الذي يرجى به الخلف (٢) |
أبكيك ملء جفوني ثم يرجعني |
|
إلى التصبّر أني سوف أنصرف |
قال أبو عمران : وكنت في أيام الفتنة إذا ركنت إلى الآمال ، هونت على نفسي ما ألقى من أهوالها بقولي مع خاطري قوله :
أين الزمان الذي يرجى به الخلف
انتهى.
وكان أبو الحسين علي بن الحمارة (٣) ممّن برع في الألحان وعلمها ، وهو من أهل غرناطة ، واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشّعراء (٤) ، فيقطع العود بيده ، ثم يصنع منه عودا
__________________
(١) يشير إلى قول الشاعر :
أحب بلاد الله ما بين منعج |
|
إلي وسلمى أن يصوب سحابها |
بلاد بها حل الشباب تمائمي |
|
وأول أرض مسّ جلدي ترابها |
(٢) الوطر : الحاجة.
(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ١٢٠.
(٤) الشّعراء : الشجر.
للغناء ، وينظم الشعر ويلحنه ، ويغني به ، فيطرب سامعيه ، ومن شعره قوله : [الطويل]
إذا ظنّ وكرا مقلتي طائر الكرى |
|
رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل |
وقال بعض العلماء في حقّه : إنه آخر فلاسفة الأندلس ، قال : وأعجب ما وقع له في الشعر أنه دخل سلا وقد فرغ ابن عشرة من بناء قصره ، والشعراء تنشده في ذلك ، فارتجل ابن الحمارة هذين البيتين ، وأنشدهما بعدهم : [البسيط]
يا واحد الناس قد شيّدت واحدة |
|
فحلّ فيها محلّ الشمس في الحمل (١) |
فما كدارك في الدنيا لذي أمل |
|
ولا كدارك في الأخرى لذي عمل |
وسيأتي ذكر هذين البيتين.
وكان أهل الأندلس في غاية الاستحضار للمسائل العلمية على البديهة ، قال ابن مسدي :
أملى علينا ابن المناصف النحوي بدانية على قول سيبويه «هذا باب ما الكلم من العربية» عشرين كراسا ، بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجها ، انتهى ..
وهذا وأشباهه يكفيك في تبحّر أهل الأندلس في العلم ، وربما سئل العالم منهم عن المسألة التي يحتاج في جوابها إلى مطالعة ونظر ، فلم يحتج إلى ذلك ، ويذكر من فكره ما لا يحتاج معه إلى زيادة.
ومن الحكايات في مثل ذلك أنّ الأديب البليغ الحافظ أبا بكر بن حبيش لمّا قال في تخميسه المشهور : [الطويل]
بماذا على كلّ من الحقّ أوجبت
اعترض عليه أبو زكريا اليفرني بما نصّه : استعمل المخمّس «ما ذا» في البيت تكثيرا وخبرا ، والمعروف من كلام العرب استعمالها استفهاما ، فجاوبه بقوله : أمّا استعمالها استفهاما كما قال فكثير ، لا يحتاج إلى شاهد ، وأمّا استعمالها في ألسن فصحاء العرب للكثرة فكثير لا يحتاج إلى شاهد لو وصل بحث ، واستعمل مكث ، فلم يعترض عليّ ولي ، ولا تشكّك في جلي : [الوافر]
وليس يصحّ في الأفهام شيء |
|
إذا احتاج النهار إلى دليل |
قال الله تعالى في سورة يونس (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ
__________________
(١) الحمل : برج من أبراج السماء.
عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)) [سورة يونس ، الآية : ١٠١] ووقع في صحيح البخاري في رثاء المقتولين من المشركين يوم بدر : [الوافر]
وما ذا بالقليب قليب بدر |
|
من الفتيان والشّرب الكرام (١) |
وما ذا بالقليب قليب بدر |
|
من الشّيزى تكلّل بالسنام (٢) |
وفي السّير في رثاء المذكورين أيضا : [مجزوء الكامل]
ما ذا ببدر فالعقن |
|
قل من مرازبة جحاجح |
وهذا الشعر لأميّة بن أبي الصّلت الثقفي ، ووقع في الأغاني للوليد بن يزيد يرثي نديما له يعرف بابن الطويل (٣) : [مجزوء الكامل]
لله قبر ضمّنت |
|
فيه عظام ابن الطويل |
ما ذا تضمّن إذ ثوى |
|
فيه من الرأي الأصيل |
والخبر طويل ، وأجلى من هذا وأعلى ، وأحقّ بكل تقديم وأولى ، ولكن الواو لا تفيد رتبة ، ولا تتضمّن نسبة ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ذا أنزل الليلة من الفتن» وهو في الصحاح ، ووقع في الحماسة ، وقد أجمعوا على الاستشهاد بكل ما فيها : [الكامل]
ما ذا أجال وثيرة بن سماك |
|
من دمع باكية عليه وباك (٤) |
وفي الحماسة ، أيضا وأظنّها لأبي دهبل (٥) : [البسيط]
ما ذا رزئنا غداة الحلّ من زمع |
|
عند التفرّق من خيم ومن كرم |
ووقع في نوادر القالي لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار : [الطويل]
هوت أمّه ما يبعث الصبح غاديا |
|
وما ذا يردّ الليل حين يؤوب |
ووقع في شعر الخنساء ترثي أخاها صخرا : [الطويل]
__________________
(١) القليب : البئر. والشّرب : الجماعة يشاربون.
(٢) الشيزى : جفان تصنع من الخشب.
(٣) انظر ديوانه ص ٥٨.
(٤) في ه : «ما ذا أحال وتيرة بن سماك» وما أثبتناه موافق لما في أ، ب ، ج. وكذلك ورد في الحماسة. وقال التبريزي «قال أبو العلاء : يروى وثيرة ـ بالثاء ـ وهو من قولهم : فراش وثير ، ويروى وتيرة ـ بالتاء». (انظر شرح التبريزي ج ٢ ص ٣٩٣) تحقيق محيي الدين عبد الحميد.
(٥) هذا البيت لأبي دهبل ، كما ورد في الحماسة.
ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به |
|
إلى القبر ما ذا يحملون إلى القبر |
وما ذا يواري القبر تحت ترابه |
|
من الجود في بؤسى الحوادث والدهر (١) |
ولجرير وهو في الحماسة (٢) : [الكامل]
إن الذين غدوا بلبّك غادروا |
|
وشلا بعينك لا يزال معينا (٣) |
غيّضن من عبراتهن وقلن لي |
|
ما ذا لقيت من الهوى ولقينا |
وفي الحماسة أيضا : [البسيط]
ما ذا من العبد بين البخل والجود
ووقع في الحماسة أيضا ، وهو لامرأة : [الطويل]
هوت أمّهم ما ذا بهم يوم صرّعوا |
|
بجيشان من أسباب مجد تصرّما |
أرادت ما ذا تصرّم لهم يوم صرّعوا بجيشان من أسباب مجد تصرّما.
ومما يستظهر به قول أبي الطيب المتنبي : [البسيط]
ما ذا لقيت من الدنيا وأعجبها |
|
أنّي بما أنا باك منه محسود |
وقوله أيضا : [المتقارب]
وما ذا بمصر من المضحكات |
|
ولكنه ضحك كالبكا |
ومن ملح المتأخرين : كان بمرسية أبو جعفر المذكور في المطمح ، وكان يلقّب بالبقيرة ، فقال فيه بعض أهل عصره : [البسيط]
قالوا البقيرة يهجونا فقلت لهم |
|
ما ذا دهيت به حتى من البقر |
هذا وليس بثور بل هو ابنته |
|
وأين منزلة الأنثى من الذّكر |
وأنشد صاحب الزهر ، ولا أذكر قائله : [البسيط]
ما ذا لقيت من المستعربين ومن |
|
قياس قولهم هذا الذي ابتدعوا |
إن قلت قافية بكرا يكون لها |
|
معنى يخالف ما قالوا وما وضعوا |
__________________
(١) في ه : «من بؤس الحوادث والدهر».
(٢) انظر ديوان جرير ص ٤٧٦.
(٣) الوشل : القليل من الدمع.