الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٤
كان عنواه ، فنزل من القصر بالقسر ، إلى قبضة الأسر ، فقيد للحين ، وحان له يوم شرّ ما ظنّ أنه يحين ، ولمّا قيّدت قدماه ، وذهبت عنه رقّة الكبل ورحماه ، قال يخاطبه : [الطويل]
إليك فلو كانت قيودك أسعرت |
|
تضرّم منها كلّ كفّ ومعصم (١) |
مخافة من كان الرجال بسيبه |
|
ومن سيفه في جنّة أو جهنم (٢) |
ولما آلمه عضّه ، ولازمه كسره ورضّه ، وأوهاه ثقله ، وأعياه نقله ، قال : [المتقارب]
تبدلت من عزّ ظلّ البنود |
|
بذلّ الحديد وثقل القيود |
وكان حديدي سنانا ذليقا |
|
وعضبا رقيقا صقيل الحديد |
فقد صار ذاك وذا أدهما |
|
يعضّ بساقيّ عضّ الأسود |
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت (٣) ، وضمّتهم جوانحها كأنهم أموات ، بعد ما ضاق عنهم القصر ، وراق منهم العصر ، والناس قد حشروا بضفتي الوادي ، وبكوا بدموع كالغوادي ، فساروا والنّوح يحدوهم ، والبوح باللوعة لا يعدوهم ، وفي ذلك يقول ابن اللّبّانة : [البسيط]
تبكي السماء بمزن رائح غاد |
|
على البهاليل من أبناء عبّاد (٤) |
على الجبال التي هدّت قواعدها |
|
وكانت الأرض منها ذات أوتاد |
عرّيسة دخلتها النائبات على |
|
أساود لهم فيها وآساد (٥) |
وكعبة كانت الآمال تخدمها |
|
فاليوم لا عاكف فيها ولا باد |
يا ضيف ، أقفر بيت المكرمات فخذ |
|
في ضمّ رحلك واجمع فضلة الزاد |
ويا مؤمّل واديهم ليسكنه |
|
خفّ القطين وجفّ الزرع بالوادي (٦) |
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت |
|
تختال في عدد منهم وأعداد |
ألق السلاح وخلّ المشرفيّ فقد |
|
أصبحت في لهوات الضيغم العادي |
__________________
(١) تضرّم : التهب واشتعل.
(٢) السيب : العطاء.
(٣) الجواري المنشآت : السفن.
(٤) البهاليل : جمع بهلول ، وهو السيد الجامع لصفات الخير.
(٥) العريسة : مأوى الأسد. والأساود : جمع أسود ، وهو الحية العظيمة. والآساد : الأسود.
(٦) خف القطين : ارتحل القاطن مسرعا.
لما دنا الوقت لم تخلف له عدة |
|
وكلّ شيء لميقات وميعاد (١) |
إن يخلعوا فبنوا العباس قد خلعوا |
|
وقد خلت قبل حمص أرض بغداد (٢) |
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا |
|
سيقوا على نسق في حبل مقتاد |
وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا |
|
فويق دهم لتلك الخيل أنداد |
وعيث في كلّ طوق من دروعهم |
|
فصيغ منهنّ أغلال لأجياد |
نسيت إلّا غداة النهر كونهم |
|
في المنشآت كأموات بألحاد |
والناس قد ملؤوا العبرين واعتبروا |
|
من لؤلؤ طافيات فوق أزباد |
حطّ القناع فلم تستر مخدّرة |
|
ومزّقت أوجه تمزيق أبراد |
حان الوداع فضجّت كلّ صارخة |
|
وصارخ من مفدّاة ومن فاد (٣) |
سارت سفائنهم والنّوح يصحبها |
|
كأنها إبل يحدو بها الحادي (٤) |
كم سال في الماء من دمع وكم حملت |
|
تلك القطائع من قطعات أكباد |
انتهى ما قصد جلبه من كلام الفتح رحمه الله تعالى وسامحه!
وقال ابن اللبانة في كتاب «نظم السلوك ، في مواعظ الملوك ، في أخبار الدولة العبادية» إنّ طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه ، فأعلم باعتقادها ، وكشف له عن مرادها ، وحضّ على هتك حرمها ، وأغري بسفك دمها ، فأبى ذلك مجده الأثيل ، ومذهبه الجميل ، وما خصّه الله تعالى به من حسن اليقين ، وصحّة الدين ، إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر (٥) ، وقاموا بجمع غير مستبصر ، فبرز من قصره ، متلافيا لأمره ، عليه غلالة ترفّ على جسده ، وسيفه يتلظّى في يده : [الوافر]
كأن السيف راق وراع حتى |
|
كأنّ عليه شيمة منتضيه |
كأنّ الموت أودع فيه سرّا |
|
ليرفعه إلى يوم كريه |
فلقي على باب من أبواب المدينة فارسا مشهورا بنجدة ، فرماه الفارس برمح التوى على
__________________
(١) في ب ، ه : «لميقات وميعاد».
(٢) حمص : هنا إشبيلية.
(٣) في أ: «من مغدّات». وهو خطأ. والتصويب من ب.
(٤) الحادي : سائق الإبل.
(٥) أراد بضعيف يتصنع القوة ، وقد استفاد من المثل «إن البغاث بأرضنا تستنسر».
غلالته ، وعصمه الله تعالى منه ، وصبّ هو سيفه على عاتق الفارس ، فشقّه إلى أضلاعه ، فخرّ صريعا سريعا ، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها ، وبعد ما أمسكوا الأبواب تخلّوا عنها ، وأخذوا على غير طريق ، وهوت بهم ريح الهيبة في مكان سحيق ، فظننّا أنّ البلد من أقذائه قد صفا ، وثوب العصمة عليه قد ضفا ، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب فعظم الخطب في الأمر الواقع (١) ، واتّسع الخرق فيه على الراقع ، ودخل البلد من جهة واديه ، وأصيب حاضره بعادية باديه ، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه ، وتراميه على الموت بنفسه ، ما لا مزيد عليه ، ولا انتهى خلق إليه ، فشنّت الغارة في البلد ، ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد ، وخرج الناس من منازلهم ، يسترون عوراتهم بأناملهم ، وكشفت وجوه المخدّرات العذارى ، ورأيت الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ورحل بالمعتمد وآله ، بعد استئصال جميع ماله ، لم يصحب معه بلغة زاد ، ولا بغية مراد ، فأمضيت عزيمتي في اتّباعه ، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنقذه الله منه ، فذكرت به شعرا كان لي في صديق اتّفق له مثل ذلك في الشهر بعينه من العام الماضي ، وهو الأمير أبو عبد الله بن الصفار ، وهو : [الخفيف]
لم تقل في الثقاف كان ثقافا |
|
كنت قلبا به وكان شغافا (٢) |
يمكث الزهر في الكمام ولكن |
|
بعد مكث الكمام يدنو قطافا |
وإذا ما الهلال غاب لغيم |
|
لم يكن ذلك المغيب انكسافا (٣) |
إنما أنت درّة للمعالي |
|
ركّب الدهر فوقها أصدافا |
حجب البيت منك شخصا كريما |
|
مثل ما تحجب الدنان السلافا (٤) |
أنت للفضل كعبة ولو اني |
|
كنت أسطيع لا ستطعت الطوافا |
قال أبو بكر : وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذّ من غفلات الرقيب ، وأشهى من رشفات الحبيب ، وأدلّ على السماح ، من فجر على صباح ، انتهى.
ثم قال : ولمّا خلع المعتمد وذهب إلى أغمات طلب من حواء بنت تاشفين خباء عارية ، فاعتذرت بأنه ليس عندها خباء ، فقال : [المتقارب]
__________________
(١) في ب ، ه : «معظم الأمر في الخطب الواقع».
(٢) في ب : «ولم نقل في الثقاف كان ثقافا». وفي ه : «لم أقل في الثقاف كان ثقافا».
(٣) في ب ، ه : «وإذا ما الهلال غاب بغيم».
(٤) الدنان : براميل الخمر. والسلاف : الخمر.
هم أوقدوا بين جفنيك نارا |
|
أطالوا بها في حشاك استعارا (١) |
أما يخجل المجد أن زودوك |
|
ولم يصحبوك خباء معارا (٢) |
فقد قنّعوا المجد إن كان ذاك |
|
وحاشاهم خزيا وعارا |
يقلّ لعينيك أن يجعلوا |
|
سواد العيون عليكم شعارا |
ثم إنه بقي مأسورا بأغمات إلى سنة ٤٨٦ ، فأخذ بمالقة رجل كبير يعرف بابن خلف ، فسجن مع أصحاب له ، فنقبوا السجن وذهبوا إلى حصن منت ميور ليلا فأخرجوا قائدها ، ولم يضروه ، وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل ، فسألوه فإذا هو عبد الجبار بن المعتمد ، فولوه على أنفسهم ، وظنّ الناس أنه الراضي ، فبقي في الحصن ، ثم أقبل مركب من الغرب يعرف بمركب ابن الزرقاء ، فانكسر بمرسى الشجرة قريبا من الحصن ، فأخذوا بنوده وطبوله وما فيه من طعام وعدة فاتّسعت بذلك حالتهم ، ثم وصلت أم عبد الجبار إليه ، ثم خاطبه أهل الجزيرة وأهل أركش فدخلها سنة ٤٨٨ ، ولمّا بلغ خبر عبد الجبار إلى ابن تاشفين أمر بثقاف المعتمد في الحديد ، وفي ذلك يقول : [السريع]
قيدي أما تعلمني مسلما |
|
أبيت أن تشفق أو ترحما |
يبصرني فيك أبو هاشم |
|
فينثني القلب وقد هشّما |
وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة ٤٨٨.
وقد ساق الفتح قضية ثورة عبد الجبار بن المعتمد بعبارته البارعة فقال (٣) : وأقام بالعدوة برهة لا يروّع له سرب وإن لم يكن آمنا ، ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامنا ، إلى أن ثار أحد بنيه بأركش ـ معقل كان مجاورا لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح ، ظاهر على بسائط وبطاح ـ لا يمكن معه عيش ، ولا يتمكن من منازلته جيش ، فغدا على أهلها بالمكاره وراح ، وضيّق عليهم المتسع من جهاتها والبراح ، فسار نحوه الأمير سير بن أبي بكر ، رحمة الله عليه ، قبل أن يرتدّ طرف استقامته إليه ، فوجده وشرّه قد تشمّر ، وصرده قد تنمّر (٤) ، وجمره متسعر ، وأمره متوعر ،
__________________
(١) في ب ، ه : «هم أوقدوا بين جنبيك نارا».
واستعارا : شدة اشتعال.
(٢) في ب ، ه : «أما يخجل المجد أن يرحلوك».
(٣) انظر القلائد ص ٢٥.
(٤) الصّرد : طائر أكبر من العصفور ، أبيض البطن أخضر الظهر ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات.
وتنمر : أصبح كالنمر. وقد جاء في ب ، ه : «وضره قد تنمر».
فنزل عدوته ، وحلّ للحزم حبوته ، وتدارك داءه قبل إعضاله ، ونازله وما أعدّ آلات نضاله ، وانحشدت إليه الجيوش من كل قطر ، وأفرغ من مسالكه كلّ قطر ، فبقي محصورا لا يشدّ إليه إلّا سهم ، ولا ينفذ عنه إلّا نفس أو وهم ، وامتسك شهورا حتى عرضه أحد الرماة بسهم فرماه ، فأصماه ، فهوى في مطلعه ، وخرّ قتيلا في موضعه ، فدفن إلى جانب سريره ، وأمن عاقبة تغريره ، وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتدّ عليهم الحصر ، وارتدّ عنهم النصر ، وعمّهم الجوع ، وأغبّ أجفانهم الهجوع (١) فنزلت منهم طائفة متهافتة ، وولّت بأنفاس خافتة ، فتبعهم من بقي ، ورغب في التنعم من شقي ، فوصلوا إلى قبضة الملمات ، وحصلوا في غصّة الممات ، فوسمهم الحيف ، وتقسّمهم السيف ، ولمّا زأر الشّبل خيفت سورة الأسد ، ولم يرج صلاح الكلّ والبعض قد فسد ، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها ، وأحلّ ساحة الخطوب وفناءها ، وحين أركبوه أساودا ، وأورثوه حزنا بات له معاودا ، قال : [الكامل]
غنّتك أغماتية الألحان |
|
ثقلت على الأرواح والأبدان |
قد كان كالثعبان رمحك في الورى |
|
فغدا عليك القيد كالثعبان (٢) |
متمرّدا يحميك كلّ تمرّد |
|
متعطّفا لا رحمة للعاني (٣) |
قلبي إلى الرحمن يشكو بثّه |
|
ما خاب من يشكو إلى الرحمن |
يا سائلا عن شأنه ومكانه |
|
ما كان أغنى شأنه عن شان |
هاتيك قينته وذلك قصره |
|
من بعد أيّ مقاصر وقيان |
ولما فقد من كان (٤) يجالسه ، وبعد عنه من كان يؤانسه ، وتمادى كربه ، ولم تسالمه حربه ، قال : [الطويل]
تؤمّل للنفس الشجية فرجة |
|
وتأبى الخطوب السود إلّا تماديا |
لياليك في زاهيك أصفى صحبتها |
|
كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا |
نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ |
|
وبعد هما نسخ المنايا الأمانيا |
ولمّا امتدت في الثّقاف مدته ، واشتدّت عليه قسوة الكبل وشدّته ، وأقلقته همومه ، وأطبقته غمومه ، وتوالت عليه الشجون ، وطالت لياليه الجون ، قال : [البسيط]
__________________
(١) أغب أجفانهم الهجوع : أي زارهم يوما وتركهم يوما.
(٢) في ج : «قد كان كالثعبان قيدك في الورى».
(٣) في ج ، ونسخة عند ه : «متمددا بجذاك كل تمدد» وليس بشيء.
(٤) كلمة «كان» ساقطة من ب.
أنباء أسرك قد طبّقن آفاقا |
|
بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا |
سرت من الغرب لا تطوى لها قدم |
|
حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا |
فأحرق الفجع أكبادا وأفئدة |
|
وأغرق الدمع آماقا وأحداقا |
قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها |
|
وقيل : إنّ عليك القيد قد ضاقا |
أنّى غلبت وكنت الدهر ذا غلب |
|
للغالبين وللسّبّاق سبّاقا |
قلت الخطوب أذلّتني طوارقها |
|
وكان غربي إلى الأعداء طرّاقا |
متى رأيت صروف الدهر تاركة |
|
إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا |
وقال لي من أثقه : لمّا ثار ابنه حيث ثار ، وأثار من حقد أمير المسلمين عليه ما أثار ، جزع جزعا مفرطا ، وعلم أنه قد صار في أنشوطة (١) الشرّ متورّطا ، وجعل يتشكّى من فعله ويتظلّم ، ويتوجّع منه ويتألّم ، ويقول : عرض بي للمحن ، ورضي لي أن أمتحن ، وو الله ما أبكي إلّا انكشاف من أتخلّفه بعدي ، ويتحيّفه بعدي (٢) ، ثم أطرف ورفع رأسه وقد تهللت أسرّته ، وظللته مسرّته ، ورأيته قد استجمع ، وتشوّف إلى السماء وتطلّع ، فعلمت أنه قد رجا عودة إلى سلطانه ، وأوبة إلى أوطانه ، فما كان إلّا بمقدار ما تنداح دائرة ، أو تلتفت مقلة حائرة ، حتى قال: [المتقارب]
كذا يهلك السيف في جفنه |
|
إلى هزّ كفّي طويل الحنين |
كذا يعطش الرمح لم أعتقله |
|
ولم تروه من نجيع يميني |
كذا يمنع الطّرف علك الشك |
|
يم مرتقبا غرّة في كمين |
كأنّ الفوارس فيه ليوث |
|
تراعي فرائسها في عرين |
ألا شرف يرحم المشرفيّ |
|
ممّا به من شمات الوتين (٣) |
ألا كرم ينعش السّمهريّ |
|
ويشفيه من كل داء دفين |
ألا حنّة لابن محنيّة |
|
شديد الحنين ضعيف الأنين |
يؤمّل من صدرها ضمّة |
|
تبوّئه صدر كفر معين (٤) |
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا ، وانتظموا في سلك الطغيان واتّسقوا ،
__________________
(١) الأنشوطة : العقدة التي يسهل حلها.
(٢) يتحيفه : ينقصه ويأخذ من أطرافه.
(٣) في ج : «مما به من سمات الوتين».
(٤) في ج : «تبوئه صدر كفؤ معين». وفي ه : «تبوئه صدر كبير معين».
ومنعوا جفون أهلها السّنات ، وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات ، وتلقّبوا بالإمارة ، وأركبوا السوء نفوسهم الأمّارة ، حتى كادت أن تقفر على أيديهم ، وتدثر رسومها بإفراط تعدّيهم ، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه تعالى أمرهم ، وأطفأ جمرهم ، وأوجعهم ضربا ، وأقطعهم ما شاء حزنا وكربا ، وسجنهم بأغمات ، وضمّتهم جوانح الملمّات ، والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك ، وكانت فيهم طائفة شعرية ، مذنبة أو بريّة (١) ، فرغبوا إلى سجّانهم ، أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم ، فخلّى ما بينهم وبينه ، وغمض لهم في ذلك عينه ، فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلّى بمجالستهم ، ويجد أثر مؤانستهم ، ويستريح إليهم بجواه ، ويبوح لهم بسرّه ونجواه ، إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم ، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم ، وبقي المعتمد في محبسه يشتكي من ضيق الكبل ، ويبكي بدمع كالوبل ، فدخلوا عليه مودعين ، ومن بثّه متوجّعين ، فقال : [الطويل]
أما لانسكاب الدمع في الخدّ راحة |
|
لقد آن أن يفنى ، ويفنى به الخدّ |
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلى |
|
بما منه قد عافاكم الصّمد الفرد |
تخلّصتم من سجن أغمات والتوت |
|
عليّ قيود لم يحن فكّها بعد |
من الدّهم أمّا خلقها فأساود |
|
تلوّى وأما الأيد والبطش فالأسد (٢) |
فهنيتم النعما ، ودامت لكلكم |
|
سعادته إن كان قد خانني سعد |
خرجتم جماعات وخلّفت واحدا |
|
ولله في أمري وأمركم الحمد |
ومرّ عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح ، ولا تعلّق بها من الأيام جناح ، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك (٣) ، ولا أعوزها البشام ولا الأراك ، وهي تمرح في الجو ، وتسرح في مواقع النو ، فتنكّد بما هو فيه من الوثاق ، وما دون أحبّته من الرقباء والأغلاق ، وما يقاسيه من كبله ، ويعانيه من وجده وخبله ، وفكّر في بناته وافتقارهنّ إلى نعيم عهدنه ، وحبور حضرنه وشهدنه ، فقال : [الطويل]
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي |
|
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل |
ولم تك ، والله المعيد ، حسادة |
|
ولكن حنينا أنّ شكلي لها شكل (٤) |
__________________
(١) برية : أي بريئة ، سهلت الهمزة بقلبها ياء ثم أدغمت في الياء.
(٢) الأيد : القوة.
(٣) الأشراك : جمع شرك ، وهو الفخ.
(٤) في ب : «والله المعيذ».
فأسرح لا شملي صديع ولا الحشا |
|
وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل |
هنيئا لها إذ لم يفرّق جميعها |
|
ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل (١) |
|
||
وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها |
|
إذا اهتزّ باب السجن أو صلصل القفل |
وما ذاك ممّا يعتريه ، وإنما |
|
وصفت التي في جبلة الخلق من قبل |
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوّف |
|
سواي يحبّ العيش في ساقه حجل (٢) |
ألا عصم الله القطا في فراخها |
|
فإنّ فراخي خانها الماء والظّلّ |
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر بن اللّبّانة ، وهو أحد شعراء دولته المرتضين دررها ، المنتجعين دررها ، وكان المعتمد رحمه الله تعالى يميزه بالشفوف والإحسان ، ويجوّزه على فرسان هذا الشأن ، فلمّا رآه وحلقات الكبل قد عضّت بساقيه عضّ الأسود ، والتوت عليه التواء الأساود السود ، وهو لا يطيق إعمال قدم ، ولا يريق دمعا إلّا ممزوجا بدم ، بعد ما عهده فوق منبر وسرير ، ووسط جنّة وحرير ، وتخفق عليه الألوية ، وتشرق منه الأندية ، وتكف الأمطار من راحته ، وتشرف الأقدار (٣) بحلول ساحته ، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه ، ويقصر النّسر أن يقارنه أو يضاهيه ، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد ، ويثير فيها لوعة الحارث بن عبّاد (٤) ، أبدع من أناشيد معبد (٥) ، وأصدع للكبد من مراثي أربد (٦) ، أو بكاء ذي الرمة بالمربد (٧) ، سلك فيها للاحتفاء طريقا لاحبا ، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبا ، فمن ذلك قوله : [البسيط]
انفض يديك من الدنيا وساكنها |
|
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا |
وقل لعالمها السفليّ قد كتمت |
|
سريرة العالم العلويّ أغمات |
طوت مظلّتها لا بل مذلّتها |
|
من لم تزل فوقه للعزّ رايات |
__________________
(١) في ب ، ه : «هنيئا لها أن لم يفرق جميعها».
(٢) في ب : «في ساقه كبل».
(٣) في ه : «وتشرق الأقدار».
(٤) الحارث بن عباد : هو فارس النعامة الذي اعتزل حرب البسوس إلى أن قتل المهلهل ابنه فاستشاط غضبا واقتحم الحرب.
(٥) معبد : مغنّ مشهور.
(٦) أربد : أخو لبيد بن ربيعة. اجتاحته صاعقة فبكاه لبيد في مرات كثيرة.
(٧) المربد : مكان بالبصرة كان الشعراء ينشدون فيه أشعارهم.
من كان بين الندى والبأس أنصله |
|
هنديّة وعطاياه هنيدات |
رماه من حيث لم تستره سابغة |
|
دهر مصيباته نبل مصيبات |
أنكرت إلّا التواءات القيود به |
|
وكيف تنكر في الروضات حيات |
غلطت بين همايين عقدن له |
|
وبينها فإذا الأنواع أشتات |
وقلت هنّ ذؤابات فلم عكست |
|
من رأسه نحو رجليه الذؤابات |
حسبتها من قناه أو أعنّته |
|
إذا بها لثقاف المجد آلات |
دروه ليثا فخافوا منه عادية |
|
عذرتهم ، فلعدو الليث عادات |
لو كان يفرج عنه بعض آونة |
|
قامت بدعوته حتى الجمادات |
بحر محيط عهدناه تجيء له |
|
كنقطة الدارة السبع المحيطات |
لهفي على آل عبّاد فإنّهم |
|
أهلّة مالها في الأفق هالات |
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة |
|
كانت لنا بكر فيها وروحات |
أرض كأنّ على أقطارها سرجا |
|
قد أوقدتهنّ بالأدهان أنبات |
وفوق شاطىء واديها رياض ربا |
|
قد ظلّلتها من الأنشام دوحات |
كأنّ واديها سلك بلبّتها |
|
وغاية الحسن أسلاك ولبّات |
نهر شربت بعبريه على صور |
|
كانت لها فيّ قبل الراح سورات (١) |
وربما كنت أسمو للخليج به |
|
وفي الخليج لأهل الراح راحات |
وبالغروسات لا جفّت منابتها |
|
من النعيم غروسات جنيّات |
ولم تزل كبده تتوقّد بالزفرات ، وخلده يتردّد بين النكبات والعثرات ، ونفسه تتقسّم بين الأشجان والحسرات ، إلى أن شفته منيّته ، وجاءته بها أمنيته ، فدفن بأغمات ، وأريح من تلك الأزمات : [الوافر]
وعطّلت المآثر من حلاها |
|
وأفردت المفاخر من علاها |
ورفعت مكارم الأخلاق ، وكسدت نفائس الأعلاق ، وصار أمره عبرة في عصره ، وصاب أندى عبرة في مصره (٢). وبعد أيام وافى أبو بحر بن عبد الصمد شاعره المتّصل به ، المتوصّل إلى المنى بسببه ، فلمّا كان يوم العيد وانتشر الناس ضحى ، وظهر كمل متوار وضحا ، قام على
__________________
(١) في ج : «كانت لها من قبيل الراح سورات» والسّورة : الشدة والحدة.
(٢) صاب : أسال. وأندى عبرة : أي أكثر دمعة. ووقع في ه : وصاب أبدا عبرة في مصره» تحريف.
قبره عند انفصالهم من مصلاهم ، واختيالهم بزينتهم حلاهم ، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه ، وخرّ على تربه ولثمه : [الكامل]
ملك الملوك ، أسامع فأنادي |
|
أم قد عدتك عن السماع عوادي |
لمّا خلت منك القصور فلم تكن |
|
فيها كما قد كنت في الأعياد |
قبّلت من هذا الثرى لك خاضعا |
|
وتخذت قبرك موضع الإنشاد (١) |
وهي قصيدة أطال إنشادها ، وبنى بها اللواعج وشادها ، فانحشر الناس إليه وانحفلوا ، وبكوا ببكائه وأعولوا ، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج ، مديمين للبكاء والعجيج ، ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم ، وأقرحوا مآقيهم بفيض شؤونهم ، وهذه نهاية كل عيش ، وغاية كل ملك وجيش ، والأيام لا تدع حيّا ، ولا تألو كلّ نشر طيّا ، تطرق رزاياها كل سمع ، وتفرق مناياها كل جمع ، وتصمي كلّ ذي أمر ونهي (٢) ، وترمي كل مشيد بوهي (٣) ، ومن قبله طوت (٤) النعمان ابن الشقيقة ، ولوت مجازه في تلك الحقيقة. انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح ممّا يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مرّ.
وكلام الفتح كلّه الغاية ، وليس الخبر كالعيان ، ولذا قال بعض من عرّف به : إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره ، سامحه الله تعالى!
وأخبار المعتمد رحمه الله تعالى تحتمل مجلّدات ، وآثاره إلى الآن بالغرب مخلّدات ، وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء للصلاة على جنازته «الصّلاة على الغريب» بعد اتّساع ملكه ، وانتظام سلكه ، وحكمه على إشبيلية وأنحائها ، وقرطبة وزهرائها ، وهكذا شأن الدنيا في تدريسها نحو ندبتها وإغرائها.
وقد توجّه لسان الدين الوزير بن الخطيب إلى أغمات لزيارة قبر المعتمد رحمه الله تعالى ، ورأى ذلك من المهمات ، وأنشد على قبره أبياته الشهيرة التي ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرقّ من النسيم ، وأبهج من المحيّا الوسيم.
قلت : وقد زرت أنا قبر المعتمد والرّميكية أمّ أولاده ، حين كنت بمراكش المحروسة عام عشرة وألف ، وعمّي عليّ أمر القبر المذكور ، وسألت عنه من تظن معرفته له ، حتى هداني إليه
__________________
(١) في ب ، ه : «قبلت في هذا الثرى».
(٢) تصمي : تصيب وتقتل.
(٣) الوهي : الشق في كل شيء.
(٤) في ه : «ومن قبله ماطوت النعمان ...».
شيخ طعن في السنّ ، وقال لي : هذا قبر ملك ملوك (١) الأندلس ، وقبر حظيّته التي كان قلبه بحبّها خفّاقا غير مطمئنّ ، فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله تعالى في الأبيات ، وحصلت لي من (٢) ذلك المحلّ خشية وادّكار ، وذهبت بي الأفكار ، في ضروب الآيات ، فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وما أحسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته الشهيرة : [البسيط]
الدهر يفجع بعد العين بالأثر |
|
فما البكاء على الأشباح والصّور |
وهو القائل : [البسيط]
يا نائم اللّيل في فكر الشّباب أفق |
|
فصبح شيبك في أفق النّهى بادي |
غضّت عنانك أيدي الدهر ناسخة |
|
علما بجهل وإصلاحا بإفساد (٣) |
وأسلمت للمنايا آل مسلمة |
|
وعبّدت للرّزايا آل عبّاد (٤) |
لقد هوت منك خانتها قوادمها |
|
بكوكب في سماء المجد وقّاد |
ومنها :
ومالك كان يحمي شول قرطبة |
|
أستغفر الله ، لا ، بل شول بغداد (٥) |
شقّ العلوم نطافا والعلا زهرا |
|
فبين ما بين روّاد ووراد |
وأين هذه القصيدة في مدحهم من قصيدة الغضّ منهم ، وهي قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم بن الحاج اللورقي (٦) : [الطويل]
تعزّ عن الدنيا ومعروف أهلها |
|
إذا عدم المعروف في آل عبّاد |
حللت بهم ضيفا ثلاثة أشهر |
|
بغير قرى ثم ارتحلت بلا زاد |
__________________
(١) في ه : «هذا قبر ملك من ملوك الأندلس».
(٢) في ب ، ه : «في ذلك المحل».
(٣) في أصل ه «عضت عنانك» بالعين المهملة.
(٤) الرزايا : جمع رزية ، وهي المصيبة الشديدة.
(٥) في الأصول : «يحيى» وهو خطأ. والكلام ناظر إلى المثل : الفحل يحمي شوله مفعولا. والشّول : بقية اللبن في الضرع.
(٦) في ب «ابن الحاج».
وهذا يدلك على أن الشعراء ، لم يسلم من لسانهم من أحسن فضلا عمن أساء ، من العظماء والرؤساء ، وما أمدح قول أبي محمد بن (١) غانم فيهم : [الكامل]
ومن الغريب غروب شمس في الثّرى |
|
وضياؤها باق على الآفاق |
وقال في المطمح في حق بني عباد وأوليتهم ما صورته : الوزير أبو القاسم محمد بن عباد ، هذه بقية منتماها في لخم ، ومرتماها إلى مفخر ضخم ، وجدّهم المنذر بن ماء السماء ، ومطلعهم في جوّ (٢) تلك السماء ، وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر ، وتنفس منهم عن أعبق الزهر ، وعمروا ربع الملك ، وأمروا بالحياة والهلك ، ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد ، وتبوّأ كاهل الإرهاب واقتعد ، وافترش من عريسته (٣) ، وافترس من مكايد فريسته ، وزاحم بعود ، وهدّ كل طود (٤) ، وأخمل كل ذي زي وشارة ، وختل بوحي وإشارة ، ومعتمدهم كان أجود الأملاك ، وأحد نيّرات تلك الأفلاك ، وهو القائل ، وقد شغل عن منادمة خواص دولته بمنادمة العقائل : [البسيط]
لقد حننت إلى ما اعتدت من كرم |
|
حنين أرض إلى مستأخر المطر |
فهاتها خلعا أرضي السّماح بها |
|
محفوفة في أكفّ الشّرب بالبدر (٥) |
وهو القائل وقد حنّ في طريقه ، إلى فريقه : [الطويل]
أدار النوى كم طال فيك تلذّذي |
|
وكم عقتني عن دار أهيف أغيد |
حلفت به لو قد تعرض دونه |
|
كماة الأعادي في النسيج المسرّد |
لجرّدت للضرب المهنّد فانقضى |
|
مرادي وعزما مثل حد المهند |
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم ، وبه سفر مجدهم ، وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر ، واختصّهم منه بالحظ الوافر ، فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر ، وأضحى من ظلالها أعيان أكابر ، عندما أناخت بها أطماعهم ، وأصاخت إليها أسماعهم ، وامتدت إليها من مستحقيها اليد ، وأتلعوا أجيادا زانها الجيد ، وفغر عليها فمه حتى هجا بيت العبدي ، وتصدى إليها من تحضر وتبدّى ، فاقتعد سنامها وغاربها ، وأبعد عنها عجمها وأعاربها ، وفاز من الملك
__________________
(١) في ب «أبي محمد غانم».
(٢) في ب «من جوّ ...».
(٣) العريسة ، بكسر العين وتشديد الراء مكسورة : مسكن الأسود.
(٤) الطود : الجبل العظيم المرتفع.
(٥) البدر : جمع بدرة ، وهي كيس توضع فيه كمية من النقود.
بأوفر حصّة ، وغدت سمته به صفة مختصة ، فيما يمح (١) رسم القضاء ، ولم يتّسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء ، وما زال يحمي حوزته ، ويجلو عزته (٢) ، حتى حوته الرجام ، وخلت منه تلك الآجام ، وانتقل الملك إلى ابنه المعتضد ، وحل منه في روض نمّق له ونضد ، ولم يعمر فيه ولم يدم ولاه ، وتسمى بالمعتضد بالله ، وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاه ، لو لا بطش في اقتضاء النفوس كدّر ذلك المنهل ، وعكر أثناء ذلك صفو العل والنّهل (٣) ، وما زال للأرواح قابضا ، وللوثوب عليها رابضا ، يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر ، وينتصف منهم بالدهاء والمكر ، إلى أن أفضى الملك إلى ابنه المعتمد ، فاكتحل منه طرفه الرّمد ، وأحمد مجده ، وتقلد منه أيّ بأس ونجدة ، ونال به الحق مناه ، وجدّد سناه (٤) ، وأقام في الملك ثلاثا وعشرين سنة ، لم تعدم له فيها حسنة ولا سيرة مستحسنة ، إلى أن غلب على سلطانه ، وذهب به من أوطانه ، فنقل ، إلى حيث اعتقل ، وأقام كذلك إلى أن مات ، ووارته تربة أغمات (٥) ، وكان للقاضي جده أدب غض ، ومذهب مبيض ، ونظم يرتجله كل حين ، وينفثه (٦) أعطر من الرياحين ، فمن ذلك قوله يصف النيلوفر : [البسيط]
يا ناظرين لذا النّيلوفر البهج |
|
وطيب مخبره في الفوح والأرج (٧) |
كأنّه جام درّ في تألّقه |
|
قد أحكموا وسطه فصّا من السّبج (٨) |
انتهى المقصود منه.
وهو ـ أعني الفتح ـ يشيد قصور الشرف إذا مدح ، ويهدم معاقلها إذا هجا وقدح.
ومن أغراضه قوله في «المطمح» في حق الأديب أبي جعفر بن البنّي : رافع رايات القريض ، وصاحب آيات التصريح والتعريض ، أقام شرائعه ، وأظهر بدائعه ، إذا نظم أزرى بالعقود ، وأتى بأحسن من رقم البرود ، وكان أليف غلمان ، وحليف كفر لا إيمان ، ما نطق متشرعا ، ولا رمق متورعا ، ولا اعتقد حشرا ، ولا صدق بعثا ولا نشرا ، وربما تنسك مجونا
__________________
(١) في ب «فلم يمح رسم».
(٢) في ب ، ه «ويجلو غرّته».
(٣) في ه «وتصدر أثناء ذلك العل والنهل» وفي المطمح «وتصور».
(٤) في ه «وندى به لحق مناه ، وجزر سنه» وفي ب «وجرّ رسنه».
(٥) في ب ، ه «ووراته بربّة أغمات».
(٦) في ب ، ه «ويبعثه».
(٧) في ه «يا ناظرين ندى النيلوفر».
(٨) الجام : إناء من فضة كالكأس ، والسبج : خرز أسود.
وفتكا ، وتمسك باسم التقى وقد هتكه هتكا ، لا يبالي كيف ذهب ، ولا بم تمذهب ، وكانت له أهاجي جرّع بها صابا (١) ، ودرّع منها أوصابا (٢) ، وقد أثبتّ له ما يرشف (٣) ريقا ، ويشرب تحقيقا (٤) ، فمن ذلك قوله يتغزل : [الكامل]
من لي بغرّة فاتن يختال في |
|
حلل الجمال إذا بدا وحليّه (٥) |
لو شبّ في وضح النّهار شعاعها |
|
ما عاد جنح اللّيل بعد مضيّه (٦) |
شرقت لآلي الحسن حتّى خلّصت |
|
ذهبيّه في الخدّ من فضّيه |
في صفحتيه من الجمال أزاهر |
|
غذيت بوسميّ الحيا ووليّه (٧) |
سلّت محاسنه لقتل محبّه |
|
من سحر عينيه حسام سميّه |
وله فيه : [مجزوء الرمل]
كيف لا يزداد قلبي |
|
من جوى الشوق خبالا |
وإذا قلت عليّ |
|
بهر الناس جمالا |
هو كالغصن وكالبد |
|
ر قواما واعتدالا |
أشرق البدر كمالا |
|
وانثنى الغصن اختيالا |
إنّ من رام سلوّي |
|
عنه قد رام محالا |
لست أسلو عن هواه |
|
كان رشدا أو ضلالا |
قل لمن قصّر فيه |
|
عذل نفسي أو أطالا |
دون أن تدرك هذا |
|
تسلب الأفق الهلالا |
وكنت بميورقة وقد حلها متّسما بالعبادة ، وهو أسرى إلى الفجور من خيال أبي عبادة (٨) ، وقد لبس أسمالا ، ولبّس منه أقوالا وأفعالا ، سجوده هجود ، وإقراره بالله جحود ، وكانت له
__________________
(١) الصاب : شجر مر الطعم ، أو عصارة شجر الصاب.
(٢) الأوصاب : جمع وصب. وهو المرض ، أو الألم الدائم.
(٣) في ب «ما يرتشف».
(٤) في ه «وتلتحف الأيام منه شروقا».
(٥) في ه «إذا مشى وحليه».
(٦) في ب ، ه «لو شمت في وضح النهار شعاعها».
(٧) الوسمي : مطر الربيع الأول. والوليّ : المطر بعد المطر.
(٨) أبو عبادة : هو البحتري الشاعر العباسي المشهور بوصف الخيال وطروقه.
رابطة لم يكن للوازمها مرتبطا ، ولا بسكناها مغتبطا ، سماها بالعقيق وسمى فتى كان يتعشقه بالحمى ، وكان لا يتصرف إلا في صفاته ، ولا يقف إلا بعرفانه ، ولا يؤرقه إلا جواه ، ولا يشوقه (١) إلا هواه ، فإذا بأحد دعاة حبيبه ، ورواة تشبيبه ، قال له : كنت البارحة بحماه ، وذكر له خبرا ورّى به عني وعمّاه ، فقال : [الوافر]
تنفّس بالحمى مطلول أرض |
|
فأودع نشره نشرا شمالا (٢) |
فصبّحت العيون إليّ كسلى |
|
تجرّر فيه أردانا خضالا |
أقول وقد شممت التّرب مسكا |
|
بنفحتها يمينا أو شمالا |
نسيم جاء يبعث منك طيبا |
|
ويشكو من محبّتك اعتلالا |
ولما تقرر عند ناصر الدولة من أمره ما تقرر ، وتردد على سمعه انتهاكه وتكرر ، أخرجه من بلده ونفاه ، وطمس رسم فسقه وعفاه ، فأقلع إلى المشرق وهو جار ، فلما صار من ميورقة على ثلاثة بحار (٣) ، نشأت له ريح صرفته عن وجهته ، إلى فقد مهجته ، فلما لحق بميورقة أراد ناصر الدولة إماحته (٤) ، وأخذ ثار الدين منه وإراحته ، ثم آثر صفحه ، وأخمد ذلك الجمر ولفحه ، وأقام أياما ينتظر ريحا علها تزجيه ، ويستهديها لتخلصه وتنجيه ، وفي أثناء بلوته ، لم يتجاسر أحد على إتيانه من إخوته ، فقال يخاطبهم : [الوافر]
أحبّتنا الألى عتبوا علينا |
|
فأقصرنا وقد أزف الوداع |
لقد كنتم لنا جذلا وأنسا |
|
فهل في العيش بعدكم انتفاع؟ |
أقول وقد صدرنا بعد يوم |
|
أشوق بالسّفينة أم نزاع |
إذا طارت بنا حامت عليكم |
|
كأنّ قلوبنا فيها شراع |
وله يتغزل : [الوافر]
بني العرب الصّميم ألا رعيتم |
|
مآثركم بآثار السّماح |
رفعتم ناركم فعشا إليها |
|
بوهن فارس الحيّ الوقاح |
فهل في القعب فضل تنضحوه |
|
به من مخض ألبان اللّقاح (٥) |
__________________
(١) في أصل ه «ولا يشرقه».
(٢) في ه «مطول روضى». وفيها «فأودع رسمه ريحا شمالا».
(٣) في ب ، ه «على ثلاثة مجار». وفي ب «فلما صار من ميورقة على ثلاثة مجار ...».
(٤) في أصل ه «إباحته».
(٥) في ه «فهل في العقب» وفيها «ومن محض ألبان اللقاح».
لعلّ الرّسل شائبة الثّنايا |
|
بشهد من ندى نور الأقاح (١) |
وله أيضا [الكامل] :
وكأنّما رشأ الحمى لمّا بدا |
|
لك في مضلّعة الحديد المعلم |
غصب الغمام قسيّه فأراكها |
|
من حسن معطفه قويم الأسهم |
وله أيضا : [الطويل]
نظرت إليه فاتّقاني بمقلة |
|
تردّ إلى نحري صدور رماح |
حميت الجفون النّوم يا رشأ الحمى |
|
وأظلمت أيّامي وأنت صباحي |
وقال : [البسيط]
قالوا تصيب طيور الجوّ أسهمه |
|
إذا رماها فقلنا عندنا الخبر |
تعلّمت قوسها من قوس حاجبه |
|
وأيّد السّهم من ألحاظه الحور |
يروح في بردة كالنّقس حالكة |
|
كما أضاء بجنح اللّيلة القمر (٢) |
وربّما راق في خضراء مورقة |
|
كما تفتّح في أوراقه الزّهر |
وقال في ترجمة أبي الحسن بن لسان (٣) : شاعر سمح ، متقلد بالإحسان متشح ، أمّ الملوك والرؤساء ، ويمّم تلك السعادة (٤) القعساء ، فانتجع مواقع خيرهم ، واقتطع ما شاء من ميرهم (٥) ، وتمادت أيامه إلى هذا الأوان ، فجالت به في ميدان الهوان ، فكسد نفاقه ، وارتدت آفاقه ، وتوالى عليه حرمانه وإخفاقه ، وأدركته وقد خبنته سنونه ، وانتظرته منونه ، ومحاسنه كعهدها في الاتقاد ، وبعدها من الانتقاد ، وقد أثبتّ منها ما يعذب جنى وقطافا ، ويستعذب استنزالا واستلطافا ، فمن ذلك قوله يستنجد الأمير الأجل أبا إسحاق ابن أمير المسلمين [الكامل].
قل للأمير ابن الأمير بل الّذي |
|
أبدا به في المكرمات وفي النّدى (٦) |
__________________
(١) في ب «لعل الرسل شابته الثنايا».
(٢) في ه «يروح في بردة كالنفس حالكة» محرفا ، والنقس : الحبر.
(٣) في ج «وفي ترجمة ابن اللبانة : أبو الحسن إلخ». وفي ب «أبي الحسن بن لبال». وقد أثبتنا ما في ه.
والمطمح.
(٤) في ب ، ه والمطمح «ويمم تلك العزة القعساء».
(٥) المير : العطاء.
(٦) في أ«أبدي به».
والمجتني بالزّرق وهي بنفسج |
|
ورد الجراح مضعّفا ومنضّدا |
جاءتك آمال العفاة ظوامئا |
|
فاجعل لها من ماء جودك موردا (١) |
وانثر على المدّاح سيبك أنّهم |
|
نثروا المدائح لؤلؤا وزبرجدا |
فالنّاس إن ظلموا فأنت هو الحمى |
|
والناس إن ضلّوا فأنت هو الهدى (٢) |
أخبرني وزير السلطان أن هذه القطعة لما ارتفعت ، اعتنت بجملة الشعراء وشفعت ، فأنجز لهم الموعود ، وأورق لهم ذلك العود ، وكثر اللغط في تعظيمها ، واستجادة نظيمها ، وحصل له بها ذكر ، وانصقل له بسببها فكر.
وله من قطعة يصف بها سيفا : [الخفيف]
كلّ نهر توقّدت شفرتاه |
|
كاتّقاد الشّهاب في الظّلماء |
فهو ماء مركّب فوق نار |
|
أو كنار قد ركّبت فوق ماء (٣) |
وكتب إليّ معزيا عن والدتي : [المتقارب]
على مثله من مصاب وجب |
|
على من أصيب به المنتجب |
وقلب فروق ولبّ خفوق |
|
ونفس تشبّ وهمّ نصب |
فقد خشعت للتّقى هضبة |
|
ذؤابتها في صميم العرب |
من الجاعلات محاريبها |
|
هوادجها أبدا والقتب |
من القائمات بظلّ الدّجى |
|
ولا من تسامر إلّا الشّهب |
فكم ركعت إثرها في الدجى |
|
تناجى بها ربّها من كثب |
وكم سكبت في أواني السّجود |
|
مدامع كالغيث لمّا انسكب (٤) |
وقد خلّفت ولدا باسلا |
|
فصيحا إذا ما قرا أو خطب |
يفلّ السيوف بأقلامه |
|
ويكسر صمّ القنا بالقصب |
وكان القائد أبو عمرو عثمان بن يحيى بن إبراهيم أجل من جال في خلد ، واستطال على جلد ، رشأ يحيى باحتشامه ، ويسترد البدر بلثامه ، ويزري بالغصن تثنّيه ، ويثمر الحسن لو دنت
__________________
(١) العفاة : طالبو المعروف.
(٢) في ه «فالناس إن ظمؤوا» وفي المطمح «إن فزعوا».
(٣) كذا في أ، ج ، والمطمح ، وفي ب ، ه «فهو ماء قد ركبت فوق نار».
(٤) في ب «في أون السجود».
قطوفه لمجتنيه ، مع لوذعية تخالها جريالا (١) ، وسجية يختال فيها الفضل اختيالا ، وكان قد بعد عن أنسنا بحمص ، وانتضى من تلك القمص ، وكان بثغر الأشبونة فسدّه ، ولم ينفرج لنا من الأنس بعده ما يسدّ مسده ، إلى أن صدر ، فأسرع إلينا وابتدر ، فالتقينا وبتنا ليلة نام عنها الدهر وغفل ، وقام لنا بما شئنا فيها وتكفل ، فبينا نحن نفضّ ختامها ، وننفض عنا غبار الوحشة وقتامها ، إذا أنا بابن لسان (٢) هذا وقد دخل إذنه علينا فأمرناه بالنزول وتلقيناه بالترحيب (٣) ، وأنزلناه بمكان من المسرة رحيب ، وسقيناه صغارا وكبارا ، وأريناه إعظاما وإكبارا ، فلما شرب ، طرب ، وكلما كرعها ، التحف السلوة وتدرعها ، وما زال يشرب أقداحا ، وينشد فينا أمداحا ، ويفدي بنفسه ، ويستهدي الاستزادة من أنسه ، فهتكنا الظلام بما أهداه من البديع ، واجتلينا محاسنه كالصديع (٤) ، وانفصلت ليلته عن أتم مسره ، وأعم مبره (٥) ، وارتحل عثمان أعزه الله إلى ثغره ، وأقام به برهة من دهره ، فمشيت بها إليه مجدّدا عهدا ، ومتضلعا من مؤانسته شهدا ، فكتب ابن لسان (٦) هذه القطعة من القصيدة يذهب إلى شكره ، ويجتهد في تجديد ذكره : [البسيط]
ما شام إنسان إنسان كعثمان |
|
ولا كبغيته من حسن إحسان |
بدر السّيادة يبدو في مطالعه |
|
من المحاسن محفوفا بشهبان |
له التّمام وما بالأفق من قمر |
|
متمّم دون أن يرمى بنقصان (٧) |
به الشّبيبة تزهى من نضارتها |
|
كما تساقط طلّ فوق بستان |
معصفر الحسن للأبصار ناصعه |
|
كأنّه فضّة شيبت بعقيان |
نبّئت عنه بأنباء إذا نفحت |
|
تعطّلت نفحات المسك والبان |
قامت عليه براهين تصدّقها |
|
كالشّكل قام عليه كلّ برهان |
قد زادها ابن عبيد الله من وضح |
|
ما زادت الشّمس نور الفجر للرّاني (٨) |
بالله بلّغه تسليمي إذا بلغت |
|
تلك الرّكاب وعجّل غير ليّان |
وليت أنّي لو شاهدت أنسكما |
|
على كؤوس وطاسات وكيزان |
__________________
(١) الجريال : الخمر.
(٢) في ب «ابن لبال».
(٣) في ب ، ه والمطمح «والتقيناه بترحيب».
(٤) في أ«كالصريع». والصديع : الصبح.
(٥) في ب «أتم مسرة وأعم مبرة».
(٦) في ب «ابن لبال».
(٧) في المطمح «دون أن يزري بنقصان».
(٨) الراني : الناظر ، من الفعل رنا يرنو.
فألفظ الكلم المنثور بينكما |
|
كأنّما هو من درّ ومرجان (١) |
لله درّك يا ذا الخطتين لقد |
|
خططت بالمدح فيه كلّ ديوان (٢) |
كلاكما البحر في جود وفي كرم |
|
أو الغمامة تسقي كلّ ظمآن (٣) |
إن كان فارس هيجاء ومعترك |
|
فأنت فارس إفصاح وتبيان |
فاذكر أبا نصر المعمور منزله |
|
بالرّفد ما شئت من مثنى ووحدان |
قصائدا لأخي ودّ وإن نزحت |
|
بك الرّكاب إلى أقصى خراسان |
وقال في ترجمة الأديب أبي بكر عبد المعطي (٤) : بيت شعر ونباهه ، وأبو بكر ممن انتبه خاطره للبدائع أيّ انتباهه (٥) ، وله أدب باهر ، ونظم كما سفرت أزاهر ، وقد أثبتّ له جمالا ، يبلغ آمالا ، فمن ذلك قوله ، وقد اجتمعنا في ليلة لم يضرب لها وعد ، ولم يعزب عنها سعد ، وهو قعديّ ، قد شبّ عن طوق الأنس في النّديّ ، وما قال خلا عمرو ولا عدا (٦) ، والكهولة قد قبضته ، وأقعدته عن ذلك وما أنهضته : [الوافر]
إمام النّثر والمنظوم فتح |
|
جميع النّاس ليل وهو صبح |
له قلم جليل لا يجارى |
|
يقرّ بفضله سيف ورمح |
يباري المزن ما سحّت سماحا |
|
وإن شحّت فليس لديه شحّ (٧) |
وكان مرتسما في عسكر قرطبة ، وكان ابن سراج يقوم له بكل ما يبغي تطلبه ، خيفة من لسانه ، ومحافظة على إحسانه ، ولما خرج إلى إقليش خرج معه ، وجعل يساير من شيّعه ، فلما حصلوا بفحص سرادق ، وهو موضع توديع المفارق للمفارق ، قرب منه أبو الحسين بن سراج لوداعه ، وأنشده في تفرق الشمل وانصداعه : [الطويل]
هم رحلوا عنّا لأمر لهم عنّا |
|
فما أحد منهم على أحد حنّا |
__________________
(١) في ه والمطمح «فألقط الكلم المنثور بينكما».
(٢) في المطمح «يا ذا الخطبتين» وفي ه «حططت بالمدح إلخ».
(٣) في ه «تشفي كل ظمآن» وفي المطمح «أو الغمامة فيها ريّ ظمآن».
(٤) المطمح ص ٩٦.
(٥) في ب «أي انتباهة».
(٦) في ب «وما قال خالي عمرو ولا عديّ».
(٧) سحت السحابة : صبت المطر صبا متتابعا. والمزن : جمع مزنة وهي السحابة الماطرة.
وما رحلوا حتّى استفادوا نفوسنا |
|
كأنّهم كانوا أحقّ بها منّا (١) |
فيا ساكني نجد لتبعد داركم |
|
ظننّا بكم ظنّا فأخلفتم الظّنّا |
غدرتم ولم أغدر ، وخنتم ولم أخن |
|
وقلتم ولم أعتب ، وجرتم وما جرنا |
وأقسمتم أن لا تخونون في الهوى |
|
فقد وذمام الحبّ خنتم وما خنّا |
ترى تجمع الأيّام بيني وبينكم |
|
ويجمعنا دهر نعود كما كنّا |
فلما استتم إنشاده لحق بالسلطان واعتذر إليه بمريض خلّفه ، وهو يخاف تلفه ، فأذن له بالانصراف ، وكتب إلى أبي الحسين بن سراج : [الطويل]
أما والهدايا ما رحلنا ولا حلنا |
|
وإن عنّ من دون التّرحّل ما عنّا |
تركنا ثواب الغزو والقصد للعدى |
|
على مضض منّا وعدنا كما كنّا (٢) |
وليس لنا عنكم على البين سلوة |
|
وإن كان أنتم عندكم سلوة عنّا |
وجمعتنا عشية بربض الزجالي (٣) بقرطبة ، ومعنا لمة من الإخوان وهو في جملتهم ، مناهض لأعيانهم وحلّتهم (٤) ، بفضل أدبه ، وكثرة سحبه ، فجعل يرتجل ويروي ، وينشر محاسن الآداب ويطوي ، ويمتعنا بتلك الأخبار ، ويقطعنا منها جانب اعتبار ، ويطلعنا على إقبال الأيام وعلى الإدبار ، ثم قال : [الطويل]
أيا ابن عبيد الله يا ابن الأكارم |
|
لقد بخّلت يمناك صوب الغمائم |
لك القلم الأعلى الذي عطّل القنا |
|
وفلّ ظبات المرهفات الصّوارم |
وأخلاقك الزّهر الأزاهر بالرّبا |
|
ترفّ بشؤبوب الغيوث السّواجم (٥) |
بقيت لتشييد المكارم والعلى |
|
تظاهرها بالسّالف المتقادم |
واجتمع عند أبيه لمة من أهل الأدب ، وذوي المنازل والرتب ، في عشية غيم أعقب مطرا ، وخط فيها البرق أسطرا ، والبرد يتساقط كدرّ من نظام ، ويتراءى كثنايا غادة ذات ابتسام ، وهو غلام ما نضا برد شبابه ، ولا انتضى مرهف آدابه ، فقال معرضا بهم ، ومتعرضا لتحقق أدبهم : [المتقارب]
__________________
(١) في ب «حتى استقادوا نفوسنا».
(٢) في ب ، ه «تركنا ثواب الفضل والعز للعزى» وفي المطمح «للعرى».
(٣) في ج ، والمطمح «بربض الرحال».
(٤) في ب «وجلتهم».
(٥) ترف : تتمايل. وشؤبوب الغيث : الدفعة من المطر.