كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]
المحقق: بركات يوسف هبّود
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
فأثبتوا التّاء ، ولو لم يتنزّل (١) منزلة حرف من سنخ الكلمة ، وإلّا لما جاز إثباتها.
والوجه الخامس : أنّهم قالوا : حبّذا ، وهي مركّبة (٢) من فعل وفاعل ، فجعلوهما بمنزلة اسم واحد ، وحكم على موضعه بالرّفع على الابتداء.
والوجه السّادس : أنّهم قالوا : «زيد ظننت قائم» فألغوها ، والإلغاء : إنّما يكون للمفردات ، لا للجمل ، فلو لم ينزل الفعل مع الفاعل بمنزلة كلمة واحدة ، وإلّا لما جاز الإلغاء.
والوجه السّابع : أنّهم قالوا للواحد : «قفا» على التّثنية ؛ لأنّ المعنى : قف قف ، قال الله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)(٣) فثنّى وإن كان الخطاب لملك واحد ؛ لأنّ المراد / به / (٤) : ألق ألق ، والتّثنية ليست للأفعال ، وإنّما هي للأسماء ، فلو لم يتنزّل الاسم منزلة بعض الفعل ، وإلّا لما جازت تثنيته باعتباره.
وإذا ثبت بهذه الأوجه أنّ الفاعل يتنزّل منزلة الجزء من الفعل ؛ لم يجز تقديمه عليه.
فإن قيل : لم زعمتم أنّ قول القائل : زيد قام مرفوع بالابتداء دون الفعل ، ولا فصل بين قولنا : زيد ضرب ، وضرب زيد؟ قيل لوجهين ؛ أحدهما : أنّه من شرط الفاعل ألّا يقوم غيره مقامه مع وجوده ؛ نحو قولك : قام زيد ، فلو كان تقديم زيد على الفعل بمنزلة تأخيره ، لاستحال قولك : زيد قام أخوه ، وعمرو انطلق غلامه ؛ ولمّا جاز ذلك ، دلّ على أنّه لم يرتفع بالفعل ، بل بالابتداء.
والوجه الثّاني : أنّه لو كان الأمر على ما زعمت ؛ لوجب ألّا يختلف حال الفعل ؛ فكان (٥) ينبغي أن يقال : الزّيدان قام ، والزّيدون قام ؛ كما تقول : قام الزّيدان ، وقام الزّيدون ؛ فلمّا لم يقل إلّا : «الزّيدان قاما ، والزّيدون قاموا ، دلّ على أنّه يرتفع بالابتداء دون الفعل.
فإن قيل : فلم استتر ضمير الواحد ؛ نحو : «زيد قام» وظهر ضمير الاثنين ؛
__________________
(١) في (ط) يتنزّل.
(٢) في (س) وهو مركّب ؛ وكلاهما صحيح.
(٣) س : ٥٠ (ق : ٢٤ ، مك).
(٤) سقطت من (س).
(٥) في (س) وكان.
نحو : الزّيدان قاما وضمير الجماعة ؛ نحو : الزّيدون قاموا؟ قيل : لأنّ الفعل لا يخلو من فاعل واحد ، وقد يخلو من اثنين وجماعة ، فإذا قدّمت اسما مفردا على الفعل ؛ نحو : زيد قام ، لم تحتج (١) معه إلى إظهار ضميره ؛ لإحاطة العلم بأنّه لا يخلو من فاعل واحد ، فإذا قدّمنا (٢) اسما مثنّى على الفعل ؛ نحو : «الزّيدان قاما» أو مجموعا ؛ نحو : «الزّيدون قاموا» وجب إظهار ضمير التّثنية والجمع ؛ لأنه قد يخلو من ذلك ، فلو لم يظهر ضميرها ؛ لوقع الالتباس ، ولم يعلم أنّ الفعل لاثنين ، أو جماعة ؛ فافهمه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) في (ط) لم يحتج ، والصّواب ما أثبتنا من (س) لمناسبة الخطاب.
(٢) في (س) قدّمت ؛ وكلاهما صحيح.
الباب الحادي عشر
باب المفعول به
[تعريف المفعول به]
إن قال قائل : ما المفعول / به / (١)؟ قيل : كلّ اسم تعدّى إليه فعل.
[العامل في المفعول به]
فإن قيل؟ فما العامل في المفعول؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ، فذهب أكثرهم (٢) إلى أنّ العامل في المفعول هو الفعل فقط ، وذهب بعضهم (٣) إلى أنّ العامل فيه الفعل والفاعل معا ؛ والقول الصّحيح هو الأوّل ، وهذا القول ليس بصحيح (٤) ، وذلك ؛ لأنّ الفاعل اسم ، كما أنّ المفعول كذلك ، فإذا استويا في الاسميّة ؛ والأصل في الاسم ألّا يعمل ، فليس عمل أحدهما في صاحبه أولى من الآخر ، وإذا ثبت هذا ، وأجمعنا على أنّ الفعل له تأثير في العمل ، فإضافة ما لا تأثير له في العمل ، إلى ما له تأثير ، لا تأثير له ، فدلّ على أنّ العامل هو الفعل فقط ؛ وهو على ضربين ؛ فعل متعدّ بغيره ، وفعل متعدّ بنفسه ؛ فأمّا ما يتعدّى بغيره ، فهو الفعل اللّازم ، ويتعدّى بثلاثة أشياء ؛ وهي : الهمزة ، والتّضعيف ، وحرف الجر ؛ فالهمزة ؛ نحو : «خرج زيد وأخرجته» ، والتّضعيف ؛ نحو : «خرج المتاع وخرّجته» وحرف الجرّ ؛ نحو : «خرج زيد وخرجت به» وكذلك : «فرح زيد ، وأفرحته ، وفرّحته ، وفرحت به» وما أشبه ذلك. وأمّا المتعدّي بنفسه فعلى ثلاثة أضرب ؛ ضرب يتعدّى إلى مفعول واحد ؛ كقولك : «ضرب زيد عمرا ، وأكرم عمرو بشرا» وضرب يتعدّى إلى مفعولين ؛ كقولك :
__________________
(١) سقطت من (ط).
(٢) في (س) أكثر النّحويّين.
(٣) في (س) بعض النّحويّين.
(٤) أي أنّ قولهم : إنّ العامل في المفعول ، الفعل والفاعل ، ليس صحيحا ، وإنّما العامل هو الفعل وحده.
«أعطيت زيدا درهما ، وظننت زيدا قائما» وضرب يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين ؛ كقولك : «أعلم الله زيدا عمرا خير النّاس ، ونبّأ الله عمرا بشرا كريما» وهذا الضّرب منقول بالهمزة والتّضعيف ممّا يتعدّى إلى مفعولين لا (١) يجوز الاقتصار على أحدهما ؛ لأنّ كلّ واحد من هذه الأشياء الثّلاثة المعدّية ، التي هي : الهمزة ، والتّضعيف ، وحرف الجرّ ، كما أنّها تنقل الفعل اللّازم من اللّزوم إلى التّعدّي ، فكذلك إذا دخلت على الفعل المتعدّي ، فإنّما تزيده مفعولا ؛ فإن (٢) كان يتعدّى إلى مفعول واحد ، صار يتعدّى إلى مفعولين ؛ كقولك في ضرب زيد عمرا : أضربت زيدا عمرا» وفي «حفر زيد بئرا ، أحفرت زيدا بئرا» وما أشبه ذلك ، فإن (٣) كان متعدّيا إلى مفعولين ، صار متعدّيا إلى ثلاثة مفعولين ، ونحوه / على / (٤) ما قدّمناه. فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) في (س) ولا.
(٢) في (ط) وإن.
(٣) في (ط) وإن ، والصّواب ما أثبتنا من (س).
(٤) زيادة من (ط).
الباب الثّاني عشر
باب ما لم يسمّ فاعله
[لم لم يذكر الفاعل]
إن قال قائل : لم لم يسمّ الفاعل؟ قيل : لأنّ العناية قد تكون بذكر المفعول ، كما تكون بذكر الفاعل ، وقد تكون للجهل بالفاعل ، وقد تكون للإيجاز والاختصار ، (١) أو / إلى / غير ذلك.
[علّة رفع نائب الفاعل]
فإن قيل : فلم (٢) كان ما لم يسمّ فاعله مرفوعا؟ قيل : لأنّهم لمّا حذفوا الفاعل ، أقاموا المفعول مقامه ، فارتفع بإسناد الفعل إليه ، كما كان يرتفع الفاعل.
[علّة ذكر نائب الفاعل]
فإن قيل : فلم إذا حذف الفاعل ، وجب أن يقام اسم آخر مقامه؟ قيل : لأنّ الفعل لا بدّ له من فاعل ؛ لئلّا يبقى الفعل حديثا من غير محدّث عنه ، فلمّا حذف الفاعل ـ ههنا ـ وجب أن يقام اسم آخر مقامه ؛ ليكون الفعل حديثا عنه ، وهو المفعول.
[قيام المفعول مقام الفاعل]
فإن قيل : كيف يقام المفعول مقام الفاعل ، وهو ضدّه في المعنى؟ قيل : هذا غير غريب في الاستعمال ، فإنّه إذا جاز أن يقال : «مات زيد» وسمّي زيد فاعلا ، ولم يحدث بنفسه الموت ، وهو مفعول في المعنى ، جاز أن يقام المفعول ـ ههنا ـ مقام الفاعل ، وإن كان مفعولا في المعنى ؛ والذي يدلّ على أنّ المفعول ـ ههنا ـ أقيم مقام الفاعل ، أنّ الفعل إذا كان يتعدّى إلى مفعول واحد ، لم يتعدّ إلى
__________________
(١) سقطت من (س).
(٢) في (س) ولم.
مفعول البتّة ؛ كقولك في «ضرب زيد عمرا ، وأكرم بكر بشرا : (ضرب عمرو ، وأكرم بشر)» (١) وإن كان يتعدّى إلى مفعولين ، صار يتعدّى إلى مفعول واحد ؛ كقولك في : «أعطيت زيدا درهما ، وظننت عمرا قائما : أعطي زيد درهما ، وظنّ عمرو قائما» ولو قلت : «ظنّ قائم عمرا» ؛ جاز (٢) ؛ لزوال اللّبس ، ولو قلت في : «ظننت زيدا أباك ؛ ظنّ أبوك زيدا» لم يجز ، وذلك ؛ لأنّ قولك : ظننت زيدا أباك يؤذن بأن زيدا معلوم ، والأبوّة مظنونة ، فلو أقيم الأب مقام الفاعل ؛ لانعكس المعنى ، فصارت الأبوّة معلومة ، وزيد مظنونا ، وذلك لا يجوز ، وكذلك تقول : «أعطي زيد درهما ، وأعطي درهم زيدا» فيكون جائزا ؛ لعدم الالتباس ، فلو قلت في «أعطيت زيدا غلاما : أعطي غلام زيدا» لم يجز ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يصحّ أن يكون هو الآخذ ، فلو أقيم غلام مقام الفاعل ، لم يعلم الآخذ من المأخوذ ، ؛ فلهذا ، كان ممتنعا ؛ وكذلك ، إن كان الفعل يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين ، صار يتعدّى إلى مفعولين كقولك في : «أعلم الله زيدا عمرا خير النّاس» : «أعلم زيد عمرا خير النّاس» (٣) : لقيام المفعول الأوّل مقام الفاعل ، وكان هو الأولى ؛ لأنّه فاعل في المعنى ؛ فدلّ على أنّ المفعول ـ ههنا ـ أقيم مقام الفاعل. وإذا كان الأمر على هذا ، فبناء الفعل للمفعول به ، نقيض (٤) نقله بالهمزة ، والتّضعيف ، وحرف الجرّ ، ألا ترى أنّ الفعل إذا كان يتعدّى إلى مفعول واحد ، صار يتعدّى بها إلى مفعولين ، وإذا كان يتعدّى إلى مفعولين ، صار يتعدّى بها إلى ثلاثة مفعولين ، وذلك ؛ لأنّ بناء الفعل للمفعول به ، يجعل المفعول فاعلا ، والنّقل بالهمزة ، والتّضعيف ، وحرف الجرّ ، يجعل الفاعل مفعولا ، وإذا ثبت هذا ، فلا بدّ أن تزيد بنقله بالهمزة ، والتّضعيف ، وحرف الجرّ مفعولا ، وتنقص ببنائه (٥) للمفعول مفعولا.
[وجوب تغيير الفعل عند بنائه للمجهول وعلّة ذلك]
فإن قيل : فلم وجب تغيير الفعل إذا بني للمفعول؟ قيل : لأنّ المفعول ، يصحّ أن يكون هو الفاعل ، فلو لم يغيّر الفعل ، لم يعلم هل هو الفاعل بالحقيقة ، أو (٦) قائم مقامه؟
__________________
(١) سقطت من (س).
(٢) في (س) كان جائزا ؛ وكلاهما صحيح.
(٣) سقطت من (ط) وما أثبتناه من (س).
(٤) في (ط) يقتضي ، والصّواب ما أثبتناه من (س) لمناسبة السّياق.
(٥) في (ط) وينقص ببنيانه ، وما أثبتناه من (س) أفضل.
(٦) في (ط) أم ؛ والصّواب ما أثبتنا من (س).
فإن قيل : فلم ضمّوا الأوّل ، وكسروا الثّاني ؛ نحو : «ضرب زيد» وما أشبه ذلك؟ قيل : إنّما ضمّوا الأوّل ؛ ليكون دلالة على المحذوف الذي هو الفاعل إذ (١) كان من علاماته ، وإنّما كسروا الثّاني ؛ لأنّهم لمّا حذفوا الفاعل الذي لا يجوز حذفه ، أرادوا أن يصوغوه على بناء لا يشركه فيه شيء من الأبنية ، فبنوه على هذه الصّيغة ، فكسروا الثّاني ؛ لأنّهم لو ضمّوه ؛ لكان على وزن : طنب (٢) ، وجمل (٣) ، ولو فتحوه ؛ لكان على وزن : نغر (٤) وصرد (٥) ، ولو أسكنوه ؛ لكان على وزن : قلب (٦) وقفل ، فلم يبق إلّا الكسر ؛ فحرّكوه به.
فإن قيل : فلم كسروا أوّل المعتل ؛ نحو : قيل ، وبيع ، ولم يضمّوه كالصّحيح؟ قيل : كان القياس يقتضي أن يجرى المعتلّ مجرى الصّحيح في ضمّ أوّله ، وكسر ثانية ، إلّا أنّهم استثقلوا الكسرة على حرف العلّة ، فنقلوها إلى القاف ، فانقلبت الواو ياء ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، كما قلبوها في : ميعاد ، وميقات ، وميزان ؛ وأصلها : موعاد ، وموقات ، وموزان ؛ لأنّها من الوعد ، والوقت ، الوزن ، وأمّا الياء ، فثبتت ؛ لانكسار ما قبلها ؛ على أنّه من العرب من يشير إلى الضّمّ تنبيها على أنّ الأصل في هذا النّحو ، هو الضّمّ ، ومن العرب ـ أيضا ـ من يحذف الكسرة ، ولا ينقلها ، ويقرّ الواو ؛ لانضمام ما قبلها ، وتقلب الياء واوا ؛ لسكونها وانضمام ما قبلها ؛ كما قال الشّاعر (٧) : [الرّجز]
ليت وهل ينفع شيئا ليت |
|
ليت شبابا بوع فاشتريت |
__________________
(١) في (ط) إذا ؛ والصّواب ما أثبتنا من (س).
(٢) طنب : (بضمّ أوّله وثانيه) حبل طويل يشدّ به سرادق البيت أو الوتد ؛ وجمعه أطناب.
القاموس : مادة (طنب) ص ١٠٢.
(٣) جمل : جمع جمل.
(٤) نغر : البلبل والعصفور الصّغير. القاموس : مادة (نغر) ص ٤٣٧.
(٥) صرد : طائر ضخم الرّأس يصطاد العصافير ؛ أو هو أوّل طائر صام لله تعالى. القاموس :مادة (صرد) ص ٢٦٥.
(٦) قلب : سوار المرأة ، وقد سبقت الإشارة إليه.
(٧) الشّاعر : رؤبة بن العجّاج الرّجّاز المشهور. كان من أفصح الرّجّاز في عصره ؛ وكان العلماء يحتجّون بشعره ولغته ؛ قال الخليل بن أحمد الفراهيدي يوم موته : «دفنّا اللّغة ، والشّعر ، والفصاحة». مات سنة ١٤٥ ه. الشّعر والشّعراء ٢ / ٥٩٤.
موطن الشّاهد : (بوع) وجه الاستشهاد : وقوع «بوع» على لغة بعض العرب والمشهور فيها : بيع.
أراد : بيع ، فقلب الياء واوا ، لسكونها ، وانضمام ما قبلها ، كما قلبوها في نحو : موسر ، وموقن ؛ والأصل : ميسر ، وميقن ؛ لأنّهما من اليسر واليقين ، إلّا أنّه لمّا وقعت الياء ساكنة مضموما ما قبلها ؛ قلبوها واوا ، فكذلك ههنا.
[الفعل اللّازم لا يبنى للمجهول]
فإن قيل : فهل يجوز أن يبنى الفعل اللّازم للمفعول به؟ قيل : لا يجوز ذلك على القول الصّحيح ، وقد زعم بعضهم أنّه يجوز ، وليس بصحيح ، إلّا أنّك (١) لو بنيت الفعل اللّازم للمفعول به ، لكنت تحذف الفاعل ، فيبقى الفعل غير مستند (٢) إلى شيء ، وذلك محال ، فإن اتّصل به ظرف الزّمان ، أو ظرف المكان ، أو المصدر ، أو الجارّ والمجرور ، جاز أن تبنيه عليه ، ولا يجوز أن تبنيه على الحال ؛ لأنّها لا تقع إلّا نكرة ، فلو أقيمت مقام الفاعل ؛ لجاز إضمارها (٣) كالفاعل ، فكانت تقع معرفة ، والحال لا تقع إلّا نكرة.
فإن قيل : فلم إذا أقيم الظّرف مقام الفاعل يخرج عن الظّرفيّة ، ويجعل مفعولا ؛ كزيد وعمرو وما أشبه ذلك؟ قيل : لأنّه يتضمّن معنى حرف الجرّ ، فلو لم ينقل ، لعلّقته بالفعل مع تضمّن حرف الجر ، فالفاعل لا يتضمّن حرف الجرّ ، فكذلك ما قام مقامه.
فإن قيل : فالمصدر لا يتضمّن حرف الجرّ ، فهل ينقل أو لا؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب بعضهم إلى أنّه لا ينقل ؛ لأنّه ليس بينه وبين الفعل واسطة ، وذهب آخرون إلى أنّه ينقل ، واستدلّوا على ذلك من وجهين :
أحدهما : أنّ الفعل لا بدّ له من الفاعل ، والمصدر لو لم يذكر ؛ لكان الفعل دالّا عليه بصيغته ، فصار وجوده وعدمه سواء ، والفاعل لا بدّ / له / (٤) منه ، فكذلك ما يقوم مقامه ينبغي أن يجعل بمنزلة المفعول الذي لا يستغنى بالفعل عنه.
والوجه الثّاني : أنّ المصدر إنّما يذكر تأكيدا للفعل ، ألا ترى أنّ قولك : «سرت سيرا» بمنزلة / قولك / (٥) : «سرت سرت» فكما لا يجوز أن يقوم الفعل مقام الفاعل ، فكذلك لا يجوز أن يقوم مقامه ما كان بمنزلته ؛ فلهذا ، وجب نقل المصدر.
__________________
(١) في (س) لأنّك ؛ وكلاهما صحيح.
(٢) في (س) مسند.
(٣) في (ط) إظهارها ؛ والصّواب ما أثبتناه من (س).
(٤) سقطت من (س).
(٥) سقطت من (س).
فإن قيل : فإن اجتمع ظرف الزّمان ، وظرف المكان ، والمصدر ، والجار والمجرور ، فأيّها يقام مقام الفاعل؟ قيل : أنت مخيّر فيها كلها ، أيّها شئت أقمت (١) مقام الفاعل ، وزعم بعضهم أنّ الأحسن أن تقيم الاسم المجرور مقام الفاعل ؛ لأنّه لو لم يكن حرف الجرّ ، لم تقم (٢) مقام الفاعل غيره ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) في (س) أقمته ؛ وكلاهما صحيح.
(٢) في (س) يقم ؛ وكلاهما صحيح.
الباب الثّالث عشر
باب نعم وبئس
[خلافهم في نعم وبئس]
إن قال قائل : هل نعم وبئس اسمان أو فعلان؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب البصريّون إلى أنّهما فعلان ماضيان لا يتصرّفان ، واستدلّوا على ذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأوّل : أنّ الضّمير يتّصل بهما على حدّ اتّصاله بالأفعال ، فإنّهم قالوا : نعما رجلين ، ونعموا رجالا ؛ كما قالوا : قاما ، وقاموا.
والوجه الثّاني : أنّ تاء التّأنيث السّاكنة التي لم يقلبها أحد من العرب هاء في الوقف ، تتّصل بهما ، كما تتّصل بالأفعال ؛ نحو : نعمت المرأة ، وبئست الجارية.
والوجه الثّالث : أنّهما مبنيّان على الفتح كالأفعال الماضية ، ولو كانا اسمين لما بنيا على الفتح من غير علّة.
وذهب الكوفيّون إلى أنّهما اسمان ، واستدلّوا على ذلك من خمسة أوجه :
الوجه الأوّل : أنّهم قالوا : الدّليل على أنّهما اسمان دخول حرف الجرّ عليهما ؛ وحرف الجرّ يختصّ بالأسماء ، قال الشّاعر (١) : [الطّويل]
ألست بنعم الجار يؤلف بيته |
|
أخا قلّة أو معدم المال مصرما (٢) |
__________________
(١) الشّاعر هو : حسّان بن ثابت الأنصاريّ ، شاعر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، وهو من المخضرمين ؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة ٥٤ ه. الشّعر والشّعراء ١٠٤.
(٢) يؤلف : يجعل الفقراء ومن انقطعت بهم السّبل يألفون بيته. معدم المال : فاقد المال.
مصرما : منقطعا.
موطن الشّاهد : (بنعم الجار).
وجه الاستشهاد : احتجّ الكوفيّون بظاهر العبارة ، فزعموا أنّ «نعم» اسم بمعنى الممدوح بدليل دخول حرف الجرّ عليه ؛ وحروف الجرّ لا تدخل إلّا على الأسماء. راجع الإنصاف في مسائل الخلاف : ١ / ٩٧ ـ ١٢٦.
وحكي عن بعض العرب أنّه بشّر بمولودة ، فقيل : نعم المولودة مولودتك ؛ فقال : «والله ما هي بنعم المولودة ، نصرتها بكاء ، وبرّها سرقة» (١) وحكي عن بعض العرب أنّه قال : نعم السّير على بئس العير» فأدخلوا عليهما حرف الجرّ ؛ وحرف الجرّ يختصّ بالأسماء ؛ فدلّ على أنّهما اسمان.
والوجه الثّاني : أنّ العرب تقول : «يا نعم المولى و/ يا / (٢) نعم النّصير» فنداؤهم «نعم» يدلّ على أنّها اسم (٣) ؛ لأنّ النّداء من خصائص الأسماء.
والوجه الثّالث : أنّهم قالوا : الدّليل على أنّهما ليسا بفعلين ، أنّه لا يحسن اقتران الزّمان بهما كسائر الأفعال ، ألا ترى أنّه لا يحسن أن تقول : «نعم الرّجل أمس» ولا «بئس الرّجل غدا» فلمّا لم يحسن اقتران الزّمن بهما ؛ دلّ على أنّهما ليسا بفعلين.
والوجه الرّابع : أنّهما لا يتصرّفان ، ولو كانا فعلين ؛ لكانا يتصرّفان ؛ لأنّ التّصرّف من خصائص الأفعال ، فلمّا لم يتصرفا ؛ دلّ على أنّهما ليسا بفعلين.
والوجه الخامس : أنّه قد جاء عن العرب ، أنّهم قالوا : نعيم الرّجل زيد ، وليس في أمثلة الأفعال شيء على وزن : فعيل ؛ فدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه ؛ وهو مذهب البصريّين (٤) ، وأمّا ما استدلّ به الكوفيّون ففاسد ؛ أمّا قولهم : إنّهما اسمان لدخول حرف الجرّ عليهما ، فقلنا (٥) : هذا فاسد ؛ لأنّ حرف الجرّ إنّما دخل عليهما على تقدير الحكاية ، فلا يدلّ على أنّهما اسمان ؛ لأنّ حروف الجرّ قد تدخل على تقدير الحكاية على ما هو فعل في
__________________
(١) مثل حكاه ابن الأنباريّ ، عن أبي العبّاس ، أحمد بن يحيى «ثعلب» عن سلمة ، عن الفرّاء ، عن أحد العرب. وقد أورده ابن الأنباري في «الإنصاف» ١ / ٩٨ ـ ٩٩.
موطن الشّاهد : (بنعم).
وجه الاستشهاد : احتجاج الكوفيّين بهذا المثل على اسميّة «نعم» بدليل دخول الباء الجارّة عليها ، كما في الشّاهد السّابق.
(٢) سقطت من (ط).
(٣) في (ط) اسمان ؛ والصّواب ما أثبتنا من (س).
(٤) في (س) والصّحيح ما ذهب إليه البصريّون.
(٥) في (س) قلنا.
الحقيقة ؛ كقوله (١) : [الرّجز]
والله ما ليلي بنام صاحبه |
|
[ولا مخالط اللّيان جانبه](٢) |
ولا خلاف أنّ «نام» فعل ماض ، ولا يجوز أن يقال : إنّما هو اسم لدخول حرف الجرّ عليه ، فكذلك ـ ههنا ـ ولو لا تقدير الحكاية ، لم يحسن دخول حرف الجرّ على : نعم ، وبئس ، ونام ؛ والتّقدير في قوله : «ألست بنعم الجار يؤلف بيته» : «ألست بجار مقول فيه : نعم الجار» وكذلك التّقدير في قول بعض العرب : «والله ما هي بنعم المولودة : والله ما هي بمولودة ، فيقال : فيها : «نعم المولودة» وكذلك التّقدير في قول الآخر : «نعم السير على عير (٣) مقول فيه بئس العير» وكذلك التّقدير في قول الشّاعر :
والله ما ليلي بنام صاحبه
«والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه» إلّا أنّهم حذفوا الموصوف ، وأقاموا الصّفة مقامه ؛ كقوله سبحانه وتعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ)(٤) أي : دروعا سابغات ؛ فصار التّقدير فيه : «ألست بمقول فيه : نعم الجار ، وما هي بمقول فيها : نعم المولودة ؛ ونعم السّير على مقول فيه بئس العير ، وما ليلي بمقول فيه (٥) : نام صاحبه» ثم حذفوا الصّفة التي هي : مقول فيه ، فأوقعوا المحكي بها
__________________
(١) القائل : أبو خالد القنائيّ ، أو غيره على الأرجح.
(٢) المفردات الغريبة : اللّيّان واللّين : السّهولة والرّخاء في العيش.
موطن الشّاهد (بنام).
وجه الاستشهاد : دخول حرف الجرّ على الفعل الماضي لفظا ؛ ومعلوم أنّ حرف الجرّ ، لا يدخل في اللّفظ والتّقدير على الأفعال ؛ لأنّه من اختصاص الأسماء ، غير أنّ النّحاة ، علّلوا دخول الباء ـ هنا ـ بأنّها داخلة على اسم محذوف ؛ ودخول حرف الجرّ على الكلمة ـ إذا ـ لا يدلّ على أنّها خرجت من الفعليّة إلى الاسميّة. وروى البصريّون هذا البيت ؛ ليردّوا على الكوفيّين القائلين : إنّ «نعم» اسم بدليل دخول حرف الجرّ عليها ؛ لأنّه يلزم من دخول حرف الجرّ في اللّفظ على كلمة ما أن تكون اسما ؛ لأنّ التّقدير ـ هنا ـ أنّ حرف الجرّ داخل على كلمة أخرى محذوفة من اللّفظ ـ كما في هذا البيت ـ ومن هنا ندرك أنّ دخول الباء في قولهم : «بنعم الولد ، وعلى بئس العير» غير دالّ على اسميّة نعم وبئس.
(٣) في (ط) بئس العير ؛ والصّواب ما أثبتناه من (س) لموافقة السّياق.
(٤) س : ٣٤ (سبأ ، ن : ١١ ، مك).
(٥) في (ط) فيها ؛ والصّواب ما أثبتنا.
موقعها ، وحذف القول / بها / (١) في كتاب الله تعالى ، وكلام العرب ، وأشعارهم أكثر من أن يحصى ، فدخل حرف الجرّ على هذه الأفعال لفظا ، ولكن إن كان حرف الجرّ داخلا على هذه الأفعال في اللّفظ ، إلّا أنّه داخل على غيرها في التّقدير ، فلا يكون فيه دليل على الاسميّة.
وأمّا قولهم : إنّ العرب تقول : يا نعم المولى ، و/ يا / (٢) نعم النّصير ، والنّداء من خصائص الأسماء ، فنقول : المقصود بالنّداء محذوف للعلم به ، والتّقدير فيه : يا الله ، نعم المولى ، ونعم النّصير أنت. وأمّا قولهم : إنّه لا يحسن اقتران الزّمان بهما ، ولا يجوز تصرّفهما ؛ فنقول : إنّما امتنعا من اقتران الزّمان الماضي والمستقبل بهما ، وسلبا التّصرّف ؛ لأنّ نعم موضوعة لغاية المدح ، وبئس موضوعة لغاية الذّمّ ، فجعل دلالتهما على الزّمان مقصورة على الآن ؛ لأنّك إنّما تمدح / أ/ و (٣) تذمّ بما هو موجود في الممدوح / أ/ و (٤) المذموم لا بما كان فزال ، ولا بما سيكون في المستقبل. وأمّا قولهم : إنّه قد جاء عن العرب أنّهم قالوا : نعيم الرّجل زيد ، فنقول : هذه رواية شاذة تفرّد بها قطرب وحده ، ولئن صحّت فليس فيها حجّة ؛ لأنّ هذه الياء نشأت عن إشباع الكسرة ؛ لأنّ الأصل في : نعم : نعم بفتح النّون وكسر العين ، وأشبعت الكسرة ؛ فنشأت الياء ، وهذا كثير في كلامهم ، فإنّ (٥) كلّ ما كان على / وزن / (٦) «فعل» من الأسماء والأفعال ، وثانيه حرف من حروف الحلق ؛ ففيه أربعة أوجه :
أحدها : استعماله على أصله ؛ كقولك : فخذ ، وقد ضحك.
والثّاني : إسكان عينه تخفيفا ؛ كقولك : «فخذ ، وقد ضحك».
والثّالث : إتباع فائه عينه في الكسر ؛ كقولك : «فخذ ، وقد ضحك».
والرّابع : كسر فائه ، وإسكان عينه لنقل كسرتها إلى الفاء ؛ نحو قولك : «فخذ ، وقد ضحك» فكذلك نعم فيها أربع لغات : «نعم» بفتح النّون وكسر العين : وهو الأصل ، و «نعم» بفتح النّون وسكون العين ، و «نعم» بكسر النّون والعين ، و «نعم» بكسر النّون وسكون العين ، وأمّا «نعيم» بالياء ، فإنّما نشأت
__________________
(١) سقطت من (س).
(٢) سقطت من (ط).
(٣) سقطت من (ط).
(٤) سقطت من (ط).
(٥) في (ط) فإنّه.
(٦) سقطت من (س).
فيه الياء عن إشباع الكسرة ؛ كما قال الشّاعر (١) : [الطّويل]
كأنّي بفتخاء الجناحين لقوة |
|
على عجل منّي أطأطى شيمالي (٢) |
و/ كما / (٣) قال الآخر (٤) : [منهوك المنسرح]
لا عهد لي بنيضالي |
|
أصبحت كالشّنّ البالي (٥) |
و/ كما / (٦) قال الآخر (٧) : [الوافر]
ألم يأتيك والأنباء تنمي |
|
بما لاقت لبون بني زياد (٨) |
__________________
(١) لم ينسب إلى قائل معيّن.
(٢) المفردات الغريبة : الفتخاء من العقبان : اللّيّنة الجناح ، ولقوة : خفيفة سريعة. شيمالي :شمالي.
موطن الشّاهد : (شيمالي).
وجه الاستشهاد : أشبع الشّاعر كسرة الشّين ؛ فتولّدت منها الياء ؛ وهذا جائز في الشّعر لإقامة الوزن ، غير أنّ الإشباع هنا يكسر الوزن ؛ ولذا ، فالرّواية الصّحيحة للشطر الثّاني ـ في هذا البيت ـ كما جاءت في «لسان العرب».
[دفوف من العقبان طأطأت شملالي] والعقاب الدّفوف : التي تدنو من الأرض إذا انقضّت. والشّملال : الشّمال. ولا شاهد في البيت على الإشباع في هذه الرّواية.
(٣) سقطت من (ط).
(٤) لم ينسب إلى قائل معيّن.
(٥) المفردات الغريبة : نيضالي : نضال ، يقال : ناضله مناضلة ونيضالا : إذا باراه في الرّمي ، ونضله : إذا سبقه في الرّماية. والشّنّ : القربة الخلق الصّغيرة.
موطن الشّاهد : (بنيضالي).
وجه الاستشهاد : أشبع الشّاعر كسرة النّون ؛ فتولّدت منها الياء.
(٦) سقطت من (ط).
(٧) القائل هو : قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ ، أمير عبس وداهيتها ، وكان يلقّب بقيس الرّأي ؛ لجودة رأيه ، ويضرب المثل بدهائه وشجاعته ؛ له شعر وكلام مأثور. مات سنة ١٠ ه. الموشّح : ٣٢٢ ، والأغاني : ٩ / ١٩٨ ـ ١٢ / ٢٠٦.
(٨) المفردات الغريبة : تنمي : تكثر وتشيع وتبلغ : اللّبون : جماعة الإبل ذات اللّبن.
بنو زياد : هم الكلمة من الرّجال ؛ الرّبيع ، وعمارة ، وقيس ، وأنس بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسيّ ؛ وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنماريّة.
موطن الشّاهد : (ألم يأتيك).
وجه الاستشهاد : مجيء «يأتي» مجزوما بلم وهو معتلّ الآخر ؛ فحذف منه حرف العلّة ،
وهذا أكثر من أن يحصى ، وقد ذكرناه مستقصى في المسائل الخلافيّة ، فلا نعيده ههنا.
[فاعل نعم وبئس اسم جنس]
فإن قيل : فلم وجب أن يكون فاعل نعم وبئس اسم جنس؟ قيل : لوجهين :
أحدهما : أنّ نعم لمّا وضعت للمدح العام ، وبئس للذّمّ العام ، خصّ فاعلهما باللّفظ العام.
والوجه الثّاني : إنّما وجب أن يكون اسم جنس ؛ ليدلّ على أنّ الممدوح والمذموم مستحقّ للمدح والذّمّ في ذلك الجنس.
[جواز الإضمار في نعم وبئس قبل ذكرهما]
فإن قيل : فلم جاز الإضمار فيهما (١) قبل الذّكر؟ قيل : إنّما جاز الإضمار فيهما قبل الذّكر ؛ لأنّ المضمر قبل الذّكر يشبه النّكرة ؛ لأنّه لا يعلم إلى أي شيء يعود حتى يفسّر ، ونعم وبئس لا يكون فاعلهما معرفة محضة ، فلمّا ضارع المضمر فاعلهما ؛ جاز الإضمار فيهما.
فإن قيل : فلم فعلوا ذلك؟ قيل : إنّما فعلوا ذلك طلبا للتّخفيف والإيجاز ؛ لأنّهم أبدا يتوخّون الإيجاز والاختصار في كلامهم.
فإن قيل : فكيف يحصل التّخفيف ، والإضمار على شريطة التّفسير؟ قيل : لأنّ التّفسير إنّما يكون بنكرة منصوبة ؛ نحو : «نعم رجلا زيد» والنّكرة أخفّ من المعرفة.
فإن قيل : فعلى ما ذا انتصبت النّكرة؟ قيل : على التّمييز.
__________________
غير أنّ الشّاعر اضطرّ لإقامة الوزن ، فأشبع كسرة التّاء ؛ فتولّدت عنها الياء ؛ وهذه الياء ياء الإشباع ، وليست لام الكلمة ـ وهذا هو المراد من الاستشهاد بهذا البيت ـ ولكن للنّحاة آراء أخرى في هذا الشّاهد وهي :
أـ ربّما أجرى الشّاعر الفعل المعتلّ مجرى الفعل الصّحيح ، فجعل علامة الجزم السّكون خلافا للقاعدة.
ب ـ نقل البغدادي في خزانة الأدب أنّ سيبويه عدّ هذا البيت في باب الضّرورات ، ورواه ب «ألم يأتك» بحذف الياء.
ج ـ وقال ابن جنّي : «أنشده أبو العبّاس المبرّد ، عن الأصمعي : ألا هل أتاك» ؛ ورواه بعضهم : «ألم يبلغك» ثمّ قال : ولا شاهد فيه في الرّوايات الثّلاث. خزانة الأدب : ٣ / ٥٣٤.
(١) في (س) في نعم وبئس.
فإن قيل : فلم رفع زيد في قولهم : «نعم الرّجل زيد»؟ قيل : فيه (١) وجهان ؛ أحدهما : أن يكون مرفوعا بالابتداء ونعم الرّجل هو الخبر ، وهو مقدّم على المبتدأ ؛ والتّقدير فيه : زيد نعم الرّجل ، إلّا أنّه مقدّم (٢) عليه ؛ كقولهم :مررت به المسكين ؛ والتّقدير فيه : المسكين مررت به.
فإن قيل : فأين العائد ههنا من الخبر إلى المبتدأ ؛ قيل : لأنّ الرّجل لمّا كان شائعا في الجنس ، كان زيد داخلا تحته ، فصار بمنزلة العائد الذي يعود إليه منه ؛ فصار هذا كقول الشّاعر (٣) : [الطّويل]
فأمّا القتال لاقتال لديكم |
|
ولكنّ سيرا في عراض المواكب (٤) |
فإنّ القتال مبتدأ ، وقوله : لا قتال لديكم خبره ، وليس فيه عائد ؛ لأنّ قوله : لا قتال لديكم ، نفي عام ؛ لأنّ «لا» تنفي الجنس ، فاشتمل على جميع القتال ، فصار ذلك بمنزلة العائد / إليه / (٥) ، وكذلك قوله الشّاعر (٦) : [الطّويل]
فأمّا الصّدور ، لا صدور لجعفر |
|
ولكنّ أعجازا شديدا صريرها (٧) |
__________________
(١) في (س) في ذلك.
(٢) في (س) قدّم.
(٣) هو الحارث بن خالد بن العاص المخزوميّ ، وفد على عبد الملك بن مروان بالشّام ، فولّاه إمارة مكّة ، وتوفّي فيها سنة ٨٠ ه.
(٤) المفردات الغريبة : سيرا في عراض المواكب : سيرا مع ركّاب الإبل الذين لا يقاتلون.
موطن الشّاهد : (القتال ، لا قتال لديكم).
وجه الاستشهاد : عودة الخبر «لا قتال لديكم» على المبتدأ من دون أن يكون فيه عائد ؛ لأنّه مقترن بلا النّافية للجنس ، كما جاء في المتن.
(٥) سقطت من (س).
(٦) نسبه البغداديّ في «خزانة الأدب» إلى رجل من ضباب ، ولم ينسبه غيره من النّحاة الذين استشهدوا به.
(٧) المفردات الغريبة : الجعفر : النّهر الصّغير ، وبه سمّي الرّجل ؛ وجعفر : أبو قبيلة من عامر ، وهم الجعافرة. الصّرير : أشدّ الصّياح. وروي البيت : ضريرها بدل صريرها ؛ والضّرير : المريض المهزول ، وكلّ شيء خالطه ضرّ ، فهو ضرير ، ومضرور. راجع «لسان العرب» مادة (ضرر) ٤ / ٤٨٥.
موطن الشّاهد : (الصّدور ، لا صدور لجعفر).
وجه الاستشهاد : اقتران الجملة ب «لا» النّافية للجنس التي أفادت العموم ، فأغنى ذلك عن الضّمير العائد من الجملة إلى المبتدأ «الصّدور» ؛ وهذا كثير شائع.
وفي هذا البيت شاهد آخر على حذف الفاء في جواب «أمّا» للضّرورة الشّعريّة.
والوجه الثّاني : أن يكون زيد مرفوعا ؛ لأنّه خبر مبتدأ محذوف ، كأنّه لما قيل : نعم الرّجل ، قيل : من هذا الممدوح؟ قيل : زيد ؛ أي : هو زيد ، وحذف المبتدأ كثير في كلامهم ، فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
الباب الرّابع عشر
باب حبّذا
[الأصل في حبّذا]
إن قال قائل : ما الأصل في «حبّذا»؟ قيل : الأصل في «حبّذا» : حبب ذا ؛ إلّا أنّه لمّا اجتمع حرفان متحرّكان من جنس واحد ، استثقلوا اجتماعهما متحرّكين ، فحذفوا حركة الحرف الأوّل ، وأدغموه في الثّاني ؛ فصار : حبّ ، وركّبوه مع ذا ، فصار بمنزلة كلمة واحدة ؛ ومعناها المدح ، وتقريب الممدوح من القلب.
فإن قيل : فلم قلتم إنّ الأصل : حبب : على فعل ، دون فعل وفعل (١)؟ قيل : لوجهين ؛ أحدهما : أنّ اسم الفاعل منه حبيب ، على وزن : فعيل ؛ وفعيل أكثر ما يجيء في ما فعله : فعل ؛ نحو : شرف فهو شريف ، وظرف فهو ظريف ، ولطف فهو لطيف ، وما أشبه ذلك. والوجه الثّاني : أنّه قد حكي عن بعض العرب : أنّه نقل الضّمّة من الباء إلى الحاء ؛ كما قال الشّاعر (٢) : [الطّويل]
[فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها] |
|
وحبّ بها مقتولة حين تقتل (٣) |
فدلّ على أنّ أصله : فعل.
فإن قيل : فلم جعلوهما بمنزلة كلمة واحدة؟ قيل : إنّما جعلوهما بمنزلة كلمة واحدة طلبا للتّخفيف على ما جرت به عادتهم في كلامهم.
__________________
(١) في (س) حبّ على وزن فعل وفعل.
(٢) هو الأخطل : غياث بن غوث ؛ أحد أشهر ثلاثة شعراء في العصر الأمويّ مع جرير والفرزدق ؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة ٩٠ ه. الشّعر والشّعراء ١ / ٤٨٣.
(٣) المفردات الغريبة : اقتلوها : الضّمير عائد إلى الخمرة ؛ وقتلها : أي مزجها بالماء.
موطن الشّاهد : «حبّ» وجه الاستشهاد : ضمّ الحاء في «حبّ» وذكر الشّاهد للقياس عليه. وفي البيت شاهد آخر ، وهو مجيء فاعل «حبّ أو حبّ» غير «ذا» ولكن يشترط إذا كان الفاعل «ذا» فتح الحاء في «حبّ».
فإن قيل : فلم ركّبوه مع المفرد المذكّر دون المؤنّث والمثنّى والمجموع؟ قيل : لأنّ المفرد المذكّر هو الأصل ، والتّأنيث والتّثنية والجمع كلّها فرع عليه ، وهي أثقل منه ، فلمّا أرادوا التّركيب ؛ كان تركيبه مع الأصل الذي هو الأخفّ ، أولى من تركيبه مع الفرع الذي هو الأثقل.
[حبّذا في التّثنية والجمع والتّأنيث بلفظ واحد]
فإن قيل : فلم كانت «حبّذا» في التّثنية والجمع والتأنيث على لفظ واحد؟ قيل : إنّما كانت كذلك ؛ نحو حبّذا الزّيدان ، وحبّذا الزّيدون ، وحبّذا هند ؛ لأنّها جرت في كلامهم مجرى المثل ، والأمثال لا تتغيّر ، بل تلزم سننا واحدا ، وطريقة واحدة.
[فإن قيل فما الغالب على «حبّذا» الاسميّة أو الفعليّة؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب أكثرهم إلى أنّ الغالب عليها الاسميّة ، وذلك ؛ لأنّ الاسم أقوى من الفعل ، فلمّا ركّب أحدهما مع الآخر ، كان التّغليب للأقوى الذي هو الاسم دون الأضعف الذي هو الفعل ؛ وذهب بعضهم إلى أنّ الغالب عليها الفعليّة / وذلك / (١) ؛ لأنّ الجزء الأوّل منهما فعل ، فغلب عليها الفعليّة ؛ لأنّ القوّة للجزء الأوّل ؛ وذهب آخرون إلى أنّها لا يغلب عليها اسميّة ولا فعليّة ، بل هي جملة مركّبة من فعل ماض ، واسم هو فاعل ، فلا يغلّب أحدهما على الآخر.
[بم يرتفع الاسم المعرفة بعد حبّذا؟]
فإن قيل : فلماذا (٢) يرتفع المعرفة بعده ؛ نحو : «حبّذا زيد»؟ قيل : لخمسة أوجه :
الوجه الأوّل : أن يجعل حبّذا مبتدأ ، وزيد خبره.
والوجه الثّاني : أن تجعل : ذا مرفوعا ب «حبّ» ارتفاع الفاعل بفعله ، وتجعل زيدا بدلا منه.
والوجه الثّالث : أن تجعل زيدا خبر مبتدأ محذوف ، كأنّه لمّا قيل : من هو؟ قيل : زيد ؛ أي : هو زيد.
والوجه الرابع : أن تجعل زيدا مبتدأ ، وحبّذا خبره.
__________________
(١) سقطت من (س).
(٢) في (ط) فبماذا.
والوجه الخامس : أن تجعل : ذا زائدة ، فيرتفع زيد ب «حبّ» لأنّه فاعل ؛ وهو أضعف الأوجه (١).
فإن قيل : فعلى ما ذا تنتصب النّكرة بعده؟ قيل : / إنّما / (٢) تنتصب النّكرة بعده على التّمييز ، ألا ترى أنّك إذا قلت : حبّذا زيد رجلا ، وحبّذا عمرو راكبا» يحسن فيه تقدير «من» كأنّك قلت : من رجل ، ومن راكب ؛ كما قال الشّاعر (٣) : [البسيط]
يا حبّذا جبل الرّيّان من جبل |
|
وحبّذا ساكن الرّيّان من كانا |
فذهب بعض النّحويّين إلى أنّه إن كان الاسم غير مشتق ؛ نحو : حبّذا زيد رجلا ؛ كان منصوبا على التّمييز ، وإن كان مشتقّا ؛ نحو : حبّذا عمرو راكبا ؛ كان منصوبا على الحال ؛ فاعرفه تصب ، إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) في (ط) الوجوه : والأفضل ما أثبتنا من (س).
(٢) سقطت من (س).
(٣) الشّاعر : جرير ، وقد سبقت ترجمته.
موطن الشّاهد : (من جبل).
وجه الاستشهاد : التّصريح ب «من» قبل جبل ؛ وهذا ما يرجّح انتصاب الاسم النّكرة بعد حبّذا على التّمييز.