٢٣. أخرج الكليني عن صفوان الجمّال قال : صلّيت خلف أبي عبد الله عليهالسلام أيّاما ، فكان إذا كانت صلاة لا يجهر فيها ، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يجهر في السورتين. (١)
٢٤. أخرج العياشي عن خالد المختار قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : « ما لهم عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ». (٢)
٢٥. أخرج الكليني عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال : كتبت إلى أبي جعفر [ الجواد ] عليهالسلام : جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أمّ الكتاب فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها ، فقال العباسي : ليس بذلك بأس؟
فكتب بخطّه : « يعيدها ـ مرّتين ـ على رغم أنفه ـ يعني العباسي ـ ». (٣)
ولعلّ فيما ذكر من الروايات غنى وكفاية ، لطالب الحقّ ورائد الحقيقة.
__________________
١. الكافي : ٣ / ٣١٥ ، الحديث ٢٠.
٢. تفسير العياشي : ١ / ٢١ ، الحديث ١٦.
٣. الكافي : ٣ / ٣١٣ ، الحديث ٢.
٥
حجّة القائلين بعدم جزئية البسملة
وحكم الجهر بها
وقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها وظهرت بأوضح الدلائل ، انّ البسملة جزء من الفاتحة وانّها يجهر بها في الصلوات الجهرية لزوما ، وهناك روايات غريبة بين ما يدلّ على أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إمّا تركها بتاتا أو لم يجهر بها ، لكن مضمون بعضها أوضح دليل على كذبها ووضعها نذكرها تباعا.
١. أخرج مسلم عن شعبة قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال : صلّيت مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).
٢. وأخرجه أيضا بسند آخر عن أنس بن مالك انّه قال : صلّيت خلف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) لا يذكرون ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أوّل قراءة ولا في آخرها. (١)
يلاحظ عليه : بأنّه معارض بما أخرج الحاكم عن أنس بن مالك قال :
__________________
١. صحيح مسلم : ٢ / ١٢ باب حجّة من قال لا يجهر بالبسملة.
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جهر بـ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (١)
فلأجل هذا التعارض لا يمكن الاعتماد عليه.
وقد كفانا الرازي في الإجابة عن الحديثين اللّذين هما العمدة في القول بالترك أو بالسرّ قال :
قال الشيخ أبو حامد الأسفرايني : روي عن أنس في هذا الباب ست روايات ، أمّا الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات :
إحداها قوله : صلّيت خلف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون الصلاة بـ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ).
وثانيتها قوله : إنّهم ما كانوا يذكرون ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).
وثالثتها قوله : لم أسمع أحدا منهم قال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية ، وثلاث أخرى تناقض قولهم :
إحداها : ما ذكرنا أنّ أنسا روى أنّ معاوية لمّا ترك ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار ، وقد بيّنا أنّ هذا يدلّ على أنّ الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.
وثانيتها : روى أبو قلابة عن أنس أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرّحمن الرحيم.
وثالثتها : أنّه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة.
فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب ، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل.
__________________
١. لاحظ ص ٢١٥ ـ ٢١٦ ، الرواية ٢ و ٤.
قال الشافعي : لعلّ المراد من قول أنس كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يستفتح الصلاة بـ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أنّه كان يقدّم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور ، فقوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) المراد منه تمام هذه ، فجعل هذه اللفظة اسما لهذه السورة.
وأيضا ففيها نكتة أخرى ، وهي أنّ عليّا عليهالسلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما وصلت الدولة إلى بني أميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في إبطال آثار علي عليهالسلام ، فلعلّ أنسا خاف منهم ، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ، ونحن وإن شككنا في شيء فانّا لا نشكّ أنّه مهما وقع التعارض بين قول أنس وقول علي بن أبي طالب عليهالسلام الذي بقي عليه طول عمرة ، فإنّ الأخذ بقول علي أولى ، فهذا جواب قاطع في المسألة.
٣. أخرج ابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عبد الله بن مغفل قال : سمعني أبي وأنا أقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقال : أي بني محدث؟ صلّيت خلف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي بكر ، وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحدا منهم جهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. (١)
وقد أجاب الرازي عن هذا الحديث بقوله : إنّ الجواب بوجوه :
الأوّل : أنّ راوي أخباركم أنس وابن المغفل ، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليهالسلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، وهؤلاء كانوا أكثر علما وقربا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من أنس وابن المغفل.
الثاني : أنّ من المعلوم بالضرورة أنّ النبي عليهالسلام كان يقدّم الأكابر على
__________________
١. السنن للبيهقي : ٢ / ٥٢٢ ، الدر المنثور : ١ / ٢٩.
الأصاغر ، والعلماء على غير العلماء ، والأشراف على الأعراب ، ولا شكّ أنّ عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا في العلم والشرف وعلوّ الدرجة من أنس وابن المغفل ، والغاية على الظن أنّ عليا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان أنس وابن المغفل يقفان بالبعد منه ، وأيضا أنّه عليهالسلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالا لقوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (١) ، وأيضا فالإنسان أوّل ما يَشْرع في القراءة إنّما يَشْرع فيها بصوت ضعيف ثمّ لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة ، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنّ أنسا وابن المغفل ما سمعاه.
الثالث : لعلّ المراد من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت ، كما قال تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ).
الرابع : أنّ الدلائل العقلية موافقة لنا ، وعمل علي ابن أبي طالب عليهالسلام معنا ، ومن اتّخذ عليا إماما لدينه ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) في دينه ونفسه.
٤. ما روي عن أبي هريرة ، انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فلما قال العبد ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، يقول الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يقول الله تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) يقول الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي.
والاستدلال بهذا الخبر من وجهين :
الأوّل : انّه عليه الصلاة والسّلام لم يذكر التسمية ولو كانت آية من الفاتحة
__________________
١. الإسراء : ١١٠.
لذكرها.
الثاني : انّه تعالى قال : جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، والمراد من الصلاة ، الفاتحة ، وهذا التنصيف إنّما يحصل إذا قلنا بأنّ التسمية ليست آية من الفاتحة ، لأنّ الفاتحة سبع آيات ، فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف ، وهي من قوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) إلى قوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وللعبد ثلاث آيات ونصف وهي من قوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إلى آخر السورة.
أمّا إذا جعلنا ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف وللعبد آيتان (١) ونصف ، وذلك يبطل التنصيف المذكور. (٢)
يلاحظ عليه أوّلا : بأنّه معارض بخبر ابن عباس مرفوعا وفيه : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، فإذا قال العبد ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، قال الله تعالى :
دعاني عبدي إلى آخر الحديث ، وقد اشتملت الرواية على البسملة وليست في مرفوعة ابن عباس كلمة نصفين ، والتقسيم لا يستدعي المساواة من حيث العدد.
قال الرازي : إنّ لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات يحتمل النصف في المعنى ، قال عليهالسلام : الفرائض نصف العلم ، وسمّاه بالنصف من حيث إنّه بحث عن أحوال الأموات والموت والحياة قسمان.
وثانيا : انّ أبا هريرة روى عن رسول الله الجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم وكان هو يجهر بها ويقول : إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد مرّ عليك حديثه في ذلك. (٣)
__________________
١. كذا في المصدر والصحيح : ثلاث.
٢. التفسير الكبير : ١ / ٢٠١.
٣. انظر الحديث ١٢.
٥. روت عائشة انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربّ العالمين ، وهذا يدلّ على أنّ التسمية ليست آية من الفاتحة.
يلاحظ عليه : أنّ عائشة جعلت الحمد لله ربّ العالمين اسما لهذه السورة ، كما يقال : قرأ فلان ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ) والمراد انّه قرأ هذه السورة فكذا هاهنا.
أقول : ما أكثر التعبير عن مجموع السورة بالآية التي وردت في أوّلها فيقال : قرأ فلان سورة قل هو الله أحد أو قرأ سورة يسبح لله ما في السموات وما أشبه ذلك ، فيكون معنى الحديث انّه كان يفتتح الصلاة بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أوّلها ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). إلخ. (١)
ما يزيّفه التأريخ الصحيح
٦. أخرج الطبراني من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) هزأ منه المشركون وقالوا : محمد يذكر إله اليمامة ، وكان مسيلمة يتسمّى الرحمن ، فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله أن لا يجهر بها. (٢)
وهو نفس ما أخرجه ابن داود عن سعيد بن جبير قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، وكان أهل مكة يسمّون مسيلمة « الرحمن » فقالوا : إنّ محمّدا يدعو إلى إله اليمامة ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بإخفائها فما جهر بها حتّى مات. (٣)
__________________
١. التفسير الكبير : ١ / ٢٠٢.
٢. المعجم الأوسط : ٥ / ٨٩ ؛ الدر المنثور : ١ / ٢٩.
٣. الدر المنثور : ١ / ٢٩.
ولكن التأريخ يكذّب الرواية مهما صحّح سندها أو أرسلت إرسال المسلّم ، لأنّه ما علا أمر مسيلمة إلاّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وأين هو من بدء الهجرة وصدر البعثة؟!
روى الطبري وغيره انّ مسيلمة وفد إلى النبي مع جماعة وأسلم ، ولمّا عاد إلى موطنه ادّعى النبوة ، والتفّ حوله عصابة من قومه تعصبا ، وقد نقل انّ واحدا من أتباعه سأل مسيلمة ذات مرة وقال : من يأتيك؟
قال مسيلمة : رحمان.
قال السائل : أفي نور أم في ظلمة؟
فأجاب : في ظلمة.
فقال السائل : أشهد أنّك كذّاب وانّ محمّدا صادق ، ولكنّ كذّاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر. (١)
قال شيخنا « معرفة » في موسوعته الروائيّة للتفسير : كانت العرب تعرف « الرحمن » وانّه ربّ العالمين ( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (٢) ، ( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ) (٣) وقد خاطبهم الله سبحانه بهذا الوصف أزيد من خمسين موضعا ، فكيف يا تُرى أنكروا وصفه تعالى بهذا الوصف وزعم أنّه مستعار من وصف صاحب اليمامة؟!
وأمّا قوله سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً ) (٤) ، فليس إنكارهم دليلا على عدم عرفانهم ، فان قولهم ( وَمَا الرَّحْمنُ ) مثل قول فرعون ( وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ) استهزاء بموضع
__________________
١. تاريخ الطبري : ٢ / ٥٠٨.
٢. الزخرف : ٢٠.
٣. يس : ١٥.
٤. الفرقان : ٦٠.
الكليم في دعوته إلى عبادة الله بما أنّه إله واحد لا شريك له.
٧. أخرج ابن شيبة عن ابن عباس قال : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الاعراب. (١)
بالله عليك هل كان الإمام علي عليهالسلام الذي اشتهر بأنّه كان يجهر بها في صلواته عامة ، من الأعراب؟! وهل الإمام الشافعي ومن أخذ عنه أو أخذ منه ، الذين كانوا يجهرون بها في الصلوات الجهرية من الأعراب؟! ( فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
٨. ونظيره ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال : جهر الإمام ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة. (٢)
وقد كانت الأئمة الذين أخذ إبراهيم عنهم الفقه ، يجهرون بالتسمية فهل أخذ الفقه من المبدعة؟!
كلّ ذلك يشهد على أنّ عزو هذه الأقاويل إلى أئمّة الحديث والفقه ، كذب مفترى.
إلى هنا تمّ الكلام في الأمرين التاليين :
أ. انّ التسمية جزء من الفاتحة.
ب. انّ التسمية يجهر بها في الصلوات الجهرية.
__________________
١. مصنف ابن أبي شيبة : ١ / ٤٤١ ؛ الدر المنثور : ١ / ٢٩.
٢. المصنف : ١ / ٤٤٨ ؛ الدر المنثور : ١ / ٢٩ ـ ٣٠.
٦
البسملة جزء من مفتتح كلّ سورة
قد أوقفك البحث السابق على أنّ التسمية جزء من الفاتحة ، وأنّه يجب الجهر بها في الصلوات الجهرية بلا ريب.
بقي الكلام في البحث الثالث وهو انّ التسمية جزء من مفتتح كلّ سورة إلاّ سورة التوبة ، ويدلّ على ذلك الأمور التالية :
الأوّل : انّ الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي التابعين في كلّ خلف من هذه الأمّة منذ دوّن القرآن إلى يومنا هذا مجمعون إجماعا عمليا على كتابة البسملة في مفتتح كلّ سورة خلا براءة. كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة مع أنّهم كافة متصافقون على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن إلاّ بميزة بيّنة حرصا منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره ، ألا تراهم كيف ميّزوا عنه أسماء سورة ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظا به واحتياطا عليه ، ولعلّك تعلم أنّ الأمّة قل ما اجتمعت بقضّها وقضيضها على أمر كاجتماعها على ذلك ، وهذا بمجرده دليل على أنّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية
مستقلة في مفتتح كلّ سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها. (١)
الثاني : أخرج الحاكم عن ابن عباس انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) علم أنّها سورة. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. (٢)
الثالث : أخرج الحاكم عن ابن عباس ( رض ) قال : كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يعلم ختم السورة حتّى تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه على صحّته الذهبي في تلخيص المستدرك. (٣)
الرابع : أخرج الحاكم عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتّى تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فإذا نزلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) علموا أنّ السورة قد انقضت. (٤)
الخامس : روى ابن ضريس عن ابن عباس قال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية. (٥)
السادس : أخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال : أنزلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في كلّ سورة. (٦)
__________________
١. مسائل فقهية : ٢٨.
٢. المستدرك : ١ / ٢٣١.
٣. المستدرك : ١ / ٢٣١.
٤. المستدرك : ١ / ٢٣٢.
٥ و ٦. الدر المنثور : ١ / ٢٠.
السابع : أخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن نافع انّ ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أمّ القرآن وفي السورة التي تليها ويذكر انّه سمع ذلك من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. (١)
( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). (٢)
__________________
١. الدر المنثور : ١ / ٢٢.
٢. الأنعام : ١١٥.
٦
السجود
على الأرض
١
السجود على الأرض
مظهر ناصع من مظاهر العبودية
لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه. هو السجود ، وبه يؤكّد المؤمن عبوديّته لله تعالى ، والبارئ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه ، لذا روي في بعض المأثورات : « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده ».
ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجا يتميّز بها المؤمن عن الكافر ، وكان السجود ركنا من أركانها ، لم يكن هناك أوضح في إعلان التذلّل لله تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى ، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري ، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة ، وإن كان الكلّ سجودا ، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.
والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون
عنها إلاّ إلى ما أنبت منها بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس ، ولا يرون السجود على غير الأرض وما أنبت منها صحيحا في حال الصلاة أخذا بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر ـ في ثنايا البحث ـ أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة ، وأنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرة.
٢
اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه
اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له ، فإنّه هو الله سبحانه الذي ( لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) (١) وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ ) (٢) وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني : ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الإمامية تشترط كون المسجود عليه أرضا أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب ، وإليك نقل الآراء :
قال الشيخ الطوسي (٣) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء ـ : لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.
__________________
١. إشارة إلى قوله سبحانه ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) ـ الرعد / ١٥.
٢. فصلت : ٣٧.
٣. من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد عام ٣٨٥ ه وتوفّى عام ٤٦٠ ه ، من تلاميذ الشيخ المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ ه ) ، والسيّد الشريف المرتضى ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه ) ـ رضي الله عنهم.
وخالف فقهاء السنّة في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكمّ القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي عليهالسلام وابن عمر ، وعبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه ، أجزأه.
وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (١).
وقال العلاّمة الحلّي (٢) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ : لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق جمهور السنّة على الجواز. (٣)
وقد اقتفت الشيعة في ذلك أثر أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين ، ونحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي عنهم في هذا الجانب :
روى الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد الله عليهالسلام : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، وعمّا لا يجوز؟ قال : « السجود لا يجوز إلاّ على الأرض ، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس ». فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟
قال : « لأنّ السجود خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل
__________________
١. الخلاف : ١ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨ ، المسألة ١١٢ ـ ١١٣ ، كتاب الصلاة.
٢. الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه ) وهو زعيم الشيعة في أواخر القرن السابع والثامن ، لا يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.
٣. التذكرة : ٢ / ٤٣٤ ، المسألة ١٠٠.
ويلبس ، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده ، في عبادة الله عزّ وجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها ». (١)
وقال الصادق عليهالسلام : « وكلّ شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه ، أو ملبسه ، فلا تجوز الصلاة عليه ، ولا السجود إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر ، قبل أن يصير مغزولا ، فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال ضرورة ». (٢)
فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولا ولا ملبوسا اقتداء بأئمّتهم.
على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام ، يدعم نظريّة الشيعة ، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الثالث ، بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.
روى المحدث النوري في « المستدرك » عن « دعائم الإسلام » : عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهالسلام ، أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « إنّ الأرض بكم برّة ، تتيمّمون منها ، وتصلّون عليها في الحياة ( الدنيا ) وهي لكم كفاة في الممات ، وذلك من نعمة الله ، له الحمد ، فأفضل ما يسجد عليه المصلّي الأرض النقيّة ». (٣)
__________________
١. الوسائل : ج ٣ ، الباب ١ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ١ ، وهناك روايات بمضمونه. والكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هي التذلّل لا تحصل بالسجود على غير الأرض وما ينبت غير المأكول والملبوس فلاحظ.
٢. الوسائل : ٣ ، الباب ١ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ١١.
٣. مستدرك الوسائل : ٤ / ١٤ ، الباب ١٠ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ١.
وروى أيضا عن جعفر بن محمد عليهماالسلام أنّه قال : « ينبغي للمصلّي أن يباشر بجبهته الأرض ، ويعفّر وجهه في التراب ، لأنّه من التذلّل لله ». (١)
وقال عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني ( من أعيان القرن العاشر الهجري ) ـ ما هذا نصّه ـ : المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ، سواء كان ذلك بالجبهة أو الأنف ، بل ربّما كان الأنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الأنفة والكبرياء ، فإذا وضعه على الأرض ، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي الله تعالى ، إذ الحضرة الإلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فإنّها هي الجنة الكبرى حقيقة ، وقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ». (٢)
نقل الإمام محمد بن محمد بن سليمان المغربي المالكي الروداني ( المتوفّى ١٠٤٩ ه ) : عن ابن عباس رفعه : من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. (٣)
كما أنّ أصل العمل العبادي أمر توقيفي فكذلك شرائطه وأحكامه هي الأخرى التي يجب أن توضح وتبيّن من جانب مبيّن الشريعة ومبلّغها ونعني به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الاسوة بنصّ القرآن الكريم والمبين للكتاب العزيز وعلى المسلمين جميعا أن يتعلموا منه أحكام دينهم وتفاصيل شريعتهم وقد قال سبحانه :
__________________
١. مستدرك الوسائل : ٤ / ١٤ ، الباب ١٠ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ٢.
٢. اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر : ١ / ١٦٤. الطبعة الأولى.
٣. جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد : ١ / ٢١٤ برقم ١٥١٥.
( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ). (١)
( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ). (٢)
إنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم مبيّن للشريعة بنصّ من القرآن الكريم ، وأئمّة أهل البيت ـ حسب تنصيص النبي ـ أعدال الكتاب وقرناؤه ، حيث قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّي تارك فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. (٣)
فلا محيص عن الاهتداء بهديهم ، والاقتداء بهم وسوف يوافيك أنّهم كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض أو ما أتيت منها.
__________________
١. الأحزاب : ٢١.
٢. الحشر : ٢.
٣. سنن الترمذي : ٥ / ٣٢٨ ، رقم ٨٧٤ ط دار الفكر وغيرها من المصادر المتوفرة.