أحمد بن محمّد مهدي النّراقي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-013-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٥٢
إلى الأقلّ ، وكذا الاستناد إلى الانفهام من الموثّقة.
فروع :
أ : لا يختصّ تحريم الصدقة على بني هاشم بسهم الفقراء ، بل يحرم عليهم مطلقا ؛ للإطلاقات (١).
ونقل في المبسوط والسرائر عن قوم : جواز استعمالهم على الصدقات وإعطائهم من سهم العاملين (٢).
والظاهر ـ كما في المختلف ـ أنّهم من العامّة (٣) ، ويؤكّده ما في كتاب قسمة الصدقات من الخلاف من دعوى إجماعنا على عدم الجواز ، ونسبة الجواز إلى بعض من أصحاب الشافعي (٤). وكيف كان فتردّه الإطلاقات ، وخصوص صحيحة العيص المتقدّمة (٥).
ب : لا تحرم الصدقات غير الواجبة على الهاشمي ولو من غيره ، ومن الواجبة غير الزكاة.
أمّا الأول ، فعلى الحقّ الأشهر كما في التذكرة (٦) ، بل بلا خلاف يعلم كما في الذخيرة (٧) ، بل مطلقا كما في المفاتيح (٨) ، بل عند علمائنا كما عن المبسوط والمنتهى (٩) ، بل بالإجماع كما عن الخلاف (١٠).
__________________
(١) راجع ص ٣١٨.
(٢) المبسوط ١ : ٢٤٨ ، السرائر ١ : ٤٥٧.
(٣) المختلف : ١٨٤.
(٤) الخلاف ٤ : ٢٣٢.
(٥) في ص : ٣١٨.
(٦) التذكرة ١ : ٢٣٥.
(٧) الذخيرة : ٤٦١.
(٨) المفاتيح ١ : ٢٣٢.
(٩) المبسوط ٣ : ٣٠٢ ، المنتهى ١ : ٥٢٥.
(١٠) الخلاف ٤ : ٢٤٠.
وأمّا ما في التذكرة من قوله : روى الجمهور ، عن الصادق ، عن أبيه الباقر عليهالسلام : « إنّه كان يشرب من سقايات بين مكّة والمدينة ، فقيل له : أتشرب من الصدقة؟! فقال : إنّما حرّم علينا المفروضة » (١) ، حيث إنّ ظاهره تفرّد العامّة بالرواية.
فإنّما هو في حقّ الإمام خاصّة ، فإنّه صرّح : أنّ الصدقة المندوبة محرّمة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقال : إنّ حكم الأئمّة في ذلك أيضا حكمة ، ووافقه في المسالك (٢) وجمع آخر (٣).
وبالجملة : فكلامه إنّما هو في خصوص الإمام ، فلا ينافي ادّعاءه الشهرة على الجواز في المندوبة لبني هاشم.
وأمّا الثاني ، فعلى الأظهر أيضا ، كما هو ظاهر المدارك والذخيرة (٤) ، بل لم أعثر فيه أيضا على مخالف سوى ما في التذكرة من احتمال المنع (٥).
ويدلّ على الأول ـ مضافا إلى ظاهر الإجماع ـ قويّة (٦) الهاشمي : أتحلّ الصدقة لبني هاشم؟ فقال : « إنّما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحلّ لنا ، وأمّا غير ذلك فليس به بأس » (٧).
وعلى الثاني روايته : عن الصدقة التي حرّمت على بني هاشم ، ما
__________________
(١) التذكرة ١ : ٢٣٥.
(٢) المسالك ١ : ٦١.
(٣) نقله عن كتاب الأربعين للشيخ البهائي في الحدائق ١٢ : ٢١٨ ، وفصل في المفاتيح ١ : ٢٣٢ بين الصدقة العامة فجوّزها وبين الصدقة الخاصة فحرّمها.
(٤) المدارك ٥ : ٢٥٦ ، الذخيرة : ٤٦١.
(٥) التذكرة ١ : ٢٣٥.
(٦) في « س » زيادة : كصحيحة.
(٧) الكافي ٤ : ٥٩ ـ ٣ ، التهذيب ٤ : ٦٢ ـ ١٦٦ ، المقنعة : ٢٤٣ ، الوسائل ٩ : ٢٧٢ أبواب المستحقين للزكاة ب ٣١ ح ٣.
هي؟ فقال : « هي الزكاة » (١).
وعليهما رواية الشحّام : عن الصدقة التي حرّمت عليهم ، قال : « هي الزكاة المفروضة » (٢).
وبهذه الأخبار تخصّص مطلقات تحريم الصدقة على بني هاشم.
وصحيحة البجلي : « لو حرّمت علينا الصدقة لم يحلّ لنا أن نخرج إلى مكّة ؛ لأنّ كلّ ما بين مكّة والمدينة فهو صدقة » (٣) ، دلّت على عدم حرمة مطلق الصدقة ، فإمّا يفسّر بما ذكرنا بشهادة ما مرّ ، أو يكون مجملا تخرج به المطلقات عن الحجّية في غير موضع الإجماع ، وهو الزكاة المفروضة.
ج : الهاشميّون هم بنو عبد المطلب ، والموجود منهم في هذه الأزمنة أولاد أمير المؤمنين عليهالسلام والعبّاس وأبي لهب ، وقيل : الحارث أيضا (٤).
وفي الاختصاص بالمتقرّب بالأب أو الأعمّ منه ومن المتقرّب بالأم أيضا ، وجهان ..
( الحقّ : هو الأول ، كما صرّح به في مرسلة حمّاد ، وفيها : « ومن كانت امّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقات تحلّ له ، وليس له من الخمس شيء » (٥) ، ويأتي تحقيقه في بحث الخمس أيضا ) (٦).
__________________
(١) التهذيب ٤ : ٥٨ ـ ١٥٦ ، الاستبصار ٢ : ٣٥ ـ ١٠٧ ، الوسائل ٩ : ٢٧٤ أبواب المستحقين للزكاة ب ٣٢ ح ٥.
(٢) التهذيب ٤ : ٥٩ ـ ١٥٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٥ ـ ١٠٨ ، الوسائل ٩ : ٢٧٤ أبواب المستحقين للزكاة ب ٣٢ ح ٤.
(٣) التهذيب ٤ : ٦١ ـ ١٦٥ ، الوسائل ٩ : ٢٧٢ أبواب المستحقين للزكاة ب ٣١ ح ١.
(٤) كما في المنتهى ١ : ٥٢٥.
(٥) التهذيب ٤ : ١٢٨ ـ ٣٦٦ ، الاستبصار ٢ : ٥٦ ـ ١٨٦ ، الوسائل ٩ : ٢٧١ أبواب المستحقين للزكاة ب ٣٠ ح ١.
(٦) بدل ما بين القوسين في « ق » : ويأتي تحقيقه في موضعه.
الفصل الثالث
في ما يتعلّق بهذا البحث من الأحكام
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد مرّ أنّ العاملين يعطون من الزكاة في هذه الأزمنة بقدر اجرة العمل لا أزيد ولا أنقص ، وأنّ ابن السبيل يعطى ما يكفيه لذهابه وإيابه ، والغارمون والرقاب ما يؤدّون به الدين ويفكّون الرقبة لا أزيد ؛ ووجهه ظاهر.
وأمّا الفقراء ، فقد وقع الخلاف في أقلّ ما يعطى واحد منهم من الزكاة ، هل يقدّر بقدر ، أم لا؟
فالأول : منقول عن المقنعة والرسالة العزّية للمفيد والانتصار والمسائل المصريّة للسيّد والنهاية والمبسوط والتهذيب (١) والصدوقين والإسكافي والديلمي والوسيلة والغنية والإرشارة والمعتبر والشرائع والنافع (٢) وصاحب الحدائق من متأخّري المتأخّرين (٣) ، ومال إليه بعض مشايخنا (٤) ،
__________________
(١) المقنعة : ٢٤٣ ، الانتصار : ٨٢ ، النهاية : ١٨٩ ، المبسوط ١ : ٢٦٠ ، التهذيب ٤ : ٦٢.
(٢) الصدوق في المقنع : ٥٠ ، حكاه عن والده في الفقيه ٢ : ١٠ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ١٨٦ ، الديلمي في المراسم : ١٣٣ ، الوسيلة : ١٣٠ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٨ ، الإشارة : ١١٣ ، المعتبر ٢ : ٥٩٠ ، الشرائع ١ : ١٦٦ ، النافع : ٦٠.
(٣) الحدائق ١٢ : ٢٤٩.
(٤) وهو صاحب الرياض ١ : ٢٨٨.
ونسبه جماعة إلى المشهور بين القدماء (١) ، واخرى ـ ومنهم جدّي رحمهالله ـ إلى الأكثر مطلقا ، وفي الانتصار والمصريّة والغنية : الإجماع عليه.
والثاني : محكيّ عن جمل السيّد والسرائر (٢).
وذهب القاضي والفاضل والشهيدان (٣) وأكثر من تأخّر عنهم إلى التقدير على سبيل الاستحباب (٤).
فإن قلنا : إنّ تقدير الأولين أيضا استحبابي ـ كما صرّح به في التذكرة ، حيث قال : ولا حدّ للإعطاء إلاّ أنّه يستحبّ أن لا يعطى الفقير أقلّ ما يجب في النصاب الأول ، وهو خمسة دراهم أو عشرة قراريط ، قاله الشيخان وابنا بابويه وأكثر علمائنا ، إلى أن قال : وما قلناه على الاستحباب لا الوجوب إجماعا (٥) ـ يتّحد القول الأول والثالث.
وإن قلنا : إنّه على سبيل الوجوب ، كما يستفاد عن المدارك ، حيث قال : الظاهر من كلام الأصحاب أنّ هذه التقريرات على سبيل الوجوب (٦) ، وكذا الفاضل الهندي في شرح الروضة ..
فإن قلنا : إنّ مراد النافين للتقدير : نفي الوجوب دون الاستحباب ـ كما تحتمله عبارة الذخيرة ؛ حيث إنّه بعد نقل نفي التقدير عمّن ذكر قال :
__________________
(١) كما في المعتبر ٢ : ٥٩٠ ، والرياض ١ : ٢٨٨.
(٢) جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٧٩ ، السرائر ١ : ٤٦٤.
(٣) القاضي في المهذّب ١ : ١٧٢ ، وشرح الجمل : ٢٦٣ ، الفاضل في المختلف : ١٨٦ ، والتذكرة ١ : ٢٤٤ ، الشهيد في الدروس ١ : ٢٤٤ ، الشهيد الثاني في الروضة ٢ : ٥٦ ، والمسالك ١ : ٦٢.
(٤) كالأردبيلي في مجمع الفائدة ٤ : ٢٠٨ ، صاحب المدارك ٥ : ٢٨١ ، السبزواري في الذخيرة : ٤٦٧.
(٥) التذكرة ١ : ٢٤٤.
(٦) المدارك ٥ : ٢٨١.
وإلى هذا القول ذهب جماعة من الأصحاب ومنهم المصنّف (١) ، مع أنّ المصنّف صرّح بالتقدير الاستحبابي ـ فيتّحد الثاني مع الثالث.
وإن قلنا : إنّ مرادهم نفي التقدير مطلقا تكون في المسألة أقوال ثلاثة.
والتحقيق : أنّ كلام أكثر الأولين صريح أو ظاهر في الوجوب ، كما أنّ الصدوق عبّر بقوله : لا يجزئ ، ووالده بقوله : لا يجوز ، والديلمي قال : وأقلّ ما يجزئ ، وكذا في المصريّات ، والشيخ في التهذيب حمل تجويز إعطاء الدرهمين في بعض الروايات على النصاب الثاني (٢) ، وصرّح بعدم جواز ذلك في النصاب الأول.
وأمّا النافون ، فظاهرهم نفي الوجوب فقط.
وكيف كان ، فدليل الأولين ـ وهم المقدّرون وجوبا ـ طريقة الاحتياط ، والمحكيّة من الإجماعات ، وفتوى أعيان الطائفة.
وصحيحة الحنّاط : « لا يعطى أحد من الزكاة أقلّ من خمسة دراهم ، وهو أقلّ ما فرض الله من الزكاة في أموال المسلمين ، فلا تعطوا أحدا من الزكاة أقلّ من خمسة دراهم فصاعدا » (٣).
ورواية ابن عمّار وابن بكير : « لا يجوز أن يدفع أقلّ من خمسة دراهم ، فإنّها أقلّ الزكاة » (٤).
وفي الفقه الرضوي : « ولا يجوز أن يعطى من الزكاة أقلّ من نصف
__________________
(١) الذخيرة : ٤٦٧.
(٢) التهذيب ٤ : ٦٣.
(٣) الكافي ٣ : ٥٤٨ ـ ١ ، التهذيب ٤ : ٦٢ ـ ١٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٨ ـ ١١٦ ، المحاسن : ٦٢ ـ ١٦٨ ، المقنعة : ٢٤٤ ، الوسائل ٩ : ٢٥٧ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣ ح ٢.
(٤) التهذيب ٤ : ٦٢ ـ ١٦٨ ، الاستبصار ٢ : ٣٨ ـ ١١٧ ، الوسائل ٩ : ٢٥٧ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣ ح ٤.
دينار » (١).
وحجّة الثاني ـ وهو النافي للتقدير ـ الأصل ، وإطلاقات الكتاب (٢) والسنّة (٣) ، والأخبار المستفيضة ، كحسنة عبد الكريم الهاشمي : « كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسّمها بينهم بالسويّة ، إنّما يقسّمها على قدر من يحضرها منهم وما يرى ، وليس في ذلك شيء مؤقّت » (٤).
وحسنة الحلبي : ما يعطى المصدّق؟ قال : « ما يرى الإمام ، ولا يقدّر له شيء » (٥).
ومكاتبة الصهباني الصحيحة : هل يجوز لي يا سيّدي أن اعطي الرجل من إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة دراهم ، فقد اشتبه ذلك عليّ؟ فكتب : « ذلك جائز » (٦) ، وقريبة منها الأخرى (٧) ، وضعف بعضها منجبر بما ذكر.
وجواب الأولين عنها بدفع الأصل وتقييد الإطلاق بما مرّ ، وبردّ الحسنة الأولى بعدم الدلالة أصلا ؛ لاحتمال كون التقدير المنفي فيها التقدير البسطي ، بل هو الظاهر من صدر الحديث ، فإنّه وارد في احتجاجه عليهالسلام
__________________
(١) فقه الرضا عليهالسلام : ١٩٧ ، مستدرك الوسائل ٧ : ١١٣ أبواب المستحقين للزكاة ب ١٢ ح ١.
(٢) التوبة : ٦٠.
(٣) الوسائل ٩ : ٢٥٦ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣.
(٤) الكافي ٣ : ٥٥٤ ـ ٨ ، الفقيه ٢ : ١٦ ـ ٤٨ ، التهذيب ٤ : ١٠٣ ـ ٢٩٢ ، الوسائل ٩ : ٢٦٥ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٨ ح ١.
(٥) الكافي ٣ : ٥٦٣ ـ ١٣ ، التهذيب ٤ : ١٠٨ ـ ٣١١ ، الوسائل ٩ : ٢٥٧ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣ ح ٣.
(٦) التهذيب ٤ : ٦٣ ـ ١٦٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٨ ـ ١١٨ ، الوسائل ٩ : ٢٥٨ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣ ح ٥ ؛ وفيها : محمّد ابن أبي الصهبان.
(٧) الفقيه ٢ : ١٠ ـ ٢٨ ، الوسائل ٩ : ٢٥٦ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣ ح ١.
على عمرو بن عبيد : قال له : « ما تقول في الصدقة؟ » فقرأ ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ) الآية ، فقال : « كيف تقسّمها؟ » قال : أقسّمها على ثمانية أجزاء ، فاعطي كلّ جزء واحدا ، إلى أن قال عليهالسلام : « وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ » قال : نعم ، قال : « فقد خالفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في كلّ ما قلت في سيرته ، كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقسّم » إلى آخر ما مرّ.
وكذلك الثانية ؛ لجواز كون : يعطى ، مبنيّا للمفعول ، فيكون السؤال عن حصّة العامل.
مع أنّه على فرض دلالتهما يحتملان التقييد بما بعد النصاب الأول ، كما صرّح به جمع (١) ، يعني : أنّه لا يقدّر شيء بعد ذلك التقدير ، فيكون أعمّ من الأخبار المقدّرة ؛ لاختصاصها بما قبل النصاب الثاني للإجماع ، فيجب التقييد.
ولهما جهة عموم أخرى أيضا ، وهي ما إذا تمكّن من إعطاء الزائد أو لم يتمكّن ، كما إذا كان ما يجب عليه هذا القدر خاصّة ، كما إذا تلف بعض النصاب بعد الحول بلا تفريط ، وما مرّ خاصّ بصورة الإمكان إجماعا ، فيحتمل التقييد من هذه الجهة أيضا.
وهذان الاحتمالان جاريان في المكاتبتين أيضا ، مع أنّهما لم تدلاّ على عدم التقدير ، بل غايتهما الدلالة على جواز دفع الدرهمين والثلاثة في الجملة ، وذلك لا ينافي التقدير بما دونها كالدرهم الواحد ، كما هو مختار الإسكافي والمصريّات بل الديلمي (٢) ، أو الدرهمين في الفضّة ونصف دينار في الذهب ، كالمقنع (٣).
__________________
(١) انظر : الرياض ١ : ٢٨٨.
(٢) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ١٨٦ ، الديلمي في المراسم : ١٣٤.
(٣) المقنع : ٥٠.
هذا كلّه ، مع أنّه على فرض التعارض يجب تقديم ما مرّ ؛ لرجحانه بمخالفة العامّة وموافقة المكاتبتين ، فإنّ عدم التقدير مذهب الجمهور كافّة ، كما صرّح به جماعة ، منهم : السيّد في الانتصار والفاضل في التذكرة (١).
دليل الثالث : الجمع بين الأخبار.
وردّ : بأنّ هذا الجمع ممّا لا شاهد عليه.
فأجيب : بأنّ أخبار الجواز قرينة على التجوّز في أخبار نفي الجواز.
وفيه : أنّ هذا يتمّ لو كان أحدهما نهيا والآخر رخصة ، فإنّ العرف يجعل الآخر قرينة للتجوّز في الأول ، بخلاف نحو : لا يجوز وجائز ، فإنّهما متنافيان قطعا.
أقول : حقّ المحاكمة أنّ الحسنتين غير دالّتين على مطلوب النافين كما ذكر ، فبقيت المكاتبتان معارضتين لروايات التقدير.
والحكم بأعميّة المكاتبتين غير جيّد ؛ لأنّ الملحوظ في التعارض هو نفس المتعارضين من غير تصرّف في أحدهما بواسطة سائر المعارضات الخارجيّة ولو كان إجماعا.
فلا بدّ من الرجوع إلى حكم المتعارضين ، والمكاتبتان وإن كانتا مرجوحتين بموافقة العامّة ، ولكنّهما راجحتان بالأحدثيّة وموافقة إطلاق الكتاب ، وهما أيضا من المرجّحات المنصوصة ، فيتكافئان ، فيجب الرجوع إلى الأصل والإطلاقات في نفي التقدير ، ولكن لمّا كانت أدلّة السنن تتحمّل من التسامح ما لا يتحمّله غيرها ، ويدفع أصل عدم الاستحباب ، وتقيّد إطلاقاته بالأدلّة الضعيفة ، فيحكم باستحباب المقدّر ؛ للاحتياط ، والإجماعات المنقولة (٢) ، وفتوى العلماء .. بل الرضويّ أيضا (٣) ؛ لخلّوه عن
__________________
(١) الانتصار : ٨٣ ، التذكرة ١ : ٢٤٤.
(٢) كما في التذكرة ١ : ٢٤٤.
(٣) المتقدم في ص : ٣٢٦.
المعارض في الذهب.
فالحقّ إذن مع القول الثالث ، وهو الاستحباب.
فروع :
أ : وإذ عرفت استحباب إعطاء المقدّر لا أقلّ فقد اختلفوا فيه ، فالمصرّح به في كلام أكثر المقدّرين للأقلّ وجوبا أو استحبابا خمسة دراهم في زكاة الفضّة ، ونصف دينار في زكاة الذهب (١) ، وعليه دعوى الشهرة (٢) ، وعلى الخمسة دعوى الإجماع في الانتصار (٣).
وقيل : أقلّ من ذلك (٤).
والظاهر استحباب المشهور ؛ للشهرة ، والإجماع المنقول ، والرضوي ، وموافقة الروايتين المقدّرتين.
ب : هل التقدير منحصر بزكاة النقدين ، أم يجري في غيرهما أيضا؟
المذكور في كلام جماعة : هما خاصّة (٥) ، ولكن صريح عبارة المراسم والغنية (٦) وظاهر مهذّب القاضي والإشارة (٧) : التعميم ، وصرّح في الوسيلة بالتعميم بالنسبة إلى المواشي أيضا (٨) ، وفي الغنية : الإجماع عليه.
وعلى هذا ، فلا بأس بالقول بعموم الاستحباب ؛ لفتوى هؤلاء والإجماع المنقول ، فيكون المقدّر في المواشي فريضة النصاب الأول ، وفي
__________________
(١) كما في الانتصار : ٨٢ ، والمبسوط ١ : ٢٦٠ ، والمعتبر ٢ : ٥٩٠.
(٢) كما في المعتبر ٢ : ٥٩٠.
(٣) الانتصار : ٨٣.
(٤) كما في المراسم : ١٣٣ ، والمختلف : ١٨٦.
(٥) كما في المقنع : ٥٠.
(٦) المراسم : ١٣٤ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٨.
(٧) المهذّب ١ : ١٧٢ ، الإشارة : ١١٣.
(٨) الوسيلة : ١٣٠.
الغلاّت فريضة النصاب ، كما هو المذكور في كلام هؤلاء الأصحاب.
ج : المستحبّ إنّما هو عدم النقصان عن المقدّر مطلقا ـ أي أن لا يعطى فقير أقلّ من ذلك ما دام عليه ذلك المقدار فصاعدا ـ فلو كان عنده نصابان يدفع الفريضتين إلى فقير واحد ؛ لئلاّ ينقص واحد عن المقدّر.
وما ذكره الشهيد الثاني ـ أنّه يعطي فريضة الأول لواحد ، والثاني لآخر من غير كراهة (١) ـ غير جيّد.
نعم ، إذا لم يتمكّن من إعطاء المقدّر ـ كما إذا تلف بعض النصاب من غير تفريط ـ فلا يستحبّ الإتمام من غير الزكاة ، ويعطي ما عليه من غير كراهة.
المسألة الثانية : ما ذكر إنّما كان في جانب القلّة ، وأمّا في جانب الكثرة : فإن لم يكن الفقير ذا كسب لا يفي بمؤنته فلا حدّ للأكثر ، فيجوز أن يعطى الفقير الواحد ما يغنيه وما يزيد على غناه إجماعا محقّقا ، ومحكيّا مستفيضا (٢) ؛ له ، وللأصل ، والإطلاقات المستفيضة (٣).
ويظهر من المنتهى وقوع الخلاف ، حيث قال : لو كان معه ما يقصر عن مئونته ومئونة عياله حولا جاز له أخذ الزكاة ؛ لأنّه محتاج ، وقيل لا يأخذ زائدا عن تتمّة المؤنة حولا ، وليس بالوجه (٤). انتهى.
ويحتمل أن يكون القائل من العامّة ، حيث نسب نفسه الأول إلى علمائنا أجمع (٥) ، ويمكن أن يكون الخلاف مخصوصا بمن معه بعض
__________________
(١) المسالك ١ : ٦٢.
(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٨ ، المدارك ٥ : ٢٨٢ ، الرياض ١ : ٢٨٨.
(٣) الوسائل ٩ : ٢٥٨ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٤.
(٤) المنتهى ١ : ٥١٨.
(٥) المنتهى ١ : ٥٢٨.
المؤنة. وكيف كان ، فهو ضعيف ؛ لما مرّ من غير معارض.
نعم ، لو تعاقب عليه العطية ، فبلغت مئونة السنة ، حرم عليه الزائد ؛ لتحقّق الغنى المانع من الاستحقاق.
وأمّا ما في المدارك ردّا على المحقّق ـ من أنّه لا وجه للفرق بين الدفعة والتعاقب ؛ لأنّ الفقير متى ملك مئونة السنة صار غنيّا وحرم عليه تناول الزكاة (١) ـ فغير جيّد جدّا.
وكذا إن كان ذا كسب غير واف بتمام المؤنة ، وفاقا للأكثر على ما صرّح به غير واحد (٢) ؛ لما مرّ من الأصل والإطلاق وعموم المستفيضة (٣).
وحكى جماعة قولا بأنّه لا يأخذ ما يزيد على كفايته ، واستحسنه في البيان (٤) ، وهو ظاهر اللمعة (٥) ، وتردّد في الدروس (٦) ؛ لصحيحة ابن وهب الواردة في من له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وهو يحترف ولا يصيب نفقته منها ، وفيها : « ويأخذ البقيّة من الزكاة » (٧) ، ونحوها غيرها (٨).
ويردّ : بأنّها ليست صريحة في المنع عن الزيادة ، ومع ذلك موردها غير ذي الكسب ، إلاّ أن يعمّم الكسب للتجارة ، أو الخلاف لغير ذي الكسب أيضا ، وحينئذ فيكتفى في الجواب بقصور الدلالة ، فلا يصلح لتقييد الأخبار المطلقة ، أو تخصيص العامّة المعتضدة بالأصل والشهرة ، ولكنّ
__________________
(١) المدارك ٥ : ٢٨٢.
(٢) كما في المنتهى ١ : ٥١٨ ، والمدارك ٥ : ١٩٧ ، والرياض ١ : ٢٧٩.
(٣) الوسائل ٩ : ٢٣١ أبواب المستحقين للزكاة ب ٨.
(٤) البيان : ٣١١.
(٥) اللمعة ( الروضة ٢ ) : ٤٥.
(٦) الدروس ١ : ٢٤٠.
(٧) الكافي ٣ : ٥٦١ ـ ٦ ، الوسائل ٩ : ٢٣٨ أبواب المستحقين للزكاة ب ١٢ ح ١.
(٨) التهذيب ٤ : ٥٠ ـ ١٣٠ ، الوسائل ٩ : ٢٣٩ أبواب المستحقين للزكاة ب ١٢ ح ٤.
الاحتياط في كلّ حال مطلوب.
المسألة الثالثة : من ادّعى الفقر ، إن عرف صدقه أو كذبه عومل به بما يقتضيه. وإن جهل حاله :
فإن لم يعلم له مال أولا ، فالمشهور أنّه يصدّق في دعواه (١) ، وفي المدارك : أنّه المعروف من مذهب الأصحاب ، وفيه عن ظاهر الفاضلين : أنّه موضع وفاق (٢) ، وفي الحدائق : أنّ ظاهرهم الاتّفاق عليه (٣).
واستدلّ له باتّفاق الأصحاب ظاهرا.
وبأنّه ادّعى موافقا للأصل.
وباستلزام عدمه الحرج والعسر على الفقير في كثير من الموارد ، سيّما إذا كان ممّن يستحيي من الإظهار.
وبأنّه مسلم ادّعى ممكنا ولم يظهر ما ينافيه فكان مقبولا.
وبأنّ الأصل عدالة المسلم ، فكان قوله مقبولا.
وبرواية العرزمي : « جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما السّلام على الصفا فسألهما ، فقالا : إنّ الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع ، أو غرم مقطع ، أو فقر مدقع ، ففيك شيء من هذا؟ قال : نعم ، فأعطياه » (٤).
وبأنّه لا يخفى على متتبّع الأخبار الواردة في البيّنة واليمين (٥) أنّه لا عموم لها على وجه يشمل ما نحن فيه ، فإنّ موردها ما إذا كانت الدعوى من اثنين مدّع ومنكر ، ولا دلالة فيها على أنّ من ادّعى شيئا وليس في مقابله
__________________
(١) انظر : المعتبر ٢ : ٥٦٨ ، والمنتهى ١ : ٥٢٦ ، والحدائق ١٢ : ١٦٣.
(٢) المدارك ٥ : ٢٠١.
(٣) الحدائق ١٢ : ١٦٣.
(٤) الكافي ٤ : ٤٧ ـ ٧ ، الوسائل ٩ : ٢١١ أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٦.
(٥) الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣.
من ينكر دعواه بأنّه يكلّف البيّنة واليمين.
وبأنّ الظاهر من الأخبار أنّ من ادّعى ما لا يدّعى عليه قضي له به.
وغير الثلاثة الأول من هذه الوجوه منظور فيه.
أمّا الرابع ، فلمنع كلّية كبراه.
وأمّا الخامس ، فله ، ولمنع صغراه.
وأمّا السادس ، فلأنّه قضيّة في واقعة ، فلعلّ ما أعطياه لم يكن من الصدقة الواجبة والكلام فيها.
وأمّا السابع ، فبأنّ عدم ثبوت طلب البيّنة أو اليمين عن مدّع لا منكر يقابله ، وعدم شمول أخبارهما له لا يستلزم تصديق قوله والعمل بمقتضاه.
وأمّا الثامن ، فلمنع ثبوت كلّيته ، وإنّما هو في مال لا يد لأحد عليه ، ولا منازع له ، ولا يطلب منه امتثال واجب ولا إبراء ذمّة.
نعم ، الظاهر تماميّة دلالة الثلاثة الأول ..
أمّا الأصل ، فظاهر.
وأمّا الإجماع ، فلأنّه طريقة السلف والخلف من غير نكير ومصرّح به في كلام العلماء ، ونراهم يعطون الغرباء الذين لا ترجى بيّنة لهم من غير حلف ، ويقتحمون الفقراء إليهم من البلدان النائية.
وأمّا العسر والحرج على الفقراء ، فلدوران الأمر بين صبرهم على الافتقار والجوع ، أو إقامة البيّنة المتعذّرة في حقّ الأكثر ، وكلّ منهما حرج عظيم.
ويدلّ عليه أيضا : أنّه لولاه للزم الحرج على أرباب الزكاة أيضا ، سيّما على عدم سماع الشهادة العلميّة ؛ لأنّ العمل بمقتضى الحلف لا دليل عليه في المقام ، وإقامة البيّنة الحسّية على الفقراء متعذّرة ؛ لأنّ جهات حصول المال غير محصورة ، فلعلّه وجد كنزا ، أو أعطي مالا بحيث لا نعلمه ، أو له
مال مدفون أو مودع ولو بمواهبه .. بل وكذا البيّنة العلميّة ؛ لما ذكرنا ، فلو لم تسمع دعواه لسدّ باب إعطاء الزكاة غالبا.
ويمكن أن يستدلّ عليه أيضا بحسنة أبي بصير : الرجل يموت ويترك العيال ، أيعطون من الزكاة؟ فقال : « نعم ، حتى ينشئوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا يعيشون إذا قطع ذلك عنهم » (١) الحديث.
تدلّ على أنّهم إذا قالوا : لا معيشة لهم لو قطع ذلك ، يجوز إعطاؤهم. وتؤكّده ما دلّت على كراهيّة ردّ السائل مطلقا أيضا.
وإن علم له مال أولا ، فالمشهور أيضا قبول دعواه (٢) ، وعن المبسوط : عدمه إلاّ بالبيّنة أو إمارة مفيدة للعلم (٣) ، وقوّاه في المدارك (٤) ، ومال إليه في الذخيرة (٥) ، وهو ظاهر جدّي ـ رحمهالله ـ في الرسالة.
وهو الأقوى ؛ لتوقّف حصول العلم بالمشروط ، وهو البراءة من الزكاة على العلم بالشرط ، وهو الفقر.
ولو علم له مال ، وعلم تلف مال منه أيضا ، ولم يعلم أنّ التالف هو ما كان له أو مال آخر حصّله ، بني على الأول ؛ لأصالة عدم حصول مال آخر.
ولو كان له مال يكفي لمعيشته مدّة ، ومضت المدّة ، ولم يعلم أنّه هل صرفه في معيشته أو حصلت المعيشة من جهة أخرى ، بني على الأول أيضا ؛ لعين ما ذكر.
__________________
(١) الكافي ٣ : ٥٤٨ ـ ١ ، التهذيب ٤ : ١٠٢ ـ ٢٨٧ ، الوسائل ٩ : ٢٢٦ أبواب المستحقين للزكاة ب ٦ ح ١.
(٢) كما في المعتبر ٢ : ٥٦٨ ، والمنتهى ١ : ٥٢٦.
(٣) المبسوط ١ : ٢٤٧.
(٤) المدارك ٥ : ٢٠٢.
(٥) الذخيرة : ٤٦٢.
فرعان :
أ : حكم الغارم والعبد وابن السبيل يعلم ممّا ذكر ، فلا يقبل قول الأولين إلاّ مع الثبوت أو العلم بالحال أولا ، ويقبل قول الثالث مع عدم العلم باستصحابه ما يكفيه أولا ، لا مع العلم به.
ب : لو ادّعى عدم الهاشميّة يسمع منه ؛ لكفاية عدم العلم بالهاشميّة في إعطاء زكاة غير الهاشمي ؛ لأنّ الثابت هو منع من علمت هاشميّته ؛ لأنّ التكاليف مقيّدة بالعلم ، فتبقى عمومات الفقراء خالية عن المقيّد.
المسألة الرابعة : لا يشترط إعلام الفقير أنّ المدفوع إليه زكاة ، فلو كان مستحقّا لها جاز صرفها إليه من غير تسمية ، بل ولو بتسمية اخرى ؛ للأصل ، بل الإجماع والإطلاقات ..
ولرواية أبي بصير : الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ الزكاة ، فأعطيه من الزكاة ولا اسمّي له أنّها من الزكاة ، فقال : « أعطه ، ولا تسمّ له ، ولا تذلّ المؤمن » (١).
وضعف الرواية سندا غير واضح ، ولو وضح فغير ضائر ، سيّما مع انجبارها بالعمل وموافقتها للأصل.
وأمّا حسنة محمّد : الرجل يكون محتاجا ، فيبعث إليه بالصدقة ولا يقبلها على وجه الصدقة ، يأخذه من ذلك ذمام واستحياء وانقباض ، أفيعطيها إيّاه على غير ذلك الوجه وهي منّا صدقة؟ فقال : « لا ، إذا كانت زكاة فله أن يقبلها ، فإن لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إيّاه » (٢).
__________________
(١) الكافي ٣ : ٥٦٣ ـ ٣ ، الفقيه ٢ : ٨ ـ ٢٥ ، المقنعة : ٢٦٠ ، الوسائل ٩ : ٣١٤ أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨ ح ١.
(٢) الكافي ٣ : ٥٦٤ ـ ٤ ، الوسائل ٩ : ٣١٥ أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨ ح ٢.
فهي مختصّة بصورة العلم بعدم قبوله على وجه الزكاة والإعطاء على غير ذلك الوجه ، ونحن نسلّم عدم جواز الإعطاء مع ذلك ؛ لهذه الرواية ، التي هي أخصّ من الاولى ، ولم يعلم مخالفتها لعمل الأصحاب ؛ إذ لا علم لنا ولا ظنّ بذهابهم إلى الجواز مع الأمرين أيضا ، سيّما إذا أعطاها إيّاه وردّه مرّة.
وحملها في الذخيرة على صورة التصريح بأنّه غير الزكاة ، والاولى على عدم التسمية أصلا (١).
والصحيح ما ذكرنا ؛ لاشتمالها على عدم القبول ، فلا بدّ من اعتباره في القول بما يخالف الأصل والإجماع.
وأمّا الحمل على الكراهة كما في المدارك (٢) ، أو على صورة احتمال كون الامتناع لعدم الاستحقاق كما في الوسائل (٣) ، أو جعله لفظة « لا » في قوله : فقال : « لا » إضرابا عن الكلام السابق ، وارتكاب التأويل فيما بعده كما قيل (٤) .. [ فوجوه ] (٥) بعيدة ، لا وجه لارتكابها أصلا.
المسألة الخامسة : لو دفع الزكاة إلى الفقير ثمَّ ظهر عدم فقره ، فإمّا تكون العين باقية أو لا ، وعلى التقديرين إمّا يكون الآخذ عالما بأنّه زكاة أم لا ، وعلى التقادير إمّا يمكن الارتجاع منه أم لا.
ثمَّ الكلام إمّا في الارتجاع أو الإجزاء عن الزكاة.
أما الأول : فمع إمكان الارتجاع يجب مع بقاء العين اتّفاقا محقّقا
__________________
والذمام : حفظ الحرمة ـ لسان العرب ١٢ : ٢٢١.
(١) الذخيرة : ٤٦٣.
(٢) المدارك ٥ : ٢٤٠.
(٣) الوسائل ٩ : ٣١٥ أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨.
(٤) في الحدائق ١٢ : ١٧٢.
(٥) في النسخ : بوجوه ، والصحيح ما أثبتناه.
ومحكيّا (١) ، في صورة علم الآخذ بالحال أولا ؛ لأنّ الأصل عدم الانتقال إلى الآخذ ، والمسلّم إنّما هو انتقالها مع استجماعه شرائط الأخذ.
وأمّا بدونه فلا ، حتّى أنّه لو لم يعلم بالحال يبقى مراعى إلى أن يتلف حال عدم ظهور الحال.
وعلى هذا ، فتكون العين إمّا مال المالك أو الفقراء ، فلهم الارتجاع ، بل يجب على المالك ؛ لأنّه مال فقير موضوع عند غير أهله بعمله وهو يتمكّن من الانتزاع.
وبما ذكرنا يظهر دفع ما جوّزه بعضهم من امتناع الآخذ للردّ (٢) ؛ لثبوت الملك له بالدفع على الظاهر ، فإنّ الثبوت مع العلم ممنوع ، بل وكذا مع عدمه ، بل يقع مراعى.
وكذا إن تلفت العين وكان الآخذ عالما بالحال ؛ لأنّه عاد في إتلافه ؛ لعلمه بعدم رضى المالك بشهادة الحال ، فهي معارضة للإذن الصريح مقدّمة عليه.
بل وكذا لو تلفت من جانب الله سبحانه ؛ لوضع يده على ملك الغير بدون إذنه ؛ لأنّ لسان شاهد الحال يصرّح بعدم الإذن ويرتفع به الإذن الصريح.
وإن لم يكن عالما بالحال ، فلا يجوز الارتجاع عنه ؛ لأصالة عدم التسلّط عليه وعلى ماله ، وعدم شغل ذمّته ، فإنّه تصرّف أو إتلاف بالإذن الصريح الخالي عن المعارض من المالك ، فبأيّ دليل يجب عليه ردّ المثل أو القيمة من ماله؟!
وسواء في ذلك أن يجوّز الآخذ كونه زكاة أم لا ؛ لأنّ مجرّد التجويز لا يثبت شاهد حال يعارض به الإذن الصريح.
__________________
(١) كما في الرياض ١ : ٢٧٩.
(٢) كما في الرياض ١ : ٢٧٩.
وإن لم يمكن الارتجاع فلا شيء على المالك.
نعم ، على الآخذ ردّه إن تمكّن مع علمه بالحال قبل التلف.
والحكم في بعض الصور التي ذكرناها وفاقيّ ، وفي بعضها خلاف يعلم ضعفه ممّا ذكرنا.
وأمّا الثاني : وهو الإجزاء عن الزكاة وبراءة ذمّة المالك عنها وعدمهما ، فقضيّة الأصل وإن كان الإجزاء مطلقا ـ سيّما إذا كان المدفوع عين الزكاة ، حتى إذا تمكّن من الارتجاع ، وإن وجب الارتجاع من باب تخليص حقّ الفقراء ؛ لوقوع الدفع مشروعا ، فلا يستعقب ضمانا ؛ لأنّ امتثال الأمر يقتضي الإجزاء ، وما يجب دفعه شيء واحد دفعه على وجه أمر به ـ إلاّ أنّ المنصوص في مرسلة الحسين : في رجل يعطي زكاة ماله رجلا وهو يرى أنّه معسر فوجده موسرا ، قال : « لا يجزئ عنه » (١) عدم الإجزاء ، وهي مخصّصة للأصل المذكور.
فالحقّ : عدم الإجزاء والضمان مطلقا ، وفاقا للمحكيّ عن المفيد والحلبي (٢) ، واختاره شيخنا صاحب الحدائق (٣).
وإرسال الرواية عندنا غير ضائر مع كونها مرويّة في الكتب الثلاثة ، سيّما مع صحّتها عن ابن أبي عمير ، وهو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه (٤).
خلافا للمحكيّ عن المبسوط (٥) وجماعة (٦) ، فيجزئ مطلقا ؛ للأصل
__________________
(١) الكافي ٣ : ٥٤٥ ـ ١ ، التهذيب ٤ : ٥١ ـ ١٣٢ ، الفقيه ٢ : ١٥ ـ ٤٥ ، الوسائل ٩ : ٢١٥ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ٥.
(٢) المفيد في المقنعة : ٢٥٩ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ١٧٣.
(٣) الحدائق ١٢ : ١٧٠.
(٤) رجال الكشّي ٢ : ٨٣٠.
(٥) المبسوط ١ : ٢٦١.
(٦) منهم العلاّمة في الإرشاد ١ : ٢٨٨.
المذكور. ويندفع بما مرّ.
وللمعتبر والنافع والمنتهى والتذكرة والبيان والأردبيلي وجدّي في الرسالة ، فيجزئ مع الاجتهاد لا بدونه (١) ؛ لأنّ المالك أمين فيجب عليه الاجتهاد ، فبدونه تجب الإعادة.
ولحسنة عبيد : رجل عارف أدّى زكاته إلى غير أهلها زمانا ، هل عليه أن يؤدّيها ثانية إلى أهلها إذا علمهم؟ قال : « نعم » إلى أن قال : قلت له : فإنّه لم يعلم أهلها فدفعها إلى من ليس هو لها أهل ، وقد كان طلب واجتهد ، ثمَّ علم بعد ذلك سوء ما صنع؟ قال : « ليس عليه أن يؤدّيها مرّة أخرى » (٢).
ومرسلة الكافي ، وهي مثل السابقة ، إلاّ أنّه قال : « فإن اجتهد برئ ، وإن قصّر في الاجتهاد في الطلب فلا » (٣).
ويردّ الأول : بأنّه إن أريد بالاجتهاد القدر المسوّغ لدفع الزكاة ولو بدعواه الفقر ، فيرجع ذلك إلى القول بعدم الضمان.
وإن أريد به الزائد عليه ـ كما هو الظاهر من لفظ الاجتهاد ـ فهو غير واجب عندهم.
والثاني : بأنّ الظاهر منه أنّ المراد : أنّه لم يجد الأهل بعد الاجتهاد ، فدفعها إلى غير الأهل عمدا ، كما يشعر به قوله : سوء ما صنع ، بل معنى قوله : لم يعلم الأهل وقد طلب واجتهد : أنّه بعد الاجتهاد أيضا لم يعلمه ، والمتنازع فيه أنّه علمه ولكنّه أخطأ في علمه ، فيخرج عن المسألة.
والقول ـ بأنّ الإجزاء حينئذ يدلّ بالفحوى على الإجزاء لو كان الدفع
__________________
(١) المعتبر ٢ : ٥٢٦ ، النافع : ٥٩ ، المنتهى ١ : ٥٢٧ ، التذكرة ١ : ٢٤٥ ، البيان : ٣١٧ ، مجمع الفائدة ٤ : ١٩٥.
(٢) الكافي ٣ : ٥٤٦ ـ ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٢ ـ ٢٩٠ ، الوسائل ٩ : ٢١٤ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ١.
(٣) الكافي ٣ : ٥٤٦ ـ ٢ ، الوسائل ٩ : ٢١٤ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ٢.