تفسير البغوي - ج ٥

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٥

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا».

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ، فقال : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) غشا وحسدا وبغضا ، (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ، لأن الله تعالى رتّب المؤمنين على ثلاثة منازل : المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر ، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين.

قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل.

[٢١٧١] أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا عبد الله بن حامد أنا أحمد بن عبد الله بن سليمان ثنا محمد بن عبد الله (١) بن نمير ثنا أبي عن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسببتموهم سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها».

وقال مالك بن مغول : قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ، فقالت أصحاب موسى عليه‌السلام ، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ، فقالوا : حواري عيسى عليه‌السلام وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ، فقالوا : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمروا بالاستغفار لم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة.

قال مالك بن أنس : من انتقص (٢) أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [الحشر : ٨ و ٩] ، حتى أتى على هذه الآية : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٨ و ٩] (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) إلى قوله : (رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ

__________________

[٢١٧١] ـ ضعيف ، والصحيح موقوف.

ـ إسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر.

ـ روى مناكير ، وهذا منها حيث رفعه ، والصواب عن عائشة من قولها ، والله أعلم.

(١) زيد في المطبوع «ثنا ابن» وهو خطأ.

(٢) في المطبوع «يبغضن».

٦١

وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) ، أي أظهروا خلاف ما أضمروا يعني عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه ، (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ، وهم اليهود من بني قريظة والنضير جعل المنافقين إخوانهم في الدين ، لأنهم كفار مثلهم. (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) ، من المدينة ، (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً) ، يسألنا خذلانكم وخلافكم ، (أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ) يعني المنافقين (لَكاذِبُونَ).

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ، وكان الأمر كذلك ، فإنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج المنافقون معهم ، وقوتلوا فلم ينصروهم. قوله تعالى : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) ، أي لو قدر وجود نصرهم. قال الزجاج : معناه لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ، (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ، يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦))

(لَأَنْتُمْ) ، يا معشر المسلمين ، (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) ، أي يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله ، (ذلِكَ) ، أي ذلك الخوف منكم ، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ، عظمة الله.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ) ، يعني اليهود ، (جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) ، أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران ، وهو قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو جدار على الواحد ، وقرأ الآخرون (جُدُرٍ) بضم الجيم والدال على الجمع. (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ، أي بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضا شديدة. وقيل : بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد ، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله ، (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) ، متفرقة مختلفة ، قال قتادة : أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة شهادتهم ، مختلفة أعمالهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وقال مجاهد : أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم ، (قَرِيباً) ، يعني مشركي مكة ، (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) ، يعني القتل ببدر ، كان ذلك قبل غزوة بني النضير ، قال مجاهد : وقال ابن عباس : كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل : مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود جميعا في تخادعهم.

فقال : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) ، [أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان](١)

__________________

(١) سقط من المخطوط.

٦٢

(إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ).

وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس (١) قال : كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين ، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : ألا أجد أحدا منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على جهة (٢) الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند ، فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك أمره ، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة ، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان ، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه ، فقال له : إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك ، فما حاجتك؟ قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك ، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك ، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك ، فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبا إن استجاب لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها ، فلما انفتل رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له : ما حاجتك؟ قال : حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته ، فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة ، وربما مد إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت ، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده ، فلما ودعه قال له الأبيض : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون ، قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة ، فلم يزل به الأبيض حتى علمه ، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : قد والله أهلكت الرجل ، قال : فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : إني لا أقوى على جنته (٣) ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه ، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الأعظم الذي إذا دعا به أجيب ، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان ، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا ، فيدعو فيعافون ، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم ، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل ، فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم : أتريدون أن أعالجها؟ قالوا : نعم ، قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ، ولكن سأرشدكم إلى رجل

__________________

(١) الأثر لطوله مصدره كتب الأقدمين ، والصحيح ما بعده.

(٢) في المطبوع «وجه».

(٣) في المخطوط «جنيته».

٦٣

تثقون (١) به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة ، قالوا : ومن هو؟ قال برصيصا ، قالوا : وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك؟ قال : فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه ، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعته ، ثم قولوا له هي أمانة عندك ، فاحتسب فيها ، قال : فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم ، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته ، وقالوا هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها ، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال ، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم ، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها ، وكانت تكشف عن نفسها ، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد ذلك والله تعالى غفار للذنوب والخطايا ، فتدرك ما تريد من الأمر ، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب ، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقدر عليه ، فدخل فخنقها (٢) ثم انطلق بها [من صومعته](٣) فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها فبقي طرف [إزارها] خارجا من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها ، فقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا [من عنده](٤) ، فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه خاف منكم فقتلها ودفنها في موضع كذا وكذا فقال الأخ في نفسه : هذا حلم وهو من عمل الشيطان ، فإن برصيصا خير من ذلك ، قال فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث ،. فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر فلم يخبر أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك فقال أصغرهم لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا ، وقال الأوسط وأنا والله قد رأيت مثله ، وقال الأكبر وأنا رأيت مثله ، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم اتهمتموني ، فقالوا : والله لا نتهمك واستحيوا منه فانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وإن طرف إزارها خارج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم ، فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفئوس والمساحي فهدموا صومعته وأنزلوه ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه ، وذلك أن الشيطان أتاه فقال تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف ، فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة ، فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل ، أما استحييت ، فلم يزل يعيره ، ثم قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس ، فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك ، قال : فكيف أصنع قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك؟ قال : وما هي قال تسجد لي ، قال ما أستطيع أفعل ، قال : افعل فسجد له فقال : يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك صارت

__________________

(١) في المطبوع «تنفعون».

(٢) في المطبوع «فقتلها».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

٦٤

عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

يقول الله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما) ، يعني الشيطان وذلك الإنسان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) [أي جزاء من ظلم نفسه بطاعة الشيطان وخالف مولاه واتبع هواه](١) قال ابن عباس : ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة ، وذلك أن الله عزوجل أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجلاء بني النضير عن المدينة فدس المنافقون إليهم ، وقالوا : لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم ، فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين ، حتى جاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين ، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله ، فكان عاقبة الفريقين النار. قال ابن عباس رضي الله عنه : فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان ، وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار [والرهبان](٢) ورموهم [بالبهتان](٣) والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب ، فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس.

[٢١٧٢] وكانت قصة جريج على ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون أنا جرير بن حازم ثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج.

وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج ، فقال : يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته ، فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي ، فقالت : يا جريج ، فقال : أي رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته ، فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات ، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتنه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها ، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت : هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه ، فقال : ما شأنكم؟ قالوا : زنيت بهذه البغية فولدت منك ، فقال : أين الصبي؟ فجاءوا به ، فقال : دعوني

__________________

[٢١٧٢] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ وهو في «صحيح مسلم» ٢٥٥٠ ح ٨ عن زهير بن حرب بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه ابن حبان ٦٤٨٩ من طريق عبد الله بن إسحاق الناقد عن يزيد بن هارون به.

ـ وأخرجه البخاري ٢٤٨٢ و ٣٤٣٦ وأحمد ٢ / ٣٠٧ و ٣٠٨ من طريقين عن جرير به.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ٤٣٣ ـ ٤٣٤ ومسلم ٢٥٥٠ من طريقين عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع بنحوه.

ـ وعلقه البخاري ١٢٠٦ من طريق عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة مختصرا.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

٦٥

حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال : يا غلام من أبوك؟ قال : فلان الراعي ، قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به ، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ، ففعلوا.

وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة فقالت أمه : اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع ، قال : فكأني انظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه ، فجعل يمصها ، قال : ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل ، فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقال : اللهم اجعلني مثلها ، فهناك تراجعا الحديث ، فقالت مر رجل حسن الهيئة فقلت اللهم اجعل ابني مثله ، فقلت : اللهم لا تجعلني مثله ، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت ، فقلت : اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فقلت : اللهم اجعلني مثلها ، قال : إن ذاك الرجل كان جبارا فقلت : اللهم لا تجعلني مثله ، وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق ، فقلت : اللهم اجعلني مثلها».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، يعني ليوم القيامة ، أي لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه ، (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) ، تركوا أمر الله ، (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، أي حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا ، (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠).

قوله عزوجل : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، قيل : لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته ، حذرا من أن لا يؤدي حق الله عزوجل في تعظيم القرآن ، والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها ، يصفه بقساوة القلب ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، الغيب ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه ، والشهادة ما شاهدوه وما علموه ، (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) ، الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به ، (السَّلامُ) ، الذي سلم من النقائص ، (الْمُؤْمِنُ) ، قال ابن عباس : هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه ، هو من الأمان الذي هو ضد التخويف كما قال : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] ،

٦٦

وقيل : معناه المصدق لرسله بإظهار المعجزات ، والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب ، وللكافرين بما أوعدهم من العقاب. (الْمُهَيْمِنُ) ، الشهيد على عباده بأعمالهم ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل.

يقال : هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبا على الشيء ، وقيل : هو في الأصل مؤيمن قلبت الهمزة هاء ، كقولهم أرقت وهرقت ، ومعناه المؤمن ، قال الحسن : الأمين. وقال الخليل : هو الرقيب الحافظ. وقال ابن زيد : المصدق. وقال سعيد بن المسيب والضحاك (١) : القاضي. وقال ابن كيسان : هو اسم من أسماء الله تعالى في الكتب والله أعلم بتأويله. (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) ، قال ابن عباس : الجبار هو العظيم ، وجبروت الله عظمته ، وهو على هذا القول صفة ذات الله ، وقيل : هو من الجبر وهو الإصلاح ، يقال : جبرت (٢) الأمر ، وجبرت العظم إذا أصلحته بعد الكسر ، فهو يغني الفقير ويصلح الكسير. وقال السدي ومقاتل : هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد. وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال : هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز. (الْمُتَكَبِّرُ) ، الذي تكبر عن كل سوء. وقيل : المتعظم عما لا يليق به وأصل الكبر والكبرياء الامتناع. وقيل : ذو الكبرياء وهو الملك ، (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ) ، المقدر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره ، كما قال : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ، [الزمر : ٦] (الْبارِئُ) ، المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود (الْمُصَوِّرُ) ، الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض. يقال : هذه صورة الأمر أي مثاله ، فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[٢١٧٣] أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني ابن فنجويه ثنا ابن شيبة ثنا ابن وهب ثنا أحمد بن أبي شريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا أنا أبو أحمد الزبيري ثنا خالد بن طهمان حدثني نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح

__________________

[٢١٧٣] ـ باطل ، إسناد ساقط ، والمتن منكر جدا.

ـ إسناده ساقط ، خالد بن طهمان خلط قبل موته بعشر سنين ، وكان ثقة قبل ذلك ، قال ابن معين كما في «الميزان» ١ / ٦٣٢.

ـ ونافع هو أبو داود الأعمى ، واسمه نفيع بن الحارث ، دلسه خالد.

ـ ولعله يسبب تخليطه ـ فقال : نافع.

ـ قال الذهبي في «الميزان» ٤ / ٢٧٢ في ترجمة نفيع : دلسه بعضهم ، فقال : نافع بن أبي نافع كذبه قتادة. وقال ابن معين وأبو زرعة : ليس بشيء ، وقال النسائي : متروك ا ه ، وكذا قال أبو حاتم : نافع هذا هو نفيع.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٩٢٢ و ٣٤٢٥ والدارمي ٣٣٠١ وأحمد ٥ / ٢٦ وابن السني في «اليوم والليلة» ٦٨١ وابن الضريس ٢٣٠ والبيهقي في «الشعب» ٢٥٠١ من طريق خالد به.

ـ الخلاصة : هو حديث باطل ، وأمارة الوضع لائحة عليه لما فيه من مبالغة فإن الشهادة ، واستغفار سبعين ألف ملك لرجل لا يكون بتلاوة ثلاث آيات فقط ونحو ذلك.

(١) تصحف في المطبوع «والحضحاك»؟!

(٢) زيد في المطبوع «الكسر و».

٦٧

ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة».

ورواه أبو عيسى عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري بهذا الإسناد ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

سورة الممتحنة

مدنية [وهي ثلاث عشرة آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، الآية.

[٢١٧٤] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](٢) المليحي ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان عن عمرو بن دينار أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبيد (٣) الله بن أبي رافع يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» ، قال : فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت : ما معي كتاب فقلنا : لتخرجن الكتاب أو

__________________

ـ تنبيه : ذكره الألباني في الإرواء ٣٤٢ ، وأعله بضعف خالد فقط ، ولم يتنبه إلى نكارة معناه ، واكتفى في «ضعيف الترمذي» ٥٦٠ بقوله : ضعيف!!

[٢١٧٤] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ سفيان هو ابن عيينة.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٢٧٤ عن قتيبة بن سعيد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٣٠٠٧ و ٤٨٩٠ ومسلم ٢٤٩٤ وأبو داود ٢٦٥٠ والترمذي ٣٣٠٥ والحميدي ٤٩ وأحمد ١ / ٧٩ وأبو يعلى ٣٩٤ و ٣٩٨ وابن حبان ٦٤٩٩ والبيهقي ٩ / ١٤٦ وفي «دلائل النبوة» ٥ / ١٧ والبغوي في «شرح السنة» ٢٧٠٤ والواحدي في «الأسباب» ٨١٢ وفي «الوسيط» ٤ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ من طرق عن سفيان به.

(١) زيد في المطبوع.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) تصحف في المطبوع «عبد».

٦٨

لتلقين الثياب ، قال : فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا حاطب ما هذا؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، يقول : كنت حليفا ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما أنه قد صدقكم ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فأنزل الله تعالى هذه السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) إلى قوله : (سَواءَ السَّبِيلِ).

[٢١٧٥] قال المفسرون : نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجهز لفتح مكة ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمسلمة جئت»؟ قالت : لا ، قال : «أمهاجرة جئت»؟ قالت : لا ، قال : «فما جاء بك»؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : «وأين أنت من شبان مكة»؟ وكانت مغنية نائحة ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، فكتب معها إلى أهل مكة [وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة](١) وكتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعل فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسا ، فقال فهم : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فخذوه منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» ، قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا لها : أين الكتاب فحلفت بالله ما معها [من](٢) كتاب ففتحوا متاعها [ونبشوها](٣) فلم يجدوا معها كتابا ، فهموا بالرجوع ، فقال [علي](٤) رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها ، وكانت قد خبأته في شعرها ، فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حاطب ، فأتاه فقال : «هل تعرف الكتاب»؟ قال : نعم ، قال : «فما حملك (٥) على ما صنعت»؟ فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذره ، فقام عمر بن الخطاب فقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا

__________________

[٢١٧٥] ـ ذكره المصنف نقلا عن المفسرين ، وكذا الواحدي في «أسباب النزول» ٨١١ وما تقدم يغني عنه.

(١) سقط من المخطوط.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) سقط من المطبوع.

(٥) تصحف في المطبوع «هالك».

٦٩

المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر؟ فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فأنزل الله عزوجل في شأن حاطب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ).

(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، قيل : أي المودة ، والباء زائدة كقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الحج : ٢٥] ، وقال الزجاج : معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ، (وَقَدْ كَفَرُوا) ، الواو للحال أي وحالهم أنهم كفروا ، (بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) ، يعني القرآن (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) ، من مكة ، (أَنْ تُؤْمِنُوا) ، أي لأن آمنتم ، كأنه قال يفعلون ذلك لإيمانكم ، (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) ، هذا شرط جوابه متقدم وهو قوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) ، (جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، قال مقاتل بالنصيحة ، (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ) ، من المودة للكفار ، (وَما أَعْلَنْتُمْ) ، أظهرتم بألسنتكم ومن يفعله منكم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ، أخطأ طريق الهدى.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) ، يظفروا بكم ويروكم ، (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) ، بالضرب والقتل ، (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) ، بالشتم ، (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) ، كما كفروا يقول : لا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادونكم.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) ، معناه لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم التي بمكة إلى خيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم فلن تنفعكم أرحامكم ، (وَلا أَوْلادُكُمْ) ، الذين عصيتم الله لأجلهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) ، فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار ، قرأ عاصم ويعقوب يفصل بفتح الياء وكسر الصاد مخففا وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الصاد مشددا ، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الصاد مشددا ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الصاد مخففا. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ) ، قدوة ، (حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، من أهل الإيمان (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) ، من المشركين ، (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) ، جمع بريء ، (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) ، جحدنا وأنكرنا دينكم ، (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، يأمر حاطبا والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والذين معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين ، (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) ، يعني لكم أسوة [حسنة](١) في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك ، ثم تبرأ منه على ما ذكرناه في سورة التوبة ،(وَما

__________________

(١) زيد في المطبوع.

٧٠

أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، يقول إبراهيم لأبيه : ما أغنى عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به ، (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) ، يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين ، (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، قال الزجاج : لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيفتتنوا.

وقال مجاهد لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك. (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨))

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) ، أي في إبراهيم ومن معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) ، هذا بدل من قوله لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) ، يعرض عن الإيمان ويوال الكفار ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) ، عن خلقه ، (الْحَمِيدُ) ، إلى (١) أوليائه ، وأهل طاعته. قال مقاتل : فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة ، ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله :

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) ، أي من كفار مكة ، (مَوَدَّةً) ، ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم ، (وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال :

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) ، أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ، (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ، تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، قال ابن عباس : نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا ، فرخص الله في برهم.

[٢١٧٦] وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضبابا وأقطا وسمنا وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلي علي بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدخلها

__________________

[٢١٧٦] ـ صحيح دون ذكر نزول الآية.

ـ أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٨ / ١٩٨ وأحمد ٤ / ٤ والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» ٦٧٥٠ والحاكم ٢ / ٤٨٥ والطبري ٣٣٩٥٢ و ٣٣٩٥٣ والواحدي في «الأسباب» ٨١٣ من حديث عبد الله بن الزبير.

ـ صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي! مع أن في إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد وغيره ، ووثقه ابن حبان.

ـ قلت : هو غير حجة بما ينفرد به ، وقد تفرد بذكر نزول الآية.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ١١٤١١ وزاد نسبته للبزار وقال : وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ـ وأصل الحديث في الصحيحين دون نزول الآية ، وإنما ذكر الآية ابن عيينة من قوله ، وهو الصواب.

(١) في المطبوع «فولى» وفي المخطوط «إن».

٧١

منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها.

[٢١٧٧] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة ثنا حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدّتهم [مع أبيها] فاستفتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال : «[نعم] صليها» (١)(٢).

وروي عن ابن عيينة (٣) قال : فأنزل الله فيها (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ).

ثم ذكر الذين نهاهم عن صلتهم فقال :

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠))

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) ، وهم مشركو مكة ، (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) ، الآية.

[٢١٧٨] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](٤) المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالا : لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط

__________________

ـ وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٣ لابن العربي بتخريجي.

[٢١٧٧] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

ـ قتيبة هو ابن سعيد ، حاكم هو ابن وردان ، عروة هو ابن الزبير.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٣١٨٣ من طريق قتيبة بن سعيد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٢٦٢٠ ومسلم ١٠٠٣ وأبو داود ١٦٦٨ والطيالسي ١٦٤٣ وأحمد ٦ / ٣٤٧ وابن حبان ٤٥٢ من طرق عن هشام بن عروة به.

ـ وأخرجه أحمد ٦ / ٣٥٥ من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أسماء به.

ـ وأخرجه البخاري ٥٩٧٨ والشافعي ١ / ١٠٠ والحميدي ٣١٨ وابن حبان ٤٥٣ والبيهقي ٤ / ١٩١ من طرق عن سفيان عن هشام به.

[٢١٧٨] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ الليث هو ابن سعد ، عقيل هو ابن خالد ، ابن شهاب هو الزهري.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٢٧١١ و ٢٧١٢ و ٢٧١٣ عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد.

ـ وورد تخريجه باستيفاء فيما مضى.

(١) هذه الرواية عند البخاري برقم : ٥٩٧٨.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) سقط من المطبوع.

(٤) زيادة عن المخطوط.

٧٢

سهيل بن عمرو على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، فرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) إلى (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

[٢١٧٩] قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال عروة : قالت عائشة رضي الله عنها : فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد بايعتك [كلاما يكلمها به](١) والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله.

[٢١٨٠] قال ابن عباس : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يردوه عليه وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ـ وقال مقاتل : صيفي بن الراهب ـ في طلبها ، وكان كافرا ، فقال : يا محمد ردّ على امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ، من دار الكفر إلى دار الإسلام ، (فَامْتَحِنُوهُنَ).

قال ابن عباس : امتحانها أن تستحلف ما خرجت لبغض زوج (٢) ولا عشقا لرجل من المسلمين ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا لالتماس دنيا ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ولرسوله ، قال : فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك فحلفت فلم يردها ، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ، ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن (٣).

(اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن ، (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) ، ما أحل الله مؤمنة لكافر ، (وَآتُوهُمْ) ، يعني أزواجهن الكفار ، (ما أَنْفَقُوا) ، عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ، (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، أي مهورهن ، أباح الله نكاحهن للمسلمين ، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين

__________________

[٢١٧٩] ـ صحيح. أخرجه البخاري ٥٢٨٨ و ٤٨٩١ وابن ماجه ٢٨٧٥ والطبري ٣٣٩٦٠ عن عروة به.

[٢١٨٠] ـ ذكره المصنف هاهنا عن ابن عباس معلقا.

ـ وكذا ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨١٤ عن ابن عباس بدون إسناد ، فهذا لا شيء ، لخلوه عن الإسناد.

ـ وورد في «الإصابة» ٤ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥ : أن سبيعة بنت الحارث أول امرأة ـ أسلمت بعد صلح الحديبية إثر العقد وطي الكتاب ، ولم تخف فنزلت آية الامتحان.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٤ فما بعده بتخريجي.

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المطبوع «لبعض زوجها».

(٣) لم أره مسندا.

٧٣

أزواجهن الكفار ، (وَلا تُمْسِكُوا) ، قرأ أبو عمرو ويعقوب بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف من الإمساك ، (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، والعصم جمع العصمة وهي ما يعتصم به من العقد والنسب ، والكوافر جمع الكافرة ، نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، يقول من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما.

[٢١٨١] قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم وهما على شركهما ، وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ، ففرق الإسلام بينهما فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية.

[٢١٨٢] قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركا ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَسْئَلُوا) ، أيها المؤمنون ، (ما أَنْفَقْتُمْ) ، أي إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ، (وَلْيَسْئَلُوا) ، يعني المشركين الذين لحقت أزواجهنّ بكم (ما أَنْفَقُوا) ، من المهر ممن تزوجها منكم ، (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، قال الزهري : لو لا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرد الصداق ، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عزوجل وأدوا ما أمروا به من نفقات [المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا من أداء نفقات المسلمين على نسائهم](١).

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

فأنزل الله عزوجل : (وَإِنْ فاتَكُمْ) ، أيها المؤمنون ، (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فلحقن بهم مرتدات ، (فَعاقَبْتُمْ).

قال المفسرون : معناه غنمتم أي غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة ، وقيل ظهرتم وكانت العاقبة لكم ، وقيل : أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، قرأ حميد الأعرج فعقبتم بالتشديد وقرأ الزهري فعقبتم خفيفة بغير ألف ، وقرأ مجاهد فأعقبتم أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم وكلها لغات

__________________

[٢١٨١] ـ أخرجه الطبري ٣٣٩٨١ من طريق محمد بن إسحاق قال : وقال الزهري : لما نزلت ... فذكره مرسلا.

ـ وعلقه البخاري ٢٧٣٣ عن عقيل عن الزهري : قال عروة فأخبرتني عائشة ... فذكره بنحوه ، وليس فيه ذكر أروى ، وطلحة. وقال ابن حجر في «فتح الباري» ٥ / ٣٥١ : تقدم موصولا بتمامه في أول الشروط.

ـ وأخرجه الطبري ٣٣٩٨٠ من طريق يونس عن ابن شهاب مرسلا ، وليس فيه ذكر أروى وطلحة.

[٢١٨٢] ـ ذكره هكذا تعليقا ، وهو مرسل ، وتقدم في أبحاث النكاح ، وعقود المشركين.

(١) زيد في المطبوع.

٧٤

بمعنى واحد ، يقال ؛ عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب وتعاقب واعتقب ، إذا غنم ، وقيل : التعقيب غزوة بعد غزوة ، (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) ، إلى الكفار منكم ، (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) ، عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار. وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها (١) عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب ، فكلهن رجعن عن الإسلام ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجهم مهور نسائهم من الغنيمة. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ، واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، كان واجبا أو مندوبا وأصله أن الصلح هل كان وقع على رد النساء ، فيه قولان :

أحدهما : أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لما روينا «أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا» ثم صار الحكم في رد النساء منسوخا بقوله : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فعلى هذا كان رد المهر واجبا.

والقول الآخر : أن الصلح لم يقع على رد النساء ، لأنه يروى (٢) على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها لضعف قلبها (٣) ، وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوبا واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار.

فقال قوم : لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة ، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة ، وقال قوم : هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) ، الآية.

[٢١٨٣] وذلك يوم فتح مكة لما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب

__________________

[٢١٨٣] ـ ذكره الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ هكذا بدون إسناد.

ـ وأخرجه الطبري ٢٤٠١٢ من حديث ابن عباس بنحوه.

(١) تصحف في المطبوع «تزوجها».

(٢) في المطبوع «روي عن».

(٣) زيد في المطبوع «لقلة عقلها».

٧٥

أسفل منه ، وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبايعكن (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) ، فرفعت هند رأسها وقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال ، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا يسرقن» ، فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها ، فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة»؟ قالت : نعم ، فاعف عما سلف عفا الله عنك ، فقال : (وَلا يَزْنِينَ) ، فقالت هند : أو تزني الحرة؟ فقال : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) ، فقالت هند : ربيناهن صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ، وهي أن تقذف ولدا على زوجها ليس منه ، قالت هند : والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ، قالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهن.

قوله عزوجل : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أراد وأد البنات الذي كان يفعله (١) أهل الجاهلية ، قوله : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) : ليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره ، بل المراد منه أن تلتقط مولودا وتقول لزوجها هذا ولدي منك ، فهو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ، قوله (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : أي في كل أمر وافق طاعة الله. قال بكر بن عبد الله المزني في كل أمر فيه رشدهن. وقال مجاهد : لا تخلوا المرأة بالرجال. وقال سعيد بن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد : هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه ، ولا تحدث المرأة الرجال إلا ذا محرم ، ولا تخلو برجل غير ذي محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.

[٢١٨٤] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا

__________________

ـ وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ٨ / ٦ طرفا منه عن الشعبي مرسلا.

ـ وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٢٠ : وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان وفيه قول هند : ربيناهم صغارا وقتلتوهم كبارا ، فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى ا ه.

ـ الخلاصة : لا يصح هذا الخبر بسياق المصنف ، ولبعضه شواهد دون بعض.

ـ وانظر «الكشاف» ١١٦٤ و «الجامع لأحكام القرآن» ٥٩٠٩ بتخريجي.

[٢١٨٤] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو معمر هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، عبد الوارث هو ابن سعيد ، أيوب هو ابن أبي تميمة.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٨٩٢ عن أبي معمر بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٧٢١٥ والطبراني ٢٥ / (١٣٣) والبيهقي ٤ / ٦٢ من طريق عبد الوارث بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٩٣٦ ح ٣٣ وأحمد ٦ / ٤٠٧ وابن أبي شيبة ٣ / ٣٨٩ والحاكم ١ / ٣٨٣ وابن حبان ٣١٤٥ والطبراني ٢٥ / (١٣٣) والبيهقي ٤ / ٦٢ من طرق عن أبي معاوية عن عاصم عن حفصة به.

(١) في المطبوع «يفعل».

٧٦

محمد بن إسماعيل ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث ثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ علينا (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) ، ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت : أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها ، فما قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فانطلقت ورجعت وبايعها.

[٢١٨٥] أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري ثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ثنا أبو يعلى الموصلي ثنا هدبة (١) بن خالد ثنا أبان بن يزيد ثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة». وقال : «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب».

[٢١٨٦] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن حفص ثنا أبي أنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية».

قوله : (فَبايِعْهُنَ) ، يعني إذا بايعنك فبايعهن ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٢١٨٧] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا

__________________

ـ وأخرجه النسائي ٧ / ١٤٨ ـ ١٤٩ وأحمد ٦ / ٤٠٨ والطبري ٣٤٠٢٠ من طرق عن محمد بن سيرين عن أم عطية بنحوه.

[٢١٨٥] ـ صحيح. أبو يعلى ثقة إمام ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه على شرط الصحيح.

ـ أبو يعلى هو أحمد بن علي بن المثنى التميمي صاحب «المسند» ، زيد هو ابن سلّام بن أبي سلام ، وأبو سلّام اسمه ممطور.

ـ وهو في «مسند أبي يعلى» ١٥٧٧ عن هدبة بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٩٣٤ وأحمد ٥ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣ وأحمد ٥ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣ والبغوي في «شرح السنة» ١٥٢٨ من طريق أبان بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أحمد ٥ / ٣٤٣ والحاكم ١ / ٣٨٣ من طريق أبي عامر عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به.

ـ وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ وأخرجه عبد الرزاق ٦٦٨٦ وابن ماجه ١٥٨١ من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن معانق أو عن أبي معانق عن أبي مالك به.

[٢١٨٦] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ حفص هو ابن غياث ، الأعمش هو سليمان بن مهران ، مسروق هو ابن الأجدع.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٥٢٧ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ١٢٩٨ عن عمر بن حفص بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ١٢٩٧ و ٣٥٢٠ ومسلم ١٠٣ وابن ماجه ١٥٨٤ وأحمد ١ / ٤٣٢ و ٤٥٦ و ٤٦٥ وابن حبان ٣١٤٩ والبيهقي ٤ / ٦٣ و ٦٤ من طرق عن الأعمش به.

ـ وأخرجه البخاري ١٢٩٤ والترمذي ٩٩٩ والنسائي ٤ / ٢٠ وابن ماجه ١٥٨٤ وأحمد ١ / ٣٨٦ و ٤٤٢ وابن الجارود ٥١٦ والبيهقي ٤ / ٦٤ من طريق سفيان عن زبيد اليامي عن إبراهيم عن مسروق به.

[٢١٨٧] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ عبد الرزاق بن همام ، معمر بن راشد ، الزهري محمد بن مسلم ، عروة بن الزبير.

(١) تصحف في المطبوع «هدية».

٧٧

محمد بن إسماعيل حدثني محمود [بن غيلان](١) ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية : (لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) قالت : وما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها.

[٢١٨٨] أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا محمد بن عبد الله بن حمدون أنا مكي بن عبدان ثنا عبد الرحمن بن بشر ثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر سمع أميمة بنت رقية تقول : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة ، فقال لنا : «فيما استطعتن وأطقتن» ، فقلت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرحم بنا من أنفسنا ، قلت : يا رسول الله بايعنا ـ قال سفيان يعني صافحنا ـ فقال : «إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، وهم اليهود وذلك أن أناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين ، يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم ، فنهاهم الله عن ذلك ، (قَدْ يَئِسُوا) ، يعني هؤلاء اليهود ، (مِنَ الْآخِرَةِ) ، بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ، (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) ، أي كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور من أن يكون لهم حظ وثواب في الآخرة. قال مجاهد : الكفار حين دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله. قال سعيد بن جبير : يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين ماتوا فعاينوا الآخرة. وقيل : كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم.

__________________

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٧٢١٤ عن محمود بهذا الإسناد.

ـ وانظر الحديث المتقدم برقم ٢١٧٩.

[٢١٨٨] ـ صحيح. مكي بن عبدان لم أجد له ترجمة ، لكن توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال الشيخين ، فالحديث صحيح.

ـ وأخرجه الترمذي ١٥٩٧ والنسائي ٧ / ١٤٩ وابن ماجه ٢٨٧٤ وأحمد ٦ / ٣٥٧ من طرق عن سفيان بن عيينة به.

ـ وأخرجه مالك ٢ / ٩٨٢ ـ ٩٨٣ ومن طريقه أحمد ٦ / ٣٥٧ وابن حبان ٤٥٥٣ والطبراني ٢٤ / (٤٧١) والبيهقي ٨ / ٤٦ عن محمد بن المنكدر به وأخرجه الحميدي ٣٤١ والطيالسي ٢٦٢١ والحاكم ٤ / ٧١ والطبراني ٢٤ / (٤٧٠ و ٤٧٢ و ٤٧٣ و ٤٧٥ و ٤٧٦) من طرق عن محمد بن المنكدر به.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٩١ بتخريجي.

[٢١٨٩] ـ إسناده صحيح على شرط مسلم.

(١) زيادة عن المخطوط.

٧٨

سورة الصف

مدنية [وقال عطاء : مكية وهي أربع عشرة آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) ،.

قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصف : ٤] فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين ، فأنزل الله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثواب شهداء بدر ، قالت الصحابة : لئن لقينا بعده قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد فعيّرهم الله بهذه الآية. وقال قتادة والضحاك : نزلت في شأن القتال ، كان الرجل يقول : قاتلت ولم يقاتل : وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، فنزلت هذه الآية. قال ابن زيد : نزلت في المنافقين كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا) ، قوله : (أَنْ تَقُولُوا) في موضع رفع فهو كقولك بئس رجلا أخوك ، ومعنى الآية أي عظم ذلك في المقت والبغض عند الله أي إن الله يبغض بغضا شديدا أن تقولوا ، (ما لا تَفْعَلُونَ) ، أي تعدوا من أنفسكم شيئا ثم لم تفوا به.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) ، أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا ولا يزولون عن أماكنهم (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ، قد رصّ بعضه ببعض أي ألزق بعضه ببعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل. وقيل أحكم بالرصاص (٢).

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ، من بني إسرائيل ، (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) ، وذلك حين رموه بالأدرة ، (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) ، والرسول يعظم ويحترم ، (فَلَمَّا زاغُوا) ، عدلوا عن الحق ،

__________________

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المخطوط وط «وقيل : كالرصاص».

٧٩

(أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، أمالها عن الحق ، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ، قال الزجاج : يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، والألف فيه للمبالغة في الحمد ، وله وجهان : أحدهما أنه مبالغة من الفاعل أي الأنبياء كلهم حمادون لله عزوجل وهو أكثر حمدا لله من غيره (١) والثاني أنه مبالغة من المفعول أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثر مبالغة (٢) وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) ، قرأ ابن عامر تنجيكم بالتشديد والآخرون بالتخفيف ، (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ، نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه ، وجعل ذلك بمنزلة التجارة لأنهم يربحون فيها رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار [ثم بين تلك التجارة](٣) فقال :

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢).

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ، ولكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة ، (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) ، قال الكلبي : هو النصر على قريش ، وفتح مكة. وقال عطاء : يريد فتح فارس والروم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصرة الدين وجهاد المخالفين.

فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) ، قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو أنصارا بالتنوين لله بلام الإضافة ، وقرأ الآخرون (أَنْصارَ اللهِ) بالإضافة كقوله : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ، (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

__________________

(١) في المطبوع «غير».

(٢) في المطبوع «مناقب».

(٣) سقط من المطبوع.

٨٠