تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

 

٢١

٢٢

٢٣

٢٤

موازين الأحكام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على نواله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله.

أمّا بعد : فيقول خادم بساتين المذهب الجعفري من مذاهب الشرع المحمّدي محمّد جعفر الأسترابادي ـ جعل الله عواقب اموره خيرا من المبادي ـ : إنّ هذه رسالة في بيان كيفيّة الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة النظريّة عن أدلّتها التفصيليّة المعهودة ، ألّفتها تسهيلا (١) لأمر المحصّلين وعدم المشي على العمياء في أمر الدين ؛ إذ لم أجد من تعرّض لبيانها مع أنّه من أهمّ المهمّات ، ورتّبتها على مقاصد خمسة ، وسمّيتها ب « موازين الأحكام في استنباط الأحكام » .

المقصد الأوّل : (٢) أنّه لا بدّ للمستدلّ في كلّ عنوان من عنوانات المسائل من ملاحظة امور خمسة :

التعريف لغة واصطلاحا ، والتقسيم ، وبيان الأحوال والأحكام الشرعيّة :

الوضعيّة والتكليفيّة مثلا ، والتفريع (٣) بذكر فروعات متفرّعة على ما ذكر.

المقصد الثاني : (٤) أنّه لا بدّ في ترتّب ثمرة الاستدلال وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل من امور خمسة :

الإنصات ، والتخلية عن الشبهات ، والالتفات ، والإدراك والإنصاف ، مضافا إلى إعمال آداب المناظرة : بترك الاعتراض عند نقل المذهب إلّا في صورة الشبهة ومعرفة أنّ عدم تسليم مقدّمة معيّنة منع غير محتاج إلى السند إلّا على سبيل التفضّل والتبرّع ، وعدم التسليم إجمالا نقض إجمالي محتاج إلى بيان الخلل بالنقض بوجود مقتضى الدليل فيما لا يقول به المستدلّ ، أو الحلّ وإبطال الدليل

__________________

(١) الف : تحصيلا.

(٢) ج : + في ميزان ملاحظة المسائل. اعلم.

(٣) ج : والتفريعات.

(٤) ج : + في ميزان السلوك في المناظرة. اعلم.

٢٥

بالبرهان ، وأنّ الإتيان بدليل مثبت لخلاف مدّعى المستدلّ يسمّى معارضة صرفة ، أو مع المنع.

المقصد الثالث : أنّ المسائل على أقسام خمسة :

الأوّل : ما هو إجماعيّ حقيقة أو حكما كالوفاقيّة من غير كشف ، وما فيه إجماع سكوتي ، أو فيه ظهور عدم الخلاف ، أو عدم ظهور الخلاف ، أو ما هو المعروف من مذهب الأصحاب. (١)

الثاني : ما هو خلافي ولكنّ المخالف غير معتنى به.

الثالث : ما هو خلافي والمخالف معتنى به ، ولكنّ الثمرة غير معتدّ بها.

الرابع : ما هو خلافي والمخالف معتنى به ، والثمرة معتدّ بها ، ولكنّ الدليل على الخلاف غير معتمد عليه.

الخامس : ما هو خلافي والمخالف معتنى به ، والثمرة معتدّ بها ، والدليل على الخلاف معتمد عليه ، سواء كان مع التفاوت المقتضي لتحقّق الحكم الاجتهادي ، أم كان مع التعادل الموجب لتحقّق الحكم الفقاهتي.

وهذا القسم أهمّ الأقسام ، ولا بدّ فيه من بسط الكلام على الوجه الأتمّ أو التامّ.

المقصد الرابع : أنّ الدلائل (٢) على أقسام خمسة :

الأوّل : الدليل الأخصر ، كالعقل والإجماع والسيرة ، فإنّه لا يحتاج إلّا إلى الفحص الموجب للعلم بتحقّقه وتوجّهه.

الثاني : الدليل المختصر ، كالآية والرواية المقبولة ونحوهما ممّا يحتاج إلى تحصيله وملاحظة دلالته ، بدون الحاجة إلى ملاحظة السند ، أو معها من غير أن يكون له معارض ونحوه. (٣)

__________________

(١) ب : ـ أو ما هو المعروف من مذهب الأصحاب.

(٢) الف : الدلالة.

(٣) ب : ـ بدون الحاجة إلى ... معارض ونحوه. وفي ج : وملاحظة دلالته ، أو معها من غير أن يكون له معارضة إلى ملاحظة السند ونحوه بدون الحاجة.

٢٦

الثالث : الدليل المتوسّط بذكر دليل ما اختاره المستدلّ ، كالرواية الصحيحة المحتاجة إلى ما ذكر وملاحظة السند واعتباره ووضوح دلالته على المدّعى ، سواء كان عامّا أم (١) خاصّا (٢) ولو بالضميمة ، مع دفع معارضه وما يرد عليه ظاهرا بنحو السؤال والجواب.

الرابع : الدليل المبسوط ، كما إذا لوحظ أقوى الأدلّة (٣) لكلّ قول من أقوال المسألة ، والمرجّحات المنصوصة والاجتهاديّة ، وتعارضها مع التفاوت أو التعادل لعدم اختيار المذهب إلّا بعد الترجيح ونحوه لئلّا يتوجّه أنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ.

الخامس : الدليل الأبسط ، بملاحظة جميع ما يصلح أن يجعل دليلا لجميع الأقوال بملاحظة الأدلّة الخمسة (٤) الاتّفاقيّة ، أعني : العقل والإجماع والسيرة والكتاب والسنّة ؛ والأدلّة الخمسة الاختلافيّة ، أعني : عدم الخلاف والإجماع المنقول والشهرة والرؤيا والاعتبارات العقليّة كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ولو من جهة فائدة الترجيح في مقام إعمال المرجّحات الاجتهاديّة ، مع ملاحظة أنّ الدليل عامّ بالنسبة إلى المدّعى ، أو خاصّ ، أو أعمّ ، أو أخصّ بلا ضميمة متمّمة للدليل وموجبة (٥) للتطابق أو معها ، أو مباين غير مناسب ، أو أدلّ على خلاف المدّعى ؛ فإنّ النافع هو الدليل العامّ والخاصّ ، لا الأعمّ والأخصّ إلّا مع الضميمة ، ولا المباين ، سيّما إذا كان على خلاف المدّعى أدلّ. وبعد ذلك لا بدّ من ملاحظة تعارض كلّ واحد مع ما يعارضه مع ملاحظة أقسام التعارض والمرجّحات كما أشرنا.

المقصد الخامس : في كيفيّة الاستدلال على وجه الإجمال.

فنقول بعون الله المتعال : إنّ المستدلّ لا بدّ له من إعمال النظر في خمسة (٦) مواقف ، وخمس مراحل ، واثني عشر مقاما :

__________________

(١) ب : أو.

(٢) ب : + به.

(٣) الف : الدلالة.

(٤) الف ، ج : ـ الخمسة.

(٥) ب وج : موجبة ( بدون الواو ) .

(٦) ج : ـ خمسة.

٢٧

الموقف الأوّل : في تحرير محلّ النزاع وتعيين محلّ (١) الكلام ؛ لئلّا يصير النزاع لفظيا سفهائيا بتوجّه (٢) النفي والإثبات إلى اللفظ الواحد مع إرادة كلّ معنى يغاير معنى أراده (٣) الآخر ، كالصلاة بمعنى الدعاء والأفعال المعهودة ، أو توجّه أحد الإثباتين إلى لفظ ، والآخر إلى الآخر مع اتّحاد المعنى ، كالإنسان والبشر أو نحو (٤) ذلك ممّا فيه تضييع للعمر والقلم والمداد.

وذلك موقوف على ملاحظة موضوع المسألة بجنسه ونوعه وصنفه ووصفه وشخصه ، وملاحظة متعلّق الموضوع كذلك ، والمحمول كذلك ، ومتعلّقه كذلك ، وجهة القضيّة بأنواعها العشرة ، (٥) وتعيين ما يمكن أن يكون محلّ الكلام وما لا يمكن ، وما هو محلّ الكلام وما لا يكون محلّ الكلام ، وما ينبغي أن يكون محلّ الكلام وما لا ينبغي ، كأن يقال : الصلاة اليوميّة في المكان المباح واجبة بالوجوب التأصّلي الشرعي النفسي العيني المطلق على جميع (٦) المكلّفين بالدوام ؛ فلا بدّ من التصرّف.

الموقف الثاني : في بيان الأقوال أو وجوه الاحتمال (٧) بالتتبّع أو التصرّف.

الموقف الثالث : في بيان الثمرة المترتّبة على النزاع والاختلاف ، مضافا إلى الثمرة العلميّة بسبب كون العلم صفة كمال ، وكونه أولى من الجهل إن لم يترتّب عليه المفسدة الموجبة لصيرورة الحسن بالذات قبيحا بالعرض ، وكذا الثمرة الاعتقاديّة بسبب تصحيح العقيدة ، والثمرة التوصّليّة بسبب حصول القوّة أو تشحيذ الذهن الموجب لزيادة القوّة وحصول الأعلميّة ، أعني الثمرة الفقهيّة العامّة ، أو عامّة العامّة ، أو الخاصّة ، أو خاصّة الخاصّة ، أو الأخصّ بسبب ارتباطها بأفعال المكلّفين عموما أو خصوصا ، كالضمان ووجوب الصلاة ومسائل الأمر بالمعروف والحدود.

__________________

(١) ب : ـ تعيين محلّ.

(٢) ج : يتوجّه.

(٣) ج : ـ كلّ معنى يغاير معنى أراده.

(٤) ب : ونحو.

(٥) ب : كذلك ؛ بدل : بأنواعها العشرة.

(٦) ب : ـ المكلّفين.

(٧) الف : في بيان الأقوال والوجوه والاحتمال. وفي ج : في بيان الأقوال أو الاحتمال.

٢٨

والحاصل : أنّ الثمرة على أقسام ثمانية :

الأوّل : الثمرة العلميّة.

الثاني : الثمرة الاعتقاديّة.

الثالث : الثمرة التوصّليّة.

الرابع : الثمرة الفقهية التي هي عامّة العامّة بتعلّقها بالمكلّفين بلا واسطة أو بواسطة ، كالضمان عند تلف مال الغير ، ولو كان مستندا إلى الدابّة في صورة تفريط المالك في حفظها.

الخامس : الثمرة الفقهيّة العامّة ، كالوجوب والحرمة.

السادس : الثمرة الفقهيّة الخاصّة ، كوجوب الجهاد.

السابع : الثمرة الفقهيّة التي هي خاصّة الخاصّة ، كوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحكام القضاء والشهادات المخصوصة بالمجتهدين. (١)

الثامن : الثمرة الفقهيّة التي هي الأخصّ ، كمسائل الحدود المخصوصة بالمجتهد الأعلم مثلا. والعمدة ملاحظة الثمرة الكلاميّة أو الفقهيّة.

الموقف الرابع : في تأسيس الأصل ؛ بأن يلاحظ أوّلا الأصل بمعنى القاعدة الكليّة من العقليّة من باب العلّيّة أو المعلوليّة أو الحسن والقبح ، والنقليّة اللبيّة القوليّة ، أو الفعليّة ، أو اللفظيّة الكتابيّة أو الخبريّة.

وثانيا : الأصل بمعنى الغالب الراجح الظاهر عند كون الكثرة معتدّا بها ، وكون الغلبة من باب الكثير واليسير ، لا الكثير والأكثر ، وكونها مفيدة للظنّ المخصوص الذي عليه بناء العمل ، سواء كانت جنسيّة أو نوعيّة أو صنفيّة أو وصفيّة أو شخصيّة.

وثالثا : الأصل بمعنى أصالة البراءة (٢) في الوجوب والحرمة ، لا البراءة الأصليّة النوعيّة ، أو الشخصيّة الموقوفة على ملاحظة الحالة السابقة على البعثة أو حصول

__________________

(١) ب : ـ وأحكام القضاء والشهادات المخصوصة بالمجتهدين.

(٢) ب : + الجارية.

٢٩

شرائط التكليف ، سواء كانت أصليّة أو تبعيّة ، كما في الأحكام الوضعيّة.

ورابعا : الأصل بمعنى الاستصحاب الوجودي أو العدمي ، أصليا كان أم عارضيا كما في أصل الاشتغال ، سواء كان حال العقل أو النقل ؛ فيلاحظ أنّ الأصل متوجّه أم غير متوجّه ، وعلى الأوّل متّحد أم متعدّد ، وعلى تقدير التعدّد يلاحظ أنّ الاصول متعاضدة أم متعارضة ، وعلى تقدير التعارض متطارية يكون الوارد والطاري منها مقدّما أم متواردة ، وعلى تقدير التوارد متفاوتة أم متعادلة ؛ فعند تعيين (١) الأصل يجعله نصب عينيه ومقتضاه بين يديه حتّى يلاحظ الأصل ـ بمعنى الدليل ـ بأنّه مطابق لما ذكر أو مخالف له ، فيعمل على ما هو المقرّر في موضعه.

الموقف الخامس : في ذكر الأدلّة وحجج الأقوال والترجيح وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل ؛ وذلك لا بدّ أن يكون في خمس مراحل ، واثني عشر مقاما ، وثمانية مقامات :

المرحلة الاولى : في تحصيل ما يصلح أن يجعل دليلا بإعمال علم الكلام والتفسير المتعلّق بآيات الأحكام والفقه للاطّلاع على نحو الإجماع وعلم الحديث بنحو الرجوع إلى الأصل والزيادة ومواضع عدم التقطيع والتعليل والتفريع والاستطراد.

المرحلة الثانية : في ملاحظة السند في مقامين : مقام الانضباط والاضطراب ، ومقام الاعتبار والردّ بإعمال علم الحديث والرجال ، (٢) بل الدراية أيضا.

المرحلة الثالثة : في المتن في مقامين أيضا : مقام الانضباط والاضطراب ، ومقام الفصاحة والركاكة بإعمال علم الحديث والأدب.

المرحلة الرابعة : في الدلالة في مقامات ستّة :

الأوّل : مقام بيان المعنى الإفرادي المادّي الوضعي.

الثاني : مقام بيان المعنى الإفرادي المادّي المرادي بأنّه على وفق المعنى الوضعي أو على خلافه بسبب وجود القرينة الصارفة والمعيّنة.

__________________

(١) ب : تعيّن.

(٢) ب : الرجال والحديث.

٣٠

الثالث : مقام بيان المعنى الإفرادي الصوري الوضعي ، كمعاني هيئات المشتقّات.

الرابع : مقام بيان المعنى الإفرادي الصوري المرادي.

الخامس : مقام بيان المعنى التركيبي الوضعي الانتزاعي من أجزاء الكلام أو الاستقلالي.

السادس : مقام بيان المعنى التركيبي الإرادي.

ويمكن جعل تلك المقامات الستّة مقامين : الأوّل : مقام بيان المعنى الإفرادي ؛ الثاني : مقام بيان المعنى التركيبي.

ولا بدّ في تلك المقامات من إعمال العلوم (١) العربيّة والاصول والمنطق.

المرحلة الخامسة : في التعارض والترجيح والتعادل ، وفي هذه المرحلة مقامان :

الأوّل : مقام الحكم الاجتهادي ؛ الثاني : مقام الحكم الفقاهتي. ولا بدّ في معرفة ذلك من بيان امور خمسة :

فاعلم أوّلا : أنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين باشتمالهما على حكمين متنافيين ، والتعادل عبارة عن تساوي الدليلين في الاعتبار والقوّة والاعتضاد ونحو ذلك ، والترجيح عبارة عن تقديم المجتهد أحد الدليلين بمرجّح داخلي أو خارجي.

وثانيا أنّ التعارض على أقسام :

الأوّل : التعارض بين المثبتين أو النافيين أو (٢) المثبت والنافي بالنفي بمعنى عدم الوجدان أو وجدان العدم.

الثاني : التعارض على وجه التباين الكلّي بأن لم يكن لشيء منهما مادّة لم يكن فيها التعارض ؛ أو العموم من وجه ، بأن كان لكلّ منهما مادّة لم يكن الآخر معارضا له فيها وكان مادّة تعارضا فيها ؛ أو العموم المطلق ، بأن كان لأحدهما مادّة الافتراق في التعارض دون الآخر.

__________________

(١) ب : علوم.

(٢) الف : و.

٣١

الثالث : التعارض بين النصّين ، أو الظاهرين ، أو النصّ والظاهر.

الرابع : التعارض بين القطعيين ، أو الظنّيين ، أو القطعي والظنّي.

الخامس : التعارض بين المتعادلين ، أو المتفاوتين بالرجحان الداخلي ، أو الخارجي ، أو كليهما.

وثالثا : أنّ المرجّحات على قسمين : الأوّل : المرجّحات المنصوصة الواردة في الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ؛ الثاني (١) : المرجّحات الاجتهاديّة التي استنبطها المجتهدون من التصرّف والتتبّع.

والمرجّحات المنصوصة اثنى عشر ، منها : الأعدليّة ، ومنها الأفقهيّة ، ومنها الأصدقيّة في الحديث ، ومنها الأورعيّة ، ومنها موافقة المشهور ، ومنها موافقة الكتاب ، ومنها موافقة السنّة ، ومنها مخالفة العامّة ؛ لكون ما خالف العامّة لبيان الحقّ ، وما وافقهم للتقيّة ، أو الاتّقاء والمصلحة ، ومنها ميل حكّامهم ، ومنها موافقة أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، ومنها موافقة الاحتياط ، ومنها تأخّر أحدهما ؛ كما في الأخبار.

وبيان ذلك : أنّ الأخبار العلاجيّة الواردة في بيان المرجّحات المنصوصة كثيرة :

منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في التحاكم إلى رجلين مختلفين في الحديث ، ففيها أنّه عليه‌السلام قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » .

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » إلى أن قال : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ، قال : « ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف

__________________

(١) ب : والثاني.

٣٢

العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » .

قلت : جعلت فداك ، أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ ؟ قال : « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » .

فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعا ؟ قال : « ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ، ويؤخذ بالآخر » .

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا ؟ قال : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » . (١)

ومنها : المرسل عنه عليه‌السلام قال : « أ رأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ ، ثمّ جئتني من قابل ، فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ ؟ » قال : كنت آخذ بالأخير ، فقال لي : « رحمك الله » . (٢)

ومثله الآخر المشتمل على قوله : « بأيّهما كنت تأخذ ؟ » قلت : بأحدثهما على (٣) الآخر ، فقال : « قد أصبت » . (٤)

ومنها : رواية المعلّى بن خنيس عنه عليه‌السلام إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ ؟ فقال : « خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا به » . (٥)

ومنها : ما روي عنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » . (٦)

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠ ؛ الفقيه ، ح ١٠ ؛ الفقيه ، ج ٣ ، ص ٨ ، ح ٣٢٣٣ ؛ تهذيب الأحكام ، ٦ ، ٣٠١ ، ح ٨٤٥ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٠٦ ، ح ٣٣٣٣٤.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٨ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٠٩ ، ح ٣٣٣٤٠.

(٣) ج : وأدع ؛ بدل : على.

(٤) الكافي ، ج ٢ ، ص ٢١٨ ، باب التقيّة ، ح ٧ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١١٢ ، ح ٣٣٣٥٠.

(٥) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٩ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٠٩ ، ح ٣٣٣٤١.

(٦) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٩ ، باب الأخذ بالسنّة و... ، ح ١ ؛ المحاسن ، ص ٢٢٦ ، ح ٥٠ ؛ الأمالي للصدوق ، ص ٣٦٧ ، المجلس ٥٨ ، ح ١٦ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١١٩ ، ح ٣٣٣٦٨.

٣٣

ومنها : ما روي عنه عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله عزوجل أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به » . (١)

ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » . (٢)

ومنها : ما روي عن الباقر عليه‌السلام عن الخبرين المتعارضين ، فقال : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النار » . قلت : إنّهما مشهوران عنكم ، فقال : « خذ بما يقول به أعدلهما عندك » . فقلت : إنّهما عدلان مرضيّان ، قال : « ما وافق منهما العامّة فاتركه ، وخذ بما خالفهم ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم » . قلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فقال :

« إذن فخذ بما فيه الحائط لدينك ، واترك ما خالف الاحتياط » . فقلت : إنّهما موافقان [ للاحتياط ] أو مخالفان [ له ] ، فقال : « إذن فتخيّر أحدهما » . (٣)

ومنها : ما روي عن الرضا عليه‌السلام في الحديثين المتعارضين : « اعرضهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإلّا فليس منّا » . (٤) إلى غير ذلك من الأخبار المتعارضة المتدافعة المتنافية ؛ من جهة دلالة بعضها على تقديم بعضها كالأعدليّة على آخر كالموافقة للشهرة ، ودلالة بعضها على العكس ، ودلالة بعضها على عدم اعتبار ما دلّ غيره على اعتباره ، ونحو ذلك من وجوه للمنافاة ؛ (٥) مضافا إلى عدم البلوغ إلى حدّ ما يوجب (٦) العمل بها تعبّدا ؛ ولهذا عدل المجتهدون عن العمل بتلك الأخبار وبنوا

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٩ ، باب الأخذ بالسنّة و... ، ح ٢ ؛ المحاسن ، ص ٢٢٥ ، ح ١٤٥ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١١٠ ، ح ٣٣٣٤٤.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٩ ، باب الأخذ بالسنّة و... ، ح ٣ ؛ المحاسن ، ص ٢٢٠ ، ح ١٢٨ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١١١ ، ح ٣٣٣٤٧.

(٣) عوالي اللآلي ، ج ٤ ، ص ١٣٣ ، ح ٢٢٩. وعنه في مستدرك الوسائل ، ج ١ ، ص ١٥٦ ، ح ٢١٤١٣ ، مع اختلاف يسير.

(٤) الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٣٥٧. وعنه في وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٢١ ، ح ٣٣٣٧٣.

(٥) ج : المنافاة ؛ بدل : وجوه للمنافاة.

(٦) ج : ما يمكن.

٣٤

على العمل بالمرجّحات الاجتهاديّة.

وأمّا المرجّحات الاجتهاديّة فهي خمسة في خمسة :

الأوّل : المرجّح السندي ، الذي يرتقي إلى خمسة :

منها قطعيّة السند وظنّيّته ، مثل أن يكون أحد الدليلين من الأخبار المتواترة اللفظيّة ، والآخر من الأخبار الصحيحة الظنّيّة ، ولم يكن فرق بينهما إلّا من هذه الجهة ، أو كان ولكن لم يلاحظ ، أو عورضت تلك الجهة مع مثلها.

ومنها : علوّ الإسناد ؛ لقلّة الواسطة بين المخبر له والمخبر عنه في أحد الدليلين ، ودنوّه بكثرتها في الآخر على الوجه المذكور ، فإنّ كثرة الواسطة تقتضي كثرة احتمال الخطأ ، وقلّتها تقتضي قلّته والظنّ مع أقلّ احتمالا للخطإ بحسب الصدور عن مصدر الوحي.

ومنها : كثرة عدد الرواة في كلّ مرتبة من مراتب الرواة ، (١) أو بعضها في أحد الدليلين وقلّته كذلك في الآخر ، فإنّ الكثرة المزبورة تقتضي قوّة الظنّ بالصدور عمّن قبلها ؛ فيصير الآخر موهوما غير حجّة.

ومنها : رجحان راوي أحد الدليلين في وصف من الأوصاف الموجبة لحصول الظنّ وقوّته ، كالعلم والعدالة والضبط والفطانة.

ومنها : اختصاص راوي أحدهما بالرواية بكونه سائلا أو مباشرا لعمل ورد به النصّ أو بالمرويّ عنه ؛ لكونه (٢) من خواصّ أصحابه عالما بسياقه ونحو ذلك.

الثاني : المرجّح المتني ، الذي يكون خمسة أيضا :

منها : كون أحدهما منقولا باللفظ ، دون الآخر.

ومنها : كون أحدهما متحمّلا بالسماع مثلا ، دون الآخر.

__________________

(١) ب : ـ من مراتب الرواة.

(٢) ب : ككونه.

٣٥

ومنها : كون أحد المتنين معلّلا مشتملا على علّة الحكم وسببه ، (١) دون الآخر. وأمّا المعلّل بمعنى ما اشتمل على علّة خفيّة في متنه أو سنده ـ كما هو المصطلح عند السابقين ـ فهو غير معتبر.

ومنها : كون أحدهما متأكّدا بنحو القسم ، أو تعدّد موضع الدلالة ممّا هو كالتأكيد اللفظي والمعنوي ، (٢) دون الآخر.

ومنها : الفصاحة التالية لحدّ الإعجاز ، كما في خطب نهج البلاغة والصحيفة السجّاديّة ونحوهما ممّا يفيد رجحان كون أحد المتنين من أهل العصمة ، دون الآخر ؛ من جهة احتمال الخطأ دون الافتراء المنافي (٣) للعدالة الكاملة ، أو كليهما في بعض الصور.

الثالث : المرجّح بحسب الدلالة ، وهو أيضا خمسة :

منها : قوّة دلالة أحد الدليلين دون الآخر ؛ بكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا بكثرة الاستعمال في المعنى المجازي ونحوها ، أو كون أحدهما قولا والآخر فعلا ، أو كون أحدهما أقلّ تخصيصا ، والآخر أكثر تخصيصا ، أو كون حقيقة أحدهما اختصاصيّة ، والآخر اشتراكيّة ، أو كون العموم في أحدهما أصرح ، أو كون أحد العامّين أقرب إلى المقصود ، أو كون إحدى الحقيقتين اتّفاقيّة ، والاخرى اجتهاديّة راجحة بالاجتهاد مع الاختلاف ، أو كثرة ناقلي أحدهما ، أو كون أحدهما (٤) خاصّا ، والآخر عامّا عند عدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ وكون العامّ مصداقيا لا مورديا وقع التعارض بالنسبة إلى مورد السؤال في العامّ وعدم كون مورد التعارض مقصودا أصليا ، أو أظهر أفراد العامّ وعدم ترجّح العامّ على وجه العموم بنحو الدليلين عمل الجل والسيرة إلى غير ذلك من أسباب القوّة.

فلا بدّ من أن يعرف أنّ حمل العامّ على الخاصّ ليس على وجه العموم ، بل على وجه الخصوص بنحو المخصّصات المزبورة ، كما أنّ حمل المطلق على المقيّد ليس

__________________

(١) ج : بسببه.

(٢) ب : أو المعنوي.

(٣) ب : النافي.

(٤) الف ، ج : ـ أو كون أحدهما.

٣٦

مطلقا مقيّد بنحو تحقّق وحدات الخمس : وحدة المكلّف ، وحدة المكلّف ، وحدة المكلّف به ، وحدة المكلّف فيه ، وحدة المكلّف له.

ومنها : تطابق أحد الدليلين بالنسبة إلى المدّعى وعدم حاجته إلى الضميمة ، كون الآخر أخصّ محتاجا إلى الضميمة كالإجماع المركّب.

ومنها : كون أحد الدليلين على وجه الحقيقة ، والآخر على وجه المجاز ، وإن كان ظهور المعنى المجازي كالحقيقي أو أقوى ؛ لكثرة التكلّم على وجه الحقيقة.

ومنها : كون دلالة (١) أحد الدليلين بالمطابقة ، والآخر بالالتزام ؛ لأنّ عدم اعتبار الالتزام لا يستلزم الطرح ، بخلاف عدم اعتبار المطابقة ؛ ولا ريب أنّ الطرح خلاف الأصل والغالب.

ومنها : كون دلالة أحد الدليلين بالمنطوق ، والآخر بالمفهوم لمثل ما مرّ.

الرابع : المرجّح المدلولي ، وهو أيضا خمسة :

منها : احتمال النسخ في الكتاب والخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله واحتمال التقيّة في الخبر الإمامي بالنسبة إلى أحد الدليلين ، دون الآخر ؛ لحصول الظنّ بأنّ حكم الله هو ما لا يحتمل شيئا منهما.

ومنها : كون مدلول أحدهما من المضامين العالية التي يبعد صدورها من غير أهل العصمة سيّما من غير رويّة ، دون الآخر.

ومنها : كون مدلول أحدهما من المسائل الغامضة التي يبعد بيانها من غير أهل العصمة ، دون الآخر.

ومنها : كون مدلول أحدهما من المطالب الخفيّة التي يبعد بيانها سيّما على وجه الخطأ من (٢) غير أهل العصمة ، دون الآخر.

ومنها : كون مدلول أحدهما أنسب بطريقة الشارع ونوّابه وأوفق بالسياق (٣) والمذاق (٤)

__________________

(١) الف ، ج : ـ دلالة.

(٢) ب : + عدول.

(٣) ب : إلى السياق.

(٤) الف : في المذاق.

٣٧

لأهل العصمة.

الخامس : المرجّح الخارجي ، وهو أيضا خمسة :

منها : اعتضاد أحدهما بدليل آخر ، دون الآخر.

ومنها : موافقة أحدهما للشهرة المطلقة العظيمة أو الحديثة أو القديمة ، حسيّة كانت أم حدسيّة حاصلة من عدم نقل خلاف إلّا عن (١) شاذّ مثلا ممّن ديدنه ذكر كلّ قول وقائل أو نحو ذلك ، سواء كانت بحسب الرواية أو الفتوى على وجه الاستناد ، أو التطابق على الأصحّ لحجّيّة الظنّ للمطمئنّ ، (٢) وكون الآخر على خلافها.

ومنها : موافقة الأصل الاجتهادي ، كالقاعدة العقليّة أو النقليّة ، أو الغالب الراجح مع جهل التاريخ في النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومطلقا في الإمامي ؛ فيقدّم الموافق للأصل على غيره ؛ لحصول الظنّ ، فلو علم التاريخ في النبوي قدّم المتأخّر الوارد بعد حضور وقت العمل بالآخر مطلقا ؛ لإمكان النسخ وعدم احتمال التقيّة ؛ فيكون المتقدّم مشكوكا ، والمتأخّر مظنونا ، ولو كان الأصل من الاصول الفقاهيّة كأصل البراءة والاستصحاب ولم يكن مرجّح اجتهادي يتوقّف في مقام الاجتهاد لعدم تحقّق الترجيح حينئذ بالأصل الذي لا دخل له ببيان حكم الله يوم الصدور ، ويرجع إلى الأصل في مقام الفقاهة والعمل ، فعند كون الشكّ في التكليف البدوي أو مطلقا على وجه يرجع إلى أصل البراءة ، وعند كون الشكّ في المكلّف به مع التضادّ يعمل بالتخيير ، وكذا مع عدم التضادّ وعدم القدرة على الإتيان بجميع المحتملات ، وعند كون الشكّ في المكلّف به مع عدم التضادّ والقدرة على الإتيان بجميع المحتملات والعلم بكون المكلّف به معيّنا عند الله وصيرورته مبهما عندنا ، يجب الاحتياط بالإتيان بجميع المحتملات بقصد كون واحد لا على التعيين واجبا بالأصالة ، وما عداه واجبا من باب المقدّمة.

ومنها : مخالفة العامّة ، فإنّ الرشد في خلافهم ؛ للاستقراء ، مضافا إلى أنّ الاختلاف

__________________

(١) ج : نحو.

(٢) ب : ـ لحجيّة الظنّ للمطمئنّ.

٣٨

ـ كما في النصّ ـ وقع من الأئمّة عليهم‌السلام (١) لكونه أبقى لنا ولهم من جهة اقتضاء الاتّفاق (٢) التصلّب في المذهب الموجب لشدّة اهتمامهم على الإيذاء والدفع ، واقتضاء الاختلاف اعتقادهم سخافة مذهبنا وعدم الاعتناء بشأننا وترك إيذائنا ، فيكون ما وافقهم لكونه مقتضيا لترك إيذائنا واردا من جهة الاتّقاء أو التقيّة والمصلحة ، وما خالفهم لبيان الحكم الواقعي ولو على وجه المظنّة.

ومنها : موافقة الاعتبار العقلي من جهة القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة ، فإنّ عدم حجّيّتها على وجه الاستقلال بضرورة المذهب ونحوها لا يستلزم عدم كونها من المرجّحات ؛ لكون الظنّ الحاصل من الدليل الموافق للاعتبار العقلي حجّة لعموم الدليل العقلي الدالّ على حجّيّة المظنّة في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، كما حقّق في محلّه.

ورابعا : أنّ الأخبار المتعارضة إذا كانت مع ترجيح بعض على الوجه المعتبر ، يعمل بالراجح ، ويجوز صرف المرجوح إلى ما يناسبه بالجمع التبرّعي ، كما هو ديدن الشيخ الطوسي كثيرا ما.

وأمّا عند عدم الترجيح وإمكان الجمع بالتصرّف في موضوع الحكم ـ كحمل العام على الخاصّ أو في نفس الحكم كحمل ما دلّ على الوجوب على الاستحباب ـ فهي

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٥ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٥ ؛ علل الشرائع ، ص ٣٩٥ ، باب ١٣١ ، ح ١٦. وإليك نصّ الحديث من الكافي : « أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن الحسن بن عليّ ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مسألة فأجابني ، ثمّ جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء رجل آخر ، فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله ، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟ فقال : « يا زرارة ، إنّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » . قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه » .

(٢) ب : الاتّحاد.

٣٩

على قسمين :

الأوّل : ما له شاهد جمع ؛ والثاني : ما ليس له شاهد جمع.

وعلى الأوّل لا بدّ من الجمع ، وهو الجمع اللزومي ، وهو على أقسام خمسة :

منها : ما يكون (١) الشاهد داخليا حاصلا من ملاحظة نفس الخبرين الموجبة لحصول الظنّ بالمراد مثلا على وجه يقتضي العمل بهما.

ومنها : ما يكون شاهد الجمع فيه شرعيا قطعيا ، كالإجماع على المراد الجامع.

ومنها : ما يكون شاهد الجمع فيه عرفيا ظنّيا ، كما في العامّ والخاصّ المتنافيين ظاهرا عند عدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ.

ومنها : ما يكون شاهد الجمع فيه خارجيا واردا للجمع.

ومنها : ما يكون شاهد الجمع فيه خارجيا مقتضيا للجمع.

وعلى الثاني : الذي ليس فيه شاهد الجمع بوجه من الوجوه الخمسة ، اختلف في لزوم الجمع وعدمه على قولين :

الأوّل : لزومه كما عن المشهور ؛ لقاعدة أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

الثاني : عدمه ؛ لأنّ الجمع بلا شاهد طرح للدليلين ، فإنّ أحدهما إذا دلّ على وجوب شيء مطلقا مثلا ، والآخر على حرمته كذلك ، فلو جمع بحمل الوجوب على صورة والحرمة على اخرى مثلا ، يلزم طرح الدليلين ؛ فلا أولويّة له. (٢) وهو الأصحّ وفاقا للسيّد الاستاد.

وخامسا : أنّ المجتهد بعد استفراغ وسعه في تحصيل الدليل يحصل له أحوال :

منها : وجدان الدليل السالم عن المعارض.

ومنها : وجدان الدليل المتعارض الراجح بالمرجّح السالم عن المعارض أو المرجّح الراجح.

__________________

(١) ج : أن يكون.

(٢) الف : ـ له.

٤٠