الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧١
بسم الله الرحمن الرحيم
٥
(باب)
*(دخوله الشعب وما جرى بعده إلى الهجرة ، وعرض نفسه على)*
*(القبائل ، وبيعة الانصار ، وموت أبى طالب وخديجة رضى الله عنهما)*
١ ـ عم ، ص : اجتمعت قريش في دار الندوة وكتبوا صحيفة بينهم أن لا يؤاكلوا بني هاشم ولا يكلموهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يزوجوهم ، ولا يتزوجوا إليهم ، ولا يحضروا معهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلونه ، وإنهم يد واحدة على محمد يقتلونه غيلة أو صراحا ، فلما بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشعب وكانوا أربعين رجلا ، فحلف لهم أبوطالب بالكعبة والحرم والركن والمقام إن شاكت محمدا شوكة لاثبن(١) عليكم يا بني هاشم ، وحصن الشعب ، وكان يحرسه بالليل والنهار ، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ، ورسول الله (ص) مضطجع ، ثم يقيمه ويضجعه في موضع آخر فلا يزال الليل كله هكذا ، ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار فأصابهم الجهد ، وكان من دخل مكة من العرب لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئا ومن باع منهم شيئا انتهبوا ماله ، وكان أبوجهل والعاص بن وائل السهمي و النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي ، تدخل مكة ، فمن رأوه معه ميرة(٢) نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئا ، ويحذرون إن باع شيئا منهم أن ينهبوا ماله ، وكانت خديجة رضي الله عنها لها مال كثير فأنفقته على
____________________
(١) لعل الاصح ، لاتين عليكم. يقال : أتى عليه الدهر أى أهلكه.
(٢) الميرة : الطعام.
رسول الله صلىاللهعليهوآله في الشعب ، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبدالمطلب بن عبد مناف ، وقال : هذا ظلم ، وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه ، وعلقوها في الكعبة ، وتابعهم على ذلك أبولهب ، وكان رسول الله (ص) يخرج في كل موسم فيدور على قبائل العرب ، فيقول لهم : تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم ، وثوابكم الجنة على الله ، و أبولهب في أثره فيقول : لا تقبلوا منه ، فإنه ابن أخي وهو ـ كذاب ساحر ، فلم يزل هذا حالهم ، (١) وبقوا في الشعب أربع سنين ، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبايعون(٢) إلا في الموسم ، وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة. موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ، ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني ، وأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمدا حتى نقتله ، ونملكك علينا ، فقال أبوطالب رضياللهعنه قصيدته اللامية يقول فيها :
ولما رأيت القوم لا ود فيهم |
|
وقد قطعوا كل العرى والوسائل |
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب |
|
لدينا ولا يعني بقول الاباطل |
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للارامل |
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للارامل |
يطوف به الهلاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل |
كذبتم وبيت الله يبزى محمد(٣) |
|
ولما نطاعن دونه ونقاتل(٤) |
____________________
(١) في نسخة : هذا حاله.
(٢) في نسخة : ولا يبيعون.
(٣) في النهاية : في قصيدة أبى طالب يعاتب قريشا في أمر النبى صلىاللهعليهوآله :
كذبتم وبيت الله يبزى |
|
ولما نطاعن دونه ونناضل |
يبزى : يقهر ويغلب ، أراد لا يبزى ، فحذف « لا » من جواب القسم وهى مرادة ، أى لايقهر
ولم نقاتل عنه وندافع.
(٤) في نسخة : ونناضل.
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد |
|
وأحببته حب الحبيب المواصل |
وجدت بنفسي دونه وحميته |
|
ودارأت (١) عنه بالذرى والكواهل(٢) |
فلا زال في الدنيا جمالا لاهلها |
|
وشيئا لمن عادى وزين المحافل |
حليما رشيدا حازما غير طائش |
|
يوالي إله الحق ليس بما حل(٣) |
فأيده رب العباد بنصره |
|
وأظهر دينا حقه غير باطل |
فلما سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه ، وكان أبوالعاص بن الربيع ـ وهو ختن رسول الله ـ يأتي بالعير بالليل عليها البر والتمر إلى باب الشعب ، ثم يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم ، وقد قال رسول الله (ص) : « لقد صاهرنا أبوالعاص فأحمدنا صهره ، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلا » ولما أتى على رسول الله في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الارض فلحست جميع ما فيها من قطيعة وظلم ، (٤) وتركت « باسمك اللهم(٥) » ونزل جبرئيل على رسول الله (ص) فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله أبا طالب ، فقام أبوطالب ولبس ثيابه ثم مشى حتى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما أبصروه قالوا : قد ضجر أبوطالب ، وجاء الآن ليسلم ابن أخيه ، فدنا منهم وسلم عليهم فقاموا إليه وعظموه وقالوا : قد علمنا يا أبا طالب أنك أردت مواصلتنا ، والرجوع إلى جماعتنا ، وأن تسلم ابن أخيك إلينا ، قال : والله ما جئت لهذا ، ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله تعالى أخبره أنه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الارض فلحست
____________________
(١) أى دافعت عنه.
(٢) في نسخة : والكواكل. أقول : الذرى : أعلى الشئ ، أراد به الرؤوس ، والكواهل جمع الكاهل : أعلى الظهر مما يلى العنق. والكلاكل جمع الكلكل : الصدر أو ما بين الترقوتين.
(٣) في النهاية : وما حل مصدق أى خصم يجادل ، وقيل : ساع ، من قولهم : محل بفلان : إذا سعى به إلى السلطان :
(٤) في المصدر : من قطيعة رحم وظلم وجور ، وتركت اسم الله.
(٥) في نسخة : باسم إله.
جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور ، وترك اسم الله ، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقا فأتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم وإن كان باطلا دفعته إليكم ، فإن شئتم قتلتموه ، وإن شئتم استحييتموه ، فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتما ، فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه ثم فكوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلا « باسمك اللهم » فقال لهم أبوطالب : يا قوم اتقوا الله ، وكفوا عما أنتم عليه ، فتفرق القوم ولم يتكلم أحد ، ورجع أبوطالب إلى الشعب.(١)
٢ ـ عم : وقال في ذلك قصيدته البائية التي أولها :
ألا من لهم آخر الليل منصب |
|
وفيها :
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة |
|
متى ما يخبر غائب القوم يعجب |
محا الله منها كفرهم وعقوقهم |
|
وما نقموا من ناطق الحق معرب |
وأصبح ما قالوا من الامر باطلا |
|
ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب |
وأمسى ابن عبدالله فينا مصدقا |
|
على سخط من قومنا غير معتب |
ولا تحسبونا مسلمين محمدا |
|
لذي عزة منا(٣) ولا متعزب |
ستمنعه منا يد هاشمية |
|
مركبها في الناس خير مركب(٤) |
٣ ـ ص : وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لوي ـ وكان شيخا كبيرا كثير المال له أولاد ـ وأبوالبختري بن هشام ، وزهير بن امية المخزومي في رجال من أشرافهم نحن برآء مما في هذه الصحيفة ، فقال أبوجهل : هذا أمر قضي بليل ، وخرج النبي
____________________
(١) اعلام الورى : ٣٢ ـ ٣٤ ، قصص الانبياء : مخطوط.
(٢) في المصدر : وشعب القضا من قومك المتشعب.
(٣) في المصدر : لذى عزة فينا.
(٤) اعلام الورى : ١٣.
صلىاللهعليهوآله ورهطه من الشعب وخالطوا الناس ، ومات أبوطالب بعد ذلك بشهرين ، وماتت خديجة رضي الله عنها بعد ذلك ، وورد على رسول الله (ص) أمران عظيمان ، وجزع جزعا شديدا ، ودخل على أبي طالب وهو يجود بنفسه وقال : يا عم ربيت صغيرا ، ونصرت كبيرا ، وكفلت يتيما ، فجزاك الله عني خير الجزاء أعطني كلمة أشفع لك بها عند ربي.(١)
قال ابن عباس : فلما ثقل أبوطالب رئي يحرك شفتيه ، فأصغى إليه العباس(٢) يسمع قوله ، فرفع العباس [ عنه ] رأسه وقال : يا رسول الله والله قد قال الكلمة التي سألته إياها.
وعن ابن عباس رضياللهعنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله عارض جنازة أبي طالب فقال : وصلت رحما ، (٣) وجزيت خيرا يا عم.(٤)
٤ ـ عم : وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن خديجة بنت خويلد وأبا طالب رضي الله عنهما ماتا في عام واحد ، وتتابعت على رسول الله (ص) المصائب بهلاك خديجة و أبي طالب ، وكانت خديجة وزيرة صدق على الاسلام ، وكان يسكن إليها.
وذكر أبوعبدالله بن منده في كتاب المعرفة أن وفاة خديجة كانت بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام ، وزعم الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وفي هذه السنة توفيت خديجة وأبوطالب وبينهما خمس وثلاثون ليلة.(٥)
٥ ـ عم : في كتاب دلائل النبوة عن الزهري قال : كان رسول الله يعرض نفسه
____________________
(١) لعله صلىاللهعليهوآله قال ذلك ، لان أبا طالب رضياللهعنه كان يتقى من قومه ويكتم إسلامه فأراد أن يعلم قومه ذلك ، هذا بعد فرض صحة الرواية ووقوع ذلك ، وإلا فالرواية كما ترى مرسلة.
(٢) فيه تأمل فان العباس كان حينذاك في حزب المشركين ولم يكن أسلم ، وبقى كذلك إلى أن أسلم في غزوة بدر الكبرى.
(٣) في النسخة : وصلتك رحم.
(٤) قصص الانبياء : مخطوط.
(٥) اعلام الورى : ٣٥.
على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه ، ويقول : لا أكره أحدا منكم على شئ ، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك ، ومن كره لم اكرهه ، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من القتل حتى ابلغ رسالات ربي ، وحتى يقضي الله عزوجل لي ولمن صحبني بما شاء الله ، فلم يقبله أحد منهم ، ولم يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال : قوم الرجل أعلم به ، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟ فلما توفي أبوطالب اشتد البلاء على رسول الله (ص) أشد ما كان ، فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه فوجد ثلاثة نفر منهم هم ساداة ثقيف يومئذ وهم إخوة : عبد ياليل بن عمرو ، وحبيب ابن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه ، فقال أحدهم : أنا أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك بشئ قط ، وقال الآخر : أعجز على الله أن يرسل غيرك؟ وقال الآخر : والله لا اكلمك بعد مجلسك هذا أبدا ، والله لئن كنت رسول الله لانت أعظم شرفا من أن أكلمك ، ولئن كنت تكذب على الله لانت شر من أن أكلمك ، وتهزؤوا به ، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به ، فقعدوا له صفين على طريقه ، فلما مر رسول الله صلىاللهعليهوآله بين صفيهم كان لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة ، وقد كانوا أعدوها حتى أدموا رجليه ، فخلص منهم ورجلاه تسيلان الدماء ، فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظل في ظل حبلة ، (١) وهو مكروب موجع ، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله ، ولما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب ، فلما جاءه عداس قال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : من أي أرض أنت؟ قال : أنا من أهل نينوى ، فقال (ص) : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متى؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ وكان لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه ـ : أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى ، فلما أخبره بما أوحى الله إليه
____________________
(١) حبله : شجر العنب أو قضبانه. وفى المصدر ، في ظل شجرة منهم.
من شأن يونس بن متى خر عداس ساجدا لله وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء ، فلما بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهكا سكتا ، فلما أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمد ، وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحد منا؟ قال : هذا رجل صالح أخبرني بشئ عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى ، فضحكا وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ، فرجع رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى مكة.
قال علي بن إبراهيم بن هاشم : ولما رجع رسول الله صلىاللهعليهوآله من الطائف و أشرف على مكة وهو معتمر كره أن يدخل مكة وليس له فيها مجير ، فنظر إلى رجل من قريش قد كان أسلم سرا فقال له : ائت الاخنس بن شريق فقل له : إن محمدا يسألك أن تجيره حتى يطوف ويسعى فإنه معتمر ، فأتاه وأدى إليه ما قال رسول الله ، فقال الاخنس : إني لست من قريش ، وإنما أنا حليف فيهم ، والحليف لا يجير على الصميم ، وأخاف أن يخفروا جواري فيكون ذلك مسبة(١) ، فرجع إلى رسول الله فأخبره ، وكان رسول الله في شعب حراء مختفيا مع زيد ، فقال له : ائت سهيل ابن عمرو فاسأله أن يجيرني حتى أطوف بالبيت وأسعى ، فأتاه وأدى إليه قوله ، فقال له : لا أفعل ، فقال له رسول الله : اذهب إلى مطعم بن عدي فاسأله أن يجيرني حتى أطوف وأسعى ، فجاء إليه وأخبره ، فقال : أين محمد؟ فكره أن يخبره بموضعه ، فقال : هو قريب ، فقال : ائته فقل له : إني قد أجرتك ، فتعال وطف واسع ما شئت ، فأقبل رسول الله (ص) وقال مطعم لولده وأختانه(٢) ، وأخيه طعيمة بن عدي : خذوا سلاحكم فإني قد أجرت محمدا ، وكونوا حول الكعبة حتى يطوف ويسعى ، وكانوا عشرة فأخذوا السلاح وأقبل رسول الله حتى دخل المسجد ، ورآه أبوجهل فقال : يا معشر قريش هذا محمد وحده ، وقد مات ناصره ، فشأنكم به ، فقال له : طعيمة بن عدي
____________________
(١) يقال : هو من صميم القوم أى من أصلهم وخالصهم. وخفر فلانا وأخفره : نقض عهده وغدر به. والمسبة : السب.
(٢) أختان جمع الختن : زوج الابنة. كل من كان من قبل المرأة مثل الاب والاخ.
يا عم لا تتكلم فإن أبا وهب قد أجار محمدا ، فوقف أبوجهل على مطعم بن عدي فقال : أبا وهب أمجير أم صابئ(١)؟ قال : بل مجير ، قال : إذا لا نخفر جوارك ، فلما فرغ رسول الله صلىاللهعليهوآله من طوافه وسعيه جاء إلى مطعم فقال : أبا وهب! قد أجرت وأحسنت ، فرد علي جواري ، قال : وما عليك أن تقيم في جواري؟ قال : أكره أن اقيم في جوار مشرك أكثر من يوم ، قال مطعم : يا معشر قريش إن محمدا قد خرج من جواري.
قال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج ، وكان بين الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهرا طويلا وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت للاوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له : إنه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشئ ، قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة : خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله ، سفه أحلامنا وسب آلهتنا ، وأفسد شباننا ، وفرق جماعتنا ، فقال له أسعد : من هو منكم؟ قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب من أوسطنا شرفا ، وأعظمنا بيتا ، وكان أسعد وذكوان و جميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، قال : فأين هو؟ قال : جالس في الحجر ، وإنهم لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فإنه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر لابد لي أن أطوف بالبيت؟ قال : ضع في اذنيك القطن ، فدخل أسعد المسجد وقد حشا أذنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول الله
____________________
(١) صبأ فلان ، إذا خرج من دين إلى دين آخر.
جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم(١) ، فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل مني(٢)؟ أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فاخبرهم ، ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به ، و قال لرسول الله : أنعم صباحا ، فرفع رسول الله صلىاللهعليهوآله رأسه إليه وقال : قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، فقال له أسعد : إن عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمد؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول ـ الله ، وأدعوكم إلى « أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون(٢)».
فلما سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلا الله. وأنك رسول الله ، يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الاوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، ولا أجد أعز منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الامر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك ، والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن يكون دارنا دار هجرتك عندنا(٤) ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل مما أتيت له ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود يبشرنا به ، وتخبرنا
____________________
(١) في نسخة : وعنده قوم من بنى هاشم.
(٢) في نسخة : ما أحد أجهل منى.
(٣) الانعام : ١٥١ و ١٥٢.
(٤) في المصدر ، عندنا مقامك.
بصفته ، فهلم فأسلم ، فأسلم ذكوان ، ثم قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ، ويدعو الناس إلى أمرك ، فقال رسول الله لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثا مترفا بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ولم يخرج من مكة ، فلما أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد ، وأمره رسول ـ الله بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلم من القرآن كثيرا ، فخرجا إلى المدينة و معهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان ، وكان مصعب نازلا على أسعد بن زرارة ، وكان يخرج في كل يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام فيجيبه الاحداث(١) ، وكان عبدالله بن ابي شريفا في الخزرج ، وقد كان الاوس والخزرج اجتمعت على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه ، وقد كانوا اتخذوا له إكليلا(٢) احتاجوا في تمامة إلى واسطة كانوا يطلبونها ، وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث ، ولم يعن على الاوس ، وقال : هذا ظلم منكم للاوس ، ولا اعين على الظلم ، فرضيت به الاوس والخزرج ، فلما قدم أسعد كره عبدالله ما جاء به أسعد و ذكوان وفتر أمره ، فقال أسعد لمصعب : إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الاوس وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف ، فإن دخل في هذا الامر تم لنا أمرنا فهلم نأتي محلتهم ، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم ، واجتمع إليه قوم من أحداثهم ، وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد ابن معاذ ، فقال لاسيد بن حضير وكان من أشرافهم : بلغني آن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي يفسد شباننا ، فائته وانهه عن ذلك فجاء أسيد(٣) بن حضير فنظر إليه أسعد فقال لمصعب : إن هذا رجل شريف فإن دخل في هذا الامر رجوت أن يتم أمرنا ، فاصدق الله فيه ، فلما قرب أسيد منهم قال :
____________________
(١) جمع الحدث : الشاب.
(٢) الاكليل : التاج.
(٣) اسيد كزبير ، ويقال لابيه : حضير الكتائب
يا أبا أمامة يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا(١) ، ولا تفسد شباننا ، واحذر الاوس على نفسك ، فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمرا ، فان أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحينا عنك ما تكره ، فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن فقال : كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الامر؟ قال : نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ، ونشهد الشهادتين ، ونصلي ركعتين ، فرمى بنفسه مع ثيابه في البئر ، ثم خرج وعصر ثوبه ثم قال : اعرض علي ، فعرض عليه شهادة « أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله » فقالها ثم صلى ركعتين ، ثم قال لاسعد : يا أبا أمامة أنا أبعث إليك الآن خالك ، و أحتال عليه في أن يجيئك(٢) ، فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ فلما نظر إليه سعد قال : اقسم أن أسيدا قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا ، وآتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب « حم * تنزيل من الرحمن الرحيم(٣) » فلما سمعها قال مصعب : والله لقد رأينا الاسلام في وجهه قبل أن يتكلم ، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين ، واغتسل وشهد الشهادتين ، وصلى ركعتين ، ثم قام وأخذ بيد مصعب و حوله إليه ، وقال : أظهر أمرك ، ولا تهابن أحدا ، ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح : يا بني عمرو بن عوف لا يبقين رجل ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبي إلا أن خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب ، فلما اجتمعوا قال كيف حالي عندكم؟ قالوا : أنت سيدنا ، والمطاع فينا ، ولا نرد لك أمرا ، فمرنا بما شئت ، فقال : كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك ، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به ، فما بقي دار من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلا وفيها مسلم أو مسلمة ، وحول مصعب بن عمير إليه ، وقال له : أظهر أمرك ، وادع الناس علانية ، وشاع الاسلام بالمدينة ، وكثر ، ودخل فيه من البطنين جميعا أشرافهم ، و
____________________
(١) النادى : مجلس القوم ومجتمعهم.
(٢) في المصدر : وأحتال عليه في أن يجيبك.
(٣) فصلت : ١ و ٢.
ذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود ، وبلغ رسول الله صلىاللهعليهوآله أن الاوس والخزرج قد دخلوا في الاسلام ، وكتب إليه مصعب بذلك ، وكان كل من دخل في الاسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه ، فكأن رسول الله صلىاللهعليهوآله يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة فكانوا يتسللون رجلا فرجلا(١) فيصيرون إلى المدينة ، فينزلهم الاوس والخزرج عليهم ويواسونهم.
قال : فلما قدمت الاوس والخزرج مكة جاءهم رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال لهم : تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربكم ، وثوابكم على الله الجنة ، قالو نعم يا رسول الله ، فخذ لنفسك ولربك ما شئت ، فقال : موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ، فلما حجوا رجعوا إلى منى وكان فيهم ممن قد أسلم بشر كثير ، وكان أكثرهم مشركين على دينهم ، وعبدالله بن أبي فيهم ، فقال لهم رسول الله في اليوم الثاني من أيام التشريق : فاحضروا دار عبدالمطلب على العقبة ، ولا تنبهوا نائما وليتسلل واحد فواحد ، وكان رسول الله (ص) نازلا في دار عبدالمطلب وحمزة وعلي والعباس معه ، فجاءه سبعون رجلا من الاوس والخزرج فدخلوا الدار فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآله : تمنعون لي جانبي حتى أتلوا عليكم كتاب ربي ، وثوابكم على الله الجنة؟ فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبدالله بن حزام(٢) : نعم يا رسول الله ، فاشترط لنفسك ولربك. ففال رسول الله : تمنعونني مما تمنعون أنفسكم وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم؟ قالوا : فما لنا على ذلك؟ قال : الجنة ، تملكون بها العرب في الدنيا ، وتدين لكم العجم ، و تكونون ملوكا ، فقالوا : قد رضينا ، فقام العباس بن نضلة وكان من الاوس فقال : يا معشر الاوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الاحمر والابيض ، وعلى حرب ملوك الدنيا فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغروه : فإن رسول الله وإن كان قومه
____________________
(١) في المصدر : رجل فرجل.
(٢) الصحيح حرام ، وهو عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر الانصارى.
خالفوه فهو في عز ومنعة. فقال له عبدالله بن حزام وأسعد بن زرارة وأبوالهيثم بن التيهان : مالك وللكلام؟ يا رسول الله! بل دمنا بدمك ، وأنفسنا بنفسك فاشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكفلون عليكم بذلك ، كما أخذ موسى عليهالسلام من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا ، فقالوا : اختر من شئت ، فأشار جبرئيل إليهم ، فقال : هذا نقيب ، وهذا نقيب ، وهذا نقيب حتى اختار تسعة من الخزرج ، وهم أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، وعبدالله بن حزام(١) أبوجابر بن عبدالله ، ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو وعبدالله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، وعبادة بن الصامت ، وثلاثة من الاوس وهم أبوالهيثم بن التيهان ، وكان رجلا من اليمن ، حليفا في بني عمرو بن عوف ، وأسيد ابن حضير ، وسعد بن خيثمه ، فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله صاح بهم إبليس : يا معشر قريش والعرب هذا محمد والصباة(٢) من الاوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح وسمع رسول الله النداء فقال للانصار : تفرقوا ، فقالوا : يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم ، فقالوا : يا رسول الله فتخرج معنا ، قال : أنتظر أمر الله ، فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح ، وخرج حمزة ومعه السيف فوقف على العقبة هو وعلي بن أبي طالب ، فلما نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟ قال : ما اجتمعنا ، وما ههنا أحد ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلا ضربته بسيفي ، فرجعوا وغدوا إلى عبدالله بن أبي وقالوا له : قد بلغنا أن قومك بايعوا محمدا على حربنا ، فحلف لهم عبدالله أنهم
____________________
(١) تقدم أن الصحيح : حرام.
(٢) قال الجزرى في النهاية : كانت العرب تسمى النبى صلىاللهعليهوآله الصابى لانه خرج من دين قريش إلى دين الاسلام ، ويسمون من يدخل في الاسلام مصبوا ، لانهم كانوا لا يهمزون. فأبدلوا من الهمزة واوا ، ويسمون المسلمين الصباة بغير همز كانه جمع الصابى غير مهموز ، كقاض وقضاة ، وغاز وغزاة.
لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، وإنهم لم يطلعوه على أمرهم فصدقوه ، وتفرقت الانصار ورجع رسول الله إلى مكة(١).
بيان : الحبلة بالضم : الكرم ، أو أصل من أصوله ، ويحرك ، والسبة بالضم العار ، والمسبة : الذي يسب الناس ، وقال الفيروز آبادي : بعاث بالعين وبالغين كغراب ويثلث : موضع بقرب المدينة ، ويومه معروف ، قوله : إن عهدك بهذا لقريب ، لعل المعنى أنك قريب العهد بالتحية التي حييتك بها ، فإنها كانت عادة قومك ، أو بهذه التحية ، أي ابتداءها ، (٢) فاصدق الله فيه ، أي ابذل جهدك في هدايته لتكون صادقا عند الله فيما تدعي من نصرة دينه ، وانسل وتسلل : خرج في استخفاء ، وقال الجزري : في الحديث جاءت هوازن على بكرة أبيها ، هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفر العدد ، وأنهم جاؤوا جميعا لم يتخلف منهم أحد ، وليس هناك بكرة في الحقيقة ، وهي التي يستقى عليها الماء ، فاستعيرت في هذا الموضع.
٦ ـ كا : علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي نصر ، عن إبراهيم بن محمد الاشعري ، عن عبيدة بن زرارة ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : لما توفي أبوطالب رضياللهعنه نزل جبرئيل على رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : يا محمد اخرج من مكة ، فليس لك بها ناصر ، وثارت قريش بالنبي صلىاللهعليهوآله ، فخرج هاربا حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون فصار إليه(٣).
٧ ـ قب : توفي أبوطالب بعد نبوته بتسع سنين وثمانية أشهر ، وذلك بعد خروجه من الشعب بشهرين ، وزعم الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وفي هذه السنة توفي أبوطالب ، وتوفيت خديجة بعده بستة أشهر وله ست وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوما ، ويقال : وهو
____________________
(١) اعلام الورى : ٣٥ ـ ٤٠.
(٢) لعله اعتذار من تحيته بتحية الجاهلية ، وتركه تحية الاسلام.
(٣) اصول الكافى : ٤٤٩.
ابن سبع وأربعين سنة وستة أشهر وأياما.
أبوعبدالله بن منده(١) في كتاب المعرفة : إن وفاة خديجة بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.
المعرفة(٢) : عن النسوي توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة من قبل أن تفرض الصلاة على الموتى ، وسمي ذلك العام عام الحزن ، ولبث صلىاللهعليهوآله بعدهما(٣) بمكة
ثلاثة أشهر ، فأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، فخرج جماعة من أصحابه بأهاليهم ، وذلك بعد خمس من نبوته ، وكان حصار الشعب وكتابة الصحيفة أربع وسنين ، و قيل : ثلاث سنين ، وقيل : سنتين ، فلما توفي أبوطالب خرج إلى الطائف وأقام فيه شهرا ، وكان معه زيد بن الحارث(٤) ، ثم انصرف إلى مكة ، ومكث فيها سنة و ستة أشهر(٥) في جوار مطعم بن عدي ، وكان يدعو القبائل في المواسم ، فكانت بيعة العقبة الاولى بمنى ، فبايعه خمسة نفر من الخزرج ، وواحد من الاوس في خفية من قومهم ، وهم جابر بن عبدالله ، وفطنة(٦) بن عامر بن حزام ، وعوف بن الحارث وحارثة بن ثعلبة ، ومرثد بن الاسد ، وأبوأمامة ثعلبة بن عمرو ، ويقال : هو أسعد بن زرارة ، فلما انصرفوا إلى المدينة وذكروا القصة وقرؤوا القرآن صدقوه ، وفي السنة القابلة وهي العقبة الثانية أنفذوا معهم ستة اخرى(٧) بالسلام والبيعة ، وهم أبوالهيثم بن التيهان ، وعبادة بن الصامت ، وذكوان بن عبدالله ونافع بن مالك بن العجلان ، وعباس بن عبادة بن نضلة ، ويزيد بن ثعلبة حليف له ، ويقال : مسعود بن الحارث ، وعويم بن ساعدة حليف لهم ، ثم أنفذ النبي صلىاللهعليهوآله
____________________
(١) أى قال أبوعبدالله.
(٢) أى في كتاب المعرفة
(٣) أى بعد وفاة أبى طالب وخديجة ، وفى المصدر : بعدها أى بعد ذلك العام
(٤) في نسخة : زيد بن حارثة.
(٥) تقدم في الخبر السابق ما ينافى ذلك فتأمل.
(٦) في المنتقى : قطبة بن عامر ، ويأتي بعد ذلك وهو الصحيح.
(٧) في المصدر : آخرين
معهم ابن عمه مصعب بن هاشم(١) ، فنزل دار أسعد بن زرارة فاجتمعوا عليه وأسلم أكثرهم إلا دار امية بن زيد وحطمة ووائل وواقف ، فإنهم أسلموا بعد بدر وأحد والخندق ، وفي السنة القابلة كانت بيعة الحرس كانوا من الاوس والخزرج سبعين رجلا وامرأتين ، واختار صلىاللهعليهوآله منهم اثني عشر نقيبا ليكونوا كفلاء قومه ، تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الاوس ، فمن الخزرج أسعد وجابر والبراء بن معرور وعبدالله بن حزام وسعد بن عبادة والمنذر بن قمر وعبدالله بن رواحة و سعد بن الربيع ، ومن القوافل عبادة بن الصامت ، ومن الاوس أبوالهيثم وأسيد ابن حضير ، وسعيد بن خيثمه(٢).
٨ ـ يج : من معجزاته صلىاللهعليهوآله أن قريشا كلهم اجتمعوا وأخرجوا بني هاشم إلى شعب أبي طالب ، ومكثوا فيه ثلاث سنين إلا شهرا ، ثم أنفق أبوطالب وخديجة جميع مالهما ، ولا يقدرون على الطعام إلا من موسم إلى موسم ، فلقوا من الجوع و العرى ما الله أعلم به وإن الله قد بعث على صحيفتهم الارضة فأكلت كل ما فيها إلا اسم الله ، فذكر ذلك رسول الله (ص) لابي طالب ، فما راع قريشا إلا وبني هاشم عنق(٣) واحد قد خرجوا من الشعب ، فقالوا : الجوع أخرجهم ، فجاؤوا حتى أتو الحجر وجلسوا فيه ، وكان لا يقعد فيه صبيان قريش(٤) ، فقالوا : يا أبا طالب قد آن لك أن تصالح قومك ، قال : قد جئتكم مخبرا(٥) ابعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها ، فبعثوا إليها وهي عند ام أبي جهل ، و كانت قبل في الكعبة ، فخافوا عليها السراق فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها ، فقال أبوطالب : هل تنكرون منها شيئا؟ قالوا : لا ، قال : إن ابن أخي حدثني
____________________
(١) تقدم في الخبر السابق انه مصعب بن عمير ، وسيأتي أيضا ، وهو الصحيح ، والمصدر خال عن قوله : ابن عمه.
(٢) مناقب آل أبى طالب ١ : ١٥٠ و ١٥١.
(٣) العنق : الجماعة.
(٤) في نسخة : لا يقعد فيه الا فتيان قريش.
(٥) في نسخة : جئتكم بخير.
ولم يكذبني قط أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الارضة فأكلت كل قطيعة وإثم ، و تركت كل اسم هو لله فإن كان صادقا أقلعتم عن ظلمنا ، وإن يكن كاذبا ندفعه إليكم فقتلتموه ، فصاح الناس : أنصفتنا يا أبا طالب ، ففتحت ثم اخرجت فإذا هي مشربة كما قال صلىاللهعليهوآله فكبر المسلمون وامتقعت(١) وجوه المشركين ، فقال أبوطالب : أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة؟ فأسلم يومئذ عالم من الناس ، ثم رجع أبوطالب إلى شعبه ، ثم عيرهم هشام بن عمرو العامري بما صنعوا ببني هاشم(٢).
٩ ـ قب : روى الزهري في قوله تعالى : « ولقد مكناهم » الآيات(٣) قال : لما توفي أبوطالب لم يجد النبي صلىاللهعليهوآله ناصرا ، ونثروا على رأسه التراب ، قال : ما نال مني قريش شيئا حتى مات أبوطالب ، وكان يستتر من الرمي بالحجر الذي عند باب البيت من يسار من يدخل ، وهو ذراع وشبر في ذراع إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمران وقالوا : لو كان محمدنبيا لشغلته النبوة عن النساء ولامكنه جميع الآيات ، ولامكنه منع الموت عن أقاربه ، ولما مات أبوطالب وخديجة فنزل : « ولقد أرسلنا رسلا من قبلك(٤) » الآية.
الزهري في قوله تعالى : « فإن تولوا فقل حسبي الله(٥) » الآية. لما توفي أبوطالب واشتد عليه البلاء عمد إلى ثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه سادتها ، فلم يقبلوه وتبعه سفهاؤهم بالاحجار ، ودموا رجليه ، فخلص منهم واستظل في ظل حبلة منه(٦) وقال : اللهم إني أشكو إليك من ضعف قوتي ، وقلة حيلتي وناصري وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. ثم ذكر حديث عداس كما مر في رواية الطبرسي.
____________________
(١) وامتقع مجهولا : تغير لونه من حزن أو فزع أو ريبة.
(٢) لم نجده في الخرائج المطبوع ، وأسلفنا قبلا أن نسخة خرائج المصنف كانت مختلفة مع المطبوع.
(٣) الاحقاف : ٢٦ و ٢٧.
(٤) الرعد : ٣٨.
(٥) التوبة : ١٢٩.
(٦) أى من بستان كما تقدم.
ابن مسعود : لما دخل النبي صلىاللهعليهوآله الطائف رأى عتبة وشيبة جالسين على سرير فقالا : هو يقوم قبلنا ، فلما قرب النبي منهما خر السرير ووقعا على الارض فقالا : عجز سحرك عن أهل مكة فأتيت الطائف.(١)
١٠ ـ شى : عن محمد الحلبي ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : اكتتم رسول الله صلىاللهعليهوآله بمكة سنين ليس يظهر وعلي معه وخديجة ، ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر ، فظهر رسول الله صلىاللهعليهوآله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب ، فإذا أتاهم قالوا : كذاب امض عنا.(٢)
١١ ـ اقول : قال الكازروني في المنتقى وغيره : في سنة ثمان من نبوته صلىاللهعليهوآله تعاهد قريش وتقاسمت على معاداة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وذلك أنه لما أسلم حمزة وحمى النجاشي من عنده من المسلمين ، وحامى رسول الله (ص) عمه أبوطالب وقامت بنو هاشم وبنو عبدالمطلب دونه وأبوا أن يسلموه فشا الاسلام في القبائل ، واجتهد المشركون في إخفاء ذلك النور ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، فعرفت قريش أنه لا سبيل إلى محمد صلىاللهعليهوآله اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبدالمطلب أن لا يناكحوهم ، ولا يبايعوهم ، فكتبوا صحيفة في ذلك وكتب فيها جماعة(٣) وعلقوها بالكعبة ، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد البلاء عليهم ، وعظمت الفتنة فيهم ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، وأبدت قريش لبني عبدالمطلب الجفاء وثار بينهم شر وقالوا : لا صلح بيننا وبينكم ، ولا رحم إلا على قتل هذا الصابئ ، فعمد أبوطالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه ومن اتبعهم ، فدخلوا شعب أبي طالب وآذوا النبي والمؤمنين أذيا شديدا ، وضربوهم في كل طريق ، وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المارة من الاسواق ، (٤) ونادى مناد الوليد بن المغيرة في قريش : أيما رجل
____________________
(١) مناقب آل أبى طالب ١ : ٦١ و ٦٢.
(٢) تفسير العياشى : ج ٢ : ٢٥٣.
(٣) في المصدر : جماعة من قريش.
(٤) زاد في المصدر : فلم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق به ، وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم ، فكانت قريش تباكرهم إلى الاسواق فيشترونها و يغلونها عليهم.
منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه ، فبقوا على ذلك ثلاث سنين حتى بلغ القوم الجهد الشديد حتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون ـ أي يصيحون من الجوع من وراء الشعب ـ وكان المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء حتى كره عامة قريش ما أصاب بني هاشم ، وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة حتى أراد رجال أن يبرؤوا منها ، وكان أبوطالب يخاف أن يغتالوا رسول الله صلىاللهعليهوآله ليلا أو سرا وكان النبي صلىاللهعليهوآله إذا أخذ مضجعه أو رقد جعله أبوطالب بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه ، ويصبح قريش وقد سمعوا أصوات صبيان بني هاشم من الليل يتضاغون من الجوع ، فيجلسون عند الكعبة فيسأل بعضهم بعضا فيقول الرجل لاصحابه : كيف بات أهلك البارحة؟ فيقولون : بخير ، فيقول : لكن إخوانكم هؤلاء الذين في الشعب باتت صبيانهم يتضاغون من الجوع ، فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد ورهطه ، ومنهم من يكره ذلك ، فأتى(١) من قريش على ذلك من أمرهم في بني هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهد القوم جهدا شديدا لا يصل إليهم شئ إلا سرا ومستخفى به ممن أراد صلتهم من قريش ، حتى روي أن حكيم بن حزام خرج يوما ومعه إنسان يحمل طعاما إلى عمته خديجة بنت خويلد وهي تحت رسول الله صلىاللهعليهوآله في الشعب ، إذ لقيه أبوجهل فقال : تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت ولا طعامك حتى أفضحك عند قريش ، فقال له أبوالبختري بن هشام بن الحارث : تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟ فأبى أبوجهل أن يدعه ، فقام إليه أبوالبختري بساق بعير فشجه ووطئه وطئا شديدا ، وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله وأصحابه فيشمتوا بهم ، وحتى روي أن هشام بن عمرو بن ربيعة أدخل على بني هاشم في ليلة ثلاثة أحمال طعام ، فعلمت بذلك قريش فمشوا إليه فكلموه في ذلك ، فقال : إني غير عائد لشئ يخالفكم ، ثم عاد الثانية فأدخل حملا أو حملين ليلا ، وصادفته قريش وهموا به ، فقال أبوسفيان : دعوه رجل وصل رحمه
____________________
(١) في المصدر : فأقامت قريش.
أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أجمل بنا ، ووفق الله هشاما للاسلام يوم الفتح.(١)
قال : وفي سنة عشر من نبوته صلىاللهعليهوآله توفي أبوطالب ، قال ابن عباس : عارض رسول الله صلىاللهعليهوآله جنازة أبي طالب ، فقال : وصلتك رحم ، وجزاك الله خيرا يا عم. وفي هذه السنة توفيت خديجة بعد أبي طالب بأيام ، ولما مرضت مرضها الذي توفيت فيه دخل عليها رسول الله فقال لها : بالكره مني ما أرى منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا ، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون ، قالت : وقد فعل الله ذلك يا رسول الله؟ قال : نعم ، قالت : بالرفاء والبنين ، وتوفيت خديجة وهي بنت خمس
____________________
(١) ذكر في المصدر : هنا قصة الصحيفة مفصلا ، ولعل نسخة المصنف كانت ناقصة ، نذكرها مزيدا للفائدة ، قال : ثم ان الله عزوجل برحمته أرسل على صحيفة قريش التى كتبوها ـ وفيها تظاهرهم على بنى هاشم ـ الارضة ، فلم تدع فيها اسما هو لله عزوجل الا اكلته ، وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان ، فأخبر الله عزوجل بذلك رسوله محمدا صلىاللهعليهوآله فأخبر أبا طالب ، فقال أبوطالب : يا ابن أخى من حدثك هذا وليس يدخل إلينا أحد ، ولا تخرج أنت إلى أحد؟ ولست في نفسى من أهل الكذب ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : أخبرنى ربى هذا ، فقال له عمه : إن ربك لحق ، وأنا أشهد انك صادق ، فجمع أبوطالب أهله ولم يخبرهم بما أخبره به رسول الله صلىاللهعليهوآله كراهية أن يفشوا ذلك الخبر ، فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة البحث والمكر ، فانطلق أبوطالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة ، فلما ابصروا تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآله فيقتلوه ، فلما انتهى إليهم أبوطالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا : قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم وفى حياته فرقتكم وفسادكم ، فقال أبوطالب : قد جئتكم في امر لعله يكون فيه صلاح و جماعة ، فاقبلوا ذلك منا ، هلموا صحيفتكم التى فيها تظاهركم علينا ، فجاؤا بها ولا يشكون الا انهم سيدفعون رسول الله صلىاللهعليهوآله إليهم إذا نشروها ، فلما جاؤا بصحيفتهم قال أبوطالب : صحيفتكم بينى وبينكم ، فان ابن أخى قد اخبرنى ولم يكذبنى ان الله عزوجل قد بعث على صحيفتكم الارضة ، فلم تدع لله فيها اسما الا أكلته ، وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان ، فان كان كاذبا فلكم على ان ادفعه إليكم تقتلونه ، وإن كان صادقا فهل ذلك