الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٢٩
لأنّا نقول : نمنع أوّلا كون هذه الأوامر بالمعرفة ، بل بالصفات ، كالوحدانيّة وغيرها.
وثانيا كون هذه الصيغ أوامر وإن وردت بصيغة الأمر ، بل للإرشاد.
ووجوب الغرامات ، متوجّه على الوليّ بأدائها في الحال ، أو على الصّبيّ بعد صيرورته بالغا.
والمراد من الآية : إمّا لا تسكروا وقت الصلاة ، مثل لا تتهجّد وأنت شعبان ، على معنى : لا تشبع وقت التهجّد.
أو أنّها خطاب لمن ظهر منه مبادئ النشاط ، وهو الثّمل (١).
وقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا)(٢) أي حتّى يتكامل فيكم الفهم ، ليحصل تمام الخشوع.
وطلاق السّكران ممنوع عندنا ، وإن قلنا به لم يكن من باب التكليف ، بل من خطاب الوضع ، وكذا وجوب الحدّ عليه بالزّنا والقتل وغيره.
الرابع : الاختيار : وقد اختلف في المكره على الفعل هل يصحّ تكليفه؟
والحقّ أن نقول : إن بلغ الإكراه إلى حدّ الإلجاء ، وصار نسبة ما يصدر عنه كنسبة حركة الحجر في هبوطه إليه ، لم يجز التكليف به ، وإلّا جاز.
لنا : أنّ الفعل بالنسبة إليه حينئذ يكون واجبا ، كوجوب هبوط الحجر عند رميه ، والواجب غير مقدور ، فيكون تكليفا بما لا يطاق ، وكذا عدمه يكون
__________________
(١) الثّمل محرّكة : السّكر. مجمع البحرين.
(٢) النساء : ٤٣.
ممتنعا ، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو قبيح عقلا على ما سلف.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١).
والمراد هنا رفع المؤاخذة ، لامتناع إرادة الحقيقة ، فينصرف إلى أقرب مجازاتها ، وهو ما قلناه.
ورفع المؤاخذة يستلزم رفع التكليف.
قيل عليه (٢) : الإكراه لا ينافي التكليف ، لأنّ الفعل إن توقّف على الداعي ، لزم الجبر ، لوجوب انتهاء الدّواعي إلى داعية يخلقها الله تعالى ، وعندها يجب ، وبدونها يمتنع.
وإلّا (٣) كان رجحان الفعل على الترك أو بالعكس اتّفاقيّا ، فلا يتوقّف على اختيار المكلّف ، فجاز مثله في الإكراه.
لا يقال : إن عنيت بالاتّفاق حصوله لا بقدرة القادر ، فهو ممنوع ، لأنّه حصل بالقدرة ، لكنّ للقادر الترجيح من غير مرجّح.
وإن عنيت به شيئا آخر ، فبيّنه.
لأنّا نقول : لمّا حصلت القدرة مع عدم الفعل ، ثمّ وجد ، فإن لم يحدث أمر غير كونه قادرا ، كان حدوث هذا الفعل في بعض أزمنة كونه قادرا دون ما قبله وما بعده ، ليس لأمر حصل من القادر حتّى يؤمر به ، أو ينهى عنه ، بل كان [ذلك]
__________________
(١) الوسائل : ٥ / ٣٤٥ الباب ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢ ؛ وعوالي اللئالي : ١ / ٢٣٢ ؛ وسنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٩ برقم ٢٠٤٣ و ٢٠٤٥.
(٢) القائل هو الرازي في محصوله.
(٣) أي وإن لم يتوقّف الفعل على الدّاعي.
اتّفاقيّا ، فيكون التّكليف به حينئذ تكليفا بغير المقدور.
وإن حدث أمر ، كان حدوث الفعل عن القادر ، متوقّفا على أمر آخر وراءه ، (١) وقد فرضنا أنّه ليس كذلك ، هذا خلف. (٢)
والجواب ما تقدّم مرارا ، من أنّ الجبر غير لازم على تقدير استناد الفعل إلى الدّاعي ، وإن كان الفعل واجبا ، لأنّ وجوبه لاحق لا يؤثّر في القدرة السابقة.
والاتّفاق إن عني به ما يصدر لا عن مؤثّر ، فهو ممنوع ، وإن عني به ما يتساوى طرفاه ، مع صدوره عن القدرة ، فاستحالته ممنوعة.
الخامس : جهة القصد (٣) ، فالخاطئ غير مكلّف إجماعا فيما هو مخطئ فيه ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان». (٤)
والأشاعرة خالفونا في جميع ذلك ، حيث جوّزوا تكليف ما لا يطاق ، لكن بعضهم ربما دفع الشّناعة عنه باللّفظ ، فأنكره لفظا ، وإن لزمه معنى.
إذا ثبت هذا ، فالمأمور يجب أن يقصد إيقاع الفعل المأمور به على سبيل الطّاعة ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما الأعمال بالنّيات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» (٥) ولقوله تعالى :
__________________
(١) أي وراء كونه قادرا.
(٢) لاحظ المحصول للرازي : ١ / ٣٣٤.
(٣) في «ب» : صحّة القصد.
(٤) تقدّم مصدر الحديث ص ١٨٥.
(٥) الوسائل : ١ / ٣٤ ، الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١٠ ؛ وصحيح البخاري : ١ / ٢ ، باب كيف كان بدء الوحي ؛ وسنن البيهقي : ٧ / ٣٤١ ؛ وعوالي اللئالي : ١ / ٨١ و ٣٨٠ ، وج ٢ / ١١ و ١٩٠.
(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ)(١).
والإخلاص إنّما يكون إذا قصد المكلّف إيقاع الفعل لوجهه تعالى ، ويخرج عن هذا الواجب سببان : الواجب الأوّل وهو النظر المعرّف للوجوب ، فإنّ إيقاعه على وجه الطاعة غير ممكن ، لأنّ فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلّا بعد إتيانه به.
الثاني : إرادة الطاعة ، فإنّها لو افتقرت إلى إرادة أخرى ، تسلسل.
المبحث الثالث : في وقت توجه الأمر
اختلف الناس هنا :
فقالت المعتزلة : المأمور يصير مأمورا بالفعل قبل وقوعه ، لا حالة وقوعه ، وبه قال الجويني (٢) وقالت الأشاعرة عداه : أنّه مأمور حالة الفعل لا قبله ، فإنّه يكون قبله إعلاما بأنّه سيصير مأمورا لا أمرا.
والحقّ ، الأوّل ، لنا : أنّه لو لم يكن مأمورا بالفعل إلّا حال وجوده ، لزم تكليف ما لا يطاق ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة : أنّ الفعل حال وجوده يكون واجبا ، والواجب غير مقدور.
ولأنّ التكليف بتحصيله حال حصوله ، يستلزم التكليف بتحصيل الحاصل ، وهو محال.
__________________
(١) البيّنة : ٥.
(٢) البرهان : ١ / ١٩٦.
وأمّا بطلان التالي ، فلما تقدّم.
وأيضا ، لو لم يتقدّم التكليف الفعل ، لزم انتفاء فائدة التكليف ، فيكون عبثا ، فهو قبيح ، فلا يصدر عنه تعالى.
بيان الملازمة : أنّ فائدة التكليف هي : الابتلاء ، والاختبار ، وهو لا يتحقّق حال الفعل ، فإنّ الفاعل حال كونه فاعلا ، يكون فاعلا بالضرورة.
وأيضا ، قد بيّنا انّه يجب القصد إلى إيقاع الفعل على وجه الطّاعة ، وهو لا يتحقّق حال الفعل ، لأنّ القصد إليه يكون قصدا لتحصيل الحاصل.
وأيضا ، قبل الفعل ، لو لم يوجد الأمر ، لم يتحقّق ترك الأمر ، فلا يتحقّق الذّم عليه ، فينتفي الوجوب مطلقا.
احتجّت الأشاعرة : بأنّه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل ، لامتنع كونه مأمورا مطلقا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان (الملازمة) (١) الشرطية : أنّه لو أمر في الوقت الأوّل ، فالفعل إن كان ممكنا ، فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه.
وإن لم يكن ممكنا ، كان تكليفا بما لا يطاق.
ولا ينفع الاعتذار بأنّه في الزمن الأوّل مأمور بإيقاع الفعل في الثاني ، لا الأوّل ، لأنّه إن عنى بكونه في الأوّل مأمورا بإيقاعه في الثاني : أنّ كونه موقعا للفعل لا يحصل إلّا في [الزّمان] الثاني ، ففي [الزّمان] الأوّل لم يكن موقعا ، وليس هناك إلّا نفس القدرة ، فيمتنع أن يكون في ذلك الزّمان مأمورا بشيء.
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في «ج».
وإن عنى به : أنّ كونه موقعا يحصل في الأوّل ، والفعل يحصل في الثاني ، فكونه موقعا ، إن كان نفس القدرة ، لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلّا كونه قادرا ، فيرجع إلى القسم الأوّل.
وإن كان أمرا زائدا ، فحينئذ تكون القدرة مؤثّرة في وقوع ذلك الزائد في [الزمان] الأوّل ، والأمر إنّما يتوجه عليه في الأوّل بإيقاع ذلك الزائد ، وذلك الزائد وقع في الأوّل ، فالأمر بالشيء إنّما يكون حال وقوعه.
والجواب : الفعل في الأوّل ممكن ، والأمر ثابت حال إمكان الفعل ، لا حال نفس الفعل (١) والتحقيق : أنّه في الأوّل مأمور بأن يوقعه في الثاني ، والتأثير غير القدرة ، فهو متقدّم على الفعل ، والأمر لم يتوجّه في الأوّل بإيقاع ذلك الزائد ، بل بإيقاع الفعل.
المبحث الرّابع : في وقت انقطاع التكليف
اختلف النّاس هنا ، والبحث فيه قريب من الأوّل ، فقال الأشعري : لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه ، ومنع المعتزلة من ذلك ، وأوجبوا انقطاعه حينئذ ، وهو اختيار الجويني (٢).
لنا : ما تقدّم ، من أنّه لو كان التكليف باقيا ، لزم تحصيل الحاصل ، وانتفت فائدة التكليف.
احتجّ بانّه حينئذ مقدور ، لأنّ القدرة مع الفعل.
__________________
(١) لاحظ المحصول للرازي : ١ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦.
(٢) البرهان : ١ / ١٩٤.
والجواب : المنع من الصّغرى.
قيل (١) : إن أراد أبو الحسن أنّ تعلّق التكليف لنفسه ، فلا ينقطع بعده أيضا ، وهو محال إجماعا.
وإن أراد أنّ تنجيز التّكليف باق ، لزم التكليف بتحصيل الحاصل ، وهو محال.
المبحث الخامس : في الأمر المشروط
اعلم أنّ الفعل إذا كان مشروطا بشيء ، فالامر بذلك الفعل : إمّا أن يكون جاهلا بعدم شرطه ، أو لا.
فالأوّل : كأمر السيّد عبده غدا بفعل ، فإنّه مشروط ببقاء العبد إلى غد ، وهو مجهول للامر ، فهنا الأمر متحقّق في الحال ، بشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل.
والثاني : كأمر الله تعالى زيدا بصوم غد ، مع علمه بموته فيه.
والأوّل جائز بالإجماع ، واختلف في الثاني فمنعه جماهير المعتزلة ، وجزم به أبو بكر القاضي (٢) والغزّالي (٣) ، وأكثر الأصوليين ، لكن اشترطوا زوال المنع.
__________________
(١) القائل هو ابن الحاجب ، لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٢ / ٥٧ قسم المتن.
(٢) التقريب والإرشاد : ٢ / ٢٩٨.
(٣) المستصفى : ٢ / ٩٣ ـ ٩٤.
اعلم أنّه لا خلاف في أنّه لا يجوز أن يفرد الله تعالى المكلّف الواحد بالأمر بالفعل ، وهو يعلم أنّه ممتنع منه (١) ، قاله قاضي القضاة قال : ولم يختلفوا في أنّه لا يجوز أن يأمر من يعلم أنّه يموت ، أو يعجز ، أو لا يكون المأمور به مصلحة ، بشرط أن يبقى ويقدر ، ويكون الفعل مصلحة.
والحقّ الأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ شرط الأمر ، بقاء المأمور ، فالعالم بانتفائه ، عالم بانتفاء شرط الأمر ، فاستحال حينئذ حصول الأمر ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.
الثاني : لو صحّ ، لصحّ مع علم المأمور بانتفاء الشرط.
أجابوا بالفرق بانتفاء فائدة التكليف هنا ، بخلاف صورة النزاع ، فإنّ المأمور فيها يطيع ويعصي ، بالعزم ، والبشر ، والكراهة.
الثالث : إن أوجبنا الفعل مطلقا ، لزم تكليفه بالفعل مع وجود المانع.
وإن أوجبناه بشرط زوال المانع ، وقد علم الله تعالى وجوده ، لم يكن له داع إلى تكليفه فيه.
الرابع : لو أراد منه الفعل بشرط زوال المنع ، لزم الشكّ ، ولهذا فإنّ من علم طلوع الشمس ، لم يقل : إن كانت الشمس طالعة دخلت الدّار ، وإنّما يحسن ذلك مع الشك.
قال المجوّزون : يجوز أن يقال لمن يعلم موته : «صم غدا إن عشت» لما
__________________
(١) في «ب» : ممنوع عنه.
فيه من المصالح الكثيرة ، فإنّ المكلّف قد يوطّن نفسه على الامتثال ، ويحصل بذلك المتوطّنين لطف في الآخرة ، وفي الدّنيا الانزجار عن القبيح.
كما أنّ السيّد يستصلح بعض عبيده لأوامر ينجّزها عليه مع عزمه على نسخها امتحانا له ، وقد يقول الرّجل لغيره : وكّلتك في كذا لتفعله في غد ، مع علمه بأنّه سيعزله.
والأصل في ذلك : أنّ الأمر قد يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر ، لا من نفس المأمور به ، وقد يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به ، فجوّزه من جوّزه لذلك.
والمانعون قالوا : الأمر لا يحسن إلّا لمصلحة تنشأ من المأمور به.
والجواب : الطّلب هنا ليس للفعل ، لعلم الطالب بامتناعه منه ، بل للعزم على الفعل ، والانقياد إليه ، والامتثال ، وليس البحث فيه بل في الفعل.
واحتجّ المجوّزون بوجوه :
الأوّل : لو لم يصحّ التكليف بما علم الامر انتفاء شرط وقوعه ، لم يعص أحد أبدا ، والتّالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّ العاصي تارك للفعل ، والتارك غير مريد للفعل ، والإرادة شرطه ، فلو لم يكن مكلّفا به حال عدم الإرادة ، لم يكن عاصيا.
الثاني : لو لم يصحّ ، لم يعلم تكليف البتّة ، لأنّه بعد الفعل ومعه قد انقطع التكليف ، وقبله لا يعلم حصول الشّرائط ، فلا يعلم أنّه مكلّف.
الثالث : لو لم يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليهالسلام وجوب الذّبح.
الرابع : الإجماع واقع على أنّ كلّ بالغ عاقل مأمور بالطاعات ومنهيّ عن المعاصي قبل التمكن ممّا أمر به ونهي عنه ، وأنّه يعدّ متقرّبا بالعزم على فعل الطّاعة وترك المعصية ، وأنّه يجب عليه الشروع في العبادات الخمس في أوقاتها بنيّة الفرض ، وأنّ المانع له من ذلك معاقب ، لصدّه عن امتثال الشارع وكلّ ذلك مع عدم الأمر والنّهي ، محال.
الخامس : لو لم يكن الأمر معلوما له في الحال ، لتعذّر قصد الامتثال في الواجبات المضيّقة ، لاستحالة العلم بتمام التمكّن ، إلّا بعد انقضاء الوقت.
السادس : لو لم يصحّ ، لم يصحّ مع جهل الامر (١).
السابع : الله تعالى قد كلّف الكافر بالصّلاة بشرط أن يؤمن ، ولهذا يعاقبه عليها ، كما يعاقبه على الكفر ، مع أنّه عالم بأنّه لا يؤمن.
الثامن : لو رفع المنع التكليف ، لكان من منع غيره من الصّلاة قد أحسن إليه ، لأنّه قد أسقط عنه كلفة ، من غير توجّه ذمّ إليه.
التاسع : لو أسقط المنع التكليف على كلّ حال ، لما علم الواحد منّا أنّه مكلّف بالصّلاة قبل تشاغله بها ، وذلك يسقط عنه وجوب التأهّب لها.
والجواب عن الأوّل : أنّ الشرط هنا هو (٢) إرادته وهي ممكنة ، وهو مكلّف بها أيضا.
وعن الثاني : أنّه مع غلبة ظنّه ببقائه ، وتحصيل شرائطه ، يظنّ أنّه مكلّف ،
__________________
(١) في «ب» : الأمر.
(٢) في «أ» : وهو.
فإن استمرّ الظّنّ : بأن يمضي زمان يمكن فيه الفعل ، علم التكليف ، وإلّا ظهر بطلان ظنّه بالتّكليف ، كما ظهر بطلانه بحصول الشرط.
وعن الثالث : بالمنع من تكليف إبراهيم بالذّبح ، وسيأتي.
وعن الرّابع : الإجماع ممنوع مع العلم بانتفاء الشرط ، نعم الإجماع على أنّ من غلب على ظنّه البقاء ، مكلّف بما ذكرتم ، فإن استمرّ البقاء ، حصل العلم ، وإلّا ظهر بطلان الظنّ.
وعن الخامس : أنّه مكلّف في ظنّه ، فلهذا وجب عليه قصد الامتثال.
وعن السادس : أنّه قياس خال عن الجامع ، مع قيام الفرق ، فإنّ الواحد منّا غير عالم بأنّ للمكلّف حالة منع ، لا غرض له في إيقاع الفعل فيها ، والباري تعالى عالم بذلك ، يبيّن ما قلناه أنّه يجوز أن يكلّف الواحد منّا غيره بشرط أن يبقى ، وأن يكون الفعل مصلحة ، ولا يجوز ذلك من الله تعالى.
وعن السّابع : أنّ الله تعالى كلّفه بالإيمان والصّلاة جميعا ، ولم يكلّفه فعل الصّلاة مضافة إلى الكفر ، فلم يدخل الشرط في التكليف ، وإنّما دخل الشّرط في فعله ، لأنّه قيل له: «افعلهما» فإذا لم يفعلهما ، فقد أخلّ بمصلحتين ، واستحقّ العقاب عن الإخلال بهما.
وعن الثامن : أنّ مذهبكم : أنّه لا يلزمه الفعل مضافا للمنع ، وأنّه يسقط الفعل عنه من غير ذمّ ، (١) فالسؤال لازم لكم ، لا يلزمنا.
__________________
(١) في «ج» : من غير ذنب.
سلّمنا ، لكن لا يكون محسنا ، لأنّه منعه عن فعل يستحقّ به الثواب الجزيل.
وعن التاسع : أنّه لازم لكم ، لأنّ مذهبكم أنّ مع المنع ، لا تلزم الصلاة ، ولا أريدت من المكلّف في تلك الحال ، وإنّما أريدت منه بشرط زوال المنع ، وهو لا يعلم أنّ المنع يزول ، فإذن لم يعلم الوجوب.
ولو لزمنا سقوط التأهّب ، لزمكم ، ونحن نقول : إنّما يجب التأهّب لثبوت أمارة بقائه سالما إلى وقتها ، فوجب بهذه الأمارة ، التحرّز من ترك ما لا نأمن وجوبه.
تذنيب
ظهر ممّا قلناه : أنّ الصائم لو تجدّد له عذر يبطل الصوم ، كالحيض ، والمرض ، بعد التلبّس بالصّوم ، وتعمّد الإفطار ، لا تجب عليه الكفّارة ، لأنّه غير مكلّف بالصوم في علم الله تعالى ، وقد ظهر لهما ذلك ، وتجدّد العذر ، وهو أحد قولي علمائنا الإماميّة ، وأحد قولي الشافعيّة آخر.
لا خلاف في أنّه لا يشترط في التكليف بالفعل ، أن يكون شرطه حاصلا حالة التكليف ، بل يجوز ورود التكليف بالمشروط ، وتقديم شرطه عليه ، كما قلنا في مسألة تكليف الكافر بالفروع.
المبحث السّادس : في جواز الاستنابة
اختلف النّاس في أنّه هل يجوز دخول النّيابة فيما كلّف به من الأفعال البدنيّة؟ فذهبت الأشاعرة إلى جوازه ، ومنع منه المعتزلة.
والوجه عندي التفصيل : فإن كان ذلك الفعل ممّا تعلّق غرض الشارع بإيقاعه مباشرة ، لم يصحّ دخول النّيابة فيه ، كالصلاة الواجبة ، وكحجّة الإسلام ، والصّوم الواجب ، مع تمكّن المكلّف من ذلك كلّه ، وإلّا جاز ، كالحجّ المندوب.
لنا : أنّه لا استبعاد في أن يكلّف الإنسان غيره بإيقاع فعل ويقول : «إن فعلته أنت أو استنبت فيه ، أثبتك ، وإن تركتهما معا عاقبتك» ، فجاز وروده من الشارع.
وما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه رأى شخصا يحرم بالحجّ عن شبرمة (١) فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم له : «أحججت عن نفسك؟» فقال : لا ، فقال له : «حجّ عن نفسك ثمّ حجّ عن شبرمه» (٢).
ولأنّه يصحّ قضاء الحجّ عن الميّت بالإجماع ، وهو نوع استنابة.
احتجّت المعتزلة بأنّ وجوب العبادة ، إنّما كان ابتلاء وامتحانا من الله تعالى للعبد ، وكسر النّفس الأمّارة بالسّوء ، وذلك ممّا لا تدخله النيابة ، كسائر صفات النّفس ، من اللّذات والآلام.
__________________
(١) قال ابن الأثير في أسد الغابة : ٢ / ٣٨٤ : «شبرمة» غير منسوب ، له صحبة ، توفّي في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثم نقل الحديث المذكور.
(٢) سنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ، برقم ١٨١١ ؛ وسنن ابن ماجة : ٢ / ٩٦٩ برقم ٢٩٠٣ ، ونقله ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام : ١٤٤ برقم ٧٣٦.
والجواب : الابتلاء والامتحان ، قد يحصل بالاستنابة ، لما فيه من بذل العوض للنائب ، المساوي للمباشرة ، أو لاشتماله على المنّة ، بتقدير عدم العوض ، وذلك لا ينفكّ عن مشقّة وكلفة.
المبحث السابع : في شروط حسن الأمر
اعلم أنّ الأمر لمّا كان صادرا من امر إلى مأمور ، بمأمور به ، في زمان ، أمكن أن يرجع شروط حسنه إليه ، وإلى هذه المتعلّقات.
أمّا ما يرجع إلى المأمور به ، فأمران :
الأوّل : أن يكون صحيحا غير مستحيل في نفسه ، خلافا للأشاعرة ، وقد تقدّم.
الثاني : أن يكون للفعل صفة زائدة على حسنه ، إمّا بأن يكون على صفة النّدب أو الوجوب ، أو يتعلّق به نفع أو دفع ضرر ، يرجعان إلى الدّنيا.
وأمّا ما يرجع إلى المأمور ، فأمران :
أحدهما : ما يرجع إلى تمكّنه ، بأن يكون متمكّنا من الفعل بحصول جميع ما يحتاج [الفعل] إليه (١) ، في الوقت الّذي يحتاج الفعل أن يوجد فيه ، فإن كان الفعل يحتاج إليه (٢) في وقت وجوده خاصّة ، وجب وجوده في ذلك الوقت ، وإن احتاج إليه قبل وجوده ، وحين وجوده ، أو قبل وجوده معا ، وجب وجوده كذلك.
__________________
(١ و ٢) الضمير في كلا الموردين يرجع إلى الموصول في قوله : «ما يرجع إلى تمكّنه».
وهذه الأشياء منها : ما يحتاج إليها جميع الأفعال كالقدر وزوال المانع.
ومنها ما يحتاج إليه بعض الأفعال ، كالعلم الّذي يحتاج إليه الفعل المحكم ، وكالآلات الّتي يحتاج إليها بعض الأفعال ، والإرادة الّتي يحتاج إليها الفعل الواقع على وجه دون آخر ، وكالمسبّب المحتاج إلى السّبب ، وكاحتياج العلم إلى دلالة ، والظنّ إلى أمارة.
ويجب أن تتقدم الدّلالة بحيث يمكن المكلّف من النظر فيها ، فيعلم وجوب الفعل ، أو كونه ندبا ، وكذا الأمارة.
وهذه الأشياء قد يتعذّر على العبد تحصيلها كالقدرة وكثير من الآلات ، فلا يجوز تفويض تحصيلها إليه ، وقد يمكّن كالعلم ، وبعض الآلات ، فيجوّز أن يكلّف تحصيله ، إذا كان [في ذلك] مصلحة.
الثاني : ما يرجع إلى دواعيه ، بأن يكون متردّد الدّواعي بالألطاف وغيرها ، غير ملجأ ولا مستغنى.
وأمّا ما يرجع إلى الأمر فأشياء :
الأوّل : ألا يكون ابتداء وجوده مقارنا لحال الفعل ، وهو داخل في التمكّن.
الثاني : أن يكون متقدّما قدرا من التقدّم يحتاج إليه في الفعل ، وهو يدخل في تمكّن المكلّف.
الثالث : ألا يكون واردا على وجه مفسدة.
وأمّا ما يرجع إلى الامر ، فإن كان هو الله تعالى ، وجب أن يعلم من حال المكلّف والمأمور به والأمر ما ذكرناه ، وأن يكون غرضه تعريض المكلّف للثّواب ، وأن يكون عالما بأنّه سيثيبه إن أطاع ، ولم يحبط طاعته. (١)
وإن كان الامر غيره ، وجب أن يعلم حسن ما أمر به ، وثبوت غرض فيه ، إمّا له أو لغيره ، وأن يظنّ تمكّن المكلّف من الفعل.
ويدلّ على اشتراط ما تقدّم ، أنّه تعالى حكيم ، وحكمته تقتضي ذلك.
* * *
قال المحقّق : نجز الجزء الأوّل ـ بحمد الله تعالى ـ حسب تجزئتنا ، ويتلوه الجزء الثاني مبتدا ب «الفصل الثامن في النّهي».
الحمد لله بنعمته تتمّ الصالحات ، والصلاة والسلام
على نبيّه وآله الاطهار.
__________________
(١) في «ج» : ولم تحبط طاعته.
فهرس الموضوعات
المقدّمة : بقلم العلّامة جعفر السبحاني.............................................. ٥
مقدّمة المؤلّف رحمهالله........................................................... ٦١
المقصد الأوّل
في المقدّمات
[الفصل] الأوّل : في ماهيّة علم الأصول........................................... ٦٣
الفصل الثاني : في غايته وبيان موضوعه............................................ ٦٧
الفصل الثالث : في مبادئه....................................................... ٦٩
الفصل الرابع : في مرتبته ونسبته إلى غيره من العلوم................................. ٧١
الفصل الخامس : في وجوب معرفته................................................ ٧٤
الفصل السادس : في مصادر يذكر تعريفها هنا للحاجة إليها......................... ٧٥
[المبحث] الأوّل : في أنّ العلم هل يحدّ أم لا.................................... ٧٥
المبحث الثاني : في حدّه...................................................... ٧٧
المبحث الثالث : في أقسام العلم.............................................. ٨١
المبحث الرابع : في الظّنّ...................................................... ٨٢
المبحث الخامس : في الدليل والنّظر............................................ ٨٣
المبحث السادس : في الحكم.................................................. ٨٥
الفصل السابع : في تقسيم الحكم................................................. ٩١
[المبحث] الأوّل : انقسامه إلى الأحكام الخمسة................................. ٩١
المبحث الثاني............................................................... ٩٧
المبحث الثالث............................................................ ١٠١
[المطلب] الأوّل : [في] السّبب.............................................. ١٠١
المطلب الثاني : في المانع.................................................... ١٠٦
المطلب الثالث : في الشرط................................................. ١٠٦
المبحث الرابع : في الصحّة والبطلان والإجزاء..................................... ١٠٧
المبحث الخامس : في القضاء والأداء والإعادة..................................... ١٠٩
فروع..................................................................... ١١٠
المبحث السادس : في إطلاق اسم القضاء........................................ ١١٣
المبحث السابع : في الرخصة والعزيمة............................................. ١١٤
المبحث الثّامن : في أنّ الحسن والقبح عقليّان..................................... ١١٨
المسألة الأولى : في أنّ شكر المنعم واجب عقلا................................ ١٣٤
احتجّت الأشاعرة بالعقل والنقل............................................. ١٣٥
المسألة الثانية : في حكم الأشياء قبل الشرع................................... ١٣٩
المقصد الثاني
في اللغات
[المبحث] الأوّل : في الماهيّة................................................. ١٤٥
البحث الثاني : في الغاية.................................................... ١٤٨
الفصل الأوّل : في مباحث كلّية................................................. ١٥٠
البحث الأوّل : الواضع..................................................... ١٥٠
البحث الثاني : في أنّ اللّغة لا تثبت بالقياس.................................. ١٥٩
البحث الثالث : في أنّه لا يجب أن يكون لكلّ معنى لفظ....................... ١٦٢
البحث الرّابع : في تعيين الغرض بالوضع...................................... ١٦٤
البحث الخامس : في تعريف الوضع.......................................... ١٦٦
الفصل الثاني : في تقاسيم دلالة الألفاظ......................................... ١٧٣
[المبحث] الأوّل : اللفظ إمّا أن يدلّ على المعنى بتوسّط وضعه له................ ١٧٣
المبحث الثاني : في المفرد والمركّب............................................. ١٧٤
المبحث الثالث : في الذاتي والعرضي.......................................... ١٧٥
المبحث الرابع : في بسائط الكلام............................................ ١٧٧
المبحث الخامس : في نسبة اللفظ إلى المعنى.................................... ١٨٠
المبحث السادس : في اللّفظ المركّب.......................................... ١٨٤
المبحث السّابع : في تقسيم اللفظ بالنسبة إلى معناه............................ ١٨٦
الفصل الثالث : في الأسماء المشتقّة.............................................. ١٨٧
[المبحث] الأوّل : في الاشتقاق.............................................. ١٨٧
المبحث الثاني : في قواعد الاشتقاق.......................................... ١٩٢
المبحث الثالث : في أنّ صدق المشتقّ قد ينفكّ عن صدق المشتقّ منه............. ١٩٣
المبحث الرابع : في أنّ بقاء المعنى هل هو شرط في الصدق أم لا؟................ ١٩٤
المبحث الخامس : في أنّه هل يجب الاشتقاق مع القيام بالمحلّ.................... ١٩٩
المبحث السادس : في مفهوم المشتقّ.......................................... ٢٠١