الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٢٩
الرابع : لو دلّ على الإجزاء ، لكان المصلّي بظنّ الطّهارة آثما أو ساقطا عنه القضاء ، إذا تبيّن الحدث ، لأنّه إمّا مأمور بالصّلاة بطهارة يقينيّة ، فيكون عاصيا ، حيث صلّى من غير يقين ، أو بطهارة ظنّيّة ، وقد امتثل ، فيخرج عن العهدة ، فلا يجب القضاء.
والجواب عن الأوّل : بعد تسليم أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد : أنّه لا استبعاد في النّهي عن فعل ، وتعلّق حكم به لو فعله المنهيّ عنه ، وجعله سببا فيه ، والأمر لا يدلّ إلّا على اقتضاء المأمور به دفعة ، فإذا فعلها المكلّف فقد أتى بتمام مقتضاه ، فلا يبقى للأمر مقتضى آخر.
وعن الثاني : أنّ الحجّ والصّوم لم يجزئا بالنسبة إلى الأمر الأوّل ، حيث لم يقعا على الوجه المطلوب شرعا ، ونحن لا ننازع في أنّ الفعل إذا أخلّ فيه ببعض شروطه ، أو صفاته المطلوبة شرعا ، فإنّه غير مجزئ ، بل هو مجزئ بالنسبة إلى الأمر بإتمامها.
وعن الثالث : أنّ الإتيان بتمام ما اقتضاه الأمر يقتضي أنّ لا يبقى الأمر مقتضيا لشيء آخر ، وهو المراد بالإجزاء.
وعن الرابع : بالمنع من الملازمة ، فإنّه مأمور بالصلاة بظنّ الطّهارة ، و [مع ذلك] يجب القضاء.
ووجوب القضاء ليس عمّا أمر به من الصّلاة المظنون طهارتها ، لأنّه قد أتى بالمأمور به على وجهه ، بل القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أوّلا من الصلاة مع الطّهارة ، كما قلناه في الحجّ الفاسد.
المبحث الرّابع : في أنّ الإخلال هل يوجب القضاء؟
في هذه المسألة صورتان :
إحداهما : الأمر المقيّد بالوقت هل يقتضي الإخلال به القضاء لنفس الأمر ، أم لا بدّ من أمر مجدّد؟
الحقّ الثاني ، وهو مذهب محقّقي المعتزلة والأشاعرة.
وقال قوم من الفقهاء وجماعة الحنابلة بالأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : الأمر المقيّد بوقت لا يتناول غيره ، فلا يدلّ عليه بنفي ولا إثبات.
أمّا المقدمة الأولى : فظاهرة ، فإنّ قوله : «افعل يوم الجمعة». لا يتناول غير يوم الجمعة ، اللهم إلّا أن يقال : إنّ معنى قولنا : افعل يوم الجمعة : «افعل يوم الجمعة ، وإلّا ففيما بعدها» ، فحينئذ يصحّ ما قلتموه.
لكنّه غير محلّ النزاع ، إذ يبقى الدّال على [لزوم] الفعل فيما بعد يوم الجمعة ، ليس مجرّد طلب الفعل يوم الجمعة ، بل كون الصّيغة موضوعة للطّلب يوم الجمعة وغيره من الأيّام.
وأمّا الثانية فظاهرة.
الثاني : لا فرق في نسبة ما قبل يوم الجمعة إلى يوم الجمعة وما
بعده ، فكما (١) لم يدلّ على حكم ما قبله ، كذا لا يدلّ على حكم ما بعده ، قضيّة للتسوية. (٢)
وفيه نظر ، للفرق بينهما ، أمّا أوّلا ، فلصلاحيّة الوقت الثاني للفعل على وجه القضاء ، وعلى وجه الظنّ بالبقاء.
وأمّا ثانيا ، فلصدق أنّه مأمور بعد الوقت ، للاستصحاب.
ولأنّ (٣) بقاء وجه الاشتقاق ليس شرطا.
الثالث : الأوامر الشّرعية تارة تستعقب القضاء ، وتارة لم تستعقبه ، فلا إشعار للأمر الدّال على الأعم بالأخصّ.
الرابع : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها ، فليقضها إذا ذكرها» (٤).
وقال الله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٥) فأوجب القضاء ، ولو كان القضاء يجب بالأمر الأوّل ، لكانت الفائدة التأكيد ، لكن فائدة التأسيس أولى ، لأنّه أكثر فائدة. (٦)
وفيه نظر ، فإنّ دلالة الأمر على القضاء أكثر فائدة.
الخامس : الأحكام تابعة للمصالح ، وهي تختلف باختلاف الأوقات ،
__________________
(١) في «أ» و «ج» : وكما.
(٢) لاحظ البرهان للجويني : ١ / ١٨٨.
(٣) في «أ» و «ب» : أو لأنّ.
(٤) عوالي اللئالي : ١ / ٢٠١ و ٢ / ٥٢ ؛ ومستدرك الوسائل : ٦ / ٤٣٠ ، الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ١٢ ، وفي بعض هذه المصادر : «فليصلّها إذا ذكرها».
(٥) البقرة : ١٨٤.
(٦) الاستدلال مذكور في الإحكام للآمدي : ٢ / ٣١٧ وتنظّر فيه المصنّف.
ولهذا وجبت الصّلاة في وقت دون آخر ، وكذا الصوم ، وباقي العبادات.
بل جاز أن يكون للعبادة في غير وقتها مفسدة ، كصوم يوم العيد ، فلا يلزم من إيجاب الفعل في وقت ، إيجابه في غيره ، فلا يلزم القضاء بمجرّد الأمر بالأداء.
السادس : تعليق الحكم بوقت ، يستلزم حكمة ترجع إلى المكلّف ، إذ هو الأصل في شرع الأحكام.
سواء ظهرت الحكمة ، أو خفيت ، وتلك الحكمة غير حاصلة في غير ذلك الوقت ، إذ الأصل العدم.
ولأنّها لو حصلت في غيره ، فإن كانت أزيد ، كان إيجاب الفعل فيه أولى ، فكان القضاء أولى من الأداء.
وإن كانت مساوية ، كان تخصيص أحد الوقتين بالذّكر ترجيحا من غير مرجّح.
ولأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال حكاية عن ربّه تعالى : «لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمثل أداء ما افترضت عليهم» (١).
والأداء هو الإتيان بالفعل في وقته ، وإذا لم تكن الحكمة حاصلة في غير ذلك الوقت ، لم يجب القضاء.
__________________
(١) الوسائل : ١ / ٧٨ ، الباب ٢٣ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١٧ ؛ مستدرك الوسائل : ٣ / ٥٨ ، الباب ١٦ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٩ ، وج ١١ / ٣٨١ ، الباب ٢٤ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٢ ؛ وبحار الأنوار : ٥ / ٢٨٤ و ٦٧ / ١٦ و ٧٢ / ١٥٥ ؛ وعوالي اللئالي : ١ / ٤٠٨ ، وفي هذه المصادر : «ما تقرّب إليّ عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه» وفي الإحكام للآمدي : ٢ / ٣١٦ كما في المتن.
السابع : لو وجب القضاء بالأمر لاقتضاه ، وصوم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة.
الثامن : لو اقتضاه لكان أداء ، أو لكانا سواء ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
احتجّ المخالف بوجوه :
الأوّل : لو لم يكن موجبا للقضاء ، لكان إيجاب القضاء خلاف الظاهر.
الثاني : الزمان ظرف ، فلا يؤثّر إخلاله في السقوط ، كالدّين.
الثالث : الوقت كأجل الدّين ، وكما لا يسقط الدّين بالتأخير ، كذا العبادة.
الرابع : الواجب في المقيّد أمران : الفعل المطلق ، والواقع في ذلك الوقت ، وإذا فات الثاني ، لم يفت الأوّل.
أمّا وجوب المطلق ، فلأنّ المقيّد واجب ، والمطلق جزء منه ، وإيجاب المركّب يستلزم إيجاب مفرداته.
الخامس : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (١) ومن فاته الوقت الأوّل ، فهو مستطيع للفعل في الوقت الثاني.
السادس : المطلوب بالأمر هو الفعل لا غير ، وليس الزّمان مطلوبا ، لأنّه ليس من فعل المكلّف ، وإنّما وقع ذلك ، ضرورة كونه ظرفا للفعل.
السابع : الغالب من الأوامر الشّرعيّة : القضاء بتقدير فوات الفعل في وقته ، فيحمل النّادر عليه.
__________________
(١) تقدّم مصدر الحديث ص ٤٣١.
الثامن : الغالب وجوب القضاء ، فلا بدّ له من مقتض ، والأصل عدم ما سوى الأمر السابق ، فكان هو المقتضي.
التاسع : لو وجب القضاء بأمر مجدّد ، لم يكن قضاء ، بل كان أداء ، كالأمر الأوّل.
العاشر : لو سقط وجوب الفعل بخروج الوقت ، لسقط الإثم ، لأنّه من أحكام وجوب الفعل.
الحادي عشر : الأصل بقاء ما كان على ما كان ، ولمّا كان الوجوب ثابتا أوّلا ، كان باقيا بعد خروج الوقت ، عملا بالاستصحاب.
والجواب عن الأوّل : خلاف الظاهر لازم من إيجاب عدم القضاء مع اقتضاء الأمر للقضاء ، لا من عدم إيجاب القضاء ، وبينها فرق ، ونحن لا نقول بأنّ الأمر يقتضي إيجاب عدم القضاء ، بل لا يقتضي القضاء.
وعن الثاني : بالمنع من كون إخلال الوقت غير مؤثّر في السّقوط ، فإنّا فرضنا الكلام في مقيّد لو قدّمه لم يصحّ ، ولو أخّره لعوقب ، وهو الجواب عن الثالث.
وعن الرّابع : بالمنع بإيجاب المطلق في أيّ صورة اتّفق ، بل في الجزء الخاصّ.
وعن الخامس : أنّ التكليف وقع بالإتيان بما استطاع المكلّف من المأمور به ، وهو الفعل في الوقت الأوّل ، وإنّما يفيد أن لو كان الفعل في الوقت الثاني داخلا تحت الأمر الأوّل ، وهو عين المتنازع.
وعن السادس : أنّ المطلوب هو الفعل في الوقت المعيّن أو مطلقا ، والأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع.
وعن السابع : بأنّ الأصل براءة الذمّة ، والحمل على الغالب مناف له ، فلا يحمل عليه.
وعن الثامن : أنّ القضاء إنّما يجب بأمر آخر وأدلّة أخرى ، وكما أنّ الأصل عدمها ، فكذا الأصل عدم دلالة الأوّل عليه.
وعن التاسع : أنّه نزاع لفظيّ ، ومع ذلك فإنّما يسمّى قضاء ، لكونه استدراكا لما فات من مصلحة الفعل المأمور به أوّلا.
وعن العاشر : بأنّ الوجوب كما سقط في الوقت الثاني ، فكذا إثمه ، أمّا الإثم المتعلّق بالوجوب في الوقت الأوّل ، فلم يسقط.
وعن الحادي عشر : بأنّ الوجوب موقّت ، فلا يبقى بعد زوال وقته ، وإلّا لم يكن للتّقييد بالوقت فائدة.
الصورة الثانية (١) : الأمر المطلق وهو أن يقول : «افعل» ، من غير تقييد بوقت ، إذا لم يفعله المكلّف في أوقات الإمكان ، هل يجب فعله فيما بعد؟
الحقّ عندنا ذلك ، لأنّ الأمر لا يقتضي الفور ، بل طلب الفعل مطلقا ، فلا يخرج عن العهدة إلّا به.
أمّا القائلون بالفور ، قد اختلفوا فقال أبو بكر الرازي (٢) : إنّه يقتضيه ، وهو
__________________
(١) مرّت الصورة الأولى في أوّل المبحث الرّابع ص ٥٨٢.
(٢) لاحظ الفصول في الأصول : ١ / ٢٩٥ ، تأليف أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص. وتقدّمت ترجمته ص ٥٠٥.
اختيار أبي الحسن تفريعا على القول بالفور ، وكذا القاضي عبد الجبّار.
وقال آخرون بالمنع ، وهو اختيار أبي عبد الله البصري (١) وحكاه عن الكرخي (٢).
والأصل : أنّ قول القائل : افعل ، هل معناه : افعل في الوقت الثاني (٣) فإن عصيت ففي الثالث ، وهكذا؟
أو معناه : افعل في الزمن الثاني ، من غير بيان حال الزّمن الثالث وما بعده؟
فإن قلنا بالأوّل ، اقتضى الأمر الأوّل الفعل في جميع الأزمان.
وإن قلنا بالثّاني ، لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة.
احتجّ الأوّلون بأنّ لفظ افعل يقتضي كون المأمور فاعلا مطلقا ، وهو يوجب بقاء الأمر ما لم يصر المأمور فاعلا.
ويقتضي أيضا وجوب المأمور به ، ووجوبه يقتضي كونه على الفور ، وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما ، لم يكن لنا إبطال أحدهما ، وقد أمكن الجمع ، بأن نوجب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ، لئلّا ينتقض وجوبه ، فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني ، لأنّ مقتضى الأمر كون المأمور فاعلا ، ولم يحصل بعد.
واحتجّ أبو عبد الله بأنّ مطلق الأمر يقتضي إيقاع الفعل في الثاني ، فلم يتناول إيقاعه في الثالث ، لأنّه يتناول فعلا واحدا ، والفعل المختصّ بالثاني ، غير
__________________
(١) تقدّمت ترجمته ص ٢١٩.
(٢) تقدّمت ترجمته ص ٢١٩.
(٣) المراد بالوقت الثاني باعتبار زمان ورود الأمر ، فإنّ زمن ورود الأمر هو الأوّل ، وأمّا أوّل أزمنة إمكان الفعل فهو الزمن الثاني من الزمن الّذي ورد فيه الأمر.
المختصّ بالثالث ، لأنّ أفعال العباد لا يجوز عليها التقديم والتأخير.
وأجاب أبو الحسين بأنّ أفعال العباد إن كان هذه سبيلها ، فإنّ الأمر لم يتناول تلك الأعيان ، وإنّما يتناول ما له صورة يميّزها المكلّف ، فإذا أمر الله تعالى بالحجّ ، فقد أمر بأفعال لها صفة مخصوصة ، سواء وقعت في هذا الوقت أو غيره.
وإذا كان كذلك ، وكان الأمر لا يتخصّص بالأوقات ، علمنا أنّه يتناول (١) ما اختصّ بتلك الصّورة من الأفعال المختصّة بتلك الأوقات ، فإذا بان أنّ الوجوب يفيد الفور ، بان أنّه قد اختصّ بالأمر ما يقتضي الفور وما يقتضي التأخير ، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا على شرط المعصية (٢).
وفيه نظر ، فإنّ الإيجاب على الفور أمر معقول يميّزه المكلّف عن غيره ، وكما يصحّ التكليف به لو نصّ عليه ، فكذا مع الإطلاق.
المبحث الخامس : في أنّ الأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء
إذا أمر الله تعالى (٣) زيدا بأن يأمر عمرا بشيء ، لم يكن الله تعالى امرا لعمرو بذلك الشيء ، لوجوه :
الأوّل : لو قال السيّد لأحد عبديه : «مر الآخر بكذا» ، ثمّ قال للآخر : «لا تطعه» لم يعدّ متناقضا ، ولو كان أمرا للآخر ، لكان بمنزلة ما لو قال للآخر :
__________________
(١) كذا في «ب» والمصدر ، ولكن في «أ» : لا يتناول.
(٢) المعتمد في أصول الفقه : ١ / ١٣٦.
(٣) في «أ» و «ج» : إذا أراد الله تعالى.
«أوجبت عليك (١) طاعتي ولا تطعني» وهو تناقض.
الثاني : لو كان كذلك ، لكان «مر عبدك بكذا» تعدّيا (٢) والتالي باطل بالإجماع ، فكذا المقدّم.
الثالث : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لأولياء الصبيان : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع» (٣) وليس ذلك أمرا للصبيان ، لعدم تكليفهم ، بالإجماع.
وبقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع القلم عن ثلاث ، عن الصّبي حتّى يبلغ» (٤).
وبأنّ الوجوب يستتبع لحوق الذّمّ بهم لو تركوا ، وهو منتف ، ولو ترك الوليّ الأمر ، استحقّ الذّمّ.
ولأنّ الصّبيّ إن كان أهلا لفهم خطاب الشارع ، فلا حاجة إلى أمر الوليّ له ، أو يكون تأكيدا ، والأصل في الخطاب التأسيس.
وإن لم يكن أهلا ، فأمره وخطابه خلاف الإجماع.
نعم إذا كلّف الله تعالى زيدا بأن يأمر عمرا ، ثمّ قال لعمرو : كلّ ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك ، كان الأمر بالأمر بالشيء هنا ، أمرا بذلك الشيء ، لا
__________________
(١) في «أ» و «ب» : أوجبت عليه.
(٢) مراده : أنّه لو كان الأمر بالأمر ، أمرا للثاني ، لزم أنّه إذا قال مر عبدك أن يبيع عبدي ، تعدّيا لعبد الغير ، لأنّه تصرّف فيه حيث أمره ببيع عبده.
(٣) الوسائل : ٣ / ١٢ ، الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٥ وأخرجه أبو داود في سننه : ١ / ١٣٣ برقم ٤٩٥ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٢ / ١٨٠.
(٤) الوسائل : ١ / ٣٢ ، الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١٠ ؛ عوالي اللئالي : ١ / ٢٠٩ وج ٣ / ٥٢٨ ؛ ومسند أحمد بن حنبل : ٦ / ١٠٠ ؛ وسنن أبي داود : ٤ / ١٤١ برقم ٤٤٠٣ ـ كتاب الحدود ـ.
من هذه الحيثيّة ، بل من قوله : «كلّ ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك».
احتجّ المخالف بأنّ ذلك مفهوم من أمر الله ورسوله ، ومن قول الملك لوزيره : «قل لفلان افعل».
والجواب : الفرق ، فإنّا نعلم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مبلّغ ، وكذا الوزير.
تذنيب
قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(١) لا يستلزم وجوب الإعطاء عليهم بمجرّد أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بالأخذ ، بل من حيثيّة الأمر لنا بطاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومناسبة بعثته لوجوب القبول منه ، وإلّا انتفت فائدة البعثة.
لا يقال : وجوب الأخذ إنّما يتمّ بالإعطاء ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به ، فهو واجب.
لأنّا نقول : الأمر هنا إن كان بالطّلب ، لم يتوقّف على الإعطاء ، وإن كان بالأخذ ، لم يكن الإعطاء واجبا ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، إنّما يكون واجبا لو كان مقدورا لمن وجب عليه الأخذ ، وإعطاء الغير غير مقدور لمن وجب عليه الأخذ ، فلا يكون واجبا (عليه) (٢).
__________________
(١) التوبة : ١٠٣.
(٢) ما بين القوسين يوجد في «ج».
المبحث السادس : في أنّ المطلوب بالكلّيّ ما ذا؟
اختلف الناس هنا : فقال قوم : إنّ الأمر بالماهيّة الكلّية ، لا يقتضي الأمر بشيء من جزئيّاتها ، فإنّ الأمر بالبيع المطلق ، لا يقتضي الأمر بالبيع بالغبن الفاحش ، ولا بالثّمن المساوي ، لاشتراكهما في مسمّى البيع ، واختصاص كلّ واحد منهما بما يتميّز به عن صاحبه ، وما به الاشتراك ، غير ما به الامتياز ، وغير مستلزم له.
فالأمر بالبيع المطلق ، لا يقتضي الأمر بشيء من الخصوصيّات ، بشيء من الدّلالات ، وإنّما سوّغنا البيع بالثمن المساوي ، لوجود القرينة الدّالة على الرّضا به ، لانحصار الكليّ في هذه الجزئيّات ، ودلالة القرينة على عدم الرضا بالقليل ، فينحصر المطلوب في الكثير.
وقال آخرون : المطلوب أحد الجزئيّات ، لأنّ المشترك معنى كلّيّ ، لا تصوّر لوجوده عينا.
واشتراكه باعتبار مطابقة حدّ الطبيعة الكليّة ، للطبيعة الجزئيّة ، فيستحيل تعلّق الأمر به ، لاستدعاء الطلب إمكان الفعل ، فيبقى الأمر بالكلّيّ أمرا بالجزئيّات. (١)
وهذا خطأ ، فإنّ الكلّيّ الطّبيعيّ موجود في الأعيان ، وإلّا انتفت الحقائق.
__________________
(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢٠ ؛ والكاشف عن المحصول : ٤ / ٨٥ ـ ٨٦.
وكونه لا يوجد إلّا في شخص ، لا يقتضي عدمه على الإطلاق ، ومع ذلك فقولهم : المطلوب أحد الجزئيّات ، إن أرادوا به واحدا معيّنا ، فهو باطل بالإجماع ، إذ اللفظ لا يقتضي اختصاصه بذلك الجزئيّ ، وإن لم يكن معيّنا ، فهو كلّيّ أيضا ، فيعود المحذور الّذي فرّوا منه.
الفصل السابع :
في المأمور
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : في استحالة أمر المعدوم
خالفت الأشاعرة العقلاء كافّة هنا ، فجوّزوا أمر المعدوم.
لنا : أنّ العقل قاض بقبح ذلك ، فإنّ من جلس في بيته يأمر وينهى من غير حضور مأمور ولا منهيّ ، يعدّ سفيها مجنونا ، والله تعالى منزّه عن ذلك.
ومن أغرب الأشياء : إحالتهم أمر الغافل ، والنائم ، والصّبيّ ، والمجنون ، والسكران ، لعلّة عدم الفهم ، وتجويزهم أمر المعدوم. (١)
واعتذروا : بأنّ الشّناعة تتمّ لو قلنا : إنّ المعدوم حال كونه معدوما يكون مأمورا وليس كذلك.
بل نقول : إنّه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ، ثمّ إنّ الشّخص
__________________
(١) قال الآمدي في الإحكام : ١ / ١٠٨ : مذهب أصحابنا جواز تكليف المعدوم ، وربما أشكل فهم ذلك مع إحالتنا لتكليف الصبيّ والمجنون والغافل والسكران ، لعدم الفهم للتكاليف.
الّذي سيوجد بعد ذلك سيصير مأمورا بذلك الأمر.
واستدلّوا بأنّ الواحد منّا مأمور بأمر الرّسول صلىاللهعليهوآله ، مع أنّ ذلك الأمر وجد حال عدم الواحد منّا. (١)
وكذا يمكن أن يقوم بذات الأب طلب تعلّم العلم من الولد الّذي سيوجد ، حتّى لو قدّر بقاء ذلك الطلب إلى أن وجد ذلك الولد ، صار الولد مطالبا بذلك الطّلب.
وإذا جاز ذلك ، جاز أن يقوم بذاته تعالى في الأزل طلب الفعل من العبد إذا وجد ، فإذا خلقه الله تعالى ، وأكمل عقله ، صار مأمورا بذلك الطلب النفسانيّ القديم. (٢)
والجواب : الشّناعة لازمة ، لأنّ وجود الأمر في الحال ، وكونه يتعلّق بالشّخص الّذي سيوجد في ثاني الحال ، عين السّفه (٣) ، لامتناع وجود أمر من غير مأمور.
ولأنّ الصبيّ والمجنون أقرب من المعدوم في الترتّب ، فإذا جوّزنا أمر المعدوم ، لأنّ وجوده في محلّ الانتظار ، كان جواز أمر الصبيّ والمجنون أولى ، لأنّ العقل والبلوغ في محلّ الانتظار.
__________________
(١) الاستدلال مذكور في الإحكام للآمدي : ١ / ١٠٨ ـ ١٠٩.
(٢) الاستدلال مذكور في المستصفى : ١ / ١٦١.
(٣) قال أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني في البرهان : ١ / ١٩٣ : «إنّ ظنّ ظانّ أنّ المعدوم مأمور ، فقد خرج عن حدّ المعقول. وقول القائل : إنّه مأمور على تقدير الوجود تلبيس ، فإنّه إذا وجد ليس معدوما».
والنبيّ صلىاللهعليهوآله ليس بامر لنا ، بل أخبر بأنّ الله تعالى يأمر المكلّفين عند وجودهم ، بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيصير إخبارا عن الله تعالى بأنّه سيأمرهم عند وجودهم ، ولا نقول : الأمر حصل عند عدم المأمور.
سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهر ، فإنّ أمر النبي صلىاللهعليهوآله حصل في الحال من سمعه وبلّغه (١) إلينا ، بخلاف ما ذهبتم إليه ، حيث لم يكن في الأزل من يسمع خطابه تعالى ، وينقله إلينا.
وقد اعتذر بعضهم بمساواة أمر الله تعالى لأمر الرّسول ، في كونه خبرا في نزول العقاب على من ترك الفعل (٢).
وليس بصحيح ، لامتناع تطرّق التصديق والتكذيب ، ولجواز العفو ، والخلف في خبر الله تعالى محال.
ولأنّه لو كان في الأزل مخبرا : فإمّا لنفسه ، فهو عبث ، تعالى الله عنه ، وإمّا لغيره ، ولا غير هناك ، فيكون عبثا أيضا.
واعتذار عبد الله بن سعيد (٣) «بأنّ كلامه في الأزل ليس بأمر ، ولا نهي ، ولا خبر ، ولا استخبار ، ثمّ يصير فيما لا يزال كذلك» غير معقول ، (٤) إذ لا يعقل كلام إلّا على أحد الأساليب المعروفة عند العقلاء.
__________________
(١) أي وجد في الحال من سمع ذلك الأمر وبلّغه إلينا.
(٢) لاحظ الكاشف عن المحصول للرازي : ٤ / ٩٤.
(٣) عبد الله بن سعيد بن كلّاب أبو محمد القطان ، متكلّم من العلماء توفّي سنة ٢٤٥ ه يقال له : «ابن كلاب» وكلاب بضم الكاف وتشديد اللام ، قيل لقّب بها ، لأنّه كان يجتذب الناس إلى معتقده إذا ناظر عليه ، كما يجتذب الكلاب الشيء ، لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٩٠.
(٤) قوله : «غير معقول» خبر لقوله «واعتذار ...».
ثمّ بأيّ اعتبار ينقسم ذلك المعنى القديم إلى أنواع الأساليب؟ وأيّ مخصّص في صيرورة البعض أمرا ، والبعض خبرا؟
وبالجملة فنحن لا نعقل كلامه تعالى سوى الأمر والنهي والخبر ، وإذا اعترفتم بحدوثها ، ثبت حدوث الكلام ، فإذا ادّعيتم قدم شيء آخر ، فبيّنوه ليتصوّر ، ثمّ أقيموا الدّلالة عليه ، وعلى اتّصافه تعالى به ، وعلى قدمه.
قيل (١) : إنّ عبد الله بن سعيد عنى بالكلام القدر المشترك.
قلنا : المشترك لا ينفكّ عن أحد القيود ، ويلزم من حدوثها حدوثه.
وقول ابن سعيد ، ليس بجيّد ، لأنّه تسليم لانتفاء الأمر أزلا.
المبحث الثاني : في شرائط المكلّف
وهي خمسة :
الأوّل : البلوغ ، فلا يكلّف الصبيّ ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن الصّبي حتّى يبلغ» (٢).
ولأنّه إن لم يكن مميّزا ، فهو بالنّسبة إلى فهم تفاصيل الخطاب ، كالجماد والبهيمة بالنّسبة إلى فهم أصل الخطاب ، وكما امتنع تكليف الدّابّة ، كذا امتنع تكليف غير المميّز ، إلّا عند القائلين بجواز التكليف بالمحال ، لأنّ التكليف كما توقّف مقصوده على فهم أصل الخطاب ، كذا يتوقّف على فهم تفاصيله.
__________________
(١) القائل هو الرازي في محصوله : ١ / ٣٢٩.
(٢) تقدّم مصادر الحديث ص ٥٩٠.
وإن كان مميّزا ، فهو وإن فهم ما لا يفهمه غير المميّز ، إلّا أنّه قاصر الفهم ، لا يعرف ما يعرفه كامل العقل ، من وجود الله تعالى ، وبيان صفاته على التفصيل.
فنسبته إلى غير المميّز ، كنسبة غير المميّز إلى البهيمة.
وإن قارن البلوغ ، بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة ، فإنّه ، وإن كان فهمه كفهم البالغ ، غير أنّه لمّا كان العقل والفهم [فيه] خفيّا ، وظهوره يقع على التدريج ، ولم يكن [له] ضابط يعرف به ، جعل الشّرع له ضابطا ، [و] هو البلوغ ، وأسقط التكليف عن قبله ، تخفيفا عليه.
لا يقال : الصبيّ يجب عليه الزّكاة والضمان ، وهو نوع تكليف ، ويؤمر المميّز بالصّلاة.
لأنّا نقول : الزّكاة والضّمان لم يتعلّقا بفعل الصّبيّ ، بل بماله أو بوليّه المكلّف بالإخراج عنه ، أو بذمّته ، فإنّه أهل الذمّة من حيث الإنسانيّة المتهيّئ بها لفهم الخطاب عند البلوغ ، بخلاف البهيمة ، وليس ذلك من باب التكليف.
وأمّا الأمر بالصّلاة للمميّز ، فليس من جهة الشارع ، بل من جهة الوليّ ، ويفهم خطابه ، بخلاف خطاب الشّرع.
الثاني : العقل : فلا يحسن تكليف المجنون ، لأنّ التكليف خطاب ، وخطاب من لا عقل له قبيح ، كخطاب الدّابّة.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن الصّبيّ حتّى يبلغ ، وعن النائم حتّى يستيقظ ، وعن المجنون حتّى يفيق» (١).
__________________
(١) تقدّم مصدر الحديث ص ٥٩٠.
ويلزم المجبرة جواز أمره وتكليفه بجميع أنواع التكاليف ، حيث جوّزوا تكليف ما لا يطاق.
الثالث : عدم الغافلة ، فلا يصحّ تكليف الغافل ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّ فعل الشيء مشروط بالعلم به ، ولهذا استدللنا بالإحكام على العلم ، (١) والغافل غير عالم ، فلا يمكنه الفعل حينئذ.
لا يقال (٢) نمنع اشتراط العلم ، فإنّ الجاهل قد يفعل اتّفاقا ، وحكم الشيء حكم مثله ، فكما جاز صدور الفعل أوّلا ، جاز صدوره ثانيا ، وثالثا وهكذا.
وحينئذ جاز أن يعلم الله تعالى إيقاع الفعل من شخص اتّفاقا ، فلا يكون ، تكليفه حال عدم العلم تكليفا بالمحال.
ولأنّ الأمر ورد بالمعرفة ، (٣) ويستحيل توجيهه على العارف ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، أو الجمع بين المثلين ، أو على غيره ، والمأمور قبل أن يعرف الامر ، استحال منه أن يعرف الأمر ، فقد كلّف من يستحيل منه العلم بالفعل.
ولأنّ العلم بوجوب المعرفة ليس ضروريّا ، فالعلم بوجوب الطّلب ، إن حصل قبل إتيانه (٤) بالنظر ، وهو حينئذ لا يمكنه أن يعلم ذلك الوجوب ،
__________________
(١) المراد : إحكام الصّنع وإتقان الخلقة ، فهو دليل على علم الخالق. كما هو دليل على وحدانيّته ، كما قال سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢ ، وقال الصادق عليهالسلام : اتّصال التدبير وتمام الصّنع ، كما قال الله تعالى : لو كان فيهما ... توحيد الصدوق : ٢٥ طبع الغفاري.
(٢) يطرح في المقام إشكالات خمسة ، وطلبا للوضوح أوردنا كلّا في مقاطع خاصّة.
(٣) أي بمعرفة الله قال سبحانه (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) محمّد : ١٩.
(٤) في «أ» : «قبل إثباته» والصحيح ما في المتن.
لاشتراطه بالإتيان بذلك النظر ، فلو وجب قبل الإتيان بذلك النظر ، لوجب عليه في وقت لا يمكنه أن يعلم كونه واجبا عليه ، وهو تكليف الغافل.
وإن حصل بعده وعند الإتيان بالنّظر ، حصل العلم بالوجوب ، فلو وجب عليه حينئذ تحصيل العلم بالوجوب ، لزم تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين.
ولأنّ المجنون والغافل والنائم توجب أفعالهم الضّمان.
ولقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(١) ، خاطب السّكران ، وهو غافل.
لأنّا نقول : الضرورة قاضية بأنّ القصد إلى الفعل ، مشروط بالعلم به ، والتكليف يستدعي طلب إيقاع الفعل من العبد ، طاعة وامتثالا للأمر ، بخلاف وقوع الفعل عن العبد اتّفاقا من غير قصد.
وأيضا ، الضرورة فرّقت بين تجويز إيقاع الفعل مرّة واحدة اتّفاقا ، وبين تكرّره ، واشتراط العلم في الثاني ، دون الأوّل.
ووجوب المعرفة عندنا ، عقليّ لا سمعيّ.
ووجوب النّظر ضروريّ ، أو قريب منه بأن يكون فطريّ القياس.
لا يقال : الأمر بالمعرفة ثابت بقوله تعالى : (فَاعْلَمْ)(٢) إلى غيره من الآيات ، وكون وجوب المعرفة عقليّا لا يدفعه (٣) ، وحينئذ يعود الإشكال.
__________________
(١) النساء : ٤٣.
(٢) محمّد : ١٩.
(٣) في «أ» : لا يرفعه.