الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٢٩
المبحث الثامن : في أنّ المجاز ليس غالبا
قال ابن جنّي (١) : أكثر اللغة مجاز ، أمّا الفعل فإذا قلت : قام زيد ، اقتضى الفعل إفادة الجنس ، وهو يتناول جميع الأفراد ، فيلزم وجود كلّ فرد من أفراد القيام من زيد ، وهو معلوم البطلان (٢).
وليس بجيّد ، لأنّ المصدر دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، ولا يستلزم واحدة ولا كثرة وقد توهّم أنّه دالّ على جميع أشخاص الماهيّة قال :
وإذا قلت : ضربت زيدا كان مجازا من حيث إنّك ضربت بعضه لا جميعه ، بل لو قلت محتاطا : ضربت رأسه لم تكن قد ضربته من جميع جوانبه.
واعتراض ابن متّويه (٣) بأنّ المتألّم زيد لا بعضه ، خطأ ، لأنّ البحث في الضّرب لا الألم ، والضّرب إمساس بعنف من جسم لجسم حيوان ، والإمساس يرجع إلى الأجزاء لا الجملة.
وهاهنا مجاز من وجه آخر ، فإنّك إذا قلت : رأيت زيدا أو ضربته ، ف «زيدا» ليس إشارة إلى هذه الجملة المشاهدة ، لتطرّق الزيادة والنقصان والتبدل عليها ،
__________________
(١) تقدّمت ترجمته.
(٢) نقله عنه الرّازي في المحصول : ١ / ١٤٣.
(٣) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحسن الاصفهاني المتوفّى سنة ٣٠٢ ه المعروف ب «ابن متّويه» ، أصله «متويه» مثل «سيبويه» ولمّا كان لفظ «ويه» مشعرا بالتفجّع فقلّبوه وقالوا : «متّويه» بضمّ التاء وسكون الواو وفتح الياء والهاء. لاحظ نفائس الأصول في شرح المحصول : ١ / ٥٠٩ ؛ وسير أعلام النبلاء : ١١ / ٢٠٦ برقم ٢٥٩٧.
وإنّما هو أجزاء أصليّة لا يعتورها شيء من ذلك ، فلعلّ تلك الأجزاء لم يقع عليها الرؤية ولا الضّرب وقد أسندتهما إليها فكان مجازا. (١)
مع أنّ الرؤية إنّما تتناول سطحه الظاهر ، وذلك ليس حقيقة زيد ، بل إنّما خارج عنه أو جزء منه.
ومثل هذا المجاز من باب المجاز التركيبيّ العقليّ ، لأنّ صيغتي رأيت أو ضربت قد استعمل في معناها الحقيقيّ ، وزيد من الأعلام ، فلا يكون مجازا ، بل المجاز وقع في النّسبة والتركيب.
المبحث التاسع : في أنّ المجاز على خلاف الأصل
قد عرفت غير مرّة أنّ فائدة الوضع إعلام الغير ما في الضمير باللفظ الموضوع للمعنى ، فإذن الأصل الحقيقة تحصيلا لفائدة الوضع.
ولأنّها لو لم تكن أصلا لكان إمّا أن يكون المجاز هو الأصل ، أو لا واحد منهما بأصل ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل فبالإجماع ، وبأنّه مناف للحكمة ، فإنّه من الممتنع أن يضع الواضع لفظا لمعنى ليكتفي به في التعبير عنه ، ثمّ يكون استعماله فيما لم يوضع له أصلا في تلك اللغة.
__________________
(١) توضيحه : أنّ زيدا يوم ولادته كان جسما صغيرا ذات أجزاء قليلة ، وضع عليه لفظ «زيد» وأمّا المشاهد والمضروب أيّام شبابه ، ـ كما هو المفروض ـ فهو جسم كبير له اجزاء كثيرة ، فقد استعملت اللفظة في غير ما وضعت له أيّام ولادته.
وأمّا الثاني ، فلأنّه يحصل حينئذ التردّد ويختلّ الفهم ، ويصير كلام الشرع مجملا بين حقيقته ومجازه ، وكذا جميع ما ينطق به العرب ، لتردّد تلك الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها ، فكان لا يحصل الفهم إلّا بعد الاستكشاف ، (ولمنافاة الحكمة إن جعل أصلا في ثالث ، وزيادة الخلل في الفهم ، ولامتناع ثالث بينهما في الاستعمال) (١).
ولأنّه لو تجرّد اللّفظ عن القرينة فإمّا أن يحمل على حقيقته وهو المطلوب.
أو على مجازه وهو محال ، إذ شرط حمله على المجاز القرينة ، فإنّ الواضع لو أمر بحمله على مجازه عند التجرّد كان حقيقة إذ هو معناها.
أو عليهما معا ، وهو محال ، وإلّا لكان حقيقة في ذلك المجموع لو قال : احملوه عليهما معا.
ولو قال : احملوه إمّا على هذا أو على هذا كان مشتركا.
أو لا على واحد منهما وهو محال ، وإلّا لكان مهملا لا مستعملا.
ولأنّ المجاز يتوقّف على أمور ثلاثة :
الوضع الأصليّ.
ونقله إلى الفرع.
وعلّة النقل. (٢)
والحقيقة يتوقّف على الأوّل لا غير.
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في «ب» و «ج».
(٢) وهي العلاقة.
وكلّ ما كان أقلّ شرطا كان أقلّ معاندا وأكثر وقوعا ، وهو دليل الأصالة.
ولأنّ الواضع اكتفى به في الدلالة ، فكأنّه قال : إذا سمعتم منّي كذا فافهموا كذا ، فمن تابعة في استعمال لغة وجب أن يجري على نهجه ، ولهذا سبق الحقيقيّ إلى الذّهن دون المجازيّ.
ولو قال لنا : مثل ذلك في المجاز كان حقيقة لا مجازا.
وللإجماع على أنّ الأصل الحقيقة ، قال ابن عبّاس : ما كنت أعرف [معنى] الفاطر حتّى اختصم إليّ شخصان في بئر ، فقال أحدهما : فطرها أبي ، أي اخترعها. (١)
وقال الأصمعيّ (٢) : ما كنت أعرف الدّهاق حتّى سمعت جارية تقول : اسقني دهاقا أي ملآن. (٣)
فاستدلّوا بالاستعمال على الحقيقة ، ولو لا علمهم بأنّ الأصل هو الحقيقة ، وإلّا لما ساغ ذلك.
تذنيب :
الحقيقة قد تهجر ويكثر استعمال المجاز إلى حدّ يجعل التعاكس فيه ، فتصير الحقيقة مجازا عرفيّا ، والمجاز اللغويّ حقيقة عرفيّة.
إذا عرفت هذا ، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة الّتي لم تخرج إلى
__________________
(١) نقله عنه ابن الأثير في النهاية : ٣ / ٤٥٧.
(٢) تقدّمت ترجمته.
(٣) لاحظ الطراز : ١ / ٧٩.
حدّ المجاز ، وبين المجاز الرّاجح القاصر عن كونه حقيقة ، قال أبو حنيفة (١) : الحقيقة أولى ، عملا بالأصل.
وقال أبو يوسف (٢) : المجاز أولى ، عملا بالراجح.
وقيل (٣) : بالتعارض ، لوجود وجه الرجحان في كلّ منهما ، والمرجوحيّة باعتبارين ، فيحصل التّعادل.
المبحث العاشر : في أنّ المجاز المركّب عقليّ
الفعل إذا كان بحيث يصدر عن ذات ، فاستناده في الحقيقة إلى تلك الذّات ، لأنّها المؤثّرة فيه ، فإذا أسند إلى غيرها كان مجازا عقليّا ، لأنّ الإسناد إلى المؤثّر حكم عقليّ ثابت في نفس الأمر ، فنقله عن متعلّقه إلى غيره نقل لحكم عقليّ لا للفظ لغويّ كقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها)(٤)(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)(٥).
والإخراج والإنبات إنّما يستندان في نفس الأمر وعلى سبيل الحقيقة إلى الله تعالى ، فإسنادهما إلى الأرض يكون لا شكّ مجازا عقليّا.
__________________
(١) أبو حنيفة النعمان بن ثابت أحد أئمّة المذاهب الأربعة المتوفّى سنة ١٥٠ ه.
(٢) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري ، تفقّه على أبي حنيفة ونشر مذهبه ، واشتهر بصاحب أبي حنيفة ، وله آراء يخالف فيها إمامه أبا حنيفة ، مات سنة ١٨٢ ه. انظر الأعلام للزركلي : ٨ / ١٩٣.
(٣) القائل هو العجلي الأصبهانيّ في الكاشف عن المحصول : ٢ / ٣٤٠.
(٤) الزلزلة : ٢.
(٥) يس : ٣٦.
لا يقال : أخرج وأنبت في أصل الوضع بإزاء الخروج والنبات المستندين إلى المؤثّر القادر ، فإذا استعملنا في صدورهما من الأرض ، فقد استعملنا في غير موضوعهما اللّغوي ، وكان مجازا لفظيّا.
لأنّا نقول : الأفعال تدلّ على صدور أمر عن شيء ما ، من غير دلالة على خصوصيّة ذلك المؤثّر ، وإلّا لكان لفظة «أخرج» خبرا تامّا ، وكان يقبل التصديق والتكذيب من غير انضمام شيء آخر إليه ، وليس كذلك.
ولصحّة أخرجه القادر وغير القادر ، وليس الأوّل تكريرا ولا الثاني نقضا (١).
وفيه نظر ، لأنّ التأكيد ليس تكريرا ، والتجوّز ليس نقضا ، وذكر غير القادر قرينة.
ولأنّه لو سلّم استناده إلى القادر ، لكن لا دلالة له على خصوصيّة ذلك القادر ، وإلّا لزم حصول الاشتراك اللّفظيّ بحسب تعدّد القادرين.
وإذا ثبت هذا فإذا أضيف ذلك الفعل إلى غير ذلك القادر الّذي هو صادر عنه ، لم يكن التعبير واقعا في مفهومات الألفاظ ، بل في الإسناد.
والفرق بين هذا النوع من المجاز وبين الكذب ، القرينة الحاليّة ، كالعلم والظنّ بانتفاء كذب المخبر ، فيعلم إرادة المجاز ، وكان يقترن بالكلام هيئات مخصوصة قائمة بالمتكلّم ، دالّة على أنّ المراد ليس الحقيقة ، وكان يعلم بسبب خصوصيّة القضيّة انتفاء داع للمتكلّم (٢) إلى ذكر الحقيقة ، فيعلم إرادة المجاز.
أو المقاليّة بأن يذكر عقيب كلامه ما يدلّ على غير ظاهره.
__________________
(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣٩.
(٢) في «أ» و «ب» : داعي المتكلّم.
المطلب الرابع : في مباحث مشتركة بين الحقيقة والمجاز
وهي أربعة :
[المبحث] الأوّل : في عدم التلازم بينهما
الحقّ ذلك ، أمّا عدم استلزام الحقيقة المجاز ، فظاهر ، إذ الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له ، ولا يجب من وضع اللفظ واستعماله في موضوعه استعماله في غيره للعلاقة ، فلا يجب في الحقيقة المجاز.
وأمّا العكس ، فقد ذهب جماعة منهم فخر الدين الرازي إلى خلافه. (١)
لنا : أنّ المجاز هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له لعلاقة بينه وبينه ، فهو لا شكّ مسبوق بالوضع ، لكن لا يجب من الوضع الاستعمال ، فأمكن انفكاك المجاز عن الحقيقة.
نعم يستحيل انفكاكه عن الوضع الأصليّ ، لكونه تابعا ، فيستحيل وجوده بدون وجود متبوعه.
وأيضا لو استلزم المجاز الحقيقة لكان للفظ «الرّحمن» ولنحو «عسى» حقائق ، وليس كذلك ، فإنّ «الرّحمن» موضوع للانعطاف ، (٢) و «عسى» للتصرّف
__________________
(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٤٨.
(٢) أي رقّة القلب الممتنعة على الله سبحانه.
ولم يستعملا في ذلك ، بل استعمل لفظ «الرّحمن» في الله تعالى ، و «عسى» لغير المتصرّف. (١)
وأيضا لو استلزم لكان لنحو «قامت الحرب على ساق وشابت لمّة الليل» حقائق.
وفيه نظر ، فإنّ المجاز هنا في التركيب ، وهو يستلزم حقائق في المفردات لا التركيب.
قيل : (٢) وهو مشترك الإلزام ، فإنّ المجاز يستلزم الوضع قطعا ، ولم ينقل الوضع هنا.
وفيه نظر ، لأنّا نعلم أنّه مجاز قطعا ، ونعلم استلزام المجاز الوضع المطلق ، ولا يلزم من عدم العلم بخصوصيّته انتفاؤه ، بخلاف الحقيقة ، فإنّ الدّليل لم يدلّ عليها (٣) ولم ينقل الاستعمال.
واحتجّ المخالف بأنّه لو لم يلزم لعرى الوضع عن الفائدة ، إذ غاية الاستعمال فيما وضع له ، فإذا انتفى انتفت الفائدة.
وأيضا المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصليّ ، وهذا تصريح
__________________
(١) ومراده : أنّ «عسى» موضوع للحدث والزمان ، ولكن لم يستعمل إلّا في الحدث المجرد عنه ، فاشبه بغير المتصرّف ولكن ، في «فواتح الرحموت» لعبد العليّ محمد بن نظام الدين الهندي : «عسى» و «نعم» انّهما صيغتان وضعتا للإخبار ولم يستعملا فيه قطّ ، بل في الإنشاء فقط. فواتح الرحموت : ١ / ١٧٩.
(٢) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٣٨٢ ـ قسم المتن ـ.
(٣) في «ج» : فإنّ الدليل يدلّ عليها.
بوضعه في الأصل لمعنى آخر ، فاللّفظ متى استعمل في ذلك الموضوع ، كان حقيقة فيه. (١)
والجواب عن الأوّل من وجهين :
الأوّل : فائدته الاستعمال ، ولم يتّفق وقوعه ، ولا يجب من الوضع الاستعمال في وقت معيّن ، بل ولا مطلقا ، ولا يلزم انتفاء الفائدة ، إذ هي الاستعمال متى أراد المخاطب.
الثاني : فائدته التجوّز في غير ذلك المعنى.
وعن الثاني : بتسليم الوضع السابق.
قوله : فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع كان حقيقة.
قلنا : مسلّم لكن ليس في هذا الكلام إشعار بوجوب الاستعمال ، ولو كان لم يقم ، فإذا لم يحصل الاستعمال لم تحصل الحقيقة ، اللهم إلّا أن نقول : إنّه يلزم إمكان الحقيقة ، فنقول كذلك المجاز ، فإنّ الحقيقة تستلزم إمكان المجاز.
ومن أغرب الأشياء اعتراف فخر الدّين قبل ذلك بقليل باستلزام المجاز الوضع ، وكونه جائز الخلوّ عن الحقيقة والمجاز. (٢)
__________________
(١) لاحظ المحصول للرازي : ١ / ١٤٨.
(٢) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٤٧.
المبحث الثاني : في إمكان الخلوّ عنهما
قد بيّنا أنّ الحقيقة هي استعمال اللّفظ فيما وضع له ، أو اللّفظ المستعمل فيما وضع له ، ويقابله المجاز لا في اللفظ ولا في الاستعمال بل في الوضع ، فيكون هو اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له ، أو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.
ولا شكّ في أنّ الاستعمال مسبوق بالوضع ، ففي حالة الوضع قبل الاستعمال لا يكون اللّفظ حقيقة ولا مجازا ، وإنّما يصير أحدهما بعد الاستعمال.
نعم أنّه يندر ذلك بل لا يوجد ، لعدم معظم فوائد الوضع.
وأيضا الأعلام ليست حقيقة ولا مجازا ، لكونها من الألقاب.
والحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له ، والمجاز في غير ما وضع له ، وهو يستدعي كونهما قد وضعا قبل الاستعمال لغة ، وأسماء الأعلام ليست كذلك ، فإنّ مستعملها لم يستعملها فيما وضعه أهل اللّغة ولا في غيره ، لأنّها لم تكن من وضعهم ، بل لفظ مستعمل من كلام العرب ما عدا الوضع الأوّل ، فإنّه لا يخلو عن الحقيقة والمجاز.
واعلم أنّ فخر الدين قال : إنّ دلالة اللفظ قد لا تكون حقيقة ولا مجازا ، واحتجّ بالأوّل (١).
وليس بجيّد ، فإنّ الدلالة مسبوقة بالاستعمال.
__________________
(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٤٧.
المبحث الثالث : في إمكان الجمع بينهما
اعلم أنّ الحقيقة والمجاز من الأمور الاضافيّة منسوبة إلى الوضع ، ولا شكّ في جواز اجتماعهما عند تعدّد المعاني ، فإنّ الأسد حقيقة في الحيوان المفترس ومجاز في الشجاع ، بل يجب ذلك في كلّ ما استعمل في حقيقة وله مجاز.
وأمّا إذا اتّحد المعنى ، فإنّ تعدّد الواضع (١) أمكن ، وذلك بأن تضع إحدى القبلين لفظا لمعنى ، ويتجوّز به آخرون في ذلك المعنى بعينه ، سواء كانوا قد وضعوا لفظا آخر أو لم يضعوا ، وكذا العرف بالنّسبة إلى اللّغة ، فإنّ الدّابّة في الأسد حقيقة لغويّة ومجاز عرفيّ.
وأمّا إذا اتّحد المعنى والواضع ، فلا يمكن اجتماعهما في لفظ واحد ، لاستحالة اجتماع المتقابلات (٢).
تنبيه
إذا كان اللّفظ حقيقة في شيء ومجازا في آخر ، هل يجوز إرادتهما معا من ذلك اللفظ؟
والقائلون بجواز إرادة معنيي المشترك جوّزوه هنا.
__________________
(١) في «ب» و «ج» : تعدّد الوضع.
(٢) في «ب» : متقابلين.
ومن منع ثمّ ، منع هنا ، لاستحالة إرادة المتناقضين.
نعم يجوز مجازا ، أمّا حقيقة فلا.
تذنيب
الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس ، فإنّ الحقيقة إذا قلّ استعمالها صارت مجازا عرفيّا.
والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفيّة ، كالألفاظ العرفيّة ، فإنّ الغائط حقيقة عرفيّة في قضاء الحاجة ، ومجاز عرفيّ في مكان المطمئنّ ، بل قد تهجر الحقيقة بالكلّية ، فيبقى اللّفظ منقولا.
المبحث الرابع : في المميّز بينهما
وهو يقع من وجوه :
الأوّل : تنصيص أهل اللغة عليه : إمّا بأن يقول الواضع : هذا حقيقة ، وهذا مجاز ، أو يذكر أحدهما ، أو خواصّهما.
الثاني : سبق المعنى إلى فهم أهل اللّغة عند سماع اللّفظ مجرّدا عن القرينة (١) يعطي كونه حقيقة فيه ، إذ لو لا كونه موضوعا له دون غيره ، لم يسبق فهمه.
__________________
(١) في «أ» و «ب» عن القرائن.
والمجاز بخلافه ، وهو الّذي لا يتبادر إلى الذّهن فيه من دون القرينة.
لا يقال : فينتقض بالمجاز المنقول ، حيث يتبادر إلى الذهن فهمه دون حقيقته ، فينتقض الخاصّتان ، وباللّفظ المشترك ، فإنّه لا يتبادر إلى الذهن شيء من مدلولاته مع كونه حقيقة فيها.
لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّه إن علم كونه مجازا عند التبادر فلا بحث ، لأنّهم أخذوا في الخاصّة التبادر من غير قرينة ، مع عدم العلم بكونه مجازا.
وإن لم يعلم فالظّاهر أنّه يكون حقيقة فيه ، لاختصاص ذلك بالحقيقة في الغالب ، وإدراج النادر بحسب الغالب أولى. (١)
وليس بجيّد ، فإنّ جعله حقيقة لغويّة مع فرض خلافه خطأ ، بل الوجه أن يقول : إنّه حقيقة عرفيّة ، والتبادر بالنسبة إلى العرف غير التّبادر بالنسبة إلى اللّغة ، ونحن نريد بالتبادر بالنسبة إلى اللّغة الّتي وقع التخاطب بها ، إمّا لغة أو عرفا أو شرعا.
وعن الثاني : بأنّ المشترك إن كان عامّا في مدلولاته ، فلا بحث واندفع الإشكال ، وإلّا فهو حقيقة في الواحد على البلد ، لا في الواحد عينا ، والّذي هو حقيقة فيه فهو يتبادر الفهم عند إطلاقه ، وهو الواحد على البدل ، والّذي لا يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعيّن غير حقيقة فيه. (٢)
وفيه نظر ، لأنّه إن عنى بالواحد على البدل أحدها لا بعينه على أنّه كليّ ، لم يكن اللّفظ من قبيل المشترك ، بل كان متواطئا إذ قد جعله حقيقة في أمر كليّ
__________________
(١) الإشكال والجواب للآمدي في الإحكام : ١ / ٢٧.
(٢) لاحظ الإحكام للآمدي : ١ / ٢٨.
شامل لمعانيه اشتمال المعنى المشترك على أفراده ، وليس كذلك.
وإن عنى به كلّ واحد بخصوصيّة ، ورد الإشكال.
والوجه أن نقول : التّبادر دليل الحقيقة ، ولا يلزم من عدمه انتفاؤها.
الثالث : استعمال أهل اللغة لفظا مجرّدا عند قصد الإفهام لمعنى معيّن ، ولو عبّروا عنه بغيره ، أو عبّروا به عن غيره لم يجرّدوه بل ضمّوا إليه قرينة فيعلم أنّ الأوّل حقيقة ، إذ لو لا علمهم باستحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها ، ويكون الثاني مجازا.
الرابع : تعليق اللفظ بما يستحيل تعلّقه به يقتضي كونه مجازا ، للعلم بانتفاء الوضع مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١).
لا يقال : جاز أن يكون مشتركا ، وتعذّر حمل اللّفظ المشترك على بعض محامله لا يوجب جعله مجازا.
لأنّا نقول : الاشتراك على خلاف الأصل ، والمجاز أولى منه مع التعارض.
وإذا عرفت هذا فنقول : مهما ثبت كون اللفظ حقيقة في بعض المعاني واستعمل في غيره ، حكم بكونه مجازا إذا لم يكن بينهما معنى مشترك يصلح للموضوعيّة ولم يكن مشتركا.
الخامس : إذا وضعوا اللفظ لمعنى ثمّ تركوا استعماله في بعض موارده ، ثمّ استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء ، عرف كونه مجازا عرفيّا ، كالدّابة للحمار.
__________________
(١) يوسف : ٨٢.
السادس : الاطّراد في الحقيقة وعدمه في المجاز ، فقولنا : «عالم» لمّا صدق على «ذي علم» ، صدق على كلّ ذي علم.
بخلاف المجاز ، فإنّه صحّ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) ولم يصحّ : واسأل البساط. (٢)
واعترض عليه (٣) بأنّ الدعوى العامّة لا تصحّ بالمثال الواحد.
وأيضا إن أراد باطّراد الحقيقة استعمالها في جميع موارد نصّ الواضع ، فالمجاز أيضا كذلك ، لأنّه يجوز استعماله في جميع موارد نصّ الواضع ، فلا يبقى بينهما فرق.
وإن أراد استعماله في غير موضع نصّ الواضع لكونه مشاركا للمنصوص عليه في المعنى ، كان قياسا في اللّغة ، وهو باطل.
سلّمنا جوازه ، (٤) لكن دعوى اطّراد الحقيقة ممنوعة ، فإنّها قد لا تطّرد ، بأن يمنع منه العقل ، كالدليل عند من يجعله حقيقة في فاعل الدّلالة ، فإنّه لمّا كثر استعماله في نفس الدّلالة ، لا جرم لم يحسن استعماله في حقّه تعالى إلّا مقيّدا.
أو يمنع منه السّمع كتسميته تعالى بالفاضل والسخيّ ، فانّ الحقيقة وإن وجدت ، لكن السّمع منع منه.
أو يمنع منه أهل اللّغة كالأبلق في غير الفرس.
__________________
(١) يوسف : ٨٢.
(٢) الاستدلال للغزالي في المستصفى : ٢ / ٢٤.
(٣) المعترض هو الرازي في محصوله : ١ / ١٤٩.
(٤) أي جواز القياس في اللغة.
فإن قالوا : الأبلق موضوع لما اجتمع فيه اللّونان ، بشرط كونه فرسا.
قلنا : لو جاز هذا ، لجاز في كلّ مجاز ، ولا يطّرد الاعتذار بمثله ، فيبطل الاستدلال بعدم الاطّراد على كونه مجازا.
وكذا القارورة حقيقة في الزّجاجة الخاصّة ، لكونها مقرّا للمائعات ، وهذا المعنى موجود في الجرّة ، والكوزة ، ولا يسمّى قارورة.
قال بعض المتأخّرين : علامة المجاز عدم الاطّراد في مدلوله ، مع عدم ورود المنع من اللغة أو الشّرع ، ولا يرد اطّراد بعض المجازات ، مع أنّه ليس حقيقة ، لأنّ عدم الاطّراد دليل المجاز ، ولم يجعل الاطّراد دليل الحقيقة. (١)
والتزم بعضهم (٢) الدّور ، لأنّ عدم الاطّراد الّذي جعل علامة على المجاز ، قد يوجد في الحقيقة كالسخيّ وغيره ، وهو حقيقة.
فإن قلت : عدم الاطّراد هنا لمانع.
قلنا : فعدم الاطّراد إنّما يدلّ على المجاز إذا لم يكن لمانع ، وإنّما يعرف بأنّه (٣) ليس لمانع ، لو كان مجازا. (٤)
وفيه نظر ، لمنع الملازمة الأخيرة.
السابع : امتناع الاشتقاق دليل على المجاز ، فإنّ الاسم إذا كان موضوعا
__________________
(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ١ / ٢٨.
(٢) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٣٨٠ ـ قسم المتن ـ.
(٣) في «أ» و «ب» : أنّه.
(٤) الإحكام للآمدي : ١ / ٢٨.
لصفة ، ولا يصحّ أن يشتقّ لموضوعها منها اسم ، مع عدم المنع من الاشتقاق ، دلّ على كونه مجازا ، وذلك أنّ لفظ الأمر لمّا كان حقيقة في القول اشتقّ منه الامر والمأمور ، ولمّا لم يكن حقيقة في الفعل ، لم يوجد فيه الاشتقاق (١).
ويضعّف بعدم دلالة المثال [الواحد] على العموميّة ، وبانتقاضه بقولهم للبليد : حمار ، وجمعه حمر. (٢) وفيه نظر ، لمغايرة الجمع الاشتقاق.
وأيضا ، الرائحة حقيقة في معناها ، ولم يشتقّ منها الاسم ، فلا يقال للجسم الّذي قامت به الرّائحة ، متروّح.
الثامن : أن يكون الاسم قد اتّفق على كونه حقيقة في غير المسمّى المذكور ، وجمعه يخالف جمع المسمّى المذكور ، فيعلم أنّه مجاز فيه كالأمر ، فإنّه يجمع بالمعنى الحقيقيّ بأوامر ، وفي الفعل بأمور (٣).
ويضعّف (٤) بأنّ اختلاف الجمع لا إشعار فيه بكونه حقيقة في أحدهما ، ومجازا في الآخر ، وقد يجمع اللّفظ الواحد الحقيقيّ بجموع كثيرة ، وقد يتّفق الحقيقيّ والمجازي في الجمع.
التاسع : المعنى الحقيقيّ إذا كان متعلّقا بالغير ، فإذا استعمل فيما لا يتعلّق به
__________________
(١) هذه إحدى العلامات الّتي عرّف بها الغزالي المجاز ، انظر المستصفى : ٢ / ٢٤.
(٢) هذا ما أورده الفخر الرازي على كلام الغزالي. لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٥٠.
(٣) ذكر هذه العلامة أيضا الغزالي في المستصفى : ٢ / ٢٥.
(٤) لاحظ الكاشف عن المحصول تأليف محمد بن محمود العجليّ الأصفهاني : ٢ / ٣٧٩.
شيء كان مجازا ، فالقدرة إذا أريد بها المعنى الحقيقيّ ، وهو الصفة المؤثّرة ، كان متعلّقا بالمقدور ، وإذا أطلقت على المقدور ، كما في قولهم : انظر إلى قدرة الله تعالى ، فلا مقدور لها ، فلم يكن لها متعلّق ، فيكون مجازا. (١)
وهو ضعيف ، لاحتمال كون اللفظ حقيقة فيهما ، ويكون له بحسب إحدى حقيقتيه متعلّق دون الاخرى.
وبالجملة : التعلّق ليس من توابع كون اللفظ حقيقيّا ، بل من توابع المسمّى.
العاشر : صحّة النّفي دليل المجاز ، وعدمهما دليل الحقيقة ، فإنّه يصحّ نفي الحمار عن البليد ، ولا يصحّ نفي الإنسانيّة عنه.
قيل : إنّه يلزم الدّور (٢) ، لأنّ صحّة النفي لا تثبت إلّا بعد معرفة كونه مجازا.
الحادي عشر : التزام تقييده دليل على المجاز ، مثل جناح الذّلّ ، ونار الحرب.
الثاني عشر : توقّفه على المسمّى الآخر دليل المجاز ، مثل : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ)(٣).
__________________
(١) لاحظ المستصفى : ٢ / ٢٦.
(٢) القائل هو محمد بن محمود العجلي الأصفهاني في الكاشف عن المحصول : ٢ / ٣٨٠.
(٣) آل عمران : ٥٤.
الفصل السابع
في التعارض بين أحوال الألفاظ
وفيه مباحث :
الأوّل : انّه لمّا اتّسع مستعملو الألفاظ فيها بل الواضع نفسه ، فلم يقتصروا باللفظ على المعنى الواحد ، ولم يوجبوا ثبوته في موضعه ، بل جوّزوا تزحزحه عنه ، وحذفه بالكليّة مع بقاء ما يدلّ عليه التزاما (١).
وأفضى هذا الاتّساع بهم إلى تجوّز اتّحاد اللفظ مع تكثّر معناه كالمشترك ، وإلى انتقاله عن موضعه ، من غير إهمال له بالكليّة كالمجاز ، أو بالكليّة كالمنقول ، أو عن بعض موارده كالمخصّص ، وإلى حذفه مع قيام ما ينبئ عنه كالإضمار ، فكانت هذه الأشياء غير متضادّة ، بل يمكن اجتماعها في اللّفظ الواحد ، أو اجتماع عدّة منها ، وأمكن الاكتفاء بأحدها عن صاحبه ، وكان الاكتفاء ممّا يجب المصير إليه مع إمكانه.
لا جرم وجب النظر في أولويّة المكتفى به.
ولمّا كان اختلال الفهم إنّما يحصل بأمور خمسة :
__________________
(١) في «أ» : إلزاما.
الأوّل : الاشتراك.
الثاني : النقل العرفي أو الشرعيّ.
الثالث : المجاز.
الرابع : الإضمار.
الخامس : التخصيص.
والاقتضاء : إثبات شرط يتوقّف عليه وجود المذكور ، لا صحّة اللفظ.
وجب (١) النظر في التعارض بينها.
ودليل الحصر : أنّ مع انتفاء الاشتراك والنقل ، يكون اللّفظ موضوعا لمعنى واحد.
ومع انتفاء المجاز والإضمار ، يكون المراد باللّفظ ما وضع له.
ومع انتفاء التخصيص ، يكون المراد جميع ما وضع له.
وأنواع التعارض عشرة ، لحصول أربعة من المشترك والأربعة الباقية ، وثلاثة من المنقول والثلاثة ، واثنين من المجاز والباقيين ، وواحد من الباقيين.
فهنا مباحث :
[المبحث] الأوّل : إذا تعارض النقل والاشتراك ، فالاشتراك أولى ، خلافا
__________________
(١) جواب لقوله : «ولمّا كان».