رحلة ريج

كلوديوس جيمس ريج

رحلة ريج

المؤلف:

كلوديوس جيمس ريج


المترجم: اللواء بهاء الدين النوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

شيرين) حسب التخمين الإجمالي ٣٤ درجة و ٣٠ دقيقة و ٣٩ ثانية شمالية.

وفي اليوم التالي بعد أن مرت بنا ليلة قارصة البرد توجهنا نحو أطلال (حوش كه رو) التي لا يعرف عنها شيء حتى الآن. وهي واقعة في باشوية زهاو الكردية التي سبقت الإشارة إليها في (قزيل رباط). نهضت عند طلوع الشمس على الرغم من البرد ؛ وأثناء ما كانت الخيام تقوّض ، ذهبت لإلقاء نظرة على الأطلال التي نسيناها نهار الأمس ، إنها وراء القلعة من ناحية الخان وكانت قائمة فوق أعلى مرتفع في هذا المكان ، فوق جبهة التل المشرف على الخان. وكانت هذه الرابية مستديرة في أعلاها ، وقد بنيت من جميع أطرافها أو أحيطت بسياج تتخلله الفجوات. وكان بناؤها من الطابوق الأحمر الغليظ. أفلا يمكن أن تكون هذه «دخمة فارسية» أي المحل الذي يلقى عليه الموتى؟. أما التلال المجاورة فكانت من الجبسين ؛ والتربة حمراء سبخة في بعض الأماكن. وقد عثرت عند أسفل الرابية والخان على بقايا أساسات قديمة. لكنني على يقين من أنه لم تكن هنا بلدة. وإنما قصر للصيد ، كما أنني لا أعتقد أنه كان بناء داخل السياج عدا القصر الذي مر بنا وصفه.

امتطينا جيادنا في السابعة فشرعنا نسير في تلال موحشة بين العشائر الكردية التي كانت من عنصر أرقى من عشائر ماردين (١) ومررنا بإبل لأمير كرمنشاه كانت ترعى ، كما صادفنا جماعات عديدة من عشائر (زه نكه نه) مع عوائلهم. وكنا كلما مررنا بجماعة من الكرد أو مضارب لهم يصر سليم آغا على أن ينفخ جنودنا بأبواقهم زاعما أن ذلك «هيبتلي»

__________________

(١) كان المستر ريج وأسرته خلال إقامتهم في (ماردين) في رحلة سابقة من بغداد إلى استانبول قد تعرضوا إلى مصاعب بل أخطار من الكرد الرحل الضاربين بجوار البلدة. وهم أناس مشاغبون خارجون على القانون غدارون ـ الناشرة.

٣٨١

أي مما يزيد في هيبتنا. وبالحقيقة إنني أستطيع أن أؤكد لك بأني وجدت الأبواق تزيد في هيبتي أكثر مما لو أضيف إلى رجالي خمسون جنديّا آخرين. وقد صرح الكرد بأنهم عرفوا أنني ال «ايلجي» أي السفير ، من الأبواق التي ترافقني ، سيما أولئك الذين سبق أن تعرفوا إلى الجنرالين (مالكولم) و (يارمولوف). وعلى ذكر يارمولوف أقول إن كمنجاتيّا كرديّا عجوزا عزف لي رقصة قوزاقية قال إنه تعلمها من الجوقة التي كانت تصحب يارمولوف. أما على ذكر الأبواق فأقول إنه حدث في (حوش كه رو) أن اهتاج جوادي وانتصب واقفا على رجليه وهاجم جوادا آخر كان بالقرب منه فقابله هذا بالمثل. ومن جراء ذلك سقط حامل البوق الذي كان واقفا بين الجوادين على الأرض فوق الأحجار المتبعثرة. فخيل لمن كانوا معي أن قحف رأسه قد تهشم فصاروا يهنئونه على سلامته ، وقد قال : ـ «لم أكن خائفا على رأسي وإنما كنت أفكر بالبوق الذي أحمله إشفاقا عليه من الانفعاص» ؛ ولكنه لم يتعطب.

وصلنا إلى أطلال (حوش كه رو) في التاسعة والنصف. وكان الطريق إليها يتلوى بين التلال لكن اتجاهنا العام كان شماليّا بثمانين درجة إلى الغرب من (قصر شيرين). و (حوش كه رو) يشبه (قصر شيرين) الشبه كله ولكنه أقل تداعيا منه ، الأمر الذي سهل لنا رسم مخطط له. وهنا قابلنا بعض الكرد ال (بتاره وه ند) من أتباع أمير كرمنشاه وهم على جمال يفوق المعتاد ونشاط وأدب ، فقدموا لنا لبنا رائبا لذيذا وجبنا طريّا تمتعنا منه بأكلة شهية قبل شروعنا بفحص الأطلال.

وتتألف أطلال (حوش كه رو) أولا من سياج من جدران حجرية ذات شكل غير منتظم يتبع تموج الأرض. وهي أقل امتدادا من أسوار قصر شيرين ، غير أنها لا تضم أية خرائب. وعلى بعد نحو مائة ياردة إلى الجنوب توجد البناية التي جئت خصيصا لمشاهدتها وهي التي يطلق عليها (حوش كه رو) ويزعم بعض الكرد أنه المكان الذي كان (كسرى) يربي

٣٨٢

فيه أفراسه ، وأنه كان يجلب الحليب لتغذية أفلائه عن طريق قناة منقورة في الصخور لا تزال بعض آثارها ظاهرة على بعد نحو ساعة من (قصر شيرين) ، لكننا لم نجدها جديرة بالزيارة. أما كرد ال (بتاره وه ند) الذين كانوا معنا فيزعمون أن (حوش كه رو) كان قصرا أو حصنا لشابور. وكان طراز بنائه يشبه طراز (قصر شيرين) ولما كان أحسن حالا منه فقد أتاح لنا فرصة دراسته وتفهمه كما فعلنا (بقصر شيرين).

ويحتوي (حوش كه رو) كالبناء الذي سبق لنا وصفه صحنا أو رصيفا يستند إلى عقود تؤلف قاعات صغيرة معقودة أشبه بالأقبية أو السراديب وقد أصبحت اليوم مأوى شهيرا لقطاع الطرق. وكانت أحسن هذه الغرف حالا تلك الواقعة إلى الجهة الشمالية ، وقد علاها السخام من النار التي يوقدها اللاجئون إليها في فصل الشتاء. وشكل هذا الصحن المحدد من جهاته الأربع طولاني. وقد قمت بقياس جبهته الشمالية فوجدتها ثلاثمائة وأربعين قدما من ضمنها البناء الواقع على الواجهة الغربية ، أما ارتفاعه فكان خمس عشرة قدما ونصف القدم ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب يقدر بنصف طوله من الشرق إلى الغرب. وفي نهاية جبهته الغربية بقايا بناية القصر الذي دخلناه من منحدر يمكن الخيال أن يهبط منه. وإلى جانبي المنحدر ساحة صغيرة فوقها غرف معقودة. وبناية القصر عبارة عن أكوام من خرائب غرف صغيرة كلها مبنية بالصخور الرملية المستديرة ، وهذه الصخور تغطي الأرض في تلك المنطقة بكثرة مدهشة حتى سهل (بين كودره). وعند المنتهى الشرقي من الواجهة الشمالية والجنوبية مرقاة مزدوجة ، والساحة من أسفل الواجهة الجنوبية. وقد قال لي آغا سيد إن هذا البناء يذكره بالمباني التي يشيدها شاه إيران حيثما يعسكر بجيشه. وعلى بعد نحو مائة ياردة إلى الجهة الشمالية الغربية يوجد بناء غريب يستند إلى جدران السياج من الخارج ، وهو مفتوح من أعلاه ، ولا يزيد ارتفاع حيطانه على العشر أقدام. وهذا البناء يحتوي أولا على ساحة مكشوفة في جانبه

٣٨٣

الشرقي قياسها نحو سبعين قدما مربعا تحيط بها الأقواس من كل جانب ، ثم على ممرات ضيقة جدّا يظهر أنها كانت معقودة في أكثر أقسامها ، فإن قواعد أقواسها ما زالت قائمة ؛ ومن بعدها ساحة مكشوفة كالأولى ثم سياج أكبر. ويوجد في الشمال ممران ضيقان يحدهما سور السياج. ويصعب القول فيما إذا كانت هذه البناية جميعها مسطحة في الماضي شأن صحن القصر ، إذ إنني لم أشاهد في الساحة آثار أنقاض يمكن القول بأنها قد تساقطت من السطح لكن الممرات كانت معقودة بلا ريب.

وقد زعمت جماعتي في الحال أن هذا كان محل الخدم ، وفي الحقيقة أنهم زعموا أمورا اسوأ حدسا من هذا. وكانت البناية كلها من الصخور الرملية وكل ما شاهدته حتى الآن من الآثار الساسانية لم يترك لدي فكرة حسنة عن ذوقهم وعظمتهم. وأكبر ظني أن هذه الأطلال وتلك التي شاهدتها في (قصر شيرين) إنما كانت قصورا للصيد وحدائق نعرف أن ملوك الساسانيين كانوا يمتلكونها ، ولعل هذه الأبنية كانت فخمة المنظر يوم كانت محلاة بالنقوش الكثيرة ومموهة بالذهب ومزينة ، أما في حالتها الخربة الحالية فليس فيها ما يدهش. ولا توجد في هذه الأنحاء أطلال أخرى غير تلك التي وصفتها.

لم نقض ليلتنا في (حوش كه رو) وإنما غادرناها في الساعة الحادية عشرة فسرنا في سهل (باجه للان) من أعمال باشوية زهاو ، حيث تمكنت من تسجيل نقاط جغرافية مهمة ، وحل بعض الأمور المعقدة التي لم يمكن توضيحها بوسائل أخرى ، سيما تعقب مجرى نهر (ديالى) بكامله. وقد استأنفنا طريقنا فوق قمم الجبال حتى الساعة الواحدة ، حيث انحدرنا إلى السهل ، فشاهدنا نهر (ديالى) يتلوى بعيدا عن جهتنا اليمنى ، وعلى شاطئه تل اصطاعي مرتفع يدعى (شيروانه) وكان السهل على ما يظهر مزروعا جيدا ، فهنا أخذت نسبة التراب تزداد على كمية الصخور المدورة التي مرّ ذكرها.

٣٨٤

وفي الساعة الثانية إلا عشر دقائق بلغنا (بين كودره) وهي قرية كبيرة يملكها حسن آغا من رؤساء الكرد في (باجه للان). وقد هرع لزيارتي في خيمتي وكان يرتدي حلة قشيبة مقصبة بالذهب عليها عباءة من الفرو الثمين ارتداها لهذه المناسبة ، وكان يتكلم التركية بذلاقة وهو مضياف كبير لم يسمح لي بشراء أي شيء من قريته باعتباري «مسافره» أي ضيفه الخاص. وفي اللّيل خرجت القرية بأجمعها لرقصة الدبكة «الجوبي» على أنغام الطبل الكبير والمزمار. ولزيادة أنسنا جعلوا سليم آغا ينضم إلى حلقتهم. وقبل أن يبدأ الاحتفال قدم حسن آغا لزيارتي وقد تم الاتفاق على أن يعد رمثا «كلكا» نتمكن به من عبور ديالى الذي يبعد نحو نصف ساعة عن هذا المكان (١).

امتطينا جيادنا في الساعة السابعة من الصباح التالي ، وهنا ودعت دليلي الكيس سليم آغا فعاد إلى خانقين. أما أنا فقد سرت مع رئيس هذه المنطقة نحو (ديالى) التي بلغناها بعد ساعة من الزمن. وكان طريقنا إليها مستنقعا كونته مياه النهر الفائضة. وقد شاهدنا كثيرا من أشجار الصفصاف والحور ، وبعد مغادرتنا القرية مباشرة مررنا بأكوام من الخرائب تدعى (قطار ته به سي) (٢) أي تل الحجل ، وقد زعموا بأن (أنوشيروان) كان يضع بغاله هنا ؛ وقد شاهدنا أطلال أبنية كثيرة على طول نهر ديالى.

وحالما بلغنا نهر ديالى عبرته جيادنا سباحة بمساعدة بعض العربان ، وأعد رمث «كلك» لعبورنا نحن وأمتعتنا. ولما كان الرمث صغيرا فقد

__________________

(١) إن المسافة بين (بين كودره) وزهاو تسع ساعات ، وإلى خانقين بطريق الجبال مباشرة ثلاث ساعات. و (بين كودره) تقع على الجنوب ٨٠ درجة غربا من (حوش كه رو) وهي معدودة من الأراضي الإيرانية.

(٢) لم يتحقق المترجم تركية هذه التسمية. ولعل أن تكون كلمة (قطار) جاءت غلطا من (القطا) وعندئذ لا يصح ترجمتها ب (تل الحجل). والقطا في التركية «باغرتلاق».

٣٨٥

اضطررنا للعبور بالتناوب الأمر الذي أخرنا زهاء خمس ساعات. وكان عرض النهر الرئيسي حوالي أربعمائة ياردة. وقد أعلمنا الزعيم الكردي بأنه في موسم الفيضان يصبح عرضه ميلا ونصف الميل ، عدا ما يصب منه في المستنقعات التي مرّ ذكرها. وقد وجدت القطن والتبغ يزرعان في الأراضي المجاورة ، وكان العرب من قبائل (بني عجيل) و (العزة) ضاربين على شواطىء النهر. والرمث الذي عبرنا النهر عليه كان من عمل أفراد العشيرة الأخيرة ، ويقبض (حسن آغا) بدل التزامه مبلغا يتراوح بين المائتين والثلاثمائة قرش. وقد تم نقلنا جميعا بسلامة على الرغم من وهن الرمث وشدة تيار النهر الذي كان أشبه بالماء المتدفق من فم الخرطوم.

وكان أحمد آغا (١) قد تولاه الذهر لمجرد التفكير في مهمة عبورنا على هذه الشاكلة. فلما رأى أننا قد عبرنا بسلام طفق يجهش بالبكاء ويقول : «آه يا سيدي كنت أرجح أنك تسير خمسة أيام على عبورك ـ ولعله كان يقصد نفسه ـ هذا النهر الرهيب. أما (جيت سنغ) (٢) فكان يتمتم طيلة مدة عبورنا البسملة : ـ «بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله الرحمن الرحيم».

عدنا إلى الركوب في الجانب الأيمن من النهر في الواحدة والنصف فمررنا أولا فوق تلال ثم انحدرنا إلى أرض رسوبية وبعض الأراضي التي كانت قد غمرتها المياه سابقا فبلغنا قرية (زه نكه باد) (٣) وهي مسقط رأس ابن الكيوانة (٤) لكنه كان غائبا ، وكان وكيله رجلا

__________________

(١) أحد خدم المستر ريج.

(٢) أحد خدم المستر ريج ، وكان هندوكيّا فأسلم.

(٣) ٣٠ درجة إلى الجنوب الغربي.

(٤) «كيواني» لقب رئيسة الخادمات أو «دووأننا» في حرم باشا بغداد ـ الناشرة.

(و «دوأننا ـ Duenna» كلمة فرنسية ، تعني القهرمانة ـ المترجم).

٣٨٦

مؤدبا. وعلى بعد ثلاثة أميال من القرية شاهدت على الشاطئ الأيسر وتحت سلسلة التلال مباشرة ، قرية (ده كه) وهي على بعد ساعة من (زه نكه باد).

كان وصولنا في الساعة الرابعة والربع ، فوجدنا الحاكم قد خرج لسرقة الأغنام حسب العادة المتبعة في الحدود. ويبلغ بدل التزام (زه نكه باد) ٠٠٠ ، ٥٥ قرشا سنويّا. وهي تقع على بعد ميل واحد بخط مستقيم عن نهر ديالى الذي شهدناه يتلوى على يسارنا على بعد يسير منذ أن عبرناه بجوار (بين كودره) ، وهو يجري باتجاه شرقي على مقربة من قرية (زه نكه باد). وقرية (زه نكه باد) قاعدة ذلك الإقليم بلدة حقيرة ، تكاد أن تكون مهجورة ، وأكثر من نصفها خرب ، وقد كانت أحسن حال فيما مضى كما تدل عليه بقايا حمام ومسجد كان قد بناه سليمان باشا جد عبد الرحمن ، باشا السليمانية ، وقد أقمنا في هذا المسجد ؛ وقد ذكر فيه اسم المسيح للمرة الأولى (١).

وإلى الشمال ، على بعد بضع مائة ياردة عن القرية شاهدنا طنفا مرتفعا مربع الشكل يدعى «قه لان ته به سي» وإلى جواره طنف آخر أصغر منه يشبه تلال أطلال معبد بابل. ولا يستخرج الطابوق من هذين الطنفين ولكنه يستخرج بكثرة من الجانب الآخر من القرية حيث توجد تلال عديدة كلها أطلال تدعى «خست كه ن» والظاهر أنها آثار بلدة قديمة.

والجو في هذه الأراضي المنخفضة مزعج جدّا بسبب المستنقعات وكثرة المياه. وعلى بعد ميلين من غربي (زه نكه باد) توجد قرية مماثلة تدعى (مه نايتوه) تكتنفها أشجار النخيل وجوّها مزعج بصورة خاصة ،

__________________

(١) يظهر لنا أن المستر ريج يتجاهل أو أنه يجهل منزلة السيد المسيح في الإسلام وعند المسلمين ـ المترجم.

٣٨٧

وفي هذا الإقليم قرى عديدة أخرى هي عبارة عن مجموعة أكواخ من طين حقيرة مسقوفة بالقصب.

لقد عانينا الأمرّين طيلة يومنا من شدة الحر. وشعرت بالتعب بعد مسيرة ثلاث ساعات أكثر مما كنت أشعر به بعد مسيرة عشر ساعات.

بارحنا (زه نكه باد) قبيل الساعة السابعة ، وفي التاسعة بلغنا (كوشك زه نكي) المنسوبة على ما يظهر إلى الأتابكة ، وقيل لنا إن فيها بعض الخرائب. ولقد وجدنا هذه عديمة الأهمية وهي مؤلفة من حطام طابوق خشن وأساسات من الطابوق فوق قمة طنف مستدير. وأخبرنا بوجود أطلال على بعد يسير حيث يوجد كثير من الرخام ، لكننا لم نذهب لمشاهدتها. إن رواية الناس في تاريخ الخرائب الموجودة في هذه النواحي مما يمكن الركون إليها بوجه عام ، وعلى الأقل فيما يتعلق بعهدين من عهود التاريخ هما العهد الذي سبق النبي محمد والعهد الذي خلفه. فهم لا يعرفون سوى عهد الكاوور (الكفار) وعهد المسلمين ؛ وعلى هذا فهم قلّما يخلطون بين آثار العهد الأول والثاني.

تركنا التلال إلى يميننا وتوجهنا نحو (كفري صو) (١) ، وهو أحد مجاري الماء التي تنحدر من هذه الجبال نحو سهل (كفري) ، حيث تستهلك في إرواء الزروع. فبلغنا النهر في الساعة الحادية عشرة فوجدنا قعره مجموعة عظيمة من الحصو تخترقها ساقيتان أو ثلاث من الماء الرقراق.

وكانت التلال المار ذكرها تعترض طريقنا وشاهدنا مجار عديدة واسعة للجداول المنحدرة منها كانت في هذا الوقت يابسة ، ويبلغ عرض بعضها بضع مئات من الياردات.

__________________

(١) ٣٠ درجة إلى الشمال الغربي.

٣٨٨

استأنفنا طريقنا بين الجبال وشاهدنا إلى يميننا (اون ايكي إمام) حيث توجد ينابيع للنفط على بعد مسيرة ساعة ونصف من هنا «كفري» فبلغناها بعد الظهر بقليل وقد برح فينا الحر ، ولم أكد أتمتع بقسط من الراحة حتى شرعت أكتب إليك هذه القصة. وقد كانت المرحلتان الأخيرتان اللتان قطعناهما رهيبتين من شدة الحر مع أننا قد وصلنا إلى هنا في الساعة الثانية عشرة والنصف. إن رجالي كلهم منهوكون تعبا ، أما أنا ، فلله الحمد ، بصحة جيدة وإن كنت شديد العناية بأن لا تفوق أتعابي ما تتحمله قوتي.

ولقد حللنا هنا في نفس المكان الذي حللناه عند سفرتنا إلى استانبول ، وقد كدت أبكي عندما شاهدت الشجرة القائمة إلى جانب الجدول الصغير في باحة المكان حيث تناولنا طعام الغداء معا في سفرتنا الخالدة تلك (١).

وقد أصبحت بلدة (كفري) أكثر تداعيا ونفوسها أقل عددا منذ كنا فيها. وقد استغرب الناس عندما عرفت طنفا لم أره منذ سبع سنوات ، وكنت قد شاهدته من طرق مختلفة. وعلى بعد نحو الميل عن البلدة اكتشف الناس مؤخرا ينبوعا للنفط.

يا ترى هل أنت على استعداد لرحلتنا المقررة إلى كردستان؟ ليس لدينا وقتا نضيعه لأن الشمس تكاد تشويني ، كما أنني لن أوافق على السفر ليلا. ولقد سجل المحرار اليوم في خيمتي ٩٠ درجة في الساعة الثانية والثالثة بعد الظهر.

سيغادرنا الليلة أو صباح الغد محمود بك رئيس خدم القصر وأرجو أن يسلمك كتابي هذا. إنه يجتاز بعض المصاعب فافهميها منه وانظري

__________________

(١) يشير هنا إلى المرحلة التي قطع فيها المستر ريج وزوجته ١٥٠٠ ميل في رحلتهما من بغداد إلى استانبول على ظهور الخيل في سنتي ١٨١٤ ـ ١٨١٥ ـ الناشرة.

٣٨٩

إذا كان باستطاعة أحد أن يساعده. إنه صديق مسكين ذو قلب طيب. درجة الحرارة في خيمتي ٩٠.

كفري (١) ، ٢٨ آذار :

أصبحت توّا أسعد رجل في العالم عندما تسلمت كتابك المؤرخ في ٢٣ منه ، بعد حفلتك المفرحة. وقد كان مرورنا في هذه النواحي من السرعة بدرجة أن رسولك العربي صار يبحث عني حيث لا أدري حتى عثر عليه أخيرا سليم آغا في مكان ما وأرسله إليّ صحبة حارس ورسالة رقيقة ، وبذلك أضاف حملا جديدا إلى المعروف الذي سبق أن طوق به عنقي. حقّا إنني لم أستطع أن أجد اللفظة الإنكليزية المناسبة ، لذلك استعملت لفظة اقتبستها من لغة أهل الغال. فإن أفكاري أسرع من أن يلحق بها قلمي. ويظهر من سياق رسالتك أنك كنت قد كتبت إليّ رسالة أخرى قبل هذه جوابا إلى كتابي إليك من بعقوبة. فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون (إسماعيل كوسيد) قد تسلّمها ، وأنه سيرسلها رأسا إلى (ويللوك) ، أو أن أحد العربان ما زال يبحث عني في عرض الصحراء ، أو لعله سقط أسيرا بيد أمان الله خان وكرده. إننا كنا ننتقل بسرعة البرق بين الجبال وبين السهول بحيث كان من الصعب اللحاق بي بعد مغادرتي (خانقين). فكأنني قد غطست في خانقين وظهرت ثانية في كفري.

إن ميناس قد أرفق رسالتك بعلبة كبيرة من البسكويت. وقد ظهرت على وجه (كورد اوغلو) الرزين تقطيبة رهيبة استعاض بها عن ابتسامة استخفاف عندما شاهد محتويات العلبة وهو يفتحها ، محتويات تلك العلبة التي أرسلت من بغداد على وجه السرعة.

وفي الليلة نفسها التي ثارت عندكم العواصف ، مرت بنا عاصفة

__________________

(١) تقع كفري عند الممر إلى كردستان تماما وهي محاطة بسور من طين.

٣٩٠

مماثلة كانت تهب من الجنوب الشرقي ونحن في خانقين. لكن الريح انقلبت ريحا شمالية غربية حالما غادرنا حدود باشوية بغداد في خانقين. على أننا لم نكد ندخل هذه الحدود ثانية في (زه نكه باد) حتى عادت الرياح تهب جنوبية غربية ، ومن ثم اشتد الحر الذي لا يطاق. وقد سجل المحرار اليوم ٨٩ درجة.

قمت اليوم بنزهة جميلة في الأراضي الأميرية في (كفري). وهي واقعة على بعد بضع مئات من الياردات وراء المدينة حيث تكوّن روافد (كفري صو) الرئيسية الممر الذي يؤدي إلى كردستان ، باختراقها طريقا في تلال الجبسين المحيطة بكفري. وإلى الجهة الشمالية من المضيق يشق النهر تلّا عاليا إلى شقين عموديين يبلغ ارتفاعهما زهاء مائتي قدم. وهناك نهر آخر يقال إن مياهه أكثر عذوبة تندفع على نفس القهر الحصباوي وإن كانت تأتي من ينبوع آخر على بعد نصف ساعة وتتصل بالنهر الأول عند الرابية ؛ وهذان النهران في مثل هذا الموسم من السنة عبارة عن ساقيتين لا شأن لهما. لكن القعر الحصباوي العظيم الذي يشغل المنخفض الواسع برمته يدل على أن الفيضان المفاجىء يكون عادة شديدا هائلا ، بحيث إن سيوله تدحرج من أعالي الجبال قطعا كبيرة من صخور الجبسين قدرت وزن كل منها بطن واحد. والقمة المواجهة لكفري عمودية تنتهي بالسهل مباشر لكنها أقل هدودا من جبال كردستان.

والناس هنا يمتدحون ماء كفري كثيرا ويقولون إنه يساعد على الهضم. أفلا يمكن أن يكون ذلك ناشئا عن مروره فوق أرض متشعبة بالنترات والجبسين التي تجعل فيه خصائص إسهال خفيف؟ والحقيقة إنني وجدت الماء خفيفا عذب المذاق ليس فيه الثقل الذي نحسه في مياه الصخور ، فإن هذا الماء لا طعم له.

وقد أصر جماعة من مهرجي (ده لي دومه ن) على أن يمثلوا أدوارهم أمامنا هذه الليلة. وهؤلاء على ما أظن ينتمون إلى الغجر

٣٩١

ويعرفون في بعض أنحاء إيران باسم (ته ت) وهم أشبه بالبازكارية في الهند. أما تهريجهم فعبارة عن ألعاب قبيحة يسرّ لها الأتراك كثيرا ؛ على أن بينهم بعض الموسيقيين البارعين.

إن ساعيك العربي ينتظر رسالتي هذه ليشرع في طريق عودته بعيد حلول الظلام. ولا شك أنه اعتاد مثل هذه السفرات غير الاعتيادية. أما خطتي في الوقت الحاضر فهي مشاهدة كسوف الشمس نهار الغد هنا ، وفي اليوم التالي نشرع بعودتنا إلى بغداد فنمضي ليلة في (قه ره ته به) وهكذا نقسم طريقنا إلى مراحل قصيرة تفاديا لحر النهار.

٢٩ آذار :

خرجت صباح اليوم لمشاهدة الرابية الجبسينية فتسلقتها حتى القمة ، وهناك على الرغم من كثافة الأفق سجلت مزولتي عدة نقاط.

والجبال التي اخترقناها بطريقنا تمر إلى الجنوب من كفري ، والطريق الآتية من بغداد تقاطعها هناك ومن ثم تنخفض فتتلاشى نحو الصحراء في نقطة اجتيازنا الطريق خلف موقع (اون ايكي إمام). أما سلسلة كفري فهي متكسرة نهود في اتجاه بغداد ، وفي نواحيها سلاسل ثانوية من الجانب الآخر طريق (طوز خور ماتي) (١). والجبال في هذه النواحي جبسينية قليلة التربة وهي مزروعة في بعض نواحيها. وفي الجهات المقابلة أي الجنوبية الشرقية من المنخفض تتألف القمم من التراب والحصى وقد انحدرت أكوام كبيرة منها إلى المنخفض. والحصى هنا أنواع عديدة ، وهو مسبوك في التراب على هيئة كتل متراصة ، والأرض مكسوة بالحصو يمازجه الجبسين. وتنمو مقادير كبيرة

__________________

(١) تستقي طوز خرماتو من آق صو وهو نهر صغير ينبع من كردستان ويمر بإبراهيم خانجي.

٣٩٢

من الأزهار البرية هنا ، بعضها طيب الرائحة ، ومن بينها الشقائق وزهر الخشخاش البري القرمزي البديع ؛ وتحوم حولها الحباحب أو ذباب الأحراش.

إن أجود الأراضي الزراعية في منطقة (كفري) واقعة في (اسكي كفري) ، لأن الأراضي المجاورة للبلد كثيرة الأحجار لا تصلح للزراعة الواسعة. وفي موسم الربيع وحتى يتم الحصاد يخرج أهالي كفري إلى اسكي كفري فيقيمون في الخيام السوداء ، ومعهم نساؤهم وأولادهم.

وفي الليلة الماضية هب نسيم عليل من الناحية الجنوبية الشرقية لكنه انقلب اليوم إلى عاصفة هوجاء من الناحية نفسها تحمل سحب الغبار الأمر الذي أخشى أن يعيقني عن عملية الرصد هذه الليلة.

وقد سجل المحرار في خيمتي ٩١ درجة في أشد ساعات النهار حرارة.

٣٠ آذار :

غادرنا (كفري) في السابعة إلا ربعا صباح اليوم فمررنا بجبلين واقعين إلى ٢٢ درجة من الجنوب غربا وبعد الثامنة بقليل مررنا بجبلين صغيرين يدعيان (تل ـ ايشان) ، ثم عبرنا (كفري صو) وهو الآن يابس ليس فيه سوى مجراه المملوء بالحصى. وكان السهل هنا أبيض بفعل السبخ الذي يكسوه كأنه الثلج. وقبيل الساعة العاشرة بلغنا (جمن كوبروسي) ـ جسر جمن ـ وهي قنطرة جديدة جيدة فوق (جمن) الجدول البطيء البشع المملوء بالقصب الذي يبلغ ارتفاعه نحو خمسة عشر قدما بحيث لا يكاد الماء يرى من خلاله. أما الماء فمملوء بالعلق. ولا شك أن الفيلسوف الوارد ذكره في قصيدة الشاعر (وردزورث) كان يجد لنفسه هنا عملا متيسرا. والناس هنا يأكلون لب القصب الأخضر من كعوبه. وقد مررنا ببعض مضارب للعرب يرعون أغنامهم في مراعيها.

٣٩٣

توقفنا عند (جمن كوبروسي) زهاء الساعة ونصف الساعة ثم استأنفنا مسيرنا باتجاه شرقي ١٥ غربا نحو (قه ره ته به) فممرنا بسلسلتين من الجبال بينهما واد أو قعر. وتقع (قه ره ته به) عند سفح السلسلة الأخيرة فبلغناها في حوالي الساعة الثانية إلا ربعا ، وتبلغ هذه المرحلة مسيرة سبع ساعات. وقد شاهدنا اليوم قطيعا كبيرا من الغزلان. وشاهدنا إلى يسارنا عند دخولنا البلد مقبرة فيها عدد من القباب الصغيرة كانت تظهر كأنها قرية.

وقد بلغ بدل التزام (قه ره ته به) من الحكومة هذه السنة أربعين ألف قرش. وهي تستقي من قناة تأتيها من (ديالى) في أعلى (زه نكه باد) وأهم حاصلاتها القطن والذرة أي الحبوب الهندية ويزرع فيها مقادير قليلة من الرز.

ويدّعي أهالي (قه ره ته به) بأنهم من التركمان وهم يتفاهمون باللّغة التركية وحدها. وبين سكانها عدد من العلي اللهية والإسماعيلية أو (جراغ سونديره ن).

كان اليوم رائقا باردا والهواء يهب عليلا من الناحية الشمالية الغربية. وقد سجل المحرار ٨٢ درجة.

٣١ آذار :

ركبنا صباح اليوم في الساعة السابعة إلا ربعا. وسرعان ما اختفت آثار الزروع ودخلنا سهلا قاحلا ليس فيه إلا بعض الأعشاب المتبعثرة ، والباقي أرض سبخة كثيفة كأنها مغطاة بالثلوج.

توجهنا نحو الجنوب إلى جسر (نارين) فبلغناه في حوالي الساعة الثامنة. وهو جسر جيد قائم على ست عقود من بناء سليمان ، باشا بغداد. ومن ثم اتجهنا إلى اتجاه جنوبي ب (١٥) درجة غربا نحو جبال حمرين

٣٩٤

فكانت هذه إلى يميننا و (نارين) إلى يسارنا. وبقينا نسير باتجاه جنوبي غربي نحو سفح الجبال فبلغناها في الساعة العاشرة والنصف. ووجدنا أقسامها الأولى مؤلفة من الحصاة والتراب وهي تتدرج علوا خفيفا ، فبلغنا قمتها في الحادية عشرة إلا ثلثا وهي أعلى الأراضي المحيطة بنا ، ورصدت بمزولتي نقاطا عديدة. وكان للأراضي المحيطة بنا كما شاهدتها من أعالي القرية منظر فريد. فقد كانت سلاسل التلال تظهر كأنها جبال محطمة تتعاقب على شكل موجات بحر جمدت أمواجه فجأة. وكان نهر (ديالى) يظهر جليّا على بعد قليل من المضيق ، وهو يتلوى ويأخذ مياه (نارين). فلما تقدمنا إلى الأمام أخذت تبدو أمامنا الصخور الرملية وهي دائما على طبقات مائلة نحو الجانب الشمالي من الجبال ، وكانت قطع هذه الصخور البارزة من التلال ، في أماكن عديدة ، مستديرة متموجة كأن مياه البحر قد نحتتها فصقلتها.

ورأيت في مكان آخر طبقة من الطلق حملت معي أنموذجا منه. وأخيرا أصبحت الأرض كلها صخورا رملية وانتهت الجبال بسلاسل كثيرة متوازية. وكان بعضها حديث العهد لا يزيد ارتفاعها عن الأرض أكثر من عشرة أو اثني عشر قدما. وفي الجبهة الجنوبية تلال غير منتظمة تنحدر إلى الأرض نحو الجهة الشمالية وقد شق أحد باشوات الترك بين إحدى هذه السلاسل طريقا ضيقة قبل زمن بعيد. ويظهر مما لاحظته في الكتابة المنقوشة على الحجر كما أتذكر أن هذا الباشا كان يدعى حسن. هذا والسبخ منتشر هنا في بعض الأماكن.

غادرنا هذه الجبال القبيحة المنظر عند الظهيرة ، وكان طريقنا باتجاه جنوبي تقريبا. وقد تركنا واجهة الجبل الجنوبية إلى يسارنا وأخذنا اتجاه جنوبي شرقي (٤٠) درجة إلى (ادنه كوى) فبلغناها في الساعة الواحدة والثلث ، وتقدر هذه المرحلة بثماني ساعات.

و (أده نه كوى) قريبة من مجرى الخالص وهي قرية كبيرة على

٣٩٥

مقربة من (ديالى) كانت فيما مضى أكثر ازدهارا وفيها جامع ومنارة ، وبدل التزامها في هذا العام (٠٠٠ ، ٢٠) قرش.

وقد أعد لنا وكيلنا دارا في القرية فوجدنا فيه عددا كبيرا من دود القز دائبا على عمله ، لكن الرائحة قد أثرت في رأسي فاضطررت أن أهجر البيت إلى الحديقة حيث ضربت لي خيمة فشعرت براحة كبيرة.

وأهل هذا المكان من التركمان وهم من السنّة والشيعة ومن مطفئ الأضواء ؛ وهنا ينتهي التفاهم باللّغة التركية. فالأهلون من هنا إلى بغداد من الفلاحين والقرويين العرب. وقد صادفنا في طريقنا اليوم بعض الأعراب من عشيرة المهدوية (١) كما صادفنا في سهل (قه ره ته به) مضربا لعشيرة (الكروية) العربية ، وقد خرج زعيمها بقصد مرافقتنا كحرس شرف ومعه ستة من رجاله كلهم فرسان مسلحون ؛ لكنني صرفتهم بلطف. وقد سجل المحرار ٨٢ درجة.

١ نيسان :

غادرنا (اده نه كوى) في الساعة السادسة والنصف فلاحظت عن بعد آثار خيالات غريبة تتحرك. فعلمت أنها جيوش جرارة من الجراد قد ملأت الأرض بلون أصفر لماع. وبعد أن غادرنا القرية بلغنا نهر (ديالى) وصرنا نتعقب شاطئه بمسيرنا. وقد شاهدنا على عرض النهر سدودا مصنوعة من الحطب غايتها رفع مستوى الماء لإسقاء الجداول الكثيرة التي كانت تقاطع طريقنا في كل ناحية. ودأبنا على المسير باتجاه غربي نحو الخالص وهو أكبر قناة رأيتها ، وكانت تجري إلى يسارنا ووراءها نهر ديالى. فمررنا بمرقد (السيد مبارك) وهو مقام للزيارة.

__________________

(١) علمت بأن كافة قصابي بغداد ينتمون إلى هذه العشيرة. انتهت الحاشية ، وصحيحها (المهدية) ، وهي من القبائل القيسية كالكروية.

٣٩٦

وبعد الساعة الثامنة بقليل وصلنا إلى (ده لي عباس) حيث توجد قنطرة رديئة على الخالص ، وأخذت القرى الواقعة في هذه المنطقة تظهر في الأفق الواحدة تلو الأخرى. كذلك كانت قرى خراسان ظاهرة للعيان على الجانب الآخر من ديالى. وكان طريقنا في بادىء الأمر باتجاه ٥٥ درجة جنوبيّا غربيّا ، ومن ثم ٢٠ درجة جنوبيّا غربيّا. وفي الساعة العاشرة والنصف بلغنا (جوبوق) وهي قرية عربية حقيرة عندها قنطرة فوق جدول صغير من توابع الخالص ويأتي من ناحية (سراجق). ويصب هذا الجدول في (ديالى) مقابل (بويوك أبي صيدا) على مقربة من ديالى ولا تبعد عن (جوبوق) إلا بضع ياردات. وهذا الجدول عبارة عن مصرف لمياه نهر ديالى عندما تفيض فجأة فيضانا عاليا. وعندئذ يفتح صدره لصد قوة المياه التي لولاها لكانت تحدث بنهر الخالص أضرارا جسيمة ولغرقت الأراضي المجاورة وتلفت الزروع وما يزيد من مياه العظيم (١) يصب في هذا الجدول عند (جوبوق).

٢ نيسان :

لقد اضطررنا طيلة الليل أن نحترس لأنفسنا من اللصوص الذين اشتهرت بهم هذه المنطقة. وعند الصباح هبت النسمات العليلة من الناحية الشمالية الغربية فتغير الجو ورحلنا في الساعة الخامسة والنصف ونحن أشد ما نكون نشاطا ومرونة ، فوجهنا طريقنا نحو (خان مصبح) الواقع إلى الغرب منا ، وصرنا نتعقب مجرى (ديالى) الذي كان يتلوى قريبا عن يسارنا.

__________________

(١) جاءت في الأصل» Azemia «فأرجعت إلى العظيم. وأخبرني الأستاذ عباس العزاوي «بأنه لا يفيض نهر (العظيم) إلى ما ذكره المؤلف ، وإنما تتجمع سيول جبل (حمرين) من جهة (العظيم) في محل يقال له (أبو فراش) ، فإن كثرت مياه أبي فراش فاضت إلى المزارع العديدة وأغرقتها. وحينئذ يسد صدر (الخالص) وتوجه المياه إلى نفس مجراه بالقرب من جدول (جوبوق) فتصب في (الخالص) تصريفا للمياه» ـ المترجم.

٣٩٧

وفي الساعة الثامنة إلا ربعا وصلنا إلى (خان مصبح) ، حيث ترجلنا لتناول القهوة ورصد بعض النقاط بالمزولة. وفي الساعة الثامنة والنصف غادرنا الخان وبعد الساعة العاشرة بقليل شاهدنا النهروان الرائع يمر باتجاه شمالي غربي ب (١٠) درجات وكانت (خرنابات) تبعد نحو الميل عن شرقنا. وبعد مسير ساعة بلغنا بعض الأقنية اليابسة الموازية للنهروان ومنها بلغنا مرقد (السيد محسن) وهو مزار على جدول صغير يأتي من (الخالص) ، وعند الظهيرة وصلنا إلى (طوبراق قلعه) وهو طنف مربع قليل الأبعاد ويسمى أيضا (مجيليبة). وعلى مسافة قليلة من شماله شاهدنا بعض الأطلال حيث وجدنا بعض الناس منهمكين باقتلاع الطابوق منها وإرساله إلى بغداد لتعمير بستان يوسف بك (١) وكانت على بعض هذا الطابوق علامات تشبه رسم الأصابع الخمس وعلى بعضها دائرة مشوهة يظهر أنها رسمت عليها بالأصابع عند ما كان الطابوق طريّا. وكان الطابوق خشنا ولم يكن بحجم طابوق بابل ، ومقاديره في هذا المكان عظيمة. وأغلب ظني أن هذه الأطلال ساسانية ، فقد وجدت بها شبها بالأطلال التي شاهدناها في (قالان ته به) في (زه نكه باد) وغيرها من الطنوف الاصطناعية في هذه الأنحاء.

وفي الساعة الثانية إلا ثلثا بلغنا قرية (الحويش) وقد جئناها من طريق غير مطروقة أغلبها صحراء قاحلة مجدبة لم نجد فيها ما يستحق الاعتبار كثيرا أو قليلا سوى خنزيرة برية هائلة الحجم يتبعها ستة خنازير.

كان النهار لطيفا منعشا وقد سجل المحرار ٧٧ درجة.

٣ نيسان :

غادرنا الحويش في الساعة السادسة والنصف فبلغنا دار المقيمية ببغداد عند الظهيرة.

__________________

(١) هو الابن الأكبر لباشا بغداد.

٣٩٨

الملحق الثالث

معلومات مستقاة من الأهلين ، عن الجزيرة

والبلاد المجاورة لها (١)

ملحوظة : قد لا يكون للمعلومات التالية في زمننا هذا خطورة جغرافية ،

ولكن رأى المترجم أن يثبتها كما هي.

* * *

هناك قسمان من الكرد ضمن منطقة حكومة الجزيرة وهما (البوهتانيون) أو (البوتانيون) و (الآشيتيون). و (الآشيتيون) يقطنون بوجه عام السهول جوار (نصيبين) وجبل آغا ـ جيم فارسية ـ ونظرا لما أصاب الحكومة من وهن مؤخرا فقد أصبحوا أقوياء ، أشداء المراس.

جوميش كه زه ك ـ إمارة كردية ، تبعد عن (أرغني) اثنتي عشرة ساعة بالقرب من بحيرة (كول باشي) ـ كاف فارسية ـ في جبل طوروس.

جه رنه ك ـ جيم فارسية ـ إمارة كردية أخرى تبعد عن (أرغني) ثماني ساعات عند جبل طوروس.

عائلة بايزيد ، من عشيرة سيبكي.

__________________

(*) وهم يسكنون في الوقت الحاضر جبل (الطور) ـ المترجم.

٣٩٩

فنيك ـ حصن يقوم في شمال الجزيرة على مسافة أربع ساعات ، وعلى الضفة الشرقية من دجلة (١).

ايس ـ على مسافة أربع ساعات من شرقي دجلة و (فنيك).

به شيرو ـ بشيري ـ تتبع إلى ديار بكر وهي على مسافة ست ساعات على طريق (رضوان) حيث يقطن الكرد البرازيون.

زه ركي ـ كاف فارسية ـ تقع بين (بتليس) و (سعرد) و (موش) وهي منطقة ، مقرها (ده رزه ني) وتبعد أربع ساعات عن (سعرد).

روزه كي ـ بالزاء الفارسية (وصحيحها روسكي ـ المترجم) ، قبيلة كبيرة تقطن حوالي (بتليس).

وعلى مرحلة واحدة من سيللوك ، مزار مسيحي كبير اسمه (جه ن كه دي ـ Chengede) أو جه ن كه للي ـ Chengelli) ، وهنا أيضا دير (سوورب قارابت) وهو دير القديس يوحنا المعمدان. وهو يبعد عن (موش) ست ساعات بالقرب من (ميغاكيات) ، وهو رافد يصب في الفرات. وهذا الدير مزار له شهرته العظمى بين الأرمن بعد (جه مبازين) ، فهم يذهبون أولا إلى (قيصرى) ، وفيها دير شهير ، اعتقادا منهم أن رأس القديس يوحنا مدفون فيه ، ثم يأتون إلى (جه ن كه دي) ومن بعدها يتجهون إلى (جه مبازين) ، ويروون عن الدير الرئيسي الكثير من القصص الخرافية ، فالقديس هناك مشهور بتعليم الناس الفنون والتجارة كلها ـ إلا الموسيقى ـ ولا يسمح بدنو النسوة منه إكراما ل (هرودياس ـ Herrodias). وفي الدير بئر عميقة تتعالى منها أصوات الجان المحبوسين كما يدّعي الأرمن ، وتشاهد حولها الأنوار في

__________________

(١) يذكر آميانوس في الصفحات ١٥ و ١٨ و ٢٦ من كتابه العاشر ، (به زاب ده) ـ بازبدي ـ (في نيك).

٤٠٠