السيّد محسن الحسيني الأميني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦
الماء والتمر (١).
وعن أبي هريرة قال : والذي نفسي بيده ما أشبع رسول الله صلىاللهعليهوآله أهله ثلاثة أيّام تباعاً من خبز حنطة حتّى فارق الدنيا (٢).
وعنه أيضاً قال : جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى بيوت أزواجه فقلن : منا عندنا إلّا الماء.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من لهذا الرجل الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب عليهالسلام : أنا له يا رسول الله صلىاللهعليهوآله؛ وأتى فاطمة عليهاالسلام فقال : ما عندك يا ابنة رسول الله؟ فقالت : ما عندنا إلّا قوت الصبية لكنّا نؤثر ضيفنا.
فقال علي عليهالسلام : يا ابنة محمّد ، نوّمي الصبية ، واطفئي المصباح ، فلَمّا أصبح علي عليهالسلام غدا على رسول الله صلىاللهعليهوآله فأخبره الخبر ، فلم يبرح حتّى أنزل الله عزّوجلّ هذه الآية : «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٣) (٤).
وقال الواحدي نزلت هذه الآية : «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا» (٥). في علي عليهالسلام قال عطاء ، عن إبن عبّاس : وذلك أنّ علي بن أبي طالب رضى الله عنه نوبة آجر نفسه يسقي نخلاً بشيئ من شعير ليلة حتّى أصبح ، وقبض الشعير وطحن ثلثه ، فجعلوا منه شيئاً ليأكلوا يقال له : الخزيرة ، فلمّا تمّ إنضاجه ، أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام ، ثم عمل الثلت الثاني ، فلمّا تمّ انضاجه أتى يتيم فسأل ، فأطعموه ،
__________________
١ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨٤ ، ح ٢٩٧٥ / ٣١.
٢ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨٤ ، ح ٢٩٧٦ / ٣٢.
٣ ـ الحشر : ٩.
٤ ـ أمالى الشيخ الطوسي : ص ١٨٥ ، ح ٣٠٩ / ١١.
٥ ـ الإنسان : ٨.
ثم عمل الثلث الثالث ، فلمّا تمّ إنضاجه آتى أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزلت فيه هذه الآية (١).
ومن أجل ما تقدم اتّضحت أمامنا صور عظيمة من زهده صلىاللهعليهوآله وتقواه وتواضعه مع اُمّته وإعراضه عن الدنيا وإيثاره الآخرة على الدنيا وغير ذلك من صفاته العظيمة ، وسمّوا أخلاقه.
قوله عليهالسلام : «وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخٰارِفُهٰا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ» أي مع قربه صلىاللهعليهوآله إلى الله عزّوجلّ إبتعد عن زينة الدنيا.
وفي الحديث : ما زويت الدنيا عن أحد إلّا كانت خِيرَة له (٢).
قوله عليهالسلام : «فَلْيَنْظُرْ نٰاظِرٌ بِعَقْلِهِ» أي فاليتأمّل العاقل قليلاً وينظر إلى الدّنيا بنظرة الإعتبار إذ لو كان فيها خير فلما ذا هؤلاء الأنبياء والصالحون يبتعدون عنها ويجتنبون منها مع أنّهم أقرب الخلق إلى الله سبحانه عزّوجلّ ، بل تقرّبوا إلى الله عزّوجلّ بالبغض لها ، وعدم الإعتناء بها.
قوله عليهالسلام : «أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّدًا بِذٰلِكَ أَمْ أَهٰانَهُ» ولقد بلغ من عظمة شخصيّة رسول الله صلىاللهعليهوآله وتقرّبه إلى الله وإعراضه عن زخارف الدنيا أن يطرح الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام أمام المجتمع الإسلامي سؤاله عن موقف رسول الله صلىاللهعليهوآله الشريف في جميع المجالات من تواضعه بين اُمّته وسمّوا أخلاقه ، وعلوّ شأنه في مضمار الفضيلة وكرم النفس والنبل والطهارة ، بأنّ جميع هذه الفضائل هل كانت إكراماً وإجلالاً وتعظيماً من الله سبحانه وتعالى له صلىاللهعليهوآله أم كان عكس ذلك؟ فأجاب هو بنفسه قائلاً.
__________________
١ ـ أسباب النزول للواحدي : ص ٣٢٢.
٢ ـ الجامع الصغير : ج ٢ ، ص ٤٩٧ ، ح ٧٩١٧ ، وأخرجه الهندي في كنزل العمّال : ج ٣ ، ص ١٩٦ ، ح ٦١٤١.
قوله عليهالسلام : «فَإِنْ قٰالَ أَهٰانَهُ ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللهِ الْعَظِيمِ وَأَتىٰ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ» لافترائه على الله ، والقول على خلاف الواقع.
قوله عليهالسلام : «وَإِنْ قٰالَ أَكْرَمَهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهٰانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيٰا لَهُ ، وَزَوٰاهٰا عَنْ أَقْرَبِ النّٰاسِ مِنْهُ» فعن علي بن الحسين عليهالسلام قال : مرّ رسول الله براعي إبل فبعث يستسقيه ، فقال : أما في ضروعها فصبوح الحي (١) وأمّا في آنيتنا فغبوقهم ، (٢) فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللّهم أكثر ماله وولده ، ثمّ مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول الله صلىاللهعليهوآله وبعث إليه بشاة ، وقال : هذا ما عندنا ، وإن أحببت أن نزيدك زدناك؟ قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللّهم اُرزقه الكفاف ، فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله دعوت للذي ردّك بدعاء عامتنا نحبّه ، ودعوت للّذي أسعفك بحاجتك (٣) بدعاء كلّنا نكرهه؟.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهىٰ (٤) اللّهم ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف (٥).
وقال إبن الأثير في تاريخه : لمّا فرع عبدالرّحمن الناصر الأموي صاحب الأندلس من بناء «الزهراء» وقصورها ، وقد قعد في قبّة مزخرفة بالذهب والمجوهرات ، والبناء البديع الذي لم يسبق إليه ، فقال لمن معه من الأعيان : هل بلغكم أنّ أحداً بنى مثل هذا البناء؟ فأثنى الجميع بأنّهم لم يروا ، ولم يسمعوا بمثله إلّا القاضي منذر بن سعيد فانّه سكت.
فقال له الناصر : لِمَ لا تنطق أنت؟ فبكى. وقال : ما كنت أظنّ أنّ
__________________
١ ـ الصبوح : ما يشرب بالغداة.
٢ ـ القبوح : ما يشرب بالليل.
٣ ـ أسعفك بحاجتك : أي قضاها لك.
٤ ـ أي شغل عن الله وعن عبادته.
٥ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٤٠ ـ ١٤١ ، ح ٤.
الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ حتّى أنزلك منازل الكافرين : قال الله تعالى : «وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» (١) (٢).
قوله عليهالسلام : «فَتَأَسّىٰ مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ» أي ولقد اتّضحت أمامنا صور عظيمة من سموّ أخلاقه وسلوكه على المستوى الفردي والإجتماعي ، ففي كلّ شأن من شؤون حياته لاتبارى عظمته ولاتطاول قمّة مجده فجدير على التأسيّ به والدخول في مدخله والتتبع بمآثره.
قوله عليهالسلام : «وَإِلّٰا فَلٰا يَأْمَنُ الْهَلَكَةَ» لما عرفت بأن النجاة الحقيقي ، من عقوبات الدنيا والآخرة لا تكون إلّا بالتأسيّ بالرسول الأعظم بترك الدنيا وملذّاتها ، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة كما جاء في الحديث (٣).
قوله عليهالسلام : «فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ عَلَمًا لِلسّٰاعَةِ» إقتباس من قوله تعالى : «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ» (٤).
قوله عليهالسلام : «وَمُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ ، وَمُنْذِرًا بِالْعُقُوبَةِ» كقوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا» (٥).
قوله عليهالسلام : «خَرَجَ مِنَ الدُّنْيٰا خَمِيصًا» أي جائعاً.
__________________
١ ـ الزخرف : ٣٣ ـ ٣٥.
٢ ـ الكامل في التاريخ ، ج ٨ ، ص ٦٧٤ سنه ٣٦٦ ، والنقل بتخليص.
٣ ـ تنبيه الخواطر : ج ١ ، ص ١٣٦ ، والجامع الصغير : ج ١ ، ص ٥٦٦ ، ح ٣٦٦٢.
٤ ـ الزخرف : ٦١.
٥ ـ الإسرا : ١٠٥ ، والفرقان : ٥٦.
قوله عليهالسلام : «وَوَرَدَ الْاٰخِرَةَ سَلِيمًا» إقتباس من قوله تعالى : «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (١).
قوله عليهالسلام : «لَمْ يَضَعْ حَجَرًا عَلىٰ حَجَرٍ حَتّىٰ مَضىٰ لِسَبِيلِهِ ، وَأَجٰابَ دٰاعِىَ رَبِّهِ» وفي الحديث عن الحسن قال : مات رسول الله صلىاللهعليهوآله ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (٢).
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : إذا أراد الله بعبدٍ شرّاً أهلك ماله في الماء والطين (٣).
وعنه أيضاً صلىاللهعليهوآله : من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة (٤).
أخرجه إبن سعد بإسناده عن الهذلي قال : رأيت بيوت أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآله حين هدمها عمر بن عبدالعزيز ، كانت بيوتاً باللبن ، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبيّ ، صلىاللهعليهوآله إلى منزل أسماء بنت حسن بن عبدالله بن عبيدالله بن العباس ، ورأيت بيت اُم سلمة وحجرتها من لبن ، فسألت إبن إبنها.
فقال : لما غزا رسول الله صلىاللهعليهوآله غزوة دومة بَنَتْ اُم سلمة حجرتها بلبن ، فلما قدم رسول الله صلىاللهعليهوآله نظر إلى اللبن فدخل عليها أوّل نسائه. فقال : ما هذا البناء؟
فقالت : أردت يا رسول الله أن أكفّ أبصار الناس ، فقال : يا اُم سلمة إنّ شرّ ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان (٥).
وعن الحسن يقول : كنت أدخل بيوت أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآله في خلافة
__________________
١ ـ الشعراء : ٨٩.
٢ ـ منهاج البراعة : ج ٩ ، ص ٣٩٠.
٣ ـ منهاج البراعة : ج ٩ ، ص ٣٩٠.
٤ ـ منهاج البراعة : ج ٩ ، ص ٣٩١.
٥ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٣٨٧.
عثمان بن عفّان فأتناول سقفها بيدى (١).
وعن شيخ من أهل المدينه قال : رأيت حجر النبيّ صلىاللهعليهوآله قبل أن تهدم بجرائد النخل ملْبَسَّة الأنطاع (٢).
وعن داود بن شيبان قال رأيت حجر أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآله وعليها المسوح ، يعني متاع الأعراب (٣).
قوله عليهالسلام : «فَمٰا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنٰا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنٰا» أي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وصحبه المنتجبين.
قوله عليهالسلام : «بِهِ سَلَفًا نَتَّبِعُهُ ، وَقٰائِدًا نَطَأُ عَقِبَهُ» ويشهد له قوله تعالى : «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» (٤).
* * *
__________________
١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٣٨٨.
٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٣٨٨.
٣ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٣٨٨.
٤ ـ آل عمران : ١٦٤.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
إِبْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ ، وَالْبُرْهٰانِ الْجَلِىَّ ، وَالْمِنْهٰاجِ الْبٰادِى ، وَالْكِتٰابِ الْهٰادِى. أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ. أَغصٰانُهٰا مُعْتَدِلَةٌ ، وَثِمٰارُهٰا مُتَهَدِّلَةٌ. مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ. عَلٰا بِهٰا ذِكْرُهُ ، وَامْتَدَّ مِنْهٰا صَوْتُهُ. أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كٰافِيَةٍ ، وَمَوْعِظَةٍ شٰافِيَةٍ ، وَدَعْوَةٍ مُتَلٰافِيَةٍ. أَظْهَرَ بِهِ الشَّرٰائِعَ الْمَجْهُولَةَ ، وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ ، وَبَيَّنَ بِهِ الْأَحْكٰامَ الْمَفْصُولَةَ. فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِينًا تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ ، وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ ، وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ ، وَيَكُنْ مَاٰبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ ، وَالْعَذٰابِ الْوَبِيلِ.
قوله عليهالسلام : «إِبْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ» أي نور النبوّة ، أوالقرآن كما يشهد عليه قوله تعالى : «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٢).
قوله عليهالسلام : «وَالْبُرْهٰانِ الْجَلِىَّ» أي المعجزات الباهرات ، والآيات الواضحات الدّالة على نبوته ، قال الله عزّوجلّ : «قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا» (٣).
قوله عليهالسلام : «وَالْمِنْهٰاجِ الْبٰادِى» أي الطريق والمسلك الواضح الظاهر وهو شريعته ودينه الواضح ، قال الله : «قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (٤).
قوله عليهالسلام : «وَالْكِتٰابِ الْهٰادِى» أي القرآن الذي يهدي إلى التقوى وطريق الجنّة ، قال الله تعالى : «ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ» (٥) وقال : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٢٩ ، الخطبة ١٦١.
٢ ـ الأعراف : ١٥٧.
٣ ـ النساء : ١٧٤.
٤ ـ البقرة : ٢٥٦.
٥ ـ البقرة : ٢.
مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ» (١).
قوله عليهالسلام : «أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ» أي رهطه وعشيرته وهم بنوهاشم أفضل طوائف قريش ، ونعم ما قيل :
لله في عالمه صفوة وصفوة |
|
الخلق بنوهاشم |
وصفوة الصفوة من هاشم |
|
محمّد الطهر أبوالقاسم |
قوله عليهالسلام : «وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ» أي أصله خير الاُصول ، وأراد بها هاشماً ، ويشهد له قول النبيّ صلىاللهعليهوآله : أنا وعلي من شجرة واحدة ، والناس من أشجار شتّى (٢).
قوله عليهالسلام : «أَغصٰانُهٰا مُعْتَدِ لَةٌ ، وَثِمٰارُهٰا مُتَهَدِّلَةٌ» اغصانها معتدلة : أي : متقاربة في الفضل والشرف ، وليس فيها إعوجاج.
وثمارها متهدّلة : أي نازلة يمكن قطفها ، والمراد من أغصانها وثمارها : الأئمة الأطهار من أهل البيت عليهمالسلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، ويشهد له ما سئل عن أبي جعفر عليهالسلام عن قوله تعالى : «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» (٣) فقال عليهالسلام : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : أنا أصل تلك الشجرة وعلي ، والأئمة عليهمالسلام أغصانها ، وعلمنا ثمرها ، وما يخرج من الإمام من الحلال والحرام في كلّ سنة إلى شيعته هو إيتاء اُكلها كلّ حين (٤).
__________________
١ ـ المائدة : ١٥ ـ ١٦.
٢ ـ الدر المنثور : ج ٤ ، ص ٤٤ ، وأخرجه الخوارزمي في مناقبه : ص ٨٧ ، والحسكاني : في شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٨٨ ، ح ٣٩٥ ، ٣٩٦ ، والجويني في فرائد السمطين : ج ١ ، ص ٥٢ ، ح ١٧.
٣ ـ إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٥.
٤ ـ بصائر الدرجات : ٧٨.
وقال الطبرسي في تفسيره روى إبن عقدة عن أبي جعفر عليهالسلام إنّ الشجرة : رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وفرعها : علي عليهالسلام ، وعنصر الشجرة : فاطمة ، وثمرتها أولادها ، وأغصانها وأوراقها شيعتنا ، ثم قال عليهالسلام : إن الرجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة ، وأنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة (١).
وفي مجمع البيان : عن إبن عبّاس ، قال : قال جبرئيل عليهالسلام للنبيّ صلىاللهعليهوآله : أنت : الشجرة ، وعلي : غُصنها ، وفاطمة : ورقها ، والحسن والحسين : ثمارها (٢).
وعن أميرالمؤمنين عليهالسلام : نحن شجرة النبوّة ، ومحطّ الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم (٣).
قوله عليهالسلام : «مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ» أي كان ولادته صلىاللهعليهوآله في حرم الله في يوم الجمعة عند طلوع الشمس السابع عشر من ربيع الأوّل في عام الفيل ، قبل هجوم جيش الفيل بخمسين ليلة.
قوله عليهالسلام : «وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ» أي المدينة المنوّرة وذكر الشريف مرتضى في شرحه على قصيدة الحميرى : أنّ للمدينة اثنى عشر إسماً : طيبة ، يثرب ، والدار ، والسكينة ، وجابرة ، والمجبورة ، والمحبّة ، والمحبوبة ، والعذراء ، والرعبوبة ، والقاصمة ، وبندر (٤).
هاجر صلىاللهعليهوآله إلى طيبة وهو إبن ثلاث وخمسين كما جاء في كشف الغمّة عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام قال : قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهو إبن ثلاث
__________________
١ ـ مجمع البيان : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٣١٢.
٢ ـ مجمع البيان : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٣١٢.
٣ ـ نهج البلاغة : ص ١٦٢ ، الخطبة ١٠٩.
٤ ـ شرح القصيدة الذهبيّة للشريف المرتضى : ٨.
وستين سنة في سنة عشر من الهجرة ، فكان مقامه بمكة أربعين سنة ثم نزل عليه الوحي في تمام الأربعين ، وكان بمكة ثلاث عشر سنة ، ثم هاجر إلى المدينة وهو إبن ثلاث وخمسين سنة ، فأقام بالمدينة عشر سنين وقبض صلىاللهعليهوآله في شهر ربيع الأول يوم الإثنين لليلتين خلتامنه (١).
وقال سيف بن ذي يزن لجّده عبدالمطلب لمّا بَشّره به : أجد في الكتاب الناطق ، والعلم السابق : أنّ يثرب دار ملكه ، وبها إستحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره (٢).
قوله عليهالسلام : «عَلٰا بِهٰا ذِكْرُهُ» أي علىٰ بطيبة ذكره صلىاللهعليهوآله لفوزه على أعدائه من الكفّار واليهود وغيرهم بنصرة أهلها ولذا سمّي أهلها بالأنصار.
قوله عليهالسلام : «وَامْتَدَّ مِنْهٰا صَوْتُهُ» أي إنتشرت دعوته في الآفاق ، وكان إسمه يكرر في الأذان ، كما أخرجه الصدوق عن الصادق عليهالسلام كان اسم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يكرّر في الأذان فأوّل من حذفه إبن أروى (٣).
قوله عليهالسلام : «أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كٰافِيَةٍ» وهي القرآن وسائر معجزاته ، قال تعالى : «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ» (٤).
قوله عليهالسلام : «وَمَوْعِظَةٍ شٰافِيَةٍ» قال تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ» (٥) وغير ذلك من الآيات الدّالة على الوعد والوعيد وضرب الأمثال والتفكّر في الاُمم الماضية والعبرة بهم.
__________________
١ ـ كشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٤ ، ذكر مولده صلىاللهعليهوآله.
٢ ـ إكمال الدين وإتمام النعمة : ص ١٨٠ ، ذيل ح ٣٢ وأخرجه البيهقي في دلائل النبوّة : ج ٢ ، ص ٣.
٣ ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ، ص ١٩٥ ، ح ٥١ / ٩١٣.
٤ ـ البقرة : ٢٣.
٥ ـ يونس : ٥٧.
قوله عليهالسلام : «وَدَعْوَةٍ مُتَلٰافِيَةٍ» أي تدارك مافات من الدعوة إلى الله ، قال الله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا» (١).
قوله عليهالسلام : «أَظْهَرَ بِهِ الشَّرٰائِعَ الْمَجْهُولَةَ» أي الشرائع التي قد اُخفيت بين الناس ، وأصبحت مجهولة في زمان الفترة ، أي بين زمان عيسى ونبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله فأظهرها النبيّ وأمر بتنفيذها قال تعالى : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» (٢).
وفي الحديث : أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله برجم اليهودي الذي حمّم وجهه لأجل الزناء بدلاً عن الرجم ، وقال : اللّهم إنّى أوّل من أحياء ما أماتوا من كتابك (٣).
قوله عليهالسلام : «وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ» أي البدع المدخولة في الدين في أيّام الجاهليّة من عبادة الأصنام ، والنحر لها ، والطواف عرياناً ، وغير ذلك من البدع الّتي لا تحصى ، قال الله تعالى : «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ» (٤) وقال الله تعالى : «وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» (٥).
قوله عليهالسلام : «وَبَيَّنَ بِهِ الْأَحْكٰامَ الْمَفْصُولَةَ» أي بيّن رسول الله أحكام
__________________
١ ـ الأحزاب : ٤٥ ـ ٤٦.
٢ ـ المائدة : ١٥.
٣ ـ سنن أبي داود : ج ٤ ، ص ١٥٤ ، ح ٤٤٤٧ و ٤٤٤٨.
٤ ـ المائدة : ١٠٣.
٥ ـ الأنعام : ١٣٨ ـ ١٣٩.
الإسلام مفصّلاً قال الله تعالى : «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (١) ، وقال الله تعالى : «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (٢).
قوله عليهالسلام : «فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِينًا تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ» أي من إتّخذ غير الإسلام ديناً بعد ما عرف حقيقته ومعالمه وشرائعه وأحكامه فهو شقي ، قال الله تعالى : «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (٣).
قوله عليهالسلام : «وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ» أي ينقطع ما يتمسّك به من حبل النجاة ، فالعروة الوثقى التي لا إنفصام لها : هي دين الإسلام.
قوله عليهالسلام : «وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ» أي عشرته.
قوله عليهالسلام : «وَيَكُنْ مَاٰبُهُ» أي مرجعه.
قوله عليهالسلام : «إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ» لا إنقضاء له.
قوله عليهالسلام : «وَالْعَذٰابِ الْوَبِيلِ» أي الشديد ، وقد أجاد أبوطالب في شعره في شأن النبيّ صلىاللهعليهوآله حيث قال :
نبيّ أتاه الوحي من عند ربّه ومن قال لا يقرع بسنّ نادم
اقول : وهذا الشعر أحسن دليل على إسلام أبي طالب رحمة الله.
* * *
__________________
١ ـ الأنعام : ١١٩.
٢ ـ الأنعام : ١١٤.
٣ ـ آل عمران : ٨٥.
وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ (١)
|
إِنَّ اللهَ تَعٰالىٰ بَعَثَ رَسُولًا هٰادِيًا بِكِتٰابٍ نٰاطِقٍ وَأَمْرٍ قٰائِمٍ |
قوله عليهالسلام : «إِنَّ اللهَ تَعٰالىٰ بَعَثَ رَسُولًا هٰادِيًا» اقتباس من قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (٢).
فبعث الله رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأجل هداية الناس إلى شرائع الدين ، ومعالم الشرع المبين ، فعن أبي صالح قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أيها الناس إنّما أنا رحمة مهداة (٣).
قوله عليهالسلام : «بِكِتٰابٍ نٰاطِقٍ» اقتباس من قوله تعالى : «هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ» (٤) وبقوله : «وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ» (٥).
قوله عليهالسلام : «وَأَمْرٍ قٰائِمٍ» أي أمر مستقيم لا عوج فيه إلى يوم القيامة.
* * *
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٤٣ ، الخطبة ١٦٩.
٢ ـ الفتح : ٢٨ ، الصف : ٩.
٣ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥١.
٤ ـ الجاثية : ٢٩.
٥ ـ المؤمنون : ٦٢.
وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ (١)
|
أَمِينُ وَحْيِهِ ، وَخٰاتَمُ رُسُلِهِ ، وَبَشِيرُ رَحْمَتِهِ ، وَنَذِيرُ نِقْمَتِهِ |
قوله عليهالسلام : «أَمِينُ وَحْيِهِ» الأمين : فعيل من الأمانة ، فهو إمّا بمعنى المفعول : أي مأمون من أمنه ـ كعلمه ـ إذا إستأمنه ، فهو صلىاللهعليهوآله مأمون على ما أوحى إليه من الكتاب الكريم ، وشرائع الدين القويم من التحريف والتغيير فيما أمر بتبليغه لمكان العصمة الموجدة فيه.
أو بمعنى فاعل من أمن هو ـ ككرم ـ فهو أمين وحيث أنّ من شأن الأمين قوّته على ضبط ما يستأمن عليه ، وإستعداده له ، وحفظه وصيانته عن التلف والأدناس والتبديل والزيادة والنقصان ، ولهذا سمّي نبيّنا صلىاللهعليهوآله بين الناس قبل بعثته بـ«محمّد الأمين» وبعد بعثته قد أخبر عنه سبحانه وقال : «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (٢) وقال الله تعالى فيه : «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ» (٣).
وأخرجه المتّقي الهندي : عن أبي رافع قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أما والله إنّي لأمين في السماء ، أمين في الأرض (٤).
وقال عمّه أبوطالب فيه :
أنت الأمين أمين الله لاكذب |
|
والصّادق القول لا لهو ، ولا لعب |
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٤٧ ، الخطبة ١٧٣.
٢ ـ الشعراء : ١٠٧.
٣ ـ النجم : ٣ ـ ٤.
٤ ـ كنز العمّال : ج ١١ ، ص ٤١٣ ، ح ٣١٩٣٧.
أنت الرّسول رسول الله نعلمه |
|
عليك ينزل من ذي العزّة الكتب |
و «الوحي» في اللغة : الإشارة والرسالة والكتاب والإلهام وكلّ ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه فهو وَحي ، وكيف كان : هو مصدر وَحَى إليه يَحِى من باب وعد ، وأوحى إليه بالألف مثله ، وهي لغة : القرآن الفاشية ، ثم غلب إستعمال الوحي فيما يُلقى إلى الأنبياء من عند الله.
قوله عليهالسلام : «وَخٰاتَمُ رُسُلِهِ» ختم الكتاب من باب ـ ضرب ـ وختم عليه ختماً وضع عليه الخاتم وهو الطابع (١) والمراد أنّه صلىاللهعليهوآله آخر الرّسل ليس بعده رسول كما قال الله سبحانه : «وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (٢) وفي الحديث المتواتر : قوله صلىاللهعليهوآله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي (٣).
وقوله صلىاللهعليهوآله : حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فمن إدعى بعده نبوّة ، أوأتى بعد كتابه بكتاب ، أوجاء بعد سنّته بسنّة ، فكافر ودمه مباح (٤).
وفي صحيح مسلم عن جابر ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، قال : مثلى ومثل الأنبياء ، كمثل رجل بنى داراً فأتمّها وأكملها إلّا موضع لبنة. فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها ، ويقولون : لو لا موضع اللبنة؛ قال رسول
__________________
١ ـ الطابع : بفتح الباء وكسرها : ما يطبع به ، المصباح المنير : ص ٣٦٨ ـ ٣٦٩.
٢ ـ الأحزاب : ٤٠.
٣ ـ هذا الحديث المعروف بحديث المنزلة من الاُحاديث المتواترة ، أخرجه كثير من أهل الحديث من طرق متعدّده ، ورواه على ما قيل اثنان وأربعون من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله منهم إبن عبّاس والزبير وطلحة وأبوبكر وعمر وعثمان وغيرهم.
٤ ـ بهج الصباغة : ج ٢ ، ص ٢٣٧.
الله صلىاللهعليهوآله : فأنا موضع اللبنة. جئت فختمت الأنبياء عليهمالسلام (١).
وفي حديث آخر : أنا خاتم الأنبياء عليهمالسلام (٢).
وروى إبن سعد عن عرباض بن سارية صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوآله يقول : إنّي عبد الله وخاتم النبيّين وإنّ آدم لمنجدل (٣) في طينته (٤).
قوله عليهالسلام : «وَبَشِيرٌ رَحْمَتِهِ» أي مبشّر برحمته الواسعة والثواب الجزيل ، كما قال الله سبحانه عزّوجلّ : «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ» (٥).
و «الرحمة» : هي ميل القلب الى الشفقة على الخلق والتلطّف بهم.
وقيل هي إرادة إيصال الخير إليهم.
وفي الحديث : «أنا نبيّ الرحمة» (٦) ، وفي آخر : «إنّما أنا رحمة مهداة» (٧).
قوله عليهالسلام : «وَنَذِيرُ نِقْمَتِهِ» أي مخوّف من عقوبته الدائمة ، والعذاب الوبيل. كما قال الله تعالى : «وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» (٨) ، وقوله : «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ» (٩) ، وقوله : «فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» (١٠) وقوله : «إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا» (١١).
__________________
١ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٧٩١ ، ح ٢٣ / ٢٢٨٧ وح ٢٢ / ٢٢٨٦.
٢ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٧٩١.
٣ ـ المنجدل : أي الساقط.
٤ ـ الطبقات الكبرىٰ : ج ١ ، ص ١١٨ ، ذكر نبوّة رسول الله صلىاللهعليهوآله.
٥ ـ يونس : ٢.
٦ ـ منسد أحمد بن حنبل : ج ٤ ، ص ٣٩٥.
٧ ـ مجمع البيان : ج ٧ ـ ٨ ، ص ٦٧.
٨ ـ إبراهيم : ٤٤.
٩ ـ غافر : ١٨.
١٠ ـ فصّلت : ١٣.
١١ ـ النبأ : ٤٠.
وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ (١)
|
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبىٰ مِنْ خَلٰائِقِهِ ، وَالْمُعْتٰامُ لِشَرْحِ حَقٰائِقِهِ ، وَالْمُخْتَصُّ بِعَقٰائِلِ كَرٰامٰاتِهِ ، والْمُصْطَفىٰ لِكَرٰائِمِ رِسٰالٰاتِهِ ، وَالْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرٰاطُ الْهُدىٰ ، وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمىٰ. |
قوله عليهالسلام : «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (٢).
قوله عليهالسلام : «الْمُجْتَبىٰ مِنْ خَلٰائِقِهِ» أي المصطفى من الأولين والآخرين.
عن إبن عبّاس قال : إنّ جبرئيل عليهالسلام أتى النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إنّ ربّي بعثني إليك وأمرني أن آتيه بك فقم فإنّ الله يكرمك كرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا بعدك فأبشر وطب نفساً الحديث (٣).
وعنه ايضاً فلمّا بلغ إلى سدرة المنتهى فانتهى إلى الحجب ، فقال جبرئيل : تقدّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان ، ولو دنوت أنملة لاحترقت (٤).
وقال أبو بصير : سمعته يقول : إنّ جبرئيل إحتمل رسول الله حتّى إنتهى به إلى مكان من السماء ، ثم تركه فقال له : ما وطأ نبيّ قط مكانك (٥).
قوله عليهالسلام : «وَالْمُعْتٰامُ لِشَرْحِ حَقٰائِقِهِ» أي شرح النبيّ صلىاللهعليهوآله حقائق التوحيد والعدل والمعاد ، وشرح الحلال والحرام ، والثواب والعقاب ،
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٥٧ ، الخطبة ١٧٨.
٢ ـ آل عمران : ١٤٤.
٣ ـ مناقب إبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٧٧.
٤ ـ مناقب إبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٧٩.
٥ ـ مناقب إبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٧٩.
وشرح الحقائق في ما نسبه أهل الكتاب إلى التوراة والإنجيل إفتراءً منهم ، فقالوا : لحم الإبل كان محرّماً في ملّة إبراهيم فكذّبهم النبيّ صلىاللهعليهوآله في ما أنزل تعالى في قوله : «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (١).
وشرح النبيّ صلىاللهعليهوآله قصص الأنبياء بحقائقها في ما أنزل الله تعالى عليه فقال بعد ذكر قصة نوح : «تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (٢).
وهكذا شرح خبر ذي القرنين ، (٣) وخبر أصحاب الكهف (٤) وغير ذلك من أخبار الأنبياء عليهمالسلام.
قوله عليهالسلام : «وَالْمُخْتَصُّ بِعَقٰائِلِ كَرٰامٰاتِهِ» أي المختص بنفائس كرامات الله ، كما قال الله تعالى : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا» (٥) وقال عزّوجلّ : «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» (٦) ، وقال عزّ إسمه : «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ» (٧).
__________________
١ ـ آل عمران : ٩٣.
٢ ـ هود : ٤٩.
٣ ـ الكهف : ٨٣ ـ ٩٨.
٤ ـ الكهف : ١٠ ـ ٢٦.
٥ ـ الإسراء : ١.
٦ ـ الضحى : ٥ ـ ١١.
٧ ـ الشرح : ١ ـ ٤.
وجاء في خبر المعراج : أنا المحمود وأنت محمّد شققت إسمك من إسمي فمن وصلك وصلته ، ومن قطعك بتّلته ، أنزل إلى عبادي ، فأخبرهم بكرامتي إيّاك وإني لم أبعث نبيّاً إلاّ جعلت له وزيراً وإنّك رسولي ، وأنّ عليّاً وزيرك (١).
قوله عليهالسلام : «والْمُصْطَفىٰ لِكَرٰائِمِ رِسٰالٰاتِهِ» المصطفىٰ : أي المختار ، ومنه الصفي والصفيّة لما يختاره الرئيس لنفسه من الغنيمة ، أو بمعنى الحبيب المصافي من صافاه الودّ والإخاء ، يقال : هو صفيّ من بين إخواني.
قال إبن الأثير : هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول (٢).
ويحتمل أن يكون المراد بإصطفائه تعالى له صلىاللهعليهوآله جعله صفوة خلقه وعباده ، أي خيرتهم كما قال صلىاللهعليهوآله : إنّ الله إصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، وإصطفىٰ من ولد إسماعيل كنانة ، وإصطفىٰ من كنانة قريشاً ، وإصطفىٰ من قريش بني هاشم ، وإصطفاني من بني هاشم (٣).
ولقد شاء لطف الله بعباده ، وقضت إرادته الحكيمة أن يختار أفراداً مخصوصين ومؤهّلين للإتّصال بالألطاف الربّانيّة بعد ان يهيّئهم الله بلطفه ، فيوفّر لهم الإستعداد الروحي ، والتكامل النفسي ، والنضج العقلي ، والسموّ الذاتي ، ليكونوا مؤهلين لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة ، وتمثيل الإرادة الربّانيّة على هذه الأرض «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» (٤). فالله سبحانه وتعالى إختار نبيّه
__________________
١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٧٩.
٢ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٤٠.
٣ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٨ ، ومسند أحمد بن حنبل : ج ٤ ، ص ١٠٧.
٤ ـ الحج : ٧٥.
محمّد صلىاللهعليهوآله واصطفاه على العالمين لرسالاته الكريمة الشريفة إلى النّاس.
قوله عليهالسلام : «والْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرٰاطُ الْهُدىٰ» أي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله : قد بيّن للخلائق بأجمعهم أعلام الهداية ، فقد أوضح بقوله وفعله وتقريره ما يوجب هدايتهم إلى الطريق الحق والنهج القويم والصراط المستقيم ، وقد قال إبن الزبعري في رسول الله صلىاللهعليهوآله :
هادي العباد إلى الرشاد وقائد للمؤمنين بضوء نور ثاقب
قوله عليهالسلام : «وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمىٰ» أي المنكشف بنور نبوّته صلىاللهعليهوآله ظلمات الجهالة وشدائد الأمور ، فرفع به صلىاللهعليهوآله ظلمات الجهالة وشدائد الأمور ، فرفع به صلىاللهعليهوآله المنكرات والشنائع وأصبح الناس به بصيرين.
وفي الخبر : سأل إبن الكوا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام عن مسائل ، منها : ما الأعمىٰ بالليل بصير بالنهار؟
فقال عليهالسلام : ذلك رجل جحد الأنبياء الذين مضوا ، والأوصياء والكتب ، ثم أدرك النبيّ صلىاللهعليهوآله فآمن بالله وبرسوله محمّد صلىاللهعليهوآله وآمن بإمامتي وقَبِِلَ ولايتي ، فعمي بالليل وأبصر بالنهار (١).
* * *
__________________
١ ـ الاحتجاج : ج ١ ، ص ٥٤٣ ـ ٥٤٤.