السيّد محسن الحسيني الأميني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦
قوله عليهالسلام : «وَالنُّورِ الْمُقْتَدىٰ بِهِ» أي القرآن الذي هو نور يهتدى به في ظلمات الجهل ، ويقتدى بأحكامه وسننه كما في قوله تعالى : «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ» (١).
* * *
__________________
١ ـ المائدة : ١٥.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
وَلَقَدْ كٰانَ فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ كٰافٍ لَكَ فِى الْأُسْوَةِ ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلىٰ ذَمِّ الدُّنْيٰا وَعَيْبِهٰا ، وَكَثْرَةِ مَخٰازِيهٰا وَمَسٰاوِيهٰا ، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرٰافُهٰا ، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنٰافُهٰا ، وَفُطِمَ عَنْ رِضٰاعِهٰا ، وَزُوِىَ عَنْ زَخٰارِفِهٰا. فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسّىٰ ، وَعَزٰاءً لِمَنْ تَعَزّىٰ. وَأَحَبُّ الْعِبٰادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّى بِنَبِيِّهِ ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ. قَضَمَ الدُّنْيٰا قَضْماً ، وَلَمْ يُعِرْهٰا طَرْفاً ، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيٰا كَشْحًا ، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيٰا بَطْنًا. عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيٰا فَأَبىٰ أَنْ يَقْبَلَهٰا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ أَبْغَضَ شَيْئًا فَأَبْغَضَهُ ، وَحَقَّرَ شَيْئًا فَحَقَّرَهُ ، وَصَغَّرَ شَيْئًا فَصَغَّرَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينٰا إِلّٰا حُبُّنٰا مٰا أَبْغَضَ اللهُ وَتَعْظِيمُنٰا مٰا صَغَّرَ اللهُ ، لَكَفىٰ بِهِ شِقٰاقًا لِلّٰهِ ، وَمُحٰادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ. وَلَقَدْ كٰانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ، وَيَرْكَبُ الْحِمٰارَ الْعٰارِىَ ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ. وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلىٰ بٰابِِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصٰاوِيرُ ، فَيَقُولُ يٰا فُلٰانَةُ ـ لِإِحْدىٰ أَزْوٰاجِهِ ـ غَيِّبِيِه عَنِّي ، فِإِنِّي إِذٰا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيٰا وَزَخٰارِفَهٰا ، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيٰا بِقَلْبِهِ ، وَأَمٰاتَ ذِكْرَهٰا مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهٰا عَنْ عَيْنِهِ. لِكَيْلٰا يَتَّخِذَ مِنْهٰا رِيٰاشًا ، وَلٰا يَعْتَقِدَهٰا قَرٰارًا ، وَلٰا يَرْجُوَ فِيهٰا مُقٰامًا ، فَأَخْرَجَهٰا مِنَ النَّفْسِ ، وَأَشْخَصَهٰا عَنِ الْقَلْبِ ، وَغَيَّبَهٰا عَنِ الْبَصَرِ. وَكَذٰلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ. وَلَقَدْ كٰانَ فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ مٰا يَدُلُّكَ عَلىٰ مَسٰاوِى الدُّنْيٰا وَ
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٢٦ ـ ٢٢٩ ، الخطبة ١٦٠.
عُيُوبِهٰا ، إِذْ جٰاعَ فِيهٰا مَعَ خٰاصَّتِهِ ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخٰارِفُهٰا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ. فَلْيَنْظُرْ نٰاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّدًا بِذٰلِكَ أَمْ أَهٰانَهُ. فَإِنْ قٰالَ أَهٰانَهُ ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللهِ الْعَظِيمِ وَأَتىٰ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ ، وَإِنْ قٰالَ أَكْرَمَهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهٰانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيٰا لَهُ ، وَزَوٰاهٰا عَنْ أَقْرَبِ النّٰاسِ مِنْهُ. فَتَأَسّىٰ مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ ، وَإِلّٰا فَلٰا يَأْمَنُ الْهَلَكَةَ ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ عَلَمًا لِلسّٰاعَةِ ، وَمُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ ، وَمُنْذِرًا بِالْعُقُوبَةِ. خَرَجَ مِنَ الدُّنْيٰا خَمِيصًا ، وَوَرَدَ الْاٰخِرَةَ سَلِيمًا. لَمْ يَضَعْ حَجَرًا عَلىٰ حَجَرٍ حَتّىٰ مَضىٰ لِسَبِيلِهِ ، وَأَجٰابَ دٰاعِىَ رَبِّهِ. فَمٰا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنٰا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنٰا بِهِ سَلَفًا نَتَّبِعُهُ ، وَقٰائِدًا نَطَأُ عَقِبَهُ.
قوله عليهالسلام : «وَلَقَدْ كٰانَ فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ كٰافٍ لَكَ فِى الْأُسْوَةِ» لمّا كانت شخصيّة رسول الله صلىاللهعليهوآله قد مثّلث قمّة التسلسل بالنسبة لدرجات الشخصيّة الإسلاميّة التي توجد عادة في دنيا الإسلام. فكان صلىاللهعليهوآله عظيماً في فكره ووعيه ، قمّة في عبادته وتعلّقه بربّه الأعلى ، رائداً في أساليب تعامله مع أسرته والناس جميعاً ، مثاليّاً في حسم الموقف والصدق في المواطن ، ومواجهة المحن فما من فضيلة إلّا ورسول الله صلىاللهعليهوآله سابق إليها ، وما من مكرمة إلّا وهو متقلّد لها.
ومن أجل هذا ألزمنا الله بوجوب سلوك سبيل رسول الله صلىاللهعليهوآله من لدن اُمّته بامتدادها التاريخي في القول والعمل والأنشطة كافة وقال الله تعالى : «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (١) ، وهذا هو السر الذي جعل سيرة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله العطرة وسنّته المباركة المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد الذكر الحكيم.
__________________
١ ـ الأحزاب : ٢١.
قوله عليهالسلام : «وَدَلِيلٌ لَكَ عَلىٰ ذَمِّ الدُّنْيٰا وَعَيْبِهٰا» السير الصحيح الموجب للسعادة الأبديّة للمجتمع الإنساني في الحياة الدنيويّة المستفاد من الآيات القرآنيّة والسنّة النبويّة والأحاديث تبرهن لنا بعدم التوجّه إلى زخارف الدنيا وعدم الركون إليها قال الله تعالى : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» (١) ، وقال الله تعالى : «إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ» (٢) ، وقال الله تعالى : «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (٣) ، وغير ذلك من الآيات الواردة في المقام. ويشهد له ما عن سيد المرسلين صلىاللهعليهوآله قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر» (٤).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى (٥).
وقال صلىاللهعليهوآله : يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الخلود ، وهو يسعي لدار الغرور (٦).
وقال صلىاللهعليهوآله : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ما كان لله منها (٧).
وقال الغزالي : روي أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف على مزبلة ، فقال :
__________________
١ ـ الحديد : ٢٠.
٢ ـ محمّد : ٣٦.
٣ ـ الأنعام : ٣٢.
٤ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٦.
٥ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٦.
٦ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٦.
٧ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٦.
«هلمّوا إلى الدنيا ، وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة ، وعظاماً قد نخرت ، فقال : هذه الدنيا (١).
وفي بحار الأنوار : روي أنّ عثمان بن مظعون لمّا كشف رسول الله صلىاللهعليهوآله الثوب عن وجهه ، ثم قبّل ما بين عينيه ، ثم بكىٰ طويلاً ، فلمّا رفع السرير ، قال : طوباك يا عثمان ، لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها (٢).
كما يشهد له ما ورد عن سيد الوصيين أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام حيث قال :
الدنيا : سوق الخسران (٣).
الدنيا : مصرع العقول (٤).
الدنيا : مطلّقة الأكياس (٥).
الدنيا : سم آكله من لا يعرفه (٦).
الدنيا : معدن الشرّ ومحل الغرور (٧).
الدنيا : مزرعة الشرّ (٨).
الدنيا : منية الأشقياء (٩).
الدنيا : تُذِلّ (١٠).
الدنيا : ضحكة مستعبر (١١).
قوله عليهالسلام : «وَكَثْرَةِ مَخٰازِيهٰا» المخازي : جمع مخزاة ، أي الخصلة القبيحة.
__________________
١ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٧.
٢ ـ بحارالأنوار : ج ٨٢ ، ص ٩١ ، ح ٤٣.
٣ ـ غررالحكم : ٣٩٦.
٤ ـ غررالحكم : ٩٢١.
٥ ـ غررالحكم : ٤٤١.
٦ ـ غررالحكم : ١٤١١.
٧ ـ غرر الحكم : ٤٠١.
٨ ـ غررالحكم : ١٤٧٣.
٩ ـ غررالحكم : ٦٩٤.
١٠ ـ غررالحكم : ٤٤٢.
١١ ـ غررالحكم : ٣.
قوله عليهالسلام : «وَمَسٰاوِيهٰا» أي نقائصها ومعائبها ، ويشهد له قوله عليهالسلام : من كانت الدنيا همّته اشتدّت حسرته عند فراقها (١).
قوله عليهالسلام : «إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرٰافُهٰا» ويشهد له ما أخرجه الكليني عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنّ في طلب الدّنيا إضراراً بالآخرة ، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدّنيا ، فأضرّوا بالدّنيا فإنّها أولى بالإضرار (٢).
وعنه عليهالسلام : قال : إنّ في كتاب علي صلوات الله عليه : إنّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها؟ وفي جوفها السمّ الناقع ، يحذرها الرجل العاقل ، ويهوي إليها الصبي الجاهل (٣).
قوله عليهالسلام : «وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنٰافُهٰا» أي جوانبها ، وفي الحديث عن علي بن الحسين بن رباط قال : شكى رجل إلى أميرالمؤمنين عليهالسلام الحاجة ، فقال له : إعلم أنّ كلّ شيئ تصيبه من الدنيا فوق قوتك فإنّما أنت فيه خازن لغيرك (٤).
قوله عليهالسلام : «وَفُطِمَ مِنْ رِضٰاعِهٰا» أي قطع عن رضاعها ، والتقم غيره ضرعها ، لشدّة حبّ أهل الدنيا بها.
قوله عليهالسلام : «وَزُوِىَ عَنْ زَخٰارِفِهٰا» أي تنحّى عن زينتها ، ويشهد له ما أخرجه السيوطى في الجامع الصغير : ما زويت الدنيا عن أحدٍ إلاّ كانت خيرة له (٥).
__________________
١ ـ بحارالأنوار : ج ٧١ ، ص ١٨١.
٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٣١ ، ح ١٢.
٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٣٦ ، ح ٢٢.
٤ ـ الخصال : ص ١٦ ، ح ٥٨.
٥ ـ الجامع الصغير : ج ٢ ، ص ٤٩٧ ، ح ٧٩١٧. وأخرجه الهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ١٩٦ ، ح ٦١٤١.
قوله عليهالسلام : «فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسّىٰ» لمّا كانت شخصيّة رسول الله صلىاللهعليهوآله من نمط خاص فكراً وعملاً ، وعلى المستوى الفردي والإجتماعي ، فأنّه في كل شأن من شؤون حياته ، لاتباري عظمته ولا تطاول قمّة مجده جدير بأن يتأسى به كل مؤمن موحد.
قوله عليهالسلام : «وَعَزٰاءً لِمَنْ تَعَزّىٰ» أي من أراد أن ينتسب فحقيق أن ينتسب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله.
قوله عليهالسلام : «وَأَحَبُّ الْعِبٰادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّى بِنَبِيِّهِ» ويشهد له قوله تعالى : «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» (١).
قوله عليهالسلام : «وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ» أي : المتّبع لأمره يفعل ما يفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويترك ما يتركه صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنه قوله تعالى : «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» (٢).
قوله عليهالسلام : «قَضَمَ الدُّنْيٰا قَضْماً» أي تناول منها قدر الكفاف ، وبمقدار الضرورة ، وقال الجوهري : القضم : «الأكل بأطراف الأسنان ، والخضم : أكل بجميع الفم (٣).
قوله عليهالسلام : «وَلَمْ يُعِرْهٰا طَرْفاً» الطرف أي النظر بمؤخر العين وفي تاج العروس نقلاً عن المحكم طرف يطرف طرفاً : لحظ (٤).
وفي الحديث : وكان نظره صلىاللهعليهوآلهوسلم اللحظ بعينه (٥) فمراده عليهالسلام من قوله : «لم يعرها طرفاً» أي لم يعطها لحظة على وجه العاريه وهذا كناية عن
__________________
١ ـ آل عمران : ٣١.
٢ ـ القصص : ١١.
٣ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ٢٠١٣ ، مادة «قضم».
٤ ـ تاج العروس : ج ٢٤ ، ص ٧٥ ، مادة «طرف».
٥ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٦٢.
عدم إلتفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الدنيا أبداً.
قوله عليهالسلام : «أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيٰا كَشْحًا» قال الجوهري نقلاً عن إبن السكيت : الهَضَم بالتحريك : إنضمام الجنين ... ورجلٌ أهْضَمُ بيّن الهضم (١) والكشح : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف (٢).
قوله عليهالسلام : «وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيٰا بَطْنًا» وفي الصحاح : الخمصة : الجوعة (٣) وهذا كناية عن كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم أشد الناس جوعاً وأقلّهم شبعاً.
وفي الكافي : عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : ما أعجب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئ من الدنيا إلّا أن يكون فيها جائعاً خائفاً (٤).
وفي روضة الواعظين : عن العيص بن القاسم : قال : قلت للصادق عليهالسلام : حديث يروى عن أبيك عليهالسلام أنّه قال : ما شبع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من خبز برقط ، أهو صحيح؟.
فقال : لا ما أكلّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خبز برقط ، ولا شبع من خبر شعير قط. قالت عائشة : ما شبع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من خبز الشعير حتّى مات (٥) وأخرجه البيهقى : عن عائشة ، قالت : ما شبع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثلاثة أيّام تباعاً حتّى مضى سبيله (٦).
وأخرجه البيهقي : عن عائشة ايضاً ، قالت : ما شبع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتّى قبض (٧).
__________________
١ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ٢٠٦٠ ، مادة «هضم».
٢ ـ الصحاح : ج ١ ، ص ٣٩٩ ، مادة «كشح».
٣ ـ الصحاح : ج ٣ ، ص ١٠٣٨ ، مادة «خمص».
٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٢٩ ، ح ٧.
٥ ـ روضة الواعظين : ص ٤٥٦.
٦ ـ دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣٤٠.
٧ ـ دلائل النبوّة : ج ، ص ٣٤٣.
وأخرجه الغزالي عن أنس قال : جاءت فاطمة صلوات الله عليها بكسرة خبز إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : ما هذه الكسرة؟ قالت : قرص خبزته ولم تطب نفسي حتّى أتيتك منه بهذه الكسرة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أما أنّه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام (١).
وفي عرائس الثعلبي بإسناده عن جابر الأنصاري : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أقام أيّاماً لم يطعم طعاماً حتّى شقّ ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً ، فأتى فاطمة عليهماالسلام فقال : يا بنيّة هل عندك شيئ آكل فإنّي جائع؟ فقالت : لا والله بأبي أنت واُمّي ، فلّما خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين ، وبضعة لحم. فأخذته منها ووضعته في جفنة ، وغطّت عليه ، وقالت لأوثرنّ بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام ، فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدّهما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فرجع إليها ، فقالت بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أتانا الله بشيىء فخبّأته لك.
قال : فهلّمي به فكشف عن الجفتة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً. فلمّا نظرت إليه ، بهتت ، وعرفت أنّها من بركة الله ، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أين لك هذا يا بنيّة؟ «قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (٢) فحمد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل ، فإنّها كانت إذا رزقها الله رزقاً حسناً فسئلت عنه «قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (٣) (٤).
__________________
١ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٩٠.
٢ ـ آل عمران : ٣٧.
٣ ـ آل عمران : ٣٧.
٤ ـ العرائس للثعلبي : ٣٧٣.
قوله عليهالسلام : «عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيٰا فَأَبىٰ أَنْ يَقْبَلَهٰا» أخرجه الصدوق في عيون أخبار الرضا بإسناده عن إبن بابويه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أتاني ملك ، فقال : يا محمّد إنّ ربّك عزّوجلّ يقرؤك السلام ويقول : إن شئت جعلت لك بطحاء مكة ذهباً ، قال : فرفع رأسه إلى السماء ، وقال : يا رب أشبع يوماً فأحمدك ، وأجوع يوماً فأسألك (١).
أخرجه الشيخ الطوسي بإسناده عن عبد المؤمن الأنصاري ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : عرضت عليّ بطحاء مكة ذهباً ، فقلت : يا ربّ لا ، ولكنّي أشبع يوماً وأجوع يوماً ، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك ، وإذا جعت دعوتك وذكرتك (٢).
وقال الغزالي : وفي الخبر : أن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يجوع من غير عوز (٣).
وعنه أيضاً : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة ، وأنّ أبغض الناس إلى الله المتخمّون الملأى ، وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلّا كانت له درجة في الجنّة (٤).
وعنه ايضاً قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أفضلكم عندالله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكّراً في الله سبحانه (٥).
__________________
١ ـ عيون أخبار الرضا : ج ٢ ، ص ٣٠ ، ح ٣٦ ، وأخرجه المفيد في أماليه ص ١٢٤ ، ح ١ ، المجلس ١٥ ، والترمذي في سننه : ج ٤ ، ص ٤٩٧ ، ح ٢٣٤٧ ، باب ٣٥ ، ما جاء في الكفاف والصبر عليه. وأحمد في مسنده : ج ٥ ، ص ٢٥٤ ، والهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ١٩٣ ، ح ٦١٢٠.
٢ ـ الأمالي للشيخ الطوسي : ص ٦٩٣ ، ح ١٤٧٢ / ١٥ ، مجلس ٣٩ ، وأخرجه الكليني في الكافي : ج ٨ ، ص ١٣١ ، ح ١٠٢ ، والهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ١٩٣ ، ح ٦١٢٠.
٣ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٨٨.
٤ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٩٠.
٥ ـ إحياءالعلوم : ج ٣ ، ص ٨٨.
وأخرجه الكليني بإسناده عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو محزون فأتاه ملك ومعه مفاتيح خزائن الأرض ، فقال : يا محمّد هذه مفاتيح خزائن الأرض يقول لك ربّك : إفتح وخذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئاً عندي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له ، فقال الملك : والذي بعثك بالحق نبيّا لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة حين أعطيت المفاتيح (١).
قوله عليهالسلام : «وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ أَبْغَضَ شَيْئًا فَأَبْغَضَهُ» أي إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله يبغض ما يبغضه الله شيئاً لأوليائه لأنّه لا شاء إلاّ ما يشاء الله.
وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام قال : في مناجاة موسى عليهالسلام يا موسى إنّ الدنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عند خطيئته وجعلتها ملعونة ، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي (٢).
وفي كنز العمّال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ما كان فيها لله عزّوجلّ (٣).
وايضاً فيه : إنّ الله لم يخلق خلقاً هو أبغض إليه من الدنيا ، وما نظر إليها منذ خلقها بغضاً لها (٤).
وقال الغزالي : قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّ الله لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنّه منذ خلقه لم ينظر إليها (٥).
__________________
١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٢٩ ، ح ٨ ، وأخرجه الهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ١٨٦ ، ح ٦٠٨٦.
٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٣١٧ ، ح ٩.
٣ ـ كنزالعمّال : ج ٣ ، ص ١٨٥ ، ح ٦٠٨٣ و ٦٠٨٤ و ٦٠٨٥ و ٦٠٨٨ ، وإحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٦.
٤ ـ كنز العمال : ج ٣ ، ص ١٩٠ ، ح ٦١٠٢.
٥ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٧.
قوله عليهالسلام : «وَحَقَّرَ شَيْئًا فَحَقَّرَهُ» أي كلّ شيئ كان حقيراً عند الله سبحانه عزّوجلّ فهو حقير عند النبيّ صلىاللهعليهوآله.
وفي الكافي عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : مرّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بجدي أسك (أي مقطوع الاُذنين) ملقىً على مزبلة ميتاً ، فقال لأصحابه : كم يساوي هذا؟ فقالوا : لعلّه لو كان حيّاً لم يساو درهماً : فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : والذي نفسي بيده الدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله (١).
قوله عليهالسلام : «وَصَغَّرَ شَيْئًا فَصَغَّرَهُ» أي ما كان صغيراً عندالله فهو صغير عنده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يرفع ما وضعه الله جلّ ثناؤه ولا يكثر ما أقلّه الله عزّوجلّ ، فالأنبياء والأوصياء تنزّهوا عن الدنيا وزهدوا فيما زهّدهم الله جلّ ثناؤه فيه ، وأبغضوا ما كان مبغوضاً عند الله ، وصغرّوا ما كان صغيراً عند الله ، ثم اقتصّ الصالحون آثارهم وسلكوا مناهجهم.
قوله عليهالسلام : «وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينٰا إِلّٰا حُبُّنٰا مٰا أَبْغَضَ اللهُ وَتَعْظِيمُنٰا مٰا صَغَّرَ اللهُ ، لَكَفىٰ بِهِ شِقٰاقًا لِلّٰهِ» أي مخالفة لله تعالى لأنه يكون في نصف الآخر المقابل لله ، قال الجوهري : الشِقُّ بالكسر نصف الشيئ ، يقال : أخذ شق الشاة (٢).
قوله عليهالسلام : «وَمُحٰادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ» أين غاضبه وعاداه وخالفه ، كأنّه صار في الحدّ الذي فيه عَدُوّه ، قاله الزبيدي في تاج العروس (٣).
وفي الحديث مرّ موسى عليهالسلام برجل وهو يبكي ، ورجع وهو يبكي
__________________
١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٢٩ ، ح ٩ ، وقريب منه ما أخرجه العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج ٧٣ ، ص ١٢٦ ، ح ١٢١ ، والهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ٢١٢ ، ح ٦٢٠٦.
٢ ـ الصحاح : ج ٤ ، ص ١٥٠٢ ، مادة «شقق».
٣ ـ تاج العروس : ج ٨ ، ص ١٠ ، مادة «حدد».
فقال : ياربّ عبدك يبكي من مخافتك؟ فقال : يابن عمران لو نزل دماغه مع دموع عينيه ، ورفع يديه حتّى تسقطا لم أغفر له وهو يحبّ الدنيا (١).
وفي الكافي : قال الباقر عليهالسلام : إيّاك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك ، فكفى بما قال الله عزّوجلّ لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ» (٢) وقال : «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (٣) فإن دخلك من ذلك شيئ فاذكر عيش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّما كان قوته الشعير ، وحلواه التمر ، ووقوده السعف إذا وجد (٤).
وعن النبيّ عليهالسلام : حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة (٥).
ومن هنا يقول الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليهالسلام : «سيدي أخرج حبّ الدّنيا من قلبي» (٦).
قوله عليهالسلام : «وَلَقَدْ كٰانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ» فمن ناحية العلميّة كان صلىاللهعليهوآله المتواضع الأوّل في دنيا المسلمين ، فسيرته صلىاللهعليهوآله العظيمة مع الناس أكبر شاهد على ذلك.
قال الصادق : عليهالسلام مرّت امرأة بذيّة برسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يأكلّ وهو جالس على الحضيض (٧) فقالت : يا محمّد إنّك لتأكلّ أكلّ العبد وتجلس جلوسه ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآله : إنّي عبد وأيّ عبد أعبد منّي ، قالت : فناولني لقمة من طعامك فناولها ، فقالت : لا والله إلّا الذي في فيك ، فأخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله اللقمة من فيه فناولها فأكلتها ، قال أبو عبدالله عليهالسلام :
__________________
١ ـ تنبيه الخواطر : ج ١ ، ص ١٤٢.
٢ ـ التوبة : ٥٥.
٣ ـ طه : ١٣١.
٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، ح ١.
٥ ـ تنبيه الخواطر : ج ١ ، ص ١٣٦ ، والجامع الصغير : ج ١ ، ص ٥٦٦ ، ح ٣٦٦٢.
٦ ـ مصباح المتهجد : ص ٥٣٣.
٧ ـ الحضيض : القرار من الأرض عند منقطع الجبل.
فما أصابها بذاء حتّى فارقت الدنيا (١).
وعنه ايضاً قال : كان رسول الله يأكل أكلّ العبد ، ويجلس جلسة العبد ، ويعلم أنه عبد (٢).
وفي الكافي عن أبي خديجة قال : سأل بشير الدّهان أباعبدالله عليهالسلام وأنا حاضر ، فقال : هل كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يأكلّ متّكئاً على يمينه وعلى يساره؟ فقال : ما كان رسول الله يأكلّ متّكئاً على يمينه ولا على يساره. ولكن يجلس جلسة العبد ، قلت : ولم ذلك؟ قال : تواضعاً لله عزّوجلّ (٣).
وأخرجه الدينوري عن قيس بن أبي حازم قال : جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فأصابته رعدة ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : هوّن عليك فإنّما أنا إبن إمرأة من قريش ، كانت تأكلّ القديد (٤).
وعن أنس : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يدعى إلى خبز الشعير والإهالة (٥) السَنِخة (٦) فيجيب (٧).
قوله عليهالسلام : «وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ» اُنظر إلى سمّو سيرته وتواضعه مع اُمّته ولقد كان صلىاللهعليهوآله متواضعاً في ملبسه ومشربه ومأكله ومسكنه على أنّ تواضعه صلىاللهعليهوآله ذاك لم ينقص من هيبته وجلالته ولا من محبّته عند اُمّته أبداً ، بل كان يحلّه في المقام الذي هو له.
وفي الحديث سأل رجل عائشة هل كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعمل في
__________________
١ ـ الكافي : ج ٦ ، ص ٢٧١ ، ح ٢.
٢ ـ الكافي ، ج ٦ ، ص ٢٧١ ، ح ٣.
٣ ـ الكافي : ج ٦ ، ص ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، ح ٧.
٤ ـ عيون الأخبار لإبن قتيبة : ج ١ ، ص ٢٦٥.
٥ ـ الإهالة : كلّ شيئ من الأدهان ممّا يؤتدم به.
٦ ـ السُّنِخَة : المتغيّر الريح.
٧ ـ عيون الأخبار لإبن قتيبة : ج ١ ، ص ٢٦٧.
بيته؟ قالت : نعم كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يخصف نعله ، ويخبط ثوبه ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته (١).
وفي حديث آخر : كان صلىاللهعليهوآله يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويخدم في مهنة أهله (٢).
وقد تأسّى برسول الله صلىاللهعليهوآله أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام كما جاء عن إبن عبّاس : إنّه قال : دخلت على أميرالمؤمنين عليهالسلام بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي ما قيمة هذه النعل؟ فقلت : لاقيمة لها.
فقال عليهالسلام : والله لَهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً (٣).
قوله عليهالسلام : «وَيَرْكَبُ الْحِمٰارَ الْعٰارِىَ» كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يأنف ولا يستنكر أن يركب الحمار العاري وفي الحديث : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يجيب دعوة العبد ، ويركب الحمار ردفاً (٤).
وفي إحياء العلوم : كان يركب الحمار مؤكّفاً ، عليه قطيفة وكان مع ذلك يستردف (٥).
وفيه إيضاً كان اسم حماره صلىاللهعليهوآله يعفور وأضاف الغزالي في القول وقال : وفي صحيح البخاري من حديث معاذ كنت ردفت النبيّ صلىاللهعليهوآله على حمار يقال له : عفير (٦).
وقال إبن الأثير : أنّ إسم حمار النبيّ صلىاللهعليهوآله عُفَير ، وهو تصغير ترخيم لأعفر من العفرة : وهي الغبرة ولون التراب.
__________________
١ ـ دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣٢٨ ، وأخرجه أحمد في مسنده : ج ٦ ، ص ١٢١ و ١٣٧ و ٢٦٠.
٢ ـ إحياء العلوم : ج ٢ ، ص ٣٨٩.
٣ ـ نهج البلاغة : ص ٧٦ ، الخطبة ٣٣ ، عند خروجه عليهالسلام لقتال أهل البصرة.
٤ ـ عيون الأخبار لإبن قتيبة : ج ١ ، ص ٢٦٧.
٥ ـ إحياء العلوم : ج ٢ ، ص ٤١٢.
٦ ـ إحياء العلوم : ج ٢ ، ص ٤٠٨.
وفي حديث سعد بن عبادة : إنّه خرج على حماره يعفور ليعوده.
قيل : سمّى يعفوراً لكونه ، من العفرة ، وقيل سمّى به تشبيهاً في عدوه باليعفور ، وهو الظبي (١).
قوله عليهالسلام : «وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ» روى الواحدي بإسناده عن عروة بن الزبير أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله سار يعود سعد بن عبادة ، فركب حماراً على قطيفة فدكيّة وأردف اُسامه بن زيد خلفه (٢).
وعن إبن عباس أنّ اُسامة كان ردف النبيّ صلىاللهعليهوآله من عرفة إلى المزدلفة (٣).
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لست أدع ركوب الحمار مؤكّفاً ، والأكل على الحضيض مع العبيد ، ومناولة السائل بيدي (٤).
وأخرجه الترمذي بإسناده عن إبن عبّاس عن الفضل بن عبّاس قال : أردفني رسول الله صلىاللهعليهوآله مع جُمَعٍ إلى منى (٥).
وفي أنساب البلاذري : وقف النبيّ صلىاللهعليهوآله بعرفات وهو مردف اُسامه بن زيد. وكان اسامة يدعى الردف لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يردفه كثيراً (٦).
قوله عليهالسلام : «وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلىٰ بٰابِِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصٰاوِيرُ ، فَيَقُولُ يٰا فُلٰانَةُ ـ لِإِحْدىٰ أَزْوٰاجِهِ ـ غَيِّبِيِه عَنِّي ، فِإِنِّي إِذٰا نَظَرْتُ إِلَيْهِ
__________________
١ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٢٦٣ ، مادة «عفر».
٢ ـ أسباب النزول : ص ٩٥ ـ ٩٦ وأخرجه أحمد بثلاث طرق في مسنده : ج ٥ ، ص ٢٠٣. والنقل بالمعنى.
٣ ـ مسند إبن حنبل : ج ٥ ، ص ٢٠١.
٤ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٦٣ ، ح ٥٩ / ٥.
٥ ـ سنن الترمذي : ج ٣ ، ص ٢٦٠ ، ح ٩١٨ ، باب ٧٨ ، وأخرجه إبن ماجة في سننة : ج ٢ ، ص ١٠٢٦ ، ح ٣٠٧٤.
٦ ـ أنساب الأشراف للبلاذري : ج ١ ، ص ٤٦٩ و ٤٧٠.
ذَكَرْتُ الدُّنْيٰا وَزَخٰارِفَهٰا» والمراد من قوله عليهالسلام يا فلانة : يكون «عائشة» كما جاء في صحيح مسلم ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة : قالت كان لناستر فيه تمثال طائر. وكان الداخل إذا دخل إستقبله.
فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوآله : حوّلي هذا ، فإنّى كلّما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا (١).
وقد قال الله تعالى : «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ» (٢).
قوله عليهالسلام : «فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيٰا بِقَلْبِهِ ، وَأَمٰاتَ ذِكْرَهٰا مِنْ نَفْسِهِ» هذا هو الزهد الحقيقي الذي ينبغي علينا أن نأخذه اُسوة حسنة لنا.
أخرج مسلم في صحيحه : عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : قالت إنّما كان فراش رسول الله صلىاللهعليهوآله الذي ينام عليه ، أدماً حشوه ليف (٣).
وفي الطبقات الكبرى بإسناده عن عائشة : أنّها كانت تفرش للنبيّ صلىاللهعليهوآله عباءة مثنيّة ، فجاء ليلة وقد ربعتها فنام عليها ، فقال : يا عائشة ما لفراشي الليلة ليس كما كان؟.
قلت : يا رسول الله ربّعتها لك!.
قال : فأعيديه كما كان (٤).
__________________
١ ـ صحيح مسلم : ج ٣ ، ص ١٦٦٦ ، ح ٨٨ ، وقريب منه : ح ٩٠ و ٩١ و ٩٢ و ٩٦ ، وأخرجه أحمد في مسنده : ج ٦ ، ص ٢٤٦.
٢ ـ طه : ١٣١.
٣ ـ صحيح مسلم : ج ٣ ، ص ١٦٥٠ ، ح ٢٠٨٢ / ٣٨ ، ونحوه جاء في مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٩١ ، ح ١٦٩ / ٤.
٤ ـ الطبقات الكبرى لإبن سعد : ج ١ ، ص ٣٦٠.
وعنها أيضاً قالت : كان ضجاع النبيّ صلىاللهعليهوآله من أدم محشواً ليفاً (١).
وأخرجه الترمذي عن علي عليهالسلام كان فراش رسول الله صلىاللهعليهوآله عباءة ، وكانت مرفقته (٢) أدم حشوها ليف. فثنيت ذات ليلة ، فلمّا أصبح قال : لقد منعني الليلة الفراش الصّلاة فأمر صلىاللهعليهوآله أن يجعل له بطاق واحد (٣).
وفي مكارم الاخلاق : وكان له صلىاللهعليهوآلهوسلم فراش من أدم حشوه ليف ، وكانت له صلىاللهعليهوآله عباءة تفرش له حيثما انتقل وثنّى ثنتين (٤).
ومن عظيم زهده والإعراض عن الدنيا وزخارفها قال الغزالي : وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل ثنىٰ طاقتين تحته (٥).
قوله عليهالسلام : «وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهٰا عَنْ عَيْنِهِ. لِكَيْلٰا يَتَّخِذَ مِنْهٰا رِيٰاشًا» أي زينة وتجمّلاً ، وفي منهاج البراعة نقلاً عن الغزالي : قال : قال أبو بردة : خرجت لنا عائشة كساءً ملبّداً وإزاراً غليظً ، فقالت : قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله في هذين (٦).
قوله عليهالسلام : «وَلٰا يَعْتَقِدَهٰا قَرٰارًا» كما أشار بذلك مؤمن آل فرعون حيث يحكىٰ عنه القران الكريم : «يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ» (٧).
__________________
١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٣٦٠ ، وأخرجه إبن ماجة في سننه : ج ٢ ، ص ١٣٩٠ ، ح ٤١٥١ ، وأحمد في مسنده : ج ٦ ، ص ٤٨ ، ٢٠٧ ، ٢١٢ ، وأبو داود في سننه : ج ٤ ، ص ٧١ ، ح ٤١٤٦ و ٤١٤٧.
٢ ـ المرفقه : المخدّة.
٣ ـ الشمائل للترمذي : ٣٢٢ وأخرجه المجلسي في بحارالأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٥٢ ، والأنوار في شمائل النبيّ المختار : ج ٢ ، ص ٤٥٤ ، ح ٨٣٥.
٤ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٩١ ، ح ١٦٩ / ٤ ، في فراشه صلىاللهعليهوآله.
٥ ـ إحياء العلوم : ج ٢ ، ص ٤٠٧.
٦ ـ منهاج البراعة : ج ٩ ، ص ٣٧٩.
٧ ـ غافر : ٣٩.
قوله عليهالسلام : «وَلٰا يَرْجُوَ فِيهٰا مُقٰامًا» لأنّها دار فناء لا دار بقاء.
قال الشاعر :
أحلام نوم أوكظلّ زائل |
|
إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع |
وقال أميرالمؤمنين عليهالسلام : الدنيا دار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعي من لا يقين له (١).
وعن أبي عبدالله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : مالي وللدنيا ، إنّما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف ، فقال تحتها (٢) ثم راح وتركها (٣).
وروى البيهقي في حديث فقال : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : مالي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا؟ وإنّما أنا والدنيا كراكب استظلّ تحت شجرة ، ثم راح وتركها (٤).
قوله عليهالسلام : «فَأَخْرَجَهٰا مِنَ النَّفْسِ ، وَأَشْخَصَهٰا عَنِ الْقَلْبِ» أي أبعدها عن القلب.
قوله عليهالسلام : «وَغَيَّبَهٰا عَنِ الْبَصَرِ» أي غيّب زينتها عن البصر.
قوله عليهالسلام : «وَكَذٰلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ» وهذا واضح طبيعى لا مناقشه فيه.
__________________
١ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٧ وأخرج الكليني شطراً من الحديث في الكافي : ج ٨ ، ص ٢٧٤ ، ح ٨.
٢ ـ فقال تحتها : أي أتى بالقيلولة : من قال يقيل فيلولة وهي النوم قبل الظهر.
٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٣٤ ، ح ١٩.
٤ ـ دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣٣٨ ، وأخرجه إبن سعد في الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٣٦١ ، والهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ٢٤٣ ، ح ٦٣٦١.
قوله عليهالسلام : «وَلَقَدْ كٰانَ فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ مٰا يَدُلُّكَ عَلىٰ مَسٰاوِى الدُّنْيٰا وَعُيُوبِهٰا ، إِذْ جٰاعَ فِيهٰا مَعَ خٰاصَّتِهِ» فمن تحمّله صلىاللهعليهوآله للجوع والفقر وترويض نفسه على رفض زينة الحياة الدنيا ، قالت عائشة في حديث : ما شبع آل محمّد منذ قدم المدينة من طعام برّ ثلاث ليالي تباعاً حتّى قبض (١).
وقالت أيضاً : ما شبع رسول الله صلىاللهعليهوآله ثلاثه أيّام تباعاً ، من خبز برّ ، حتّى مضى سبيله (٢).
وفي حديث آخر : قالت : ما شبع آل محمّد صلىاللهعليهوآله من خبز شعير ، يومين متتابعين ، حتّى قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله (٣).
وفي خبر آخر عنها قالت : ما شبع آل محمّد صلىاللهعليهوآله من خبز برّ فوق ثلاث (٤).
وعنها أيضاً قالت : ما شبع آل محمّد صلىاللهعليهوآله من خبز البُر ، ثلاثاً حتّى مضى سبيله (٥).
وعنها أيضاً : قالت : توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآله حين شبع الناس من الأسودين : التمر والماء (٦).
وعنها أيضاً قالت : توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد شبعنا من الأسودين :
__________________
١ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨١ ، ح ٩٧٠ / ٢٠.
٢ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨١ ، ح ٩٧٠ / ٢١ ، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣٤٠.
٣ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨٢ ، ح ٢٩٧٠ / ٢٢.
٤ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨٢ ، ح ٢٩٧٠ / ٢٣.
٥ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨٢ ، ح ٢٩٧٠ / ٢٤.
٦ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ٢٢٨٣ ، ح ٢٩٧٥ / ٣٠.