علي موسى الكعبي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-98-6
الصفحات: ٢٧٦
أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي ، فأبطل الله اختيارهم ، ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون ) (١) ولذلك اختار من الامور ما أحب ، ونهى عما كره ، فمن أطاعه أثابه ، ومن عصاه عاقبه ، ولو فوض اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي ، إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلىاللهعليهوآله ، فلما أدب الله المؤمنين بقوله : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (٢) ، فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم ، ولم يقبل منهم إلا اتباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه ، فمن أطاعه رشد ، ومن عصاه ضل وغوى ، ولزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب نهيه ، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه ، وأنزل به عقابه.
أدلة المنزلة بين المنزلتين :
وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل. فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام : قل يا عباية. قال : وما أقول؟ قال عليهالسلام : إن قلت إنك تملكها مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها دون الله قتلتك.
__________________
(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٢.
(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٦.
قال عباية : فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال : تقول إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن يملكها إياك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملكك ، والقادر على ما عليه أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون : لا حول ولا قوة إلا بالله؟
قال عباية : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول عن معاصي الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله ، قال : فوثب عباية فقبل يديه ورجليه.
وروي عن أمير المؤمنين عليهالسلام حين أتاه نجدة (١) يسأله عن معرفة الله ، قال : يا أمير المؤمنين ، بماذا عرفت ربك؟ قال عليهالسلام : بالتمييز الذي خولني ، والعقل الذي دلني. قال : أفمجبول أنت عليه؟ قال : لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على إحسان ، ولا مذموماً على إساءة ، وكان المحسن أولى بالملامة من المسيء ، فعلمت أن الله قائم باق ، وما دونه حدث حائل زائل ، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل.
قال نجدة : أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين. قال عليهالسلام : أصبحت مخيراً ، فإن أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.
وروي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال عليهالسلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا بقضاء وقدر من الله. فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال : مه يا شيخ ، فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم
__________________
(١) وهو المعروف بنجدة الحروري ، لأنه صار من الخوارج الحرورية.
وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ، ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، ولسقط الوعد والوعيد ، ولما ألزمت الأشياء (١) أهلها على الحقائق ، ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشيطان ، إن الله جل وعز أمر تخييراً ونهى تحذيراً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً « ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار » (٢). فقام الشيخ فقبل رأس أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأنشأ يقول :
أنت الامام الذي نرجو بطاعته |
|
يوم النجاة من الرحمن غفرانا |
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا |
|
جزاك ربك عنا فيه رضوانا |
فليس معذرة في فعل فاحشة |
|
قد كنت راكبها ظلما وعصيانا |
فقد دلّ أمير المؤمنين عليهالسلام على موافقة الكتاب ، ونفى الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب ، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر ، ولسنا ندين بجبر ولا تفويض ، لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين ، وهو الامتحان والاختيار بالاستطاعة التي ملكنا الله وتعبدنا بها ، على ما شهد به الكتاب ، ودان به الأئمّة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.
مثل الاختبار بالاستطاعة :
ومثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبداً ، وملك مالاً كثيراً ،
__________________
(١) في نسخة من المصدر : الأسماء.
(٢) سورة صآ : ٣٨ / ٢٧.
أحب أن يختبر عبده على علم منه بما يؤول إليه ، فملكه من ماله بعض ما أحب ، ووقفه على أمور عرفها العبد ، فأمره أن يصرف ذلك المال فيها ، ونهاه عن أسباب لم يحبها ، وتقدم إليه أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها ، والمال يتصرف في أي الوجهين ، فصرف المال أحدهما في اتباع أمر المولى ورضاه ، والآخر صرفه في اتباع نهيه وسخطه.
وأسكنه دار اختبار ، أعلمه أنه غير دائم له السكنى في الدار ، وأن له داراً غيرها ، وهو مخرجه إليها ، فيها ثواب وعقاب دائمان ، فإن أنفذ العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به ، جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه إليها ، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه ، جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود.
وقد حد المولى في ذلك حداً معروفاً وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الاولى ، فإذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال وبالعبد ، على أنه لم يزل مالكاً للمال والعبد في الأوقات كلها ، إلا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الاولى إلى أن يستتم سكناه فيها ، فوفى له ، لأن من صفات المولى العدل والوفاء والنصفة والحكمة ، أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب؟ وتفضل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه على طاعته فيها نعيماً دائماً في دار باقية دائمة.
وإن صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الاولى في الوجه المنهي عنه ، وخالف أمر مولاه ، كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذره إياها ، غير ظالم له لما تقدم إليه وأعلمه وعرفه وأوجب له الوفاء
بوعده ووعيده ، بذلك يوصف القادر القاهر.
وأما المولى فهو الله جل وعز ، وأما العبد فهو ابن آدم المخلوق ، والمال قدرة الله الواسعة ، ومحنته إظهار الحكمة والقدرة ، والدار الفانية هي الدنيا ، وبعض المال الذي ملكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم ، والامور التي أمر الله بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتباع الأنبياء والاقرار بما أوردوه عن الله جل وعز ، واجتناب الأسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس. وأما وعده فالنعيم الدائم وهي الجنة ، وأما الدار الفانية فهي الدنيا ، وأما الدار الاخرى فهي الدار الباقية وهي الآخرة.
والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي ملك العبد ، وشرحها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليهالسلام أنها جمعت جوامع الفضل ، وأنا مفسرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء الله.
تفسير الأمثال الخمسة للإمام الصادق عليهالسلام :
١ ـ صحة الخلقة :
أما قول الصادق عليهالسلام ( وهي صحة الخلقة ) فإن معناه كمال الخلق للانسان وكمال الحواس وثبات العقل والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق ، وذلك قول الله : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) (١) فقد أخبر عز وجل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودواب البحر والطير وكل ذي حركة تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل والنطق ، وذلك
__________________
(١) سورة الأسراء : ١٧ / ٧٠.
قوله : ( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ) (١) ، وقوله ( يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ) (٢) وفي آيات كثيرة.
فأول نعمة الله على الانسان صحة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان ، وذلك أن كل ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسه مستكمل في ذاته ، ففضل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواس ، فمن أجل النطق ملك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمراً ناهياً ، وغيره مسخر له ، كما قال الله : ( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ) (٣) ، وقال : ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) (٤) ، وقال : ( والأنعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) (٥).
فمن أجل ذلك دعا الله الانسان إلى اتباع أمره وإلى طاعته ، بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة بعد أن ملكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ) (٦) وقوله : ( لا
__________________
(١) سورة التين : ٩٥ / ٤.
(٢) سورة الانفطار : ٨٢ / ٦ ـ ٨.
(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٣٧.
(٤) سورة النحل : ١٦ / ١٤.
(٥) سورة النحل : ١٦ / ٥ ـ ٧.
(٦) سورة التغابن : ٦٤ / ١٦.
يكلف الله نفساً إلا وسعها ) (١) ، وقوله : ( لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ) (٢) وفي آيات كثيرة.
فإذا سلب من العبد حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته ، كقوله : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ) (٣) الآية ، فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي لا يقوم بها. وكذلك أوجب على ذي اليسار الحج والزكاة لما ملكه من استطاعة ذلك ، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج ، قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) (٤) ، وقوله في الظهار : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ـ إلى قوله ـ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ) (٥) كل ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده إلا ما ملكهم استطاعته بقوة العمل به ، ونهاهم عن مثل ذلك ، فهذه صحة الخلقة.
٢ ـ تخلية السرب :
وأما قوله : ( تخلية السرب ) فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به ، وذلك قوله في من استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلاً ، كما قال الله تعالى : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.
(٢) سورة الطلاق : ٦٥ / ٧.
(٣) سورة النور : ٢٤ / ٦١.
(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.
(٥) سورة المجادلة : ٥٨ / ٣ و ٤.
سبيلاً ) (١) ، فأخبر أن المستضعف لم يخل سربه وليس عليه من القول شيء إذا كان مطمئن القلب بالايمان.
٣ ـ المهلة في الوقت :
وأما المهلة في الوقت ، فهو العمر الذي يمنع الانسان من حد ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير ، وذلك قوله : ( ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ) (٢) الآية ، وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره ، وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) (٣) الآية ، فلم يجعل عليهن حرجاً في إبداء الزينة للطفل ، وكذلك لا تجري عليه الأحكام.
٤ ـ الزاد :
وأما قوله : (الزاد) فمعناه الجِدة (٤) والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به ، وذلك قوله : ( ما على المحسنين من سبيل ) (٥) الآية ، ألا ترى أنه قبل عذر من لم يجد ما ينفق؟ وألزم الحجة كل من أمكنته البلغة والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، وكذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٩٨.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١٠٠.
(٣) سورة النور : ٢٤ / ٣١.
(٤) أي الاستطاعة والغنى.
(٥) سورة التوبة : ٩ / ٩١.
حقاً في مال الأغنياء بقوله : ( للفقراء الذين احصروا في سبيل الله ) (١) الآية ، فأمر بإعفائهم ولم يكلفهم الاعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.
٥ ـ السبب المهيج للفاعل على فعله :
وأما قوله : (والسبب المهيج) فهو النية التي هي داعية الانسان إلى جميع الأفعال ، وحاستها القلب ، فمن فعل فعلاً وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عملاً إلا بصدق النية ، ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله : ( يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ) (٢) ، ثم أنزل على نبيه صلىاللهعليهوآله توبيخاً للمؤمنين : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) (٣) الآية ، فإذا قال الرجل قولاً واعتقد في قوله ، دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل ، وإذا لم يعتقد القول لم تتبين حقيقته.
وقد أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها. لعلة مانع يمنع إظهار الفعل ، في قوله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) (٤) ، وقوله : ( لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ) (٥) ، فدل القرآن وأخبار الرسول صلىاللهعليهوآله أن القلب مالك لجميع الحواس يصحح أفعالها ، ولا يبطل ما يصحح القلب شيء.
فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليهالسلام أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين ، وهما الجبر والتفويض ، فإذا اجتمع في الانسان كمال هذه الخمسة الأمثال ، وجب عليه العمل كمالاً لما أمر الله عز وجل به
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٣.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٦.
(٣) سورة الصف : ٦١ / ٢.
(٤) سورة النحل : ١٦ / ١٠٦.
(٥) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٥.
ورسوله ، وإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنها مطروحاً بحسب ذلك ».
خاتمة الرسالة :
وأخيراً ختم الامام عليهالسلام رسالته بايراد المزيد من الشواهد القرآنية على الفتنة والبلوى التي بمعنى الاختبار ، مبيناً أن الله جل وعز لم يخلق الخلق عبثاً ، ولا أهملهم سدى ، ولا أظهر حكمته لعباً ، فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده ، وهو القول بين الجبر والتفويض ، وبهذا نطق القرآن ، وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول صلىاللهعليهوآله .
ثم كتب عليهالسلام : « فإن قال قائل : فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم؟ قلنا : بلى ، قد علم ما يكون منهم قبل كونه ، وذلك لقوله : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) (١) ، وإنما اختبرهم ليعلمهم عدله ولا يعذبهم إلا بحجة بعد الفعل ، وقد أخبر بقوله : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً ) (٢) ، وقوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) (٣) ، وقوله : ( رسلاً مبشرين ومنذرين ) (٤) ، فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده ، وهو القول بين الجبر والتفويض ، وبهذا نطق القرآن ، وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول صلىاللهعليهوآله .
فإن قالوا : ما الحجة فى قول الله : ( يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) (٥) وما أشبهها؟ قيل : مجاز هذه الآيات كلها على معنيين : أما
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٢٨.
(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٣٤.
(٣) سورة الاسراء : ١٧ / ١٥.
(٤) سورة النساء ٤ : ١٦٥.
(٥) سورة النحل : ١٦ / ٩٣.
أحدهما فإخبار عن قدرته ، أي إنه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب ، على نحو ما شرحنا في الكتاب. والمعنى الآخر أن الهداية منه ، تعريفه كقوله : ( وأما ثمود فهديناهم ـ أي عرفناهم ـ فاستحبوا العمى على الهدى ) (١) ، فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا.
وليس كلما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها ، من ذلك قوله : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم ) (٢) الآية ، وقال : ( فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ـ أي أحكمه وأشرحه ـ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) (٣).
وفقنا الله وإياكم إلى القول والعمل لما يحب ويرضى ، وجنبنا وإياكم معاصيه بمنه وفضله ، والحمد لله كثيراً كما هو أهله ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل » (٤).
ثانياً ـ كلماته في حقيقة الموت والمعاد :
بيّن الامام عليهالسلام في عدة أحاديث واقع الموت وحقيقته ، وأنه ينبغي للمؤمن إذا نزل بساحته أن لا يحزن ولا يجزع لأن الجهل بحقيقة الموت هو سبب ذلك
__________________
(١) سورة فصلت : ٤١ / ١٧.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٧.
(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ١٧ و ١٨.
(٤) تحف العقول / الحراني : ٤٥٨.
الحزن والجزع ، ومنها ما رواه الشيخ الصدوق بالاسناد عن الامام أبي الحسن الهادي عليهالسلام ، قال : « قيل لمحمد بن علي بن موسى صلوات الله عليه : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ فقال : لأنهم جهلوه فكرهوه ، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عز وجل لأحبوه ، ولعلموا أن الآخرة خير من الدنيا.
ثم قال عليهالسلام : ما بال الصبي والمجنون يمتنعان عن الدواء المنقي لبدنهما ، والنافي للألم عنهما؟ قال : لجهلهما بنفع الدواء. ثم قال عليهالسلام : والذي بعث محمداً بالحق نبياً ، إن من استعد للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج ، أما إنهم لو عرفوا ما يؤدي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبوه أشد ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات وجلب السلامات » (١).
وروى الشيخ الصدوق بالاسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام ، قال : دخل علي بن محمد عليهالسلام على مريض من أصحابه ، وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال عليهالسلام له : « يا عبد الله ، تخاف من الموت لأنك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتسخت وتقذرت وتأذيت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أن الغسل في حمام يزيل ذلك كله ، أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك ، أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك؟ فقال : بلى يا ابن رسول الله. قال الامام عليهالسلام : فذلك الموت هو ذلك الحمام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاورته ، فقد نجوت من كل هم وغم وأذى ، ووصلت إلى كل
__________________
(١) معاني الأخبار : ٢٩٠ / ٨ ، الاعتقادات / الصدوق : ٣٤.
سرور وفرح. فسكن الرجل ونشط واستسلم ، وغمض عين نفسه ، ومضى لسبيله » (١).
وقال عليهالسلام في العلاقة بين الأجل وصلة الرحم : « إن الرجل ليكون قد بقي من أجله ثلاثون سنة ، فيكون وصولاً لقرابته وصولاً لرحمه ، فيجعلها الله ثلاثة وثلاثين سنة ، وإنه ليكون قد بقي من أجله ثلاث وثلاثون سنة فيكون عاقاً لقرابته قاطعاً لرحمه ، فيجعلها الله ثلاث سنين » (٢).
وكان الامام عليهالسلام يستعرض عقائد أصحابه ويصححها ، ومما جاء في باب الموت والمعاد ما روي عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، قال : « دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، فلما بصر بي قال لي : مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت ولينا حقاً.
قال : فقلت له : يا ابن رسول الله ، إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل؟ فقال : هات يا أبا القاسم.
الى أن قال : وأقول : إن المعراج حق ، والمساءلة في القبر حق ، وإن الجنة حق ، وإن النار حق ، والصراط حق ، والميزان حق ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وإن الله يبعث من في القبور ، فقال علي بن محمد : يا أبا القاسم ، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » (٣).
__________________
(١) معاني الأخبار : ٢٩٠ / ٩ باب معنى الموت ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٥٦.
(٢) بحار الأنوار ٧٤ : ١٠٣.
(٣) إكمال الدين : ٣٧٩ / ١ ـ باب ٣٧ ، التوحيد : ٨١ / ٣٧.
ثالثاً ـ كلماته في القرآن وتفسيره :
غضاضة القرآن :
عن يعقوب بن السكيت النحوي ، قال : « سألت أبا الحسن علي بن محمد بن الرضا عليهمالسلام : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ قال : إن الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة » (١).
اجماع الاُمّة على أن القرآن حق :
ذكر الامام الهادي عليهالسلام في أول رسالته الى أهل الأهواز أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ولا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه.
فكتب عليهالسلام : « اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنا نظرنا في الآثار ، وكثرة ما جاءت به الأخبار ، فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام ممن يعقل عن الله جل وعز ، لا تخلو عن معنيين : إما حق فيتبع ، وإما باطل فيجتنب.
وقد اجتمعت الاُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ، وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون ، مهتدون ، وذلك بقول رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا تجتمع أمتي على ضلالة. فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الاُمّة كلها حق ، هذا إذا لم يخالف بعض بعضاً. والقرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه ، فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه ، وأنكر الخبر طائفة من الاُمّة ، لزمهم الاقرار به ضرورة حين اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب ، فإن
__________________
(١) أعلام الدين / الديلمي : ٢١١ ، مجموعة ورام ٢ : ٧٢.
هي جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملة » (١).
خلق القرآن :
لقد اُثيرث مسألة خلق القرآن منذ زمان المأمون ، فقد ابتدعها الحكم العباسي ، وأثاروها للقضاء على خصومهم ، وقد قتل خلق كثيرون من جرائها ، وانتشرت الأحقاد والأضغان بين المسلمين.
وانقسم العلماء فيها إلى قسمين ؛ فمنهم من قال بقدم كلام اللّه سبحانه ، ومنهم من قال بحدوثه ، مما أدّى إلى خلق فتنة ومحنة راح ضحيتها الكثير من الأعلام ، وكان جواب الأئمّة عليهمالسلام المعاصرين لتلك المحنة واضحا ، يقوم على اعتبار الجدال في القرآن بدعة مع التفريق بين كلام اللّه تعالى وبين علمه ، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم ، قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) (٢) ، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.
روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، قال : « كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليهمالسلام إلى بعض شيعته ببغداد : بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإياك من الفتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلا الله عز وجل ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين ، جعلنا الله
__________________
(١) تحف العقول / الحراني : ٤٥٩.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢.
وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون » (١).
تفسير القرآن :
ليس من شك أن حديث أهل البيت عليهمالسلام من أهم مفاتيح معرفة كتاب الله ، ولا يمكن لأي مفسر يريد أن يفهم كتاب الله تعالى أن يستغني عما أثر عنهم عليهمالسلام في هذا الميدان ، وإذا لم يضع نصب عينيه الخطوط الأساسية التي رسموها لفهم القرآن الكريم ، فإن الفشل سيكون نصيبه.
ومن تتبع التفسير الأثري الوارد عن أهل البيت عليهمالسلام يجد أن لهم منهجاً خاصاً ومعروفاً في تفسير القرآن الكريم ، والخطوط الرئيسية لهذا المنهج تتمثل في تفسير القرآن بالقرآن ، وقولهم بسلامة الكتاب الكريم من التحريف ، هذا مضافاً إلى جملة عقائدهم المعروفة في كتب الكلام والعقائد كتنزيه الخالق عن التجسيم والوصف والرؤية وتنزيه الأنبياء عن المعاصي ، وفسّروا الروايات والآيات التي قد يستظهر منها ما يخالف هذه المعاني بمعانٍ مناسبة لجوّ الآيات والروايات ، وأمامنا تراث ضخم وفذ من تفسير أهل البيت عليهمالسلام جمعه السيد هاشم البحراني المتوفى سنة ١١٠٧ في كتابه (البرهان في تفسير القرآن) والشيخ عبد علي بن جمعة العروسي المتوفى سنة ١١١٢ في تفسيره (نور الثقلين) فضلاً عن تفاسير المتقدمين الواصلة الينا مثل تفسير فرات الكوفي والعياشي وعلي بن إبراهيم القمي رحمهم الله. وللامام الهادي عليهالسلام نصيب وافر في هذا الاتجاه جمع بعضه في مسنده.
رابعاً ـ كلماته في الإمامة والولاية :
أكد الإمام الهادي عليهالسلام في الكثير من كلماته على علم الامام وصفاته ،
__________________
(١) التوحيد / الصدوق : ٢٢٤ / ٤.
وفرض الولاية لأهل البيت عليهمالسلام ، وضرورة معرفتهم والتصديق بهم والتمسك بهديهم وأداء حقوقهم التي جعلها اللّه لهم سيما المودة لهم ، وما لذلك من معطيات جمة في الدنيا والآخرة.
وذكر الوصية لأمير المؤمنين عليهالسلام والأحاديث الدالة على امامته بعد الرسول صلىاللهعليهوآله كحديث الثقلين ، وبين أنه خبر صحيح مجمع عليه ولا اختلاف فيه عند جميع المسلمين ، لأنه موافق للكتاب ، والكتاب يشهد بتصديقه ، من هنا لزم على الاُمّة الاقرار به ضرورة ، وذكر آيات وأحاديث أُخرى تشهد وتدل على ذلك ، منها التصدق بخاتمه وهو راكع ونزول آية في ذلك تدل على ولايته وخلافته ، ومنها حديث الغدير وحديث المنزلة.
وذكر موضوع الغيبة ، مؤكداً النص على امامة الخلف من بعد ولده الحسن العسكري عليهماالسلام وكونه صاحب غيبة طويلة يخرج بعدها فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
١ ـ ولاية أهل البيت :
عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، قال : « دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، فلما بصر بي قال لي : مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت ولينا حقاً.
قال : فقلت له : يا ابن رسول الله ، إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضياً أثبت عليه حتى ألقي الله عز وجل؟ فقال : هات يا أبا القاسم.
فقلت : إني أقول .... أن محمداً صلىاللهعليهوآله عبده ورسوله خاتم النبيين ، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة ، وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر من بعده أمير الموءمنين علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ،
ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي.
فقال عليهالسلام : ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال : فقلت : وكيف ذاك يا مولاي؟ قال : لأنه لا يرى شخصه ، ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
قال : فقلت : أقررت. وأقول : إن وليهم ولي الله ، وعدوهم عدو الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله ....
فقال علي بن محمد عليهماالسلام : يا أبا القاسم ، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » (١).
وروى الامام أبو الحسن الهادي عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام ، عن جده الامام أمير المؤمنين عليهالسلام : « أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من سره أن يلقى الله عز وجل آمناً مطهراً لا يحزنه الفزع الأكبر ، فليتولك يا علي وليتول ابنيك الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي ، ثم المهدي وهو خاتمهم ، وليكونن في آخر الزمان قوم يتولونك يا علي ، يشنأهم الناس ، ولو أحبوهم كان خيراً لهم لو كانوا يعلمون ، يؤثرونك وولدك على الآباء والاُمهات والاخوة والأخوات ، وعلى عشائرهم والقرابات ، صلوات الله عليهم أفضل الصلوات ، أولئك يحشرون تحت لواء
__________________
(١) اكمال الدين : ٣٧٩ / ١ ـ باب ٣٧ ، التوحيد : ٨١ / ٣٧.
الحمد ، يتجاوز عن سيئاتهم ، ويرفع درجاتهم جزاء بما كانوا يعملون » (١).
٢ ـ حديث الثقلين وشواهده :
ذكر الامام الهادي عليهالسلام في رسالته الى أهل الأهواز حديث الثقلين وشواهده باعتباره أول خبر ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآله يعرف تحقيقه وتصديقه والتماس الشهادة عليه من الكتاب والسنة ، من هنا صار الاقتداء بأمثاله من الأخبار فرضاً واجباً على كل مؤمن ومؤمنة ، ولزم أفراد الاُمّة الاقرار به ضرورة لأنهم اجتمعوا في الأصل على تصديق الكتاب ، فإن هم جحدوا وأنكروا لزمهم الخروج من الملة.
فكتب : « فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه ، خبر ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم ، حيث قال : إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض. فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصاً ، مثل قوله جل وعز : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) (٢).
وروت العامة في ذلك أخباراً لأمير المؤمنين عليهالسلام أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه. فوجدنا رسول الله صلىاللهعليهوآله قد أتى بقوله : من كنت مولاه فعلي مولاه. وبقوله : أنت مني بمنزلة هارون من
__________________
(١) الغيبة / الطوسي : ١٣٦ / ١٠٠.
(٢) سورة المائدة٥ : ٥٥ ـ ٥٦.
موسى ، إلا أنه لا نبى بعدي. ووجدناه يقول : علي يقضي ديني ، وينجز موعدي ، وهو خليفتي عليكم من بعدي. فالخبر الأول الذي استنبطت منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه ، لا اختلاف فيه عندهم ، وهو أيضاً موافق للكتاب ، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشواهد الاُخر لزم على الاُمّة الاقرار بها ضرورة ، إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة ، ووافقت القرآن ، والقرآن وافقها.
ثم وردت حقائق الأخبار من رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الصادقين عليهمالسلام ونقلها قوم ثقات معروفون ، فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كل مؤمن ومؤمنة لا يتعداه إلا أهل العناد ؛ وذلك أن أقاويل آل رسول الله صلىاللهعليهوآله متصلة بقول الله ، وذلك مثل قوله في محكم كتابه : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً ) (١).
وجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : من آذى علياً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن ينتقم منه. وكذلك قوله صلىاللهعليهوآله : من أحب علياً فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله. ومثل قوله صلىاللهعليهوآله في بني وليعة : لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، قم يا علي فسر إليهم. وقوله صلىاللهعليهوآله يوم خيبر : لأبعثن إليهم غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كراراً غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله عليه. فقضى رسول الله صلىاللهعليهوآله بالفتح قبل التوجيه ، فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلما كان من الغد دعا علياً عليهالسلام فبعثه إليهم ، فاصطفاه بهذه المنقبة ، وسماه كراراً غير فرار ، فسماه الله محباً لله ولرسوله ،
__________________
(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٧.