تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

هذا من الثمرات أنه لا طاعة لهما في معصية الله تعالى فلا تطع الوالدين في ترك صلاة ولا ترك صيام ، ولا غير ذلك من الواجبات ، وقد تقدم الخلاف في اشتراط إذنهما في الحج ، والجهاد ، وطلب العلم.

قوله تعالى

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) [لقمان : ١٥]

قيل : أراد سبيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبيل أصحابه.

وقيل : سبيل العلماء المنيبين إلى الله ، وفي ذلك دليل على أن الإجماع حجة كما دل قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [النساء : ١١٥](١).

قوله تعالى

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان : ١٦ ـ ١٩]

ثمرات هذه الجملة :

قوله : (يا بُنَيَ) أراد أن لقمان وعظ ابنه وكان كافرا ، وقد قال له ابنه : أرأيت الحبة تقع في مقل البحر أي : في مغاصه يعلمها الله ، وقال :

__________________

(١) وردت الآية في ب هكذا.

٤١

إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة ؛ لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.

قوله تعالى : (يا بُنَيَ) هذا تصغير ترحم وشفقة ، فينبغي للواعظ أن يكون حاله حالة الشفيق المستنقذ لصاحبه من الهلكة فيأتي بالقول اللين.

قال في الحاكم : لما سمع هذا الوعظ من أبيه انشقت مرارته من الخوف ومات.

وقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ).

هذه أربعة أشياء مأمور بها وهي واجبة ، وإن كان في بعض ذلك إجمال كالأمر بالصلاة ، وبيانه من جهة السنة ، والمعروف وسمي بذلك ؛ لأن العقل يعرف حسنه والمنكر ما ينكره العبد ، وقوله تعالى : «واصبر على ما أصابك» يعني من الأمور التي أوجبها الله تعالى عليك.

وقيل : ذلك عام في جميع الشدائد.

وقوله تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) وقرئ (ولا تصاعر خدك للناس) يعني : لا تتكبر فتحقر الناس ، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك ، عن ابن عباس.

وقد قيل : هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأن الآمر والناهي إذا تكبرا نفرا عنه ، وإذا حسن خلقه قبل منه.

وقيل : هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه ، والصعر داء يصيب البعير يلوي عنقه ، وهذا مروي عن عكرمة.

وقيل : الذي يكون بينهم أحسن ، فإذا لقيت أحدهم أعرضت عنه عن مجاهد.

وقيل : لا تحتقر الفقير ، بل يكن عندك كالغني ، وهذا مروي عن قتادة ، والربيع.

٤٢

وقيل : لا تعبس في وجوه الناس.

وقال تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي بطرا وبساطا وخيلاء ؛ لأن الله (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ، أي : متكبر على الناس ، مستطيل عليهم.

وقوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي امش متواضعا ويكون مشيك وسطا لا ثقيلا ودبيبا كمشي المتماوتين ، ولا تثب وثب الشطار.

قال في الكشاف : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن» (١).

وأما قول عائشة في عمر ـ رضي الله عنه ـ كان إذا مشى أسرع فأراد بالسرعة أن لا يمشي مشي المتماوت ، وهذا مع عدم الضرورة.

تنبيه

يقال : قد يمشي المتزوج بالثقل الكلي فهل له رخصة فقلنا : ظاهر النهي العموم وليس في قوله عليه‌السلام : «كاد العروس أن يكون أميرا» ما يخرج من العموم.

وقيد قيل : معنى واقصد في مشيك أسرع لتنفي عن نفسك الكبر.

وهو غريب.

وقيل : المراد لا تمش من غير قصد مصلحة ؛ لأنه عبث.

وقوله تعالى : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) هذا نهي عن الجهل الكلي ؛ لأن من غض لصوت التواضع ثم إن الله تعالى أكد هذا النهي بما يستقبح ذكره وصوته ، وهو صوت الحمير.

قيل : والحمار مثل في الذم التبليغ ، وكذا نهاقه ، ولهذا لما فحش ذكره كنوا عنه بطويل الأذان.

__________________

(١) أورده في كنز العمال عن أبي هريرة وعزاه إلى أبي نعيم في الحلية.

٤٣

قال جار الله : وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري لفظ ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة ، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا فالتصريح هنا بذكره من غير كناية مبالغة في النهي.

وقيل : أراد الجهال من الناس ، عن زيد بن علي.

قوله تعالى

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) [لقمان : ٢٠]

قيل : نزلت في النضر بن الحارث حين زعم أن الملائكة بنات الله.

وثمرتها : النهي عن الجدال بالباطل.

قوله تعالى

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١]

ثمرة ذلك : أنه لا يجوز التقليد ، يعني : في مسائل التوحيد.

قال المتكلمون : إذ لو جاز لم يكن تقليد واحد أولى من تقليد آخر فيمتنع ، ويدل على أنه يجوز الحجاج في الدين.

قوله تعالى

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤]

وفي ذلك شبهة لبعض أصحاب الشافعي ؛ لأنه قال : لا حد لأكثر الحمل.

قلنا : لا مأخذ من الآية ؛ لأنا لم نقل قولا يقضي بأنا نعلم ما في الأرحام.

٤٤

سورة الجرز (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [السجدة : ١٥]

المعنى بقوله : (خَرُّوا سُجَّداً) أي : سجدوا تواضعا لله وخشوعا ، وشكرا على ما رزقهم من الإسلام ، (وَسَبَّحُوا) أي : نزهوا الله من نسبة القبائح إليه ، وأثنوا عليه حامدين ، ولم يستكبروا وهذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [الإسراء : ١٠٧].

وقيل : المراد بالسجود : الخضوع ، وثمرة ذلك استحباب سجود الخضوع والشكر.

وقوله تعالى

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٦ ـ ١٧]

هذا ترغيب فيما ذكر.

__________________

(١) وتسمى أيضا سورة السجدة.

٤٥

النزول

قال مالك بن دينار : سألت أنس بن مالك عن قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) فقال : كان أصحاب رسول الله يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فأنزل الله هذه الآية.

وعن أنس : أنها نزلت في الذين لا ينامون قيل العشاء الآخرة.

وعن معاذ : أنها نزلت في صلاة الليل ، وروي مرفوعا.

وعن الحسن ، ومجاهد : هي في التهجد.

قال في الكشاف : وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي ليقم الذين يحمدون الله في الباساء والضراء فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنة ، ثم يجلس سائر الناس» (١).

وفي عين المعاني عن الحسن ، ومجاهد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات يقرأ فيهن فاتحة الكتاب ، والم السجدة ، والدخان ، وياسين ، وتبارك الملك كان كمثلهن ليلة القدر ، وأجير من عذاب القبر ، وشفع من أهل بيته ممن وجبت له النار.

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «الصلاة بين العشاءين وهي صلاة الأوابين ، من صلى بينهما عشرين ركعة يقرأ في كل ركعة قل هو الله احد مرة حفظ الله دينه ونفسه وأهله وآخرته ودنياه».

وقوله تعالى (خَوْفاً وَطَمَعاً) يعني : خوفا من عذاب الله ، وطمعا في رحمة الله.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد في مسنده.

٤٦

قال الحاكم : وهكذا العبادات الشرعية يجب أن تكون كذلك.

وكذلك قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يعني : في سبيل الله ، ويدخل في هذا الواجب والنفل.

ثمرة هذه الجملة : الترغيب في صلاة الليل ، وقد رجحه الحاكم وقال : إنه روي مرفوعا ولا خلاف أنه مسنون.

ومن الثمرات : الترغيب في الإنفاق ، ومن ثمراته : أن المصلي ونحوه إذا أراد بفعله السلامة من العذاب ، والفوز بالجنة صح ذلك ، كما ذكر المنصور بالله ، خلاف ما يحكى عن المتكلمين : أن ذلك لا يجزي ؛ لأنه لم يرد بها لما شرعت من كونها لطفا في الواجبات العقلية.

وقوله تعالى

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة : ٢٢]

ثمرتها : وجوب تدبر الآيات ، وتحريم التقليد في أصول الدين.

قوله تعالى

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [السجدة : ٣٠]

قيل : المعنى لا تقابلهم بالأذى ، وادعهم بالجميل.

وقيل : أعرض عنها إعراض استخفاف.

٤٧

سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١]

النزول

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما هاجر إلى المدينة كان يحب إسلام قريظة وبني النضير ، وبني قينقاع ، وقد تابعه ناس منهم وهم على النفاق ، فكان يلين لهم جانبه ، ويكرم صغيرهم وكبيرهم ، ويجاوز عن قبيحهم ، فنزلت.

وقيل : إن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة وقام معه عبد الله بن أبي وغيره وقالوا : ارفض ذكر آلهتنا ، وقل : إنها تنفع ، وتشفع ، وندعك وربك ، فشق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت.

فالمعنى : اتق الله أي واظب على ما أنت عليه من التقوى.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي : لا تساعدهم على شيء ، ولا تقبل منهم رأيا وجانبهم.

ثمرة ذلك : أنه لا يقبل رأي من عادى المؤمنين ، ولا يفضى إليهم ولا يركن ، وأنه يجوز اللين له إذا طمع في إسلامه ، كما فعل عليه‌السلام حتى أعلمه الله تعالى.

٤٨

وقيل : (اتَّقِ اللهَ) في نقض العهد ؛ لأن الوفاء به واجب.

قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) المعنى : أن هذا متناف ؛ لأن الدعي لا نسب له ، والابن من ثبت نسبه.

ثم قال تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ).

قيل : وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة ، وهو رجل من كلب سبي صغيرا ، فاشتراه حكيم ابن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فأنزل الله هذه الآية.

وقوله تعالى في هذه السورة : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠]

وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه خادم ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده ، وكان ينسب إليه.

وثمرة ذلك تحريم الانتساب إلى غير الأب ، وقد وردت السنة بتحريم ذلك.

قال في التهذيب : وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله من انتمى إلى غير أبيه».

وروي : «من انتمى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة» (١).

ومن هذا من ينسب نفسه إلى ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس منهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ج ١ / ص ١٥٥ / ح ٤٣٣. ومسلم في صحيحه ج ١ / ص ٨٠ / ح ٦١ ، ج ١ / ص ٨٠ / ح ٦٢ ، ج ١ / ص ٨٠ / ح ٦٣ ، ج ١ / ص ٨١ / ح ٦٣. والبخاري في صحيحه ج ٣ / ص ١٢٩٢ / ح ٣٣١٧ ، ج ٦ / ص ٢٤٨٥ / ح ٦٣٨٥ ، ج ٦ / ص ٢٤٨٥ / ح ٦٣٨٦.

٤٩

قوله تعالى

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) [الأحزاب : ٥]

يعني : الأخوة في الدين ، وأولياؤكم في الدين ، فيقول : هذا أخي وهذا مولاي.

قوله تعالى

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) [الأحزاب : ٦]

النزول

قيل خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض مغازيه ، فأمر رجلا من أصحابه بالخروج فقال : حتى استأذن أبويّ ، فنزلت.

قال الزمخشري : هو أولى في كل شيء ، ولهذا أطلق ولم يقيد ، فيدخل في أمور الدين وأمور الدنيا ، فيجب عليهم أن يكون أحب من أنفسهم ، ويكون حقه أبر من حقوق نفوسهم ، فيبذلوا أنفسهم دون نفسه.

وفي عين المعاني أقوال :

الأول : في السمع والطاعة.

الثاني : عن ابن عباس : محبته أوجب من محبة أنفسهم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لن يبلغ أحدكم ذروة الإيمان حتى أكون أحب إليه من ماله ، وولده ، وسائر الناس أجمعين».

الثالث : ليعظهم في الأمر والنهي ؛ لأنه يدعوهم إلا الإيمان وأنفسهم إلى الهلاك.

٥٠

الرابع : في قضاء ديونهم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، فأيما مؤمن هلك وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك دينا وضياعا فإليّ» الحديث من الكشاف.

قال في الانتصار : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتنع من الصلاة على من مات وعليه دين حتى يقضى ، فلما فتح الله الفتوح قال عليه‌السلام : «من خلف مالا فلأهله ، ومن ترك كلا أو عيالا فإليّ» وفي قراءة ابن مسعود (من أنفسهم وهو أب لهم).

وقال مجاهد : كل نبي فهو أبو أمته ، ولذلك صار المؤمنون إخوة ؛ لأن النبي أبوهم في الدين.

وقوله تعالى

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦]

هذا تشبيه لهن بالأمهات في بعض الأحكام ، وهو وجوب تعظيمهن وتحريم نكاحهن ، ولذا قال تعالى في السورة هذه : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) [الأحزاب : ٥٣] ، وهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ لسنا أمهات النساء ، إشارة إلى هذا المعنى.

قال في الكشاف : والدليل على ذلك أن التحريم لم يتعد إلى بناتهن ، وقد يحتج من يقول بتحريم الفاطميات بهذه الآية أن بنات فاطمة بنات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا كن أزواجه أمهات ، فبناته أخوات ، وذلك ساقط ؛ إذا للزم أن لا يتزوج فاطمي فاطمية.

قال في الانتصار : تحريم أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلوم من الدين من استحله كفر ، وذلك فيمن دخل بها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا فيمن لم يدخل بها.

٥١

قال في عين المعاني : وهمّ عمر ـ رضي الله عنه ـ برجم امرأة فارقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونكحت بعده فقالت : لم هذا وما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ حجابا ، ولا سميت للمسلمين أما ، فكف عنها.

وأما من طلقها وقد دخل بها قال في عين المعاني اختلف في ذلك ، والصحيح التحريم ، ومن أباحها قال : قد قطع رسول الله العصمة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة».

وقوله تعالى

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأحزاب : ٦]

قيل : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المؤمنين فكان إذا مات أحدهما ورثه الآخر ، وقد استدل بهذه الآية من ورّث ذوي الأرحام ، وهم أكثر الأئمة ، والحنفية وذهب إليه من الصحابة علي عليه‌السلام ، وعمر ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وابن مسعود ، وأبو عبيدة ، وبه قال شريح ، وعمر بن عبد العزيز.

وقال القاسم ، والشافعي ، والإمام يحيى بن حمزة : إنه لا ميراث لهم ، وذهب إلى هذا من الصحابة زيد بن ثابت ، وأبو بكر ، وابن الزبير.

وروي عن ابن مسعود ، وابن عمر القولان معا.

وذهب طائفة من أهل الحديث أنه يرث الخال وحده.

وذهب بعض العلماء إلى قسمة المال بينهم بالسوية ، قربوا أم بعدوا.

وحجتنا هذه الآية فإنها قد جعلت للرحم أولوية فلا تصرف إلى بيت المال مع وجود بنت بنت ، أو بنت أخ ، وهي دليل أيضا على إثبات الرد ، فلا يصرف ما زاد على نصيب البنت إلى بيت المال ؛ لأنها أولى ، لا يقال : المراد هنا في الإمام ؛ لأن الإمامة لا تستحق من طريق الإرث ، ومن الأدلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخال وارث» وروي «الخال وارث من لا وارث له».

٥٢

وعن علي عليه‌السلام أنه قسم بين عمة وخالة ، فأعطى العمة الثلثين وأعطى الخالة الثلث ، ومن ورّث ذوي الأرحام قال بالرد ، ومن ردّ ورث ذوي الأرحام.

وقال المهدي محمد بن المطهر : الرد ثابت ، ولا ميراث لذوي الأرحام

ومن أبطل ميراثهم قال : إن العصبة لا ينقطعون ، ولكن حصل اللبس ، وإذا التبس المالك كان المال لبيت المال.

ومن حجج المورثين أن قالوا : قد ثبت الإجماع أن معتق الأم يرث ، وهو عصبة للأم من النسب ، وعصبة النسب أقوى ، فلزم أن يكون الخال وأب الأم وارثين ، وهذا يرد عليه أن يقال : هذا وارد عليكم إن ورثتم معتق الأم قبل الأم ، أما العصيفري فقد قدم ذوي الأرحام على معتق الأم.

وقوله تعالى

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) [الأحزاب : ٦]

واختلف المفسرون في الأولياء المذكورين فقيل : أراد بذلك الأولياء من المؤمنين والمهاجرين. والمعنى : أن القرابة أحق بكل نفع من هبة أو صدقه وغير ذلك إلا الوصية ؛ لأن الوصية للوارث لا تصح ، هذا ما في الكشاف.

وقد روي أن المراد بالأولياء المؤمنين من غير القرابة عن ابن زيد ، ومقاتل.

وقيل : أراد بالأولياء القرابة من المشركين ، وهذا مروي عن محمد ابن الحنفية ، وقتادة ، وعطاء ، وعكرمة ، واعترض هذا بقوله في سورة الممتحنة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١].

وقيل : هذا يصح في أهل الذمة في قوله تعالى في الممتحنة : (لا

٥٣

يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨] والمراد بالمعروف الوصية لهم ، وقد دلت الآية على صحة الوصية جملة ، لكن قد انطوى كلام المفسرين في هذه على مسألتين :

الأولى : الوصية للوارث.

والثانية : الوصية للكافر.

أما الأول فمذهب عامة الأئمة أنها تصح كالأجنبي ، وادعى أبو طالب إجماع أهل البيت ، وذلك أخذا بالعموم في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها) [النساء : ١١] وبقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] ونسخ الوجوب لا ينسخ الاستحباب.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وعامة الفقهاء ـ وقد يدعون أنه إجماع : إنها لا تصح ، وهذا يحكى عن المؤيد بالله ، ورواه زيد بن علي عن علي عليه‌السلام ، واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» تأولناه على الوجوب ، أو على أن المراد بما زاد على الثلث ، وخص الوارث ؛ لأنهم كانوا يورثون بالوصية ، وقول المؤيد بالله الأخير مع الفقهاء ، واختلفوا إذا جاء الوارث ، فالأكثر الصحة ؛ لأن المنع لحقه لكون ذلك يؤدي إلى الشحناء.

وقال أهل الظاهر وهو يحكى عن الشافعي أنه لا يصح لعموم المنع ، ويقولون : لم يعقل معنى المنع.

أما صحة الوصية للأجنبي فهو كالإجماع ، وفي النهاية عن الحسن وطاوس وإسحاق : لا تصح الوصية ، لأن الألف واللام كالحصر ، وذلك في قوله تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

٥٤

قلنا : عموم الأدلة تقضي بالجواز في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بالثلث والثلث كثير» وإذا قد صح الإيصاء بالعتق مع كون العبد أجنبيا.

وأما المسألة الثانية فتصح الوصية للذمي.

قال في الشرح : بالإجماع ، ويستدل عليه بقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية.

قال أبو طالب وأبو حنيفة والحربي : المستأمن كالذمي.

وأما الوصية للحربي فلا تجوز للذي في دار الحرب عندنا وأبي حنيفة لقوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة : ٩].

وفي الشرح عن الشافعي : أنها جائزة.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩]

هذا وارد في حديث الأحزاب يوم الخندق.

وفي حديث الخندق : أن نعيم بن مسعود أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إني أسلمت ولم يعلم قومي ، فمرني بما شئت وهو من غطفان ، فقال عليه‌السلام : «خذل عنا ما استطعت فالحرب خدعة» فجاء إلى بني قريظة فقال : قد علمتم أن ديني ودين آبائكم واحد ، وأن قريش وغطفان إن راوا نهزة أصابوها وإلا انصرفوا ، ولا طاقة لكم بحرب محمد فلا تقاتلوا حتى

٥٥

تأخذوا رهائن من قريش وغطفان ، إن محمدا إن حاربكم نصروكم عليه ، فقالوا : نعم الرأي هذا ، ثم جاء إلى قريش وغطفان وقال : إن هؤلاء اليهود ندموا على ما فعلوا وقد صالحوا محمدا ووعدوه أن يأخذوا منكم رهائن من أشرافكم ، ويدفعوها إليه فيضرب أعناقهم ، ثم يكونوا يدا عليكم ، فلما كان ليلة السبت أرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قريضة فقالوا : إنا بدار مضيعة ولا بد من المناجزة غدا ، فقالوا : غدا يوم سبت لن نحارب ، وإنا لن نحارب معكم حتى تعطونا رهائن ، فإنا نخشى إن كان الظفر لمحمد أن ترجعوا إلى بلادكم فأبوا أن يرهنوا ، وقالوا : صدق نعيم ، وكان ذلك سببا في تفرقهم ، وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة فجاءه جبريل عليه‌السلام وقت الظهر وأمره بالمسير إلى بني قريضة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كان سامعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريضة» ويروى أن صلاة العصر فاتت على ناس فلم يصلوها إلا بعد العشاء الآخرة ، وكان من القصة تحكيم سعد بن معاذ ، وحكم بقتل من اخضرّ مئزره.

وهذه القصة : قد تضمنت أحكاما :

الأول : جواز الكذب للنصرة في الحرب ، وقد روي في البخاري ومسلم عن أم كلثوم ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينوي خيرا ويقول خيرا» وزاد مسلم في روايته : ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث ـ يعني الحرب ـ والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، والمرأة زوجها.

قال النواوي : فهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة ، قال : وقد ضبط العلماء ما يباح فيه ، وأحسن ما رأيته ما قاله الغزالي : إن الكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكل مقصد محمود يمكن

٥٦

التوصل إليه بالصدق والكذب ، فالكذب حرام ؛ لأنه لا يحتاج إليه ، وإن لم يمكن إلا بالكذب ، وإن كان المقصود واجبا كأن يختفي رجل من ظالم خوف القتل فالكذب واجب ، وذلك بأن يخفيه ، وإن كان المقصود مباحا فالكذب مباح ، فلو كان معه وداعة لغيره وطلبها الظالم ليأخذها فالكذب واجب ، ولو أخبر بها ضمنها ، والأحوط أن يوري ولو حلف ما هي معه لزمه الحلف ، ويوري في يمينه ، فإن لم حنث على الأصح.

وقيل : لا يحنث ، وهذا كلام النواوي ، فصار الكذب حراما وواجبا ومكروها ، ومباحا ، فالحرام حيث لا تدعو ضرورة دينية إليه ، ولا يوهم من جوار وضع الأخبار في الترغيب في الطاعات والتشديد في المعاصي خطأ ، ذكره في منتخب الأحياء ؛ لأن ذلك يؤدي إلى عدم الثقة في الشرائع ، والواجب حيث يحصل بالصدق قبيح ، والمكروه أن يوري فيما لا ضرورة فيه ؛ لأن فيه تغريرا بالسامع ، وخداعا ، وفي منتخب الأحياء جعله حراما أعني التورية التي لا يحتاج إلى مقصودها.

والمباح هو ما لا يمكن التوصل إلى المحمود إلا به ، ولم يكن المقصود واجبا ، وينظر في صورة المباح ، وقد تقدم طرف من هذا ، وقد ذكر من هذا ، أو قد ذكر الكثير من أهل العلم في التورية آثارا كثيرة.

وفي حديث نعيم بن مسعود أنه قال لقريش وغطفان : إن بني قريظة قد صالحوا محمدا كذبا وهو واجب ، وظاهره من غير تورية ، فهذا حكم ، وقد تقدم ذكر هذا.

الحكم الثاني : جواز مخالطة الكفار ، والإيهام بأنه على ملتهم لمصلحة ، وفي قصة أهل الكهف وهو ما حكى الله سبحانه من قوله : (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف : ١٩] نظير هذا.

الحكم الثالث : أن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأخير الفرض لازم ، ويأتي

٥٧

مثله من الإمام كما قال أهل المذهب : إن حي على خير العمل كان ثابتا وقت الرسول عليه‌السلام ، فأمر عمر بتركها لرأي مصلحة (١).

قالوا : وللإمام أن يفعل مثل ذلك ، وقد يورد على هذا أن المصالح المرسلة شرطها أن لا تصادم الشرع ، وأيضا فقد قيل : إن هذا قبل أن تنزل صلاة المسايفة.

الحكم الرابع : جواز التحكيم ، وهذه المسألة خلافية بين العلماء ، والذي ذكره المؤيد بالله وهي تحكى عن زيد بن علي والناصر ، وأحد قولي الشافعي أن الخصمين إذا حكما رجلا فحكم بينهما نفذ حكمه.

وقال أبو طالب وأبو حنيفة وأحد قولي الشافعي : لا ينفذ ؛ لأنا لو قلنا : إنه طريق إلى صحة الحكم ، أدى ذلك إلى أن يستغني عن الإمام وقضائه ، والمؤيد بالله احتج بحديث سعد بن معاذ ، وبقوله تعالى في سورة النساء : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) [النساء : ٣٥] الآية ، وقد فعل ذلك الصحابة.

قال في مهذب الشافي وقد تحاكم عمر ، وأبي بن كعب ، إلى زيد بن ثابت ، وتحاكم عثمان وطلحة ، إلى جبير بن طعم.

الحكم الخامس : أن الإنبات بلوغ ، وهذا مذهبنا لهذا الحديث ، وعند أبي حنيفة ليس ببلوغ ، وعند الشافعي هو بلوغ في المشركين ، وفي المسلمين قولان ، ومنشأ الخلاف ... (٢)

__________________

(١) الذي يؤخذ من الأمر التأخير إلى آخر الوقت وليس في الحديث أنه أمر بتأخيرها إلى وقت العشاء ، وإنما هو فعل الصحابة وليس بدليل ففعلهم قضاء لما فاتهم لما فهموا أنه يجوز التأخير إلى وقت العشاء ، وأما فعل عمر فليس بحجة وخاصة عند من يقول : ألفاظ الأذان موقوفة ، فلا يجوز مثل هذا لإمام ولا لغيره.

(٢) بياض في الأم ولعله (هل يقصر الشيء على سببه أم لا ، ولا يتعداه إلا بدليل؟ أو لا يوقف عليه إلا بدليل؟ وهذا هو المصحح ، وفي القصة أنه يعم ولا يقصر على سببه).

٥٨

قوله تعالى :

(يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) [الأحزاب : ١٣](١)

هذا قول طائفة من المنافقين وقيل من اليهود ، وليس في ذلك دلالة على جواز تسمية مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيثرب ، وقد جاء في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن تسمية المدينة بيثرب ، وسماها طيبة.

قوله تعالى

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) [الأحزاب : ١٥]

ثمرة ذلك قبح الفرار وهذه مطلقة ، وتدل على أن الوفاء بالعهد لازم.

قيل : أراد به الإيمان.

قوله تعالى

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) [الأحزاب : ١٨]

دل على قبح التخذيل عن الجهاد ، وقبح الجبن والبخل في أمر الجهاد.

قوله تعالى

(فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) [الأحزاب : ٢٦ ـ ٢٧]

دل على جواز القتل والأسر.

__________________

(١) من حق هذه الآية أن تتقدم على سابقتها ؛ لأنها مقدمة عليها في القرآن.

٥٩

قيل : قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل خيبر من ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقيل : ستمائة ، وأسر سبعمائة ، وجعل منازلهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت الأنصار في ذلك فقال : «إنكم في منازلكم».

وقال عمر : أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال : «لا ، إنما جعلت هذه طعمة لي دون الناس» فقال : رضينا بما صنع الله ورسوله ، هكذا في الكشاف.

وكان في حكم سعد أنه يقتل مقاتلهم ، وتسبى نساؤهم وذراريهم ، وأقره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة».

وثمرتها : جواز القتل والأسر ، وملك أموالهم وديارهم ، وسبي نسائهم وذراريهم.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب : ٢٨]

النزول

قيل : إن نساء النبي سألنه شيئا من عرض الدنيا ، وآذينه بزيادة النفقة فهجرهن شهرا ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فبدأ صلّى الله عليه بعائشة وقرأ عليها الآيات ، فاختارت الله ورسوله ، ثم خيرهنّ فاخترن الله ورسوله ، فشكرهن الله تعالى على ذلك ونزل قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [الأحزاب : ٥٢].

وفي هذه دلالة على أن الامرأة لا يحل لها التعنت على زوجها المؤمن بزيادة على وجه يؤذيه ، وأنه إذا صدر منها ما يؤذيه فله هجرها ، واختلف المفسرون هل خيرهنّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين البقاء وبين الطلاق ، أو بين الدنيا

٦٠