تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

أن الإشهاد مستحب ؛ لأن الرجعة تشبه سائر الحقوق التي هي البيع والإجارة ، فلم يجب الإشهاد فاستحب لقطع الشجار ، ولقطع الريب ، وهذا حكم رابع.

وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وهذا حكم خامس وهو وجوب أداء الشهادة على الشاهد ، وقد يتعين الوجوب إن لم يقم غيره مقامه ، فإن قام غيره مقامه فهو فرض على الكفاية.

وقوله : (لِلَّهِ) أي : لا تفعلوا ذلك لغرض سوى إقامة الحق ، ودفع الظلم ، وفي هذا إشارة إلى أن الأجرة على أداء الشهادة لا تجوز ، وقد استثنى الفقهاء صورا :

منها : إذا طلب إلى مكان يجوز فيه الإرعاء ، أو كان غيره يقوم مقامه. وقد استدل الشافعي على أن الرجعة إنما تصح بالقول دون الوطء بأن الله تعالى أمر بالشهادة عليها ، وذلك لا يتأتى في الوطء ، وقياسا على النكاح ، ومذهبنا ، وأبي حنيفة : أنها تصح بالوطء ؛ لأنه يبطل حكم الإيلاء ، ولأنه يبطل خيار البائع إن وقع في مدة التخيير ، وكذا وطء الزوج إن وقع في العدة.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) يعني : الحث على إقامة الشهادة لوجه الله.

وقوله تعالى

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣]

قيل : المعنى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : يتق سخطه ، وذلك بأن يطلق للسنة ، ولا يضار المعتدة ، ولا يخرجها من مسكنها (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من الغم والندم ، ويرزقه من حيث لا يخطر بباله.

٤٢١

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ فتلاها.

وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : لم يتق الله فلم يجعل له مخرجا ، بانت منك بثلاث ، والزيادة اثم في عنقك فتكون ثمرة هذا تأكيد ما سبق. وقيل : ذلك عام.

وروي أنه لما قرأها صلّى الله عليه فقال : «مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة».

وقال عليه‌السلام : «إني لأعلم أنه لو أخذ الناس بها لكفتهم ، ومن يتق الله» فما زال يقرؤها ويعيدها.

وروي أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة وقال : «ما أمسى عند آل محمد إلا مد فاتق الله واصبر ، واكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ففعل ، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفّل عنها العدو فاستاقها ، أي : أخذها في غفلتهم ، ولهذا السبب ثمرة وهي أن الأسير إذا أمكنه التلصص جاز له ذلك ، ويملك ما أخذ.

وقيل : في سبب نزولها في حديث دحية الكلبي ، وقدومه إلى الشام ، وقيل : في غيره.

قوله تعالى

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤]

النزول

قيل : لما نزلت في سورة البقرة عدة النساء في ذوات الأقراء

٤٢٢

والمتوفي عنها زوجها قال أبي بن كعب : يا رسول الله إن ناسا يقولون : بقي من النساء ما لم يذكر الصغار ، والكبار ، وذوات الحمل فنزل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ).

وقال مقاتل : لما نزل (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ، قيل : يا رسول الله ما عدة اليائسة من الحيض والحبلى؟ فنزلت هذه الآية.

المعنى : قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) قيل : معنى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن ارتبتم أي : أشكل عليكم حكمهن ، والإياس من المحيض أريد به لكبر سنهن.

واختلف العلماء بم يقدر سن الإياس؟ فمذهب الهادي عليه‌السلام ببلوغ ستين سنة ، هذا قد ذكر للمؤيد بالله ووجهه أن العادة تختلف فيما دون الستين ، فأخذ بالمتيقن.

وقال زيد ، ومحمد بن الحسن : ببلوغ خمسين ؛ لأن ذلك غالب في الانقطاع.

وقال الشافعي : بعادة النساء.

وقال المنصور بالله : أربعين في العجمية ، وخمسين في العربية ، إن لم تكن قرشية ، وستين في القرشية ، وقد قيل : إن المعنى إن ارتبتم في إياسها ، أي : تيقنتم ؛ لأن الريبة من الأضداد تكون للعلم والشك.

وقيل : إن المراد بالريبة في الحيض ، والإياس حصول الظن بعدمه.

ويأتي الفرق بين التأويلين : أن على القول الأول من انقطع حيضها وهي في سن الحيض فإنها تربص إلى الإياس بالسن ، وهذا القول مروي عن علي عليه‌السلام وعبد الله بن مسعود ، وعثمان ، وزيد بن ثابت ، وهذا هو مذهب القاسمية ، ومن الفقهاء أبو حنيفة ، والشافعي.

وعلى القول الثاني : أنها تعتد بالأشهر ، وهذا مروي عن عمر ، وابن

٤٢٣

عباس من الصحابة ، ومن الأئمة الناصر ، والصادق ، والباقر والإمام يحيى ، ومالك ، وقول للشافعي.

لكن اختلف هؤلاء فقال مالك : تربص تسعة أشهر ثم تعتد بالأشهر ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعمر ، وعلى قول الناصر ، وهو أحد قوليه والصادق ، والباقر : لا تنتظر تسعة أشهر ، بل تعتد بالأشهر ، وذكر الغزالي للشافعي : تربص أكثر مدة الحمل ، ثم تعتد بالأشهر ، وله قول مع مالك ، وقول مع الهادي.

وقال الإمام يحيى : تربص أربعة أشهر وعشرا ، ثم تعتد بالأشهر ؛ لأن المقصود بهذا اكتساب الظن ببراءة البطن من الولد ، وهذا إذا لم يعرف العارض كالمرض والرضاع ، فإن عرف انتظرت زواله ، واعتدت بالحيض.

قال في النهاية : وقيل : إن المريضة كالتي ارتفع حيضها يعني لغير سبب ، وإذا اعتدت بالأشهر فحاضت قبل كمالها اعتدت بالحيض ، وبعد الكمال وبعد الزواجة لا حكم للحيض ؛ لأنه قد ثبت حق للغير ، هذا على قول هؤلاء ، وبعد الأشهر وقبل التزوج وجهان لأصحاب الشافعي ، فهذه ثمرة من الآية.

والثمرة الثانية تعلق بقوله تعالى : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعني : فعدتهن بالأشهر ، فإذا حاضت في الثلاثة الأشهر فحينئذ تعتد بالحيض وهل تحتسب بالشهور المذهب أنها لا تحتسب ، ولأصحاب الشافعي وجهان ، هذا في الصغيرة ، فإن لم تحض وقد بلغت سن الحيض فمذهب المؤيد بالله وأكثر الفقهاء أن عدتها بالأشهر لدخولها في عموم الآية وهي قوله : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وخرج للهادي أنها تنتظر إلى مدة الإياس ؛ لأنها بالغة.

قال كثير من المتأخرين : القول الأول دليله أظهر ، أما لو بلغت بوضع الحمل ولم تر دما في اعتدادها بالشهور وجهان لأصحاب الشافعي.

٤٢٤

الثمرة الثالثة : تعلق بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وهذه الآية تتعلق بها مباحث :

الأول : أن يقال : هل هذا الأجل المقدر بوضع الحمل في المطلقات فقط أو فيهن ، وفي المتوفى عنهن؟ والجواب من وجهين :

الأول : أن هذا ورد في المطلقات ، وإنما قلنا ذلك لوجوه :

الأول : ما تقدم من سبب النزول أنهم قالوا : بقيت الآيسة والصغيرة ، والحامل ، فنزلت هذه الآية.

الوجه الثاني : أن قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) معطوف على ما سبقه من قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) وقوله : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وهو يقدر في المعطوف ما في المعطوف عليه ، فكأنه تعالى قال : والمطلقات اللائي يئسن من المحيض ، والمطلقات اللائي لم يحضن ، والمطلقات أولات الأحمال.

الوجه الثالث : مما يدل على أن ذلك في المطلقات أنه تعالى عقب ذلك بقوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَ) وهذا خطاب للأزواج ، وأيضا فإن السكنى في عدة الوفاة لا تجب على قول الأكثر ، وإذا كان ذلك في المطلقات ، فوضع الحمل تنقضي به عدة المطلقة إجماعا.

الوجه الثاني (١) : أن هذا عام في المطلقات والمتوفى عنهن ؛ لأنه تعالى قال : (أَجَلُهُنَ) ، فأطلق الأجل ، فيدخل فيه أجل المطلقة ، وأجل المتوفى عنها ، وإن جعلناه عاما كما قال المرتضى فيمن قال : امرأتي. أنه يفيد كل امرأة ، فهذا يفيد كل أجل ، وإن كان الصحيح من أقوال العلماء أن

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعله الوجه الرابع.

٤٢٥

النكرة لا تفيد العموم حيث أضيفت إلى المعرفة ، وإذا كان كذلك فهذا يفيد أن عدتها تنقضى بوضع حملها ، وإن سبق الحمل الأربعة الأشهر والعشر ، وهذا هو الذي ذهب إليه من علماء الصحابة ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وجمهور الفقهاء قالوا : وهذه الآية ناسخة لآية البقرة ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].

وعن عبد الله بن مسعود : من شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية البقرة ، يعني أن لفظ الحوامل مطلق ، ثم إنهم قالوا : وهذا صريح في حديث سبيعة الأسلمية ، وقد رواه في مسلم والترمذي ، وسنن أبي داود ، لكن في رواية الترمذي عن أبي السنابل بن بعكك قال : وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين يوما فلما تعلت (١) تشوفت (٢) للنكاح فأنكر عليها ذلك ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إن تفعل فقد حل أجلها».

قال في الترمذي : وهو قول سفيان الثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق وأكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله وغيرهم.

قال : وعن سليمان بن بشار أن أبا هريرة ، وابن عباس ، وأبا سلمة بن عبد الرحمن تذاكروا المتوفى عنها الحامل تضع عند وفاة زوجها ، فقال ابن عباس : تعتد آخر الأجلين.

وقال أبو سلمة : بل تحل له حين تضع.

قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ـ يعني أبا سلمة ـ فأرسلوا إلى أم

__________________

(١) هكذا في الترمذي وفي معجم الطبراني تعالت وفي الدارمي تعافت.

(٢) تشوفت : بالفاء ، أي تهيأت.

٤٢٦

سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : قد وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير ، فاستفتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها أن تتزوج.

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وفي مسلم أنها نفست بعد وفاة زوجها بليال ، وسياق الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرها أن تتزوج.

قال ابن شهاب : ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت ، وإن كان في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر.

وفي النهاية إنها وضعت بعد وفاة زوجها بنصف شهر.

واعلم أن هذا الخبر صريح في الاعتداد بوضع الحمل ، وإن تقدم على الأربعة الأشهر والعشر.

وعن عمر لو وضعت حملها وزوجها على السرير انقضت عدتها.

ومذهب الهادي ، والقاسم ، والناصر ، والمؤيد بالله وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، والشعبي ، أن عدتها آخر الأجلين ، وقد تقدم ذلك ، وتقدم الجواب عن هذا الحديث أنه مضطرب ؛ لأن أبا السنابل أنكر عليها ، ولأنه قد روي لبضع وعشرين ليلة ، وروي لشهر ، وروي نصف شهر ، وروي أربعين ليلة ، وهذا يقتضي ضعفه.

الثاني : أنه خبر آحاد فلا يعارض القرآن ، وهذا يحتمل لأنهم يقولون : إنه مطابق لما في القرآن من وضع الحمل ، وأن وضع الحمل ناسخ للأشهر.

قلنا : لا يصح النسخ مع إمكان التأويل ، وقد جمعنا بين الآيتين فقلنا : تعتد الحامل بهما أعني وضع الحمل والأربعة الأشهر والعشر ، لكن يقال : إذا تأخرت الأشهر فلم يجعل أجلهن وضع الحمل ، ولا يقال : يلزم في المطلقة أن تجمع بين الأقراء والوضع لأن أحدا لم يذهب إلى ذلك ، ومن حجج المذهب أنه مروي عن علي عليه‌السلام وكلامه حجة ، وأنه إجماع أهل البيت ، وإجماعهم حجة ، لكن يقال : نقل الإجماع ظني.

٤٢٧

البحث الثاني في تفسير الحمل المراد في الآية

وقد قال أهل المذهب وأكثر العلماء هو يطلق على جميع الحمل ، فلو كان في بطنها أولاد لم تنقض العدة إلا بوضع الآخر ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي.

وقال عكرمة : تنقضي بالأول ؛ لأنه حمل تام ، وإنما تنقضي بوضع ما بان فيه أثر الخلقة لا إن لم يبن فيه أثر خلقة الآدمي ، فعدتها بالأشهر.

وقال في مهذب الشافعي : فيه طريقان ، إذا شهد أربع نسوة أنه خلق آدمي في طريق يعتد به قولا واحدا ، وفي طريق قولان ، وهل ينقضي بوضع جميع الحمل قبل انقضاء النفاس أو بانقضاء النفاس ، مذهب المؤيد بالله وجمهور العلماء تنقضي بمجرد الوضع قبل أن ينقضي النفاس ، لقوله تعالى : (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وظاهر قول الهادي ، والأوزاعي ، وحماد أن النفاس للعدة ، لأن ذلك من توابع الحمل ، والأول الظاهر من دلالة الآية ، وقد تأول القاضي زيد قول الهادي عليه‌السلام أنها لا تنكح حتى تخرج من نفاسها أنه جاز بالنكاح الوطء.

قوله تعالى

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٦ ، ٧]

هذه الجملة تظهر منها أحكام :

الأول : وجوب السكنى للمطلقة ؛ لأن هذا أمر ، وظاهره الوجوب ،

٤٢٨

ولكن إن كان هذا الطلاق رجعيا فذلك إجماع أنها تستحق السكنى والنفقة إلا أن تكون ناشزة فذلك مسقط لهما ، كما في حال الزوجية ، إذا حصل النشوز سقطت النفقة.

وأما إذا كان الطلاق بائنا كالمثلثة فقد تقدمت الأقوال ، وسبب الخلاف أن أبا حنيفة ، والشافعي ومن معهما حملوا قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) على الرجعي والبائن ، والهادي ومن معه على الرجعي ؛ لأن البائنة لم تسكن مع زوجها.

وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) قال الكسائي : من زائدة ، وقيل : بل هي للتبعيض.

وقوله تعالى : (مِنْ وُجْدِكُمْ) بيان.

قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها بعض جوانبه.

وقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَ) هذا نهي عن ضرار المطلقة.

واختلف في تفسيره فقيل : المعنى بالضرر في المسكن ببعض من الأسباب ، وذلك بإنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن حتى يضطروهن إلى الخروج.

وقيل : بتضيق موضع السكنى بأن يتعذر عليها ما لا بد منه من موضع الصلاة ، والوضوء ، والاغتسال ، والنوم ، عن أبي مسلم.

وقيل : في النفقة والسكنى عن أبي علي.

وقيل : بتطويل العدة بأن يراجعها إذا قرب انقضاء العدة غير راغب.

وقيل : المراد نسي عشرتها ليلجئها إلى أن تفتدي منه ، وهذا حكم ثان ، وهو تحريم المضارة بأخذ ما ذكر ، وأن موضع السكنى يكون خاليا عن المؤذي ، جامعا لما تحتاج إليه المرأة.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)

٤٢٩

إنما قيد بالحمل مع وجوب النفقة مع عدمه في العدة عن الرجعي إجماعا ، وفي البائن عن الهادي ومن معه من الأئمة وكذا عند أبي حنيفة لدفع توهم أن طول العدة تسقط معه النفقة ، وذلك إذا طالت مدة الحمل.

وأما الشافعي فجعل هذا في الطلاق البائن ، وأن الآية تقضي بوجوب السكنى بمنطوقها ، وكذلك قضت بوجوب نفقة الحامل بمنطوقها ، وقضت بمفهومها بسقوط نفقة غير الحامل.

وأما الحامل المتوفى عنها فالهادي ، والقاسم ، والناصر أوجبوا للمتوفى عنها النفقة في العدة حاملا كانت أو حائلا وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وابن مسعود ، وشريح ، وابن عمر ، وابن حي ، وابن أبي ليلى ، فتكون هذه الآية حجة للإنفاق على الحوامل.

وأما على غيرهن فقد استدل على ذلك بقوله تعالى : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ونسخ الحول بأربعة أشهر وعشر لا يقتضي نسخ المباح.

وأما المؤيد بالله ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي فعندهم : لا نفقة للمتوفى عنها ولا سكنى ؛ لأن الميت لا يجب عليه حق فيجعلون هذا مخرجا لنفقة الحوامل من العموم.

وللمؤيد بالله قولان : هل هذه المسألة اجتهادية أو قطعية.

وقوله تعالى : (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) يقتضي أن لا نفقة لها بعد الوضع ، ويأتي على قول الهادي أن مدة النفاس من العدة ؛ لأنه من توابع الولادة أنه ينفق عليها في مدة النفاس وهذا حكم ثالث.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

إن أراد بقوله : (أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أي : أرضعن الحوامل ما وضعن ، فهذا متفق عليه أن للمرضعة الأجرة لغير اللباء وقد صارت باينة من زوجها.

٤٣٠

وأما مدة اللباء فالمفهوم من كلام أهل المذهب أنه لا عوض له ويكون خارجا من عموم الآية ، من حيث أن الولد لما كان لا يعيش إلا به تعين عليها فلم تأخذ الأجرة على فرض عين ، وقد ذكره ابن أصفهان ، وعن أبي جعفر لها عوضه.

وأما إذا حمل قوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على المطلقات غير الحوامل فالمؤيد بالله ، والشافعي ، ورواه أبو جعفر عن الهادي ، والناصر يحملون ذلك على عمومه سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا ، وكذا في حال الزوجية.

وقال أبو حنيفة ، والوافي ، وخرجه القاضي زيد للهادي عليه‌السلام : إن ذلك لا يجوز مع بقاء الزوجية ، وكذا في عدة الطلاق الرجعي.

وأما في عدة البائن (١).

وسبب الخلاف أن الأولين أخذوا بعموم قوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) يعني : المطلقات ولم يفصل.

قالوا : وما صح أن يستأجر عليه مع عدم الزوجية ، فكذا معها ، وأهل القول الثاني منعوا مع بقاء النكاح وحملوا الآية على أن المراد بالآية بعد انقضاء العدة.

ووجه المنع قال في (شرح الإبانة) : كون المرأة تستحق نفقتين ، وهذا التعليل يلزم منه المنع في عدة البائن عند من أوجب النفقة ، وأيضا فيلزم أن لا تجوز ، وإن كان الولد من غيرها ، وقد قيل : ذلك إجماع أنه جائز ، وهذا حكم رابع.

__________________

(١) بياض في (ب) قدر ثمان كلمات تقريبا وفي (أ) قدر سطر.

٤٣١

وقوله تعالى : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق : ٧]

هذا حكم خامس ، وهو أمر ندب وخطاب للأبوين ، بأن يأمر كل واحد صاحبه بالمعروف ، وهو ألا يماكس الأب ولا تعاسر الأم ؛ لأن الولادة في الولد لهما.

وقيل : (وَأْتَمِرُوا) معناه ، تشاوروا ، لأن الائتمار : المشاورة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص : ٢٠] وفي ذلك دلالة على أن أجرة الرضاع على الأب ، وهذا ظاهر مع فقر الرضيع.

وأما مع غناه فكذا عند الهادي ، وعند المؤيد بالله في ماله ، وسبب الخلاف أن الهادي عليه‌السلام تعلق بقوله تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ، وقال : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) والمولود له هو الأب فعم ولم يفصل بين أن يكون الولد موسرا ومعسرا ، والأم خارجة بالإجماع ، وكذلك الولد الكثير ، والمؤيد بالله قال : لا يجب على الأب مع غنى الوالد كما لو كان كبيرا.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) وفي هذه إشارة إلى معاتبة الأم على المعاسرة ، ونظيره من يقول لمن لم يقض حاجته سيقضيها الله أو سيقضيها غيرك فيلزم من هذا أن الأم إن عاسرت فطلبت أكثر من أجرة المثل فله استرضاعه مع غيرها ، وإن طلبت أجرة المثل فهي أحق بإرضاعه ؛ لأن رضاعها أنفع له وأصلح ، هذا إذا طلبا معا بأجرة متفقة فإن طلبت الأم ارضاعه باجرة المثل ووجد الأب بأقل أو بلا شيء ، فالمذهب أن للأب نقله إلى غيرها وهو أحد قولي الشافعي ، كما لو كان الولد كبيرا وتبرع الغير بنفقته فإنه لا يلزم الأب نفقته.

والقول الثاني : أن الأم أحق بأجرة المثل ؛ لأن الرضاع حق للولد ، والأم أصلح له.

٤٣٢

قوله تعالى

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) [الطلاق : ٧]

يعني : إن كان غنيا أنفق نفقة الغني ، وإن كان فقيرا فنفقة الفقير لقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) وهذا راجع إلى نفقة المطلقات والمرضعات وهو نظير قوله تعالى في سورة البقرة : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] وهذا حكم سادس ، أن العبرة في تقدير النفقة بحال الزوج ، وقد قال أبو العباس : إذا أنفق نفقة المعسر ، ثم أيسر زيد ، وينقص في العكس ، وقد يقال : ومع الاعتبار بحاله لا بد من النظر إلى حالها ، فمع فقرهما ينفق نفقة فقيرة من فقير ، ومع غناهما نفقة غنية من غني ، ومع غناه وفقرها نفقة فقيرة من غني ، وفي العكس نفقة غنية من فقير.

وقوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً).

قيل : في هذا ترغيب أن من قام بحق الله في الأرض من إنفاق فإنه يأتيه اليسر.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ينادي كل يوم مناد صباحا ومساء اللهم اعط كل منفق خلفا ، وكل ممسك تلفا».

سورة التحريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ

٤٣٣

وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ١ ـ ٤]

النزول

قيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلا بمارية القبطية أم إبراهيم ، وكان أهداها له المقوقس في حجرة حفصة ونوبتها فعاتبته حفصة فحرم مارية رضاء لحفصة عن الحسن ، ومسروق ، وقتادة ، والشعبي ، وزيد بن أسلم ، والضحاك ، وابن زيد.

وقيل : قال لها : «إن أباك وأبا عائشة خليفتان من بعدي ، لا تخبري بذلك أحدا» فأخبرت عائشة وكانا متظاهرين على سائر أزواجه عليه‌السلام ، فطلق حفصة فأمره الله تعالى بالمراجعة.

وعن عمر أنه قال لحفصة : لو كان في آل الخطاب خيرا لما طلقك رسول الله ، واعتزل نساءه شهرا ، وقيل : تسعة وعشرين يوما ، وقعد مع سريته أم إبراهيم.

وقيل : لم يطلقها وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل وقال : «لا تطلقها فإنها صوامة قوامة ، وإنها من نسائك في الجنّة».

وقيل : خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت ذلك فقال : «اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي ، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين.

وقيل : في سبب النزول أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنا نجد منك ريح المغافير. وهو شمع العرفط كريه الرائحة. وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكره البقل من أجل الملك فحرّم العسل.

وقيل : كان ذلك مع حفصة ، وأنه لما دخل عليها سقته العسل فغارت عائشة ، وأرسلت إلى نسائه أن إذا دخل عليهن قلن : ريحك ريح

٤٣٤

المغافير (١) ، فلما دخلن عليهن قلن له ذلك ، حتى دخل على عائشة فأخذت أنفها وقالت أجد منك ريح المغافير أكلتها؟ قال : «لا ، بل أسقتني حفصة عسلا» وحرمه على نفسه.

وقيل : الذي سقته العسل أم سلمة ، وقيل : التحريم في شراب كان يعجبه.

وقيل : التحريم في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي أم شريك ، فلم يقبلها لأجل امرأته (٢) وصحح أن التحريم بمارية ؛ لأنه الذي ذكره أكثر المفسرين ، ونقلة الأخبار.

واعلم أنه يتعلق بهذه الجملة أحكام :

الأول : أنه لا يجوز تحريم ما أحل الله ، وقد ذكر ذلك الحاكم والزمخشري ؛ لأن في ذلك قلب المصلحة التي جعلها الله في إباحة الحلال ، وقد عاتب الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك بقوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وقد جاء النهي على ذلك بقوله تعالى في سورة النحل : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل : ١١٦] وقوله تعالى في سورة المائدة : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] وبالتحريم لا يصير حراما ، هذا حكم.

الحكم الثاني : إذا حرم شيئا مباحا على نفسه وعصى بذلك هل تلزمه الكفارة إذا خالف وجبت أم لا؟ وهذه مسألة خلاف بين العلماء ، فالذي حكاه أبو مضر للقاسم ، والهادي ، والمؤيد بالله أنه يمين بمعنى أن الكفارة لازمة فيه.

__________________

(١) بالغين المعجمة : واحدها مغفور ، تروى بالفاء ويقال بالثاء المثلثة (معاثير) ذكره في النهاية والقاموس.

(٢) قال في حاشية على النسخة الأصلية : صوابه لأجل نسائه تمت.

٤٣٥

وقال في الشرح : تجري مجرى القسم في إيجاب الكفارة ؛ لأنه قسم على الحقيقة ؛ لأن أصل القاسم ، والهادي لا يكون القسم بغير الله ، وما قلنا من إيجاب التكفير فيه مروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بكر ، وعمر ، وزيد ، وهذا أحد قولي أبي العباس ، وهو قول أبي علي ، وعطاء والأوزاعي ، وأحد قولي الشافعي.

ويروى عن عائشة ، والحجة لهذا ما أفاده ظاهر الآية ، والحكاية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرم إما مارية ، وإما العسل ، وما ثبت في ذلك ثبت في غيره ، وقد قال تعالى : (فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

وعن مقاتل : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية.

وعن الحسن : لم يكفر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وإنما ذلك تعليم للمؤمنين.

وعن الأصم : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّر ، والتكفير عبادة ، وليس بعقوبة فهذا قول.

القول الثاني : أنه لا يلزمه شيء ، وأن لفظ الحرام لا يوجب الكفارة ، وهذا محكي عن الناصر ، وأحد قولي الشافعي ، وحكاه في الكافي عن السادة ، ورواه في (الروضة والغدير) عن الأحكام ، ورواه الحاكم ، والأمير المؤيد ابن أحمد عن تفسير الهادي ، وهو أحد قولي أبي العباس ، والمهدي أحمد بن الحسين ، والشعبي ، ومسروق.

وعن مسروق : ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد ، يعني : أنه لغو ، واحتجوا أنه لا يوجب الكفارة بأنه منهي عن التحريم ، وما أباحه الله لا يصير محرما بتحريمه ، وأن رسول الله إنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهي قوله : «والله» ولم يثبت عن رسول الله أنه قال لشيء أحل الله : إنه حرام.

فلو كان التحريم في امرأة قال أبو طالب : فإن نوى الطلاق أو الظهار فله نيته ، وإن لم ينو فيمين عند القاسم.

٤٣٦

وعند أبي حنيفة ، إن نوى به طلاقا واحدة كانت واحدة ، بائنة ، وإن نوى ثلاثا كانت ثلاثا ، وإن لم ينو كانت إيلاء.

وعن زيد بن ثابت وابن أبي ليلى ومالك : أنه طلاق ثلاث ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام ، لكن لم يصحح أهل المذهب الرواية.

وعن ابن عباس ، وعثمان أنه ظهار ، وبه قال أحمد.

وعن حماد : تكون طلقة بائنة.

وعن الناصر ، ومسروق ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن : لا يلزمه شيء.

قال في الكشاف : في حكم الحرام أنه يمين عند أبي حنيفة في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه ، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إن لم يكن له نية ، فإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام ، والشراب إذا لم ينو الإيلاء فعلى ما نوى.

وأبو مضر قال : إذا قال ما أحله الله للمسلمين فهو عليه حرام أنه يحنث بما أتى بعد ذلك مما أحله الله تعالى عند المؤيد بالله ، وهو مذهب القاسم ، ويحيى عليه‌السلام ، وقد وجه في الشرح قولنا : بأنه كناية يحتمل ما نوى من الطلاق والظهار ، فإن لم ينو لزمته الكفارة ؛ لما ورد في تحريمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمارية ، وما ثبت فيها ثبت في غيرها.

قال في النهاية : وقد سئل ابن عباس فقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

وقد يحكى عن أبي حنيفة في الحرام أنها كناية في اليمين ، وللمتأخرين خلاف في حرام مني هل هو صريح لأجل العرف أو كناية.

قال المنصور بالله : أما إذا قال : حرمه الله عليّ فلا شيء عليه إلا التوبة ؛ لأنه إن قصد الأخبار فذلك كذب ، وإن قصد اليمين فليس يمين ، وله قول آخر أنه يمين ، وقيل : إذا قصد الإنشاء كان يمينا.

٤٣٧

وهاهنا فروع : وهو إذا قال إنسان لغيره : حرام عليك لا أكلت أو لبست أو نحو ذلك فلعله يكون لغوا إذ ليس بيمين ، فيكون كاليمين على الغير ، ولا ورد دليل إلا فيما حرمه الإنسان على نفسه.

وفرع آخر : وهو إذا قال : هذا الشيء مني كالدم ، وكالخنزير ، فإن ذلك بمعنى الحرام.

الحكم الثالث المستخرج من الآية : أنه لا يجوز فعل ما نهى عنه لمرضاة الأهل وغيرهم ، وهذا صريح في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

الرابع : يتعلق بقوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

قال جار الله وفيه معنيان : أحدهما : شرع لكم الاستثناء في أيمانكم ، وذلك أن يقول : إن شاء الله عقبها فلا يحنث ، وبني هذا على ما يذهب إليه أبو حنيفة والشافعي أن هذه اللفظة لقطع الكلام عن النفوذ ، وهو قول زيد بن علي.

قالوا : لأن العرف إيرادها لإبطال ما سبق ، والمذهب خلاف ذلك ، وأنه يكون الكلام مشروط بالمشيئة لله ، والمؤيد بالله يقول : معنى ذلك في العرف أن بقاني الله وقتا ، وعندنا إن أراد ذلك عملت بنية ، وقد جاء على الأول خلا أبيت اللعن بمعنى : استثن في يمينك إذا أطلقها ، وروي أن يقول : إن شاء الله عقبها.

والمعنى الثاني : قد شرع الله تحلتها بالكفارة ، ومنه الحديث : «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم» يعني ما في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) لأنه جار مجرى القسم.

الحكم الخامس : يتعلق بقوله تعالى : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، وفيه قراءتان (عرف) بالتخفيف من المجازاة من قولهم في التوعد قد عرفت ما فعلت ، (وعرّف) بالتشديد فمعناه عرّف غيره ، وفي ذلك ترغيب

٤٣٨

في ترك الاستيفاء أو المجازاة ، وفي التغافل عما صدر من الغير ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر ببعض حديث عائشة لا بجميعه.

وقيل : أخبر بحديث الخلافة ، وإفشائها به لا بغيره.

قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام.

وقال الحسن : ما استقصى كريم قط.

الحكم السادس : يتعلق بقوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما).

قيل : معنى (صَغَتْ) أي : زاغت ومالت إلى الإثم ، عن ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد.

وقيل : مالت إلى ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلكم تحريم مارية ؛ لأن الواجب المحبة لما أحبه عليه‌السلام ، وهذا يدل أنه لا يجوز الرضاء بما لا يجوز من التحريم لمارية ، وكذلك الإفشاء بسره هو عام فيه ، وفي غيره ، وفي الحديث : «إذا كلمك أخوك والتفت فتلك أمانة».

وفي الحديث : «المجالس بالأمانات» والتحريم يدخل فيه المتكلم بالسر ، والسامع له ، لكن يخرج من هذا ما يدفع به المعصية كأن يسر إلى غيره أنه يريد غزو بني فلان فيجب إظهار ذلك ، ويدل أن التعاون على الباطل محرم ، وهو صريح في قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً).

هذه الآية تدل على وجوب النصيحة للأهل ، وأن المكلف يأخذهم بما يأخذ نفسه وذلك وإن كان واجبا في غير الأهل لكنه في حق الأهل آكد وفي الحديث : رحم الله رجلا قال : «يا أهلاه صلاتكم صيامكم ، زكاتكم مسكينكم ، يتيمكم ، خيراتكم ، لعل الله أن يجمعهم معه في الجنة».

وقال : «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهّل أهله».

قال الحاكم : وهذا يتضمن تعليم أصول الدين ، وفروعه ، والأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية.

٤٣٩

قال : وإذا كان في زمن التشبيه والجبر ولا يمكنه أن يعلمهم التوحيد ، ولا يأمن نشؤهم على الجير وجب عليه الانتقال من تلك الدار ، ويتعلق بهذا ما هو في معنى ذلك ، وهو إذا كان الرجل ممن تعلق بالخدمة للظلمة ولا يتم له ولأولاده المقام إلا بخدمتهم في المظالم وجب عليه الانتقال بهم ، أو كان من كتاب الظلمة بحيث لا يتم له الاستقرار ، إلا أن يتعلق بديوانهم والكتابة لهم وجب عليه الانتقال ، أو ترك تعليم أولاده إن غلب على ظنه أنهم إن تعلموها كتبوا المكوس ونحوها ، وهذا أيضا دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨]

هذا دليل على وجوب التوبة ، ولعل المعنى : يا أيها الذين صدقوا (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً).

عن عمر : النصوح أن يتوب فلا يعود. وعن الحسن : أن يندم على ما مضى ويعزم ألا يعود في المستقبل ، وصحح. وعن ابن عباس : الاستغفار باللسان ، والندم بالجنان ، والإقلاع بالأركان. وعن ذي النون : علامتها قلة الكلام ، والطعام ، والمنام.

وعن علي عليه‌السلام : أنه سمع أعرابيا يقول : اللهم إني استغفرك وأتوب إليك. فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين. قال : فما التوبة؟ قال : تجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية ، وان تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي.

وعن شهر بن حوشب : أن لا يعود ولو حز بالسيف ، وأحرق بالنار.

وعن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله

٤٤٠