تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

اسمه وقال : «إن حبابا اسم شيطان ، وكان مخلصا» وقال : وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيسا في يده حتى أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخليته.

وروي أنه قال : لإن لم تقر لله ولرسوله بالأعز لأضربن عنقك ، فقال : ويحك أفاعل أنت؟ قال : نعم ، فلما رأى منه الجد ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنه : «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا».

قوله تعالى : «ترعد أنف» أي : تغضب ، قال الشاعر :

إذا جاورت من ذات عرق ثنية

فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد

وقوله : «أنف» أي : أنوف ، وفي حديث بني المصطلق أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصاب جويرية بنت الحارث ، ووطأها فقال أصحاب رسول الله : هؤلاء أصهار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتق بسببها مائة نسمة من السبي ، وفي السفينة مائة بيت.

قال في السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين : إن جويرية كانت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وأنها كاتبت عن نفسها فجاءت تستعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «هل لك في خير من ذلك أؤدي كتابتك وأتزوجك»؟ قالت : قد فعلت ، قال : وقيل إن أباها أسلم واستفداها ، ثم تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبيها ، وهذا المروي في سبب نزولها.

ولها ثمرات : منها جواز تبييت المشركين.

ومنها : جواز سبي النساء والذراري من مشركي العرب.

ومنها : حسن رعاية ذي الحق فيمن يختص به ، كما فعل أصحاب رسول الله في عتقهم لأقارب جويرية لما تزوجها عليه‌السلام.

ومنها : تحريم المنع للغير من الإنفاق في سبيل الله ؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك على سبيل الذم.

٤٠١

قال الحاكم : وهو كثير ، ومنها حسن الرجاء في الله لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وروي أنه قيل لحاتم الأصم : من أين تأكل؟ فقال : (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون).

ومنها : جواز معاملة من أظهر الإسلام بأحكام المسلمين كما تقدم.

ومنها : أنه يجوز تأخير الحد للخشية من الفتن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر : «إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب».

ومنها : أنه يجوز أيضا تركه إذا كان يؤدي إلى منكر ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر : «كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وذم الرسول عليه‌السلام كفر.

ومنها : كراهة التسمي بالأسماء المكروهة ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غيّر اسم ولد عبد الله بن أبي (١).

ومنها : حسن انتهار من أتى بدعة أو ضلالة ، أو آذى مؤمنا ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعبد الله : «جزاك الله عن رسول الله وعن المؤمنين خيرا».

ومنها : وجوب اعزاز المؤمن وإهانة الكافر ، وأن يجعل بين حالهما فرق في الإجلال للمؤمن ، والإهانة للكافر ، إلا لرجوى إسلام ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدي بن حاتم من طرح المخدة له فكان سببا في إسلامه.

قال جار الله : وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو الأعز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه.

وعن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، قال : ليس بتيه ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية.

__________________

(١) من حباب إلى عبيد الله.

٤٠٢

وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تواضع لغني (١) فقد ذهب ثلث دينه» ولأمير المؤمنين عليه‌السلام :

لا تخضعن لمخلوق على طمع

فإن ذلك نقص منك في الدين

واسترزق الله مما في خزائنه

فإن ذلك بين الكاف والنون

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [المنافقين : ٩ ـ ١١]

النزول

اختلف المفسرون فعن مقاتل وجماعة أنها نزلت في المنافقين.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : ظاهرا لا باطنا.

وقوله تعالى : (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : من المؤمنين المخلصين.

وعن ابن عباس وجماعة أنها نزلت في المؤمنين ، وأراد بالصالحين أي : بالأعمال الصالحة.

المعنى ، قيل : أراد بذكر الله جميع طاعاته ، وهو قول أبي مسلم ، وقواه الحاكم.

وقيل : أراد الصلوات الخمس عن أبي علي.

__________________

(١) في (أ) زيادة لأجل غناه وفي (ب) ساقطة.

٤٠٣

وقيل : ذكر الله على كل حال.

وقيل : شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضاء بقضائه.

وعن الكلبي : الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعن الحسن : جميع الفرائض ، وقيل : القرآن ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) وهو أن يلهو بالتصرف في الأموال ، والسعي في تدبير أمرها ، وطلب النماء بالتجارة ، والاستغلال ، والسرور بالأولاد والاشتغال بمصالحهم في حياة الآباء ، وبعد وفاتهم.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الشغل بما ذكر (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في تجارتهم ، من حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

وقد أفرد الحاكم في السفينة بابا في كون العبادة أفضل من طلب المال الحلال ، وهذه من ثمرات الآية.

لكن الشغل بالمال والولد ينقسم [إلى أقسام] :

فإن فوت بذلك فرضا كان محظورا ،

وإن فوت مندوبا كان مكروها.

وقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) قيل : أراد الجهاد ، وقيل : في سبيل البر ، ويدخل فيه الزكوات وسائر الحقوق الواجبة ، وجاء بمن التي للتبعيض ؛ لأن المخرج بعض المال لا كله ،

والثمرة : الحث على البدار ولو استدل مستدل بها أن الواجبات على الفور كان ذلك دليلا ؛ لأن ظاهر الأمر الوجوب ، وكل وقت يجوز فيه الموت.

٤٠٤

سورة التغابن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١]

المعنى : ما أصاب من مصيبة المراد من مصيبة الموت والمرض ، والقحط ، والجدب ، ونحو ذلك.

وقوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره ، وهذا توسع ، والمراد أنه بفعله.

وقيل : المراد كل ضرر ، وإن كان قبيحا إلا بإذن الله يعني بعلمه وتخليته.

وقوله تعالى : (يَهْدِ قَلْبَهُ) روي عن ابن عباس أن المراد بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) يعني : يصدق به ، ويرضى بفعله.

وقوله تعالى : (يَهْدِ قَلْبَهُ) يعني : ليعلم أن المصيبة من عند الله ، وهكذا عن علقمة.

وقيل : من يؤمن بالله هو الصبر عند المصيبة ، ويرضى بقلبه حتى ينشرح صدره.

وقيل : (يَهْدِ قَلْبَهُ) فيعرف معائب الدنيا ، فلا يجزع عند البلاء.

وقيل : هو الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا ظلم غفر ، وإذا أصابته مصيبة استرجع فيهد قلبه عند النعمة للشكر ، وعند البلاء للصبر والرضا ، عن مجاهد.

وقيل : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) فيفعل الفرائض ، (يَهْدِ قَلْبَهُ) لفعل السنة.

٤٠٥

وثمرة الآية : ما ذكر في التفسير لها وجوب الصبر عند المصيبة فلا يجزع ، ويعرف أن ما فعله الله تعالى فهو لمصلحة وحكمة ، فعليه الرضاء والاسترجاع.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : ١٤ ، ١٥]

النزول

قال في الكشاف : قيل أن أناسا أرادوا الهجرة من مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم ، وقالوا : أتنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ، ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فزين لهم العفو.

وقيل : قالوا أين تذهبون ، وتدعون بلدكم ، وعشيرتكم ، وأموالكم ، فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير ، فلما هاجروا منعوهم الخير ، فحثوا عليهم على أن يعفو عنهم ، ويردوا إليهم البر والصلة.

وقيل : كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل وولد فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه فهمّ بإيذائهم فنزلت (١).

ثمرة الآية : أنه لا ينبغي التعريج على محبة الأهل والمال ،

__________________

(١) جامع البيان ـ ابن جرير الطبري ج ٨٢ ص ١٥٩ : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد ، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ، فقالوا : إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم.

٤٠٦

واستعمال ما تقضي به الرقة من التحكم لهم ، حيث كان ذلك مفوتا للأجر من الله تعالى.

ومن ثمرات ذلك : أن الاغتفار لما صدر من فعلهم الذي يفعله العدو من إنزال المضرة محمود ، وان الفاعل لذلك لا يقابل بقطع بر ولا صلة.

ومنها : أن الزوجة التي تشغل عن الطاعة ، وتكلف بالمؤن المستغرقة للزوج عن أبواب من الخير ينبغي طلاقها ، ويكره زواجتها ؛ لأن ذلك يعد من العدوان في الدين.

ومنها : لزوم الحذر من هذا الضرب ؛ لأن الله تعالى أمر بالحذر منهم ، وجعلهم فتنة.

وعدوانهم إما بالمنع عن طاعة الله ، أو الوقوع بسببهم في معصية.

وعن أبي علي : عدوانهم أن يتمنوا موته ليحوزوا ماله.

وعن الأصم : عدوانهم أن لا ينفق لأجلهم.

قال في الكشاف : وفي الحديث : «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته». وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل إليهما ، وأخذهما ، ووضعهما في حجره على المنبر وقال : «صدق الله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، رأيت هذين الصبيين فلم أصبر لهما»

وفي فعله عليه‌السلام دلالة أن مثل هذا جائز للخطيب ، وأن الإلباس للأولاد المصبوغ بالحمرة جائز ، وهذا فيما لم ينه عنه من المعصفر ، والمورس.

٤٠٧

قوله تعالى

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن : ١٦ ، ١٧]

ثمرة ذلك : البعث على الإنفاق في سبيل الخير وذلك من وجوه [ثمانية] : الأول : أنه تعالى أمر بذلك ، لكن هذا الإنفاق مجمل ، وقد بين أنه فرض وندب.

الثاني : أن الله تعالى رغب فيه بأن جعله خيرا للمنفق ، والمعنى : أنه خير من الأموال والأولاد.

الثالث : أنه تعالى أكد الترغيب بأن قال : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لكن في الشرع البخل والشح الذي يعاقب عليه هو أن يخل بالواجب.

وقيل : أراد بالشح ترك المواساة في طاعة الله ، والجهاد في سبيله.

الرابع : أنه تعالى استدعى الصدقة بما فيه تلطف لفعلها ، وهو ذكر الفرض ؛ لأن في ذلك ضمانا من الله تعالى بالجزاء.

وقوله : (حَسَناً) أي : يعطها مخلصا لوجه الله ، وقد جاء في صدقة السر أنها تطفئ غضب الرب ، وما ذلك إلا لما فيها من الإخلاص ، والبعد عن الرياء.

الخامس : قوله تعالى : (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) قال الحاكم : أي : يعطي بدله أضعاف ذلك ، من واحد إلى سبعمائة إلى ما لا يتناهى.

وقيل : ليس حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة.

السادس : قوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

٤٠٨

السابع : قوله : (وَاللهُ شَكُورٌ) أي : يثيب ويجازي.

قال الحاكم : ووصفه بالشكور توسع.

وقيل : شكور يقبل القليل ، ويثيب عليه بالكثير.

الثامن : قوله : (حَلِيمٌ) أي : لا يعجل بالعقوبة.

وقيل : (شَكُورٌ) يقبل القليل مع العيوب ، (حَلِيمٌ) يقيل الجليل من الذنوب.

وقيل : يضعف الصدقة لدافعها ، ولا يعجل العقوبة لمانعها.

سورة الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ١ ، ٣]

٤٠٩

النزول

قيل : نزلت في قصة حفصة بنت عمر أنه عليه‌السلام لما طلقها فرجعت إلى أهلها فنزلت الآية ، وأمره تعالى أن يراجعها فإنها صوامة قوامة ، وهي أحد نسائك في الجنة ، فراجعها عن أنس.

وقيل : نزلت في عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته في حال الحيض ، فقال عليه‌السلام لعمر : «مره فليراجعها ويمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض حيضة أخرى ، فإذا طهرت طلقها إن شاء قبل أن يجامعها ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق النساء لها» عن السدي.

وقيل : نزلت في جماعة طلقوا وهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعد بن العاص ، وطفيل بن الحارث ، وعيين بن غزوان ، عن مقاتل ،

المعنى : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) تقديره : يا أيها النبي قل لأمتك ، عن أبي علي. وقيل : هو على خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع ، كما يقال لرئيس القوم : افعلوا كذا عن الحسن. وقيل : هو على تحويل الخطاب ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ).

وقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١]

المعنى : إذا أردتم طلاقهن على تنزيل المقبل على الأمر ، والمشارف عليه منزلة الشارع فيه ، كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) وإذا قاتلت فالبس السلاح ، ومن قتل قتيلا فله سلبه.

وقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

اختلف في هذه اللام فقيل : إنها لام السبب نحو تسلح للحرب ، والمعنى طلقوهن ليعتددن.

وقيل : إنها لام التأريخ نحو أتيته لليلة بقية من المحرم ، والمعنى مستقبلات لعدتهن.

٤١٠

قال في صحيح مسلم : قال ابن عمر : وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن).

وقال في التهذيب : وكان ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر يقرءون : (فطلقوهن قبل عدتهن) ، وهذا يحمل على التفسير ، وهذا مطابق قول من قال : العدة للحيض ، وذلك مذهبنا ، والحنفية.

وقيل : اللام للظرف كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] والمعنى : عند دلوك الشمس ، وفي يوم القيامة ، وهنا : فطلقوهن في عدتهن ، وهذا يوافق من يقول : الأقراء هي الأطهار ، وهذا قول الباقر ، والصادق ، والشافعي.

وقوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قيل : هذا خطاب للأزواج لغفلة النساء.

واختلف ما أريد بالإحصاء فقيل : المراد عدّوا الأقراء التي تعتدنها ، وإنما أمر بذلك لما يتعلق بالعدة من الأحكام ، وهي المراجعة ، والمنع لها من الأزواج ، وثبوت نسب الولد ، وثبوت النفقة ، والسكنى ، فلا تطول العدة لاستحقاق النفقة ، ولا تقصر لأجل الزواجة بها من الغير ، وكذلك لنعلم صحة الطلاق ، إن قلنا : إن الطلاق يتبع الطلاق.

وقيل : المراد (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي : عدوا أوقات الطلاق ، لتطلقوا للعدة.

وسيظهر تمام معنى هذه الجملة في ذكر الأحكام ، وهو يتعلق بها أحكام :

الأول : في بيان هل الطلاق الذي أمر الله تعالى أن يكون الطلاق لمن أراده على صفته ، وقد جاء تفسيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث ابن

٤١١

عمر ، وذلك أنه لما طلق امرأته حائضا فسأل عمر النبي عليه‌السلام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر : «مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء» فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق النساء لها.

وفي صحيح مسلم في حديث ابن عمر من طرق مختلفة ، وكذا في سنن أبي داود عنه عليه‌السلام : قال : «يطلقها قبل أن يجامعها» وفي رواية : «قبل أن يمسها»

وقد روي هذا التفسير وأنه أراد طاهر من غير جماع ، عن ابن عباس وابن مسعود ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ،

وقد قال في النهاية : أجمع العلماء أن المطلق للسنة في المدخول بها هو أن يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه ، لحديث ابن عمر المذكور ،

ويتعلق بهذا الحكم فروع :

الأول : هل من شرط طلاق السنة ألا يطلقها في العدة أم لا؟

فمذهبنا ، والشافعي ، وأبي حنيفة أنه لو طلق في العدة بأن يطلق في كل طهر طلقة كان ذلك للسنة ، لكنها بعد الرجعة أو قبلها ، هو على الخلاف هل يتبع الطلاق الطلاق أم لا.

وقال مالك : من شرط السنة أن لا يطلقها حتى تنقضي عدتها فاعتبر الوقت ، وأن يكون الطلاق واحدة.

وقال الشافعي : لا بدعة في الثلاث ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقر المطلق بحضرته ثلاثا ، ولم يقل : إنه بدعة.

قال الشافعي : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة ، وهو مباح.

الفرع الثاني : أن التي لم يدخل بها فلا بدعة في حقها ، ولا بأس أن يطلقها حائضا ؛ لأن ذكر العدة في الآية مخرج لها.

٤١٢

وأما الآيسة لصغر أو كبر ، أو الحامل فقال : أهل المذهب وأبو حنيفة ، والشافعي : لا يجب أن يكف إذا أراد طلاقها ، ولكن يستحب.

وقال زفر : إنه واجب الكف ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأن العموم في قوله تعالى في سورة البقرة : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة : ٢٢٩] ونحو ذلك يقضي بأن الرجل يطلق امرأته متى شاء ، لكن قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) خص ذات الحيض.

أما لو أراد أن يطلق ثلاثا وجب الفصل بالشهر عند من قال : إن الثلاث بدعة ؛ لأنه لا يخرج عن كونه جامعا بين الثلاث لا بالكفّ ، والشهر كالطهر ، ووجه الاستحباب التشبيه بمن عدتها بالحيض.

وحكي في البيان عن الناصر ، والصادق ، والباقر : أن الحامل لا تطلق حال حملها إلا واحدة ، وأن الحمل بمثابة الطهر.

وإنما كانت الثلاث بدعة ؛ لأن في حديث ابن عمر : ما هكذا أمرك ربك أن تطلق لكل قرء تطليقة ، وهذا طلق في كل قرء تطليقتين

فقد ظهرت شروط طلاق السنة ، وهي أن يطلقها طاهرا ، لم يجامع في ذلك الطهر ، ولا طلق في حيضتها ، وتكون واحدة

فالثلاثة الأول : مأخوذ من خبر ابن عمر ،

وقوله : واحدة أخذ أيضا من قوله صلّى الله عليه : «أمرك ربك أن تطلق لكل قرء تطليقة».

قيل : ولو وطئها وهي حائض كان كطلاقها فلا يطلق في طهر ذلك الحيض.

قيل : وقد علل النهي بالطلاق حال الحيض أن في ذلك تطويل للعدة ، وعلل النهي في الطهر الذي جامعها فيه أنه لا يأمن أن يكون قد علقت فيؤدي إلى الندم لأجل الولد.

٤١٣

الفرع الثالث : إذا طلق للبدعة بأن يطلقها حائضا أو طاهرا طهرا قد جامعها فيه هل يقع الطلاق أم لا؟

فمذهبنا وهو قول جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ، والشافعي ومالك أنه واقع.

وقال الناصر ، والصادق ، والباقر ، والإمامية ، وابن علية ، وأبو عبيدة ، وابن المسيب : أنه غير واقع.

للأول وجوه :

الأول : ذكره في التهذيب قال الله تعالى : (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وفي ذلك دلالة على الوقوع ، وهذا يحتمل لأنه يحتمل الظن في الدين.

الوجه الثاني : إطلاق قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) ولم يقيد ذلك بحال من الأحوال ، والدلالة محتملة بأن المراد فإن طلقها طلاقا واقعا عليها.

الوجه الثالث : أن في حديث ابن عمر : «مره فليراجعها» والرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق ، وقد جاء في رواية (فليرتجعها).

الوجه الرابع : ذكره في النهاية قال : روى الشافعي عن مسلم بن خالد ، عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : نعم.

وروي أنه الذي كان يفتي به ابن عمر.

وفي الترمذي ، وسنن أبي داود : أن عمر قال : قلت أفيعتد بتلك التطليقة؟ قال فمه؟ أفرأيت إن عجز واستحمق ، وفي صحيح مسلم بمعنى ذلك.

الوجه الخامس : ذكره في الكشاف في حديث ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا ، فقال : «إذا عصيت ، وبانت منك امرأتك».

٤١٤

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا ، وأجاز عليه.

وجه القول الثاني : ما ذكر في النهاية وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» فلما قال عليه‌السلام : «فهو رد» كان ذلك مشعرا بعدم نفوذه ،

ومن حجتهم : «لا قول إلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة» وفي رواية في سنن أبي داود قال ابن عمر : فردها عليّ ولم يرها شيئا.

ومن حججهم : ما رواه الناصر بإسناده أن رجلا جاء إلى علي عليه‌السلام فقال : طلقت امرأتي وهي طاهر من غير جماع بغير شهود ، فقال : ليس بشيء ، اذهب إلى أهلك.

الحكم الثاني

يتعلق بقوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق : ١].

قرئ مبينة ـ بفتح الباء وكسرها ـ والمعنى لا تخرجوهن من مساكنهن ، يعني البيوت التي يسكنّها ، وأضاف البيوت إليهنّ وإن كنّ بيوت الأزواج لاختصاص البيوت بهنّ من حيث السكن.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : معنى : (لا تُخْرِجُوهُنَ) أي : لا يخرجهن البعولة غضبا عليهن ، وكراهة لمساكنتهن أو لحاجتهن إلى المسكن ، ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن بذلك إيذانا بأن الإذن لا يرفع الحظر.

وقوله : (وَلا يَخْرُجْنَ) يعني : إن أردن ذلك

وقد أفادت الآية أن الخروج محرم ، فلا يباح لهنّ ، وأن السكون حق

٤١٥

لهنّ إلا أن يبلغن أجلهنّ وهو زمن العدة. أما أنها لا تخرج فقد قضت الآية بذلك.

قال في الشرح : ولأن لها حقا من النفقة والكسوة ، وله عليها حق من النظر ، والتقبيل ، والوطء من أفعالها من غير رضائها ولا رضاء وليها ، وهذا إذا لم يكن ثم عذر من سقوط منزل أو خيفة سقوطه ، أو كان مستأجرا فانقضت مدة الإجارة ، أو باع زوجها هذا البيت ؛ لأن قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) دليل على جواز الخروج للعذر.

قال أبو العباس : إذا انتقلت للعذر فعليها في البيت الذي انتقلت إليه ما كان عليها في الأول ، وفي قول للشافعي القديم يجوز الخروج ، واختاره في الانتصار ، واحتج أنه عليه‌السلام أذن لامرأة في الخروج من عدة الطلاق تجذ نخلها وقد ذكر ذلك في مسلم ، وأنه عليه‌السلام قال : «فإنك عسى أن تتصدقي أو تفعلي معروفا».

فأما وجوب السكنى لها فهذا مجمع عليه في الطلاق الرجعي ، وكذا النفقة والكسوة ؛ لأن العدة منه كحال الزوجية ، وقد استدل على هذا بقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ).

وأما المبتوتة وهي المعتدة عن الطلقة الثالثة ، فاختلف العلماء على أربعة أقوال :

الأول : أن عدتها كعدة الرجعية في وجوب النفقة والكسوة والسكنى ، وهذا قول الناصر ، وأبي حنيفة.

قال في التهذيب : وهو قول عمر ، وعائشة ، وابن مسعود.

القول الثاني : أنها لا تستحق نفقة ولا سكنى وهذا قول القاسم ومالك ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، والإمامية ، وابن عباس ، وجابر.

وروى هذا في الشرح ، وهكذا في الكشاف ، عن الحسن ، وحماد ،

٤١٦

ورواه في النهاية عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وجابر ، وأحمد ، وداود ، وأبي ثور ، وإسحاق.

القول الثالث : أن لها النفقة دون السكنى ، وهذا هو الذي نص عليه الهادي عليه‌السلام.

قيل : وفي كلام المؤيد بالله إشارة إلى تقريره ، ورواه في الشرح عن أحمد.

القول الرابع : قول الشافعي أن لها السكنى دون النفقة ، إلا أن يكون معها حمل فلها النفقة والسكنى ، وروي هذا في التهذيب والكشاف ، والنهاية عن مالك : أن النفقة في الحامل مجمع عليها لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٦] وسبب هذا الخلاف أن أهل القول الأول أوجبوا النفقة والسكنى.

أما وجوب السكنى فلقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ولقوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ).

وأما وجوب النفقة فلأنها تابعة لوجوب السكنى في حال الزوجية ، وفي عدة الرجعى وفي الحامل ، وعلى زعمهم أنها إجماعية ، ولهذا قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس لما قالت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوجب لها نفقه ولا سكنى ، لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شبّه لها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لها السكنى والنفقة.

حجة القول الثاني : في سقوطها حديث فاطمة بنت قيس وذلك أن زوجها أبو عمرو بن حفص طلقها ثلاثا ، فقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفقة لك ولا سكنى ، وروي عنها أنها قالت : لم يجعل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفقه ولا سكنى ، وقد روي هذا الحديث في مسلم والسنن من طرق كثيرة وفي بعضها ، قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا.

٤١٧

وفي السنن لما بلغ فاطمة بنت قيس أن مروان قال : لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة فقالت : فاطمة بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فأي أمر يحدث بعد الثلاث ،

قالوا وقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) هذا في عدة الرجعي لأن المبتوتة لا تسكن حيث يسكن الزوج.

قالوا : فيكون هذا الحديث مخصصا لعموم الكتاب ، وتخصيص الكتاب بخبر الآحاد جائز على قول أكثر العلماء.

وأما توجيه وجوب النفقة دون السكنى فقد قال في النهاية : أنه عسير ، وقد وجه في الشرح كلام الهادي عليه‌السلام ، فقال : وجبت النفقة لقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَ) ولم يجب السكنى لأنه قال تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فشرط أن تسكن حيث يسكن الزوج.

قالوا : وذلك في الرجعي ، وقد روى عن الكشاف أن من في في قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) زائده ، وقيل : إنها للتبعيض كقوله تعالى : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي : بعض أبصارهم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : في حديث فاطمة بنت قيس : «إنه لا سكنى لها».

وأما إسقاط النفقة فيجوز أنها ناشزة ، أو أسقط صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الزائد على ما كان بعث به إليها ، لأنه قد روى أنه قد بعث إليها بشيء استقلته وقد قال : في صحيح مسلم عن عروة : إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس.

وأما توجيه قول الشافعي ، فقال : تجب لها السكنى لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) وتجب نفقة الحامل بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). فأوجب الله تعالى : النفقة مع الحمل ، لكن قول الشافعي القديم : يجب للحامل.

٤١٨

فلو كانت الزوجة أمة وجبت على سيدها ؛ لأنها ملكه ، والأخير (١) يجب للحامل بسبب الحمل فتجب هنا على الزوج وعلى القول بأنها لا تجب للحامل بسبب الحمل فقولان :

أحدهما : لا تدفع حتى تضع ، لجواز أن يكون ريحا.

والثاني : يجب يوما بيوم فإن بان أنه لا حمل ردت.

وإنما سقطت النفقة مع عدمه ؛ لأنه تعالى قيد وجوبها بالحمل ، فدل أن بعدمه تسقط هذا من مفهوم الشرط إن جعلناه معمولا به ، ففيه دلالة على سقوط نفقة غير الحامل ، وإن قلنا : إنه غير معمول سقطت لعدم الدلالة على أن العلة النفقة بالقياس على عدة الرجعى ، أو الحامل ، أو المزوجة لعلة الحبس يحتاج دلالة على أن العلة الحبس.

تكملة لهذا الحكم : وهي بيان قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قرئ ـ بفتح الياء وكسرها ـ والمراد ظاهرة.

واختلف المفسرون في تفسيرها ، فعن الحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، وابن زيد أنها زنا ، فتخرج لإقامة الحد عليها.

وقيل : الفاحشة البذاء على أهلها (٢) فيحل لهم إخراجها عن ابن عباس ، وفي قراءة أبي (إلا أن يفحشن عليكم).

وقيل : هو النشوز عن قتادة ، وقيل : خروجها قبل انقضاء عدتها عن ابن عمر ، والسدي. وقيل : كل معصية لله ظاهرة عن ابن عباس.

قوله تعالى

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١]

وهذا دليل على ثبوت الرجعة ؛ لأن المراد أن يحدث الله في قلبه

__________________

(١) من أقوال الشافعي.

(٢) أي : أهل الزوج.

٤١٩

شهوة بعد النفرة ، وأنه يرغب إليها بعد أن كان راغبا عنها ، وفي ذلك إشارة إلى ما تقدم في الطلاق الرجعي ، وقد صرح الله سبحانه بأن الزوج أحق بقوله تعالى في سورة البقرة : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] وهذا حكم ثابت.

وقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) قيل : المراد شارفن انقضاء العدة ، وقاربن الانقضاء لا أنها قد انقضت فلا خيار له.

وقوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وذلك أن يسترجعها ويقوم بحقوقها ، ويحسن صحبتها.

وقوله تعالى : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وذلك أن يتركها فلا يراجعها ليزيد ضرارها ، وتطول العدة عليها ، وهذا هو التفسير الظاهر.

وقيل : الأجل هو أجل الطلاق الثاني : فتخير بين الرجعة والطلاق ، وهذا التخيير للصحة.

وأما اللزوم فقد تجب الرجعة وتستحب وتكره ، وتحظر ، وتباح ، والوجوب ، والاستحباب حيث يجب عليه النكاح ، ويستحب له ، ولا يجد إلا المطلقة.

وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قيل : أراد من أهل ملتكم عن الحسن.

وقيل : من أحراركم عن قتادة.

واختلف المفسرون فقيل أراد على الرجعة عن ابن عباس ، وجماعة من المفسرين ، وقيل : على الطلاق ، وقيل : عليهما والأول الظاهر.

واختلف في حكم الإشهاد على الرجعة فأحد قولي الشافعي : أنه شرط لصحتها ، أخذا للظاهر ، وقياسا للرجعة على النكاح ؛ لأنها قول يستباح به النكاح ، والمذهب ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأحد قولي الشافعي

٤٢٠