يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤
وقال المؤيد بالله في الزيادات في الكفارات إذا أفتى رجل بأن يهب ماله لأولاده حتى يفتقر ثم يصوم عن كفارات عليه كره ذلك ، كما نقول في طريقة الإعسار أن التخيل فيه مكروه.
وقال أبو مضر : وكذلك يكره للمفتي الفتوى ، وتعليمه ؛ لأنه بأمر بالقطع عن نفع الفقراء ، فإن فعل صح ويجوز الصوم ، وأخذ العشور يكره ، ولكن إن كانت الحيلة قبل الحنث سؤال (١).
والأمر الثاني : إذا عدم رقبة يشتريها ، أو بعد ماله عنه ، فهذا مبيح للصوم وقد ادعى أبو طالب الإجماع أن الإعسار بالوجود ، والتعذر دون اليسار والإعسار ذكر هذا في كفارة الأيمان.
وقال صاحب الوافي ومالك : إذا كان ماله غائبا فعليه أن ينتظر ولا يكفر بالصوم ، ذكروا هذا في كفارة اليمين ، فيأتي هنا.
وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) فيه دلالة لنا ؛ لأن من بعد ماله عنه لا يسمى واجدا ، ولكن كم حد البعد؟ هذا محتمل للنظر هل يقال حد البعد خروجه عن البلد كما قد ذكر فيمن عليه شيء من ذوات الأنفال ، فلم يوجد المثل في البلد فعليه القيمة ، أو يقال : يعتبر مسافة القصر ، وكل على أصله أو مسافة الارعاء أو غيبة الولي في النكاح.
أما الفقيه يحيى بن أحمد فقد ذكر عن بعضهم في كفارة اليمين أن حدها أن لا يصل إلى ماله حتى يفرغ من الصوم للثلاثة الأيام ، وهذا محتاج إلى دلالة ، وقد ذكر الفقيه في كفارة اليمين أن غيبة المال التي تبيح صوم الثلاثة الأيام مسافة القصر ، وحكي عن المؤيد بالله ثلاثة أيام ، وهي مسافة القصر عنده ، والذي في مهذب الشافعي إن لم يكن عليه ضرر في
__________________
(١) بياض في الأم وفي الحاشية : (قلنا لا فرق بين أن يكون قبل الحنث أو بعده ، إلا أنها قبل الحنث أدخل في الجواز).
تأخير الكفارة ككفارة القتل واليمين لم يجز له الصوم ، وإن كان عليه ضرر ككفارة الظهار ؛ لأنه يتضرر بالتحريم فوجهان (١).
وأما كم حد الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم فذكر صاحب الوافي في كفارة اليمين أن يجوز له أخذ الزكاة ومثله في شمس الشريعة عن الشافعي ، وضعف ذلك أهل المذهب ، وجعلوا اليسار إمكان الإخراج ؛ لأنه يسمى واجدا إذا كان معه ثمن الرقبة ، وإن كان الذي معه دون النصاب.
الرابعة : إذا كان معه رقبة محتاج إليها للخدمة هل يجزيه الانتقال إلى الصوم أم لا؟
قلنا : الذي حصله أبو العباس وأبو طالب للمذهب أنه لا يجزئه الانتقال إلى الصوم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وخرج صاحب الوافي لمذهب الهادي جواز الانتقال إلى الصوم ، وهذا قول الليث ، والشافعي ، وهو محكي عن المنصور بالله ،
وسبب الخلاف أن أهل القول الأول قالوا : إنه يطلق عليه اسم الوجود ، وقد قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) وأهل القول الثاني قالوا : ما كانت حاجته تستغرقه فإنه كالمعدوم كما لو كانت له دار يحتاج لسكناها ، وكما لو كان معه ماء يحتاج لشربه فإنه يجوز له التيمم.
قلنا : التيمم يباح لعدم الماء ، وللضرورة بخلاف الصوم في الكفارة ، فإنه مقيد بعدم الوجود فقط.
قال أصحاب الشافعي : يستثنى له الخادم إن كان مريضا أو لا يخدم نفسه ، فإن كان ممن يخدم نفسه فوجهان يلزمه العتق ؛ لأنه مستغن عنه ، ولا يلزمه لأنه ما من أحد إلى الترفيه والخدمة.
__________________
(١) بياض في الأصلين قدر سطر.
وأما صفة الصوم فقد وصفه الله تعالى بالتتابع وبأن يكون قبل التماس ، فلو حصل تفريق لغير عذر استأنف وفاقا لدلالة الآية ، وإن فرق لعذر ميئوس من زواله ثم زال جاز له البناء وذلك وفاق ، فيخرج من مقتضى لزوم التتابع المذكور في الآية ، وإن كان لعذر يرجى زواله كالمرض المرجو ، فجوز أبو العباس وأبو طالب وقول للشافعي البناء قياسا على التفريق بالحيض في كفارة القتل ، فإن ذلك وفاق.
والذي صححه المؤيد بالله وهو ظاهر قول الأحكام ، وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي أنه يجب معه الاستئناف ، وإن فرق بالسفر فأبو العباس وأبو طالب قالا : يستأنف إلا أن يخشى مضرة ، وحصل المؤيد بالله قولين :
قال : ظاهر قول الأحكام يستأنف وظاهر قول المنتخب لا يستأنف ، وقد تقدم طرف من هذا في سورة النساء ، في كفارة القتل.
وأما خلوه عن المسيس فهذا كلام أهل المذهب أنه إذا جاء جامع امرأته المظاهر منها ليلا أو نهارا ، عامدا أو ناسيا قبل استكمال الشهرين فعليه الاستئناف ، هذا خرجه أبو العباس للهادي عليهالسلام ، وبه قال أبو حنيفة ومحمد ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، والنخعي ، والليث ، والحسن.
وقال أبو يوسف والشافعي : لا يضر إن جامعها بالليل ، وأما بالنهار ، فإن كان عامدا استأنف وإلا فلا ، ووجه كلامنا قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فأوجب تعالى تقديم الصيام على المسيس وخلوه عن المسيس ، فإذا فات التقديم لم يفت.
الأمر الثاني : وهو خلو الصيام عن المسس ويكون المساس منافيا لصحة الكفارة ، ويشبه بالحدث قبل الطهارة فإنه لا يبطل شيئا ، وإذا غسل بعض الأعضاء فأحدث بطل الغسل ، كذا يبطل ما تقدم من الصوم بالمسيس قبل كماله ، والإجماع على صحة الكفارة بعد المسيس لفوات
محلها ، ويلزم على قولنا أن لو تخلل الصوم لمس أو تقبيل أن يكون كالجماع في بطلان ما تقدمه من الصوم.
وشبهة القول الثاني أن تقدم الوطء جميع الصوم لا يبطله ، فكذا إذا تقدم بعضه ، وإذا صام من بعض الشهر كمله من الشهر الثالث ، وصام الشهر الثاني بالأهلة لقوله تعالى في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) فنأخذ بالأدلة لدلالة الآية إلا ما تعذر وهو الشهر الأول.
وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) في هذه الجملة مسائل :
الأولى : هل يجوز له أن يمس قبل أن يطعم ، أو لا يجوز كالعتق والصوم؟
قلنا : اختلف العلماء في ذلك فالذي خرجه المؤيد بالله لمذهب الهادي عليهالسلام ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي أنه لا يجوز له أن يمسها قبل الإطعام قياسا على مسها قبل العتق وقبل الصوم.
وقال مالك في أحد الروايتين ، والثوري في أحد الروايتين وبعض الناصرية ، ورواه في زوائد الإبانة عن أبي طالب أنه يجوز ،
وسبب الخلاف أن الله تعالى لم يشرط في الإطعام أن يكون قبل المماسة كما شرط ذلك في العتق والصيام.
فقال الأولون : نقيس الإطعام على العتق والصيام ، فلا يجوز المماسة قبله ، وذكره في الأولين دلالة على الثالث.
فإن قيل : فهلا اكتفى بذكره في العتق؟
قلنا : ذكرنا في الصوم لرفع توهم أنه إنما يحرم قبل الشروع لكونه يتجزأ ويتعدد بخلاف العتق ، وحذف من الإطعام لأنه كالصوم في
التجزؤ ، وأيضا فإن الأخبار دلت على تقديم الإطعام ؛ لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمره بالعتق ثم بالصوم ، ثم بالإطعام فجعلها سواء.
وقال من أجاز ذلك : فلو كان المسس قبل الإطعام محرما لذكره الله تعالى كما ذكر ذلك في العتق والصيام.
قال الزمخشري وابن داعي : الخلاف هل يأثم بتقديم الوطء ، وأما صحة الإطعام لو تخلل الوطء قبل كماله فيجوز ولا يجب الاستئناف عند الجميع ، ونقول هذا فائدة ترك ذكره عند الإطعام لتفيد أنه إذا تخلل المسيس الإطعام لم يستأنف كما يستأنف في الصوم ، ولم يجعل من فوائد تركه جواز المساس قبل الإطعام ؛ لأن التحريم قبل التكفير بأي الثلاث متفق عليه ، ودعوى الإجماع ضعيف للخلاف السابق ، وقد يقال : بل ظاهر كلامهم أن تخلل الوطء يبطل ما قبله كالصوم.
قال في الشفاء : وخرج أبو العباس جواز الوطء قبل الإطعام ، وخرج أيضا خلافه.
الثانية في تقدير الطعام ، والآية مجملة ليس فيها بيان للقدر فقال أبو العباس تخريجا للهادي عليهالسلام : نصف صاع من البر أو دقيقه ، أو صاع من سائر الحبوب لكل مسكين ، قياسا على كفارة اليمين ، وإلى هذا ذهب المؤيد بالله ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري.
وقال الشافعي : لكل مسكين مد لخبر الذي وطئ في شهر رمضان فإنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاه عرقا من تمر ، والعرق خمسة عشر صاعا على تفسيره.
الثالثة : في استيفاء العدد ، وفي صفة المساكين ، والكلام على ذلك كالكلام في إطعام المساكين في كفارة اليمين ، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة المائدة.
تكملة لهذه الجملة وهي أن المظاهر لو تعذرت عليه الكفارة من
العتق والصيام والإطعام فإن التحريم باق ، وتسقط مرافعة الامرأة ؛ لأنه كالمعدم ، ولعل نفقتها واجبة عليه ، إذ لا تعدى منها ، وإن امتنع الاستمتاع كالمريضة بل هنا أولى ؛ لأن تعذره بتعديه ، ولو وطأها سقط الحد مع علم التحريم وجهله للشبهة ، ولو أنه كفر قبل العود فظاهر إطلاق أهل المذهب أنها لا تجزي ، وفي الآية الكريمة إشارة إلى ذلك لقوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) والفاء للتعقيب ، وذكر في الشرح في مواضع والإمام يحيى أنه يجزي ؛ لأن العود شرط ، فأشبه حول الحول في الزكاة ، والموت بعد الجراحة في القتل ، وقد ذكر هذا في مهذب الشافعي ، لكنه قال : إذا كفر بالمال وشبه ذلك بالزكاة قبل الحول ، وكفارة اليمين قبل الحنث ، وهم يجيزون التكفير قبل الحنث بغير الصوم.
قوله تعالى
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) [المجادلة : ٨]
النزول
روي عن ابن العباس أنها نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فظن المؤمنون أنه بلغهم عن أقربائهم الذي في السرايا قتل ، أو موت ، أو مصيبة ، أو هزيمة فيحزنون ، فلما طال ذلك شكوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنهاهم عن النجوى دون المسلمين ، فلم ينتهوا فنزلت.
عن مقاتل : نزلت في اليهود وكان بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم موادعة فإذا مر بهم المسلم تناجوا خفية عنه فيظن أنهم يريدون قتله ، فيترك الطريق عليهم مخافة ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنهاهم فلم ينتهوا.
ثمرة الآية : تحريم التناجي بما يؤذي أحدا من المسلمين أو إيهام ما
يسوءه ، وقد جاء في الحديث عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» وروي (دون الثالث).
قوله تعالى
(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) [المجادلة : ٨]
قيل : كانت اليهود إذا حيوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قالوا : السام عليك ، فقبضت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وجهها وقالت : عليكم السام ، والزام ، والذام ، والذام : اللعنة ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا عائشة إن الله يحب الرفق ، ولا يحب الفحش والتفحش» فقالت : ألم تسمع ما قالوا؟ فقال : «ألم تسمعي ما رددت عليهم» فنزلت.
قال في عين المعاني : كان يرد عليهم فيقول صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم». قال : ورواية (وعليكم) بالواو خطأ.
قال : وقيل نزلت في المنافقين كانوا يقولون : أنعم صباحا تحية الجاهلية ، وتحية الله نحو : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى).
وثمرة الآية : أن التحية التي ورد بها الشرع مشروعة ، وخلافها منهي عنه ، فتكون تحية الجاهلية وما يعتاده الظلمة منهي عنه ، ويدل جوابه صلى الله عليه على جواز المجازاة في الأذية ، ويدل ردعه لعائشة أنه لا يجوز المجاوزة في التساب ، وقد جاء في الحديث عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «المستبان ما قالا فهو على البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم».
قوله تعالى
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المجادلة : ٩]
هذا نهي للمؤمنين أن يفعلوا كفعل اليهود والمنافقين.
قوله تعالى
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١]
النزول
عن قتادة نزلت في قوم كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإذا جاءهم أحد ضيقوا مجلسهم وأبوا أن يفسح بعضهم لبعض.
وقيل : كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الصّفّة يوم الجمعة وفي المكان ضيق ، فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس ، وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يكرم أهل بدر فسلموا وقاموا ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفعلوا فشق ذلك عليهم ، فأقام صلىاللهعليهوآلهوسلم جماعة وأبعدهم ، فكرهوا ذلك وشق عليهم ، وقال المنافقون : ألستم تقولون : إنه يعدل ، ما عدل على هؤلاء حيث أقامهم ، فنزلت عن مقاتل.
وقيل : نزلت في ثابت بن قيس ؛ لأنه كان في أذنيه ثقل ، وكانوا يفسحون له حتى يقرب من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فضايقه بعضهم وجرى بينهم كلام عن الكلبي.
وقيل : نزلت في مجلس المقاتلين ، وكانوا يتنافسون في الصف الأول حرصا على الجهاد ، عن أبي العالية ، والحسن والقرطبي.
وأما قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا).
قيل : نزلت في المجلس ، وقيل : في الجهاد ، وقيل : في الصلاة.
وفي عين المعاني عن قتادة : إلى كل خير.
وعن عكرمة : فيمن دعي إلى الحاجة أو الشهادة.
ثمرات الآية : وجوب المعاونة على الطاعة ، وأن المسجد أو مجالس الوعظ والعلم يجب فيها المواساة ، وأن لا يأخذ من المكان إلا ما يكفيه مع الانضمام وعدم التوسع ، ويلزم أن من كان في المسجد وضيق على مصل آخر لا تجزيه صلاته على أصول الأئمة عليهمالسلام ؛ لأن وقوفه على هذه الصفة معصية ، وهو مأمور بخلاف ما هو عليه ، وتدل الآية على حسن الرغبة إلى الجهاد ، وطلب الشهادة ، وعلى حسن المبادرة إلى الطاعات ، وإجابة الدعاء إلى الشهادة ، وعلى الترغيب في أدب طالب العلم ، وأن لا يجرض (١) العالم بسؤاله ، ولا يكثر عليه على وجه يضجره.
وفي قوله تعالى : (فَافْسَحُوا) أمر بالمواساة ، وفي قوله تعالى : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) ترغيب عظيم لأنه تعالى قال : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) ، وهذا مطلق في كل ما ينبغي الفسحة فيه من المكان ، والرزق ، والصدر ، والقبر ، وغير ذلك ، هكذا ذكر جار الله.
وقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ترغيب ثان أنه تعالى وعد الرفعة بامتثال أوامر الله وأوامر رسوله (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : ويرفع العالمين منهم خاصة (دَرَجاتٍ) قيل : أراد في الجنة ، وقيل : في المجالس ، وقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى» وهذا حكم شرعي أن المؤمنين وأهل العلم يقدمون في مواضع التقديم ، وتميز درجتهم ، وفي ذلك ترغيب في طلب العلم ، وقد روي عن ابن عباس في تفسيرها «أن المراد والذين أوتوا العلم درجات فوق الذين آمنوا».
قال في الكشاف : وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كان إذا قرأها قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم في العلم.
__________________
(١) أي : يضجره ـ ولعلّه كذلك ـ والجرض بالتحريك أن يبلغ روحه من التعب ومنه قولهم : حال الجريض دون القريض.
وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بين العالم والعابد مائة درجة ، بين كل درجتين حصر الجواد المضمر سبعين سنة».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وعنه عليهالسلام : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء».
قال جار الله ـ رحمهالله ـ : فاعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة ، بشهادة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : خير سليمان عليهالسلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم ، فأعطي المال والملك معه
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أوحى الله إلى إبراهيم إني عليم أحب كل عليم» والترغيب في هذا واسع.
قوله تعالى
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [المجادلة : ١٢]
قيل في سبب نزولها أن المسلمين أكثروا السؤالات لرسول الله صلى الله عليه حتى أملوه وأبرموه ، فأراد الله تعالى التخفيف عنه.
وقيل : أثقله المنافقون بالسؤالات بما لا يحتاج إليه ، فأمروا بالصدقة قبل المناجاة ، وفي هذا تعظيم لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتخفيف ونفع للفقراء ، وثواب للمصدقين ، ولما نزلت ارتدعوا وكفوا.
وقيل : لم يعمل بها إلا علي عليهالسلام كان معه دينار فصرفه ، وكان إذا ناجاه تصدق بدرهم.
قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قيل : بقيت زمانا ثم نسخت ، وقيل : ساعة ، وهي وإن كانت متصلة في التلاوة فهي متأخرة في النزول.
وقيل : نسخت هذه الصدقة بالزكاة ، وكانت هذه الصدقة واجبة.
قوله تعالى
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة : ١٤]
قيل : نزلت في المنافقين تولوا اليهود ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين ، عن قتادة ، وابن زيد ، وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي المنافق ، وكان يحضر مجلس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وينقل حديثه لليهود.
وثمرتها تحريم موالاة من غضب الله عليه ، وقبح اليمين الكاذبة ، وأن القبيح مع العلم بقبحه أعظم.
قوله تعالى
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢]
قيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمجيء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاعلم الله نبيه عليهالسلام.
وقيل : نزلت في أبي بكر ؛ لأنه أباه أبا قحافة يسب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فصكه أبو بكر صكة سقط منها وذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : «لا تعد إلى ذلك» فقال : لو كان معي سيفي لقتلته.
وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، وفي أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ دعاه ابنه يوم بدر للبراز ، وقال لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعني أكن في الرعلة الأولى فقال : «متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» والرعلة القطعة من الخيل ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ، وفي عمر ـ رضي الله عنه ـ قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر ، وعلي ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ـ رضي الله عنهم ـ قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة يوم بدر.
وثمرة هذه الآية الزجر عن ملابسة أعداء الله ، والتوصية في التصلب في مجانبتهم ، والاحتراس عن مخالطتهم ومعاشرتهم ، قد زاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ) وبقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وبمقابله قوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) بقوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ).
قال جار الله : فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه ، بل هو الإخلاص بعينه.
وعن الثوري : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.
وعن عبد العزيز بن أبي داود : أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها.
وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه كان يقول : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، إني وجدت فيما أوحيت إليّ : (لا تَجِدُ قَوْماً) أراد هذه الآية.
ومن ثمرات ما جاء في سبب نزولها : جواز قتل الرحم الكافر ، ولكن هذا إذا قاتل أو خشي منه على نفسه ، أو على مسلم ، فإن لم لم يجز
قتله على ظاهر كلام أبي العباس ، حيث قال : على المسلم أن يتجنب قتل أبيه المشرك في دار الحرب.
قال في الشرح : وهو مما لا خلاف فيه لقوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥].
قال : وروي أن أبا بكر أراد قتل أبيه فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعه يقتله غيرك» هذا كان قبل اسلامه.
قال محمد بن عبيد الله : وكذلك استحب له أن لا يقتل عمه وأخاه ، وهو قول الشافعي.
قال : لا يقتل ذا رحم رحمه ؛ لأنه في ذلك قطيعة الرحم ، وقد قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١].
وفي مهذب الشافعي : يكره إلا أن يقاتل ، أو يذكر الله تعالى أو رسوله بسوء فلا كراهة.
ومن الثمرات : كراهة قبول الإحسان من عدو الله ؛ لأنه يميل قلبه إلى المحسن ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها» ولهذا الحديث الذي رواه الزمخشري ـ رحمهالله ـ عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة».
روي عن السيد الأوحد شمس الدين أحمد بن الأمير الجبلي ـ رحمهالله تعالى ـ أنه أعيا في مسيره حين خرج إلى اليمن فرآه نصراني فرق له وأركبه على فرس مسافة ، وساعده لأجل العجز الذي أصابه فعد ذلك من شوائب سفره.
وحكي لي أن الفقيه الأفضل العلامة بدر الدين محمد بن سليمان بن أبي الرجال ـ رحمهالله تعالى ـ أطلع بعض تلامذته على أحواله فوجدهم في شدة وانقطاع قوت فرفع أمره إلى الأمير صاحب الدولة بصعدة فأرسل
له بحمل من الطعام ، وألقي عليه بابه ، فوقف أياما وعاذله أصحابه في أخذه فقال : معاذ الله من ذلك فردّ الحمل إلى الأمير.
قال جار الله ـ رحمهالله ـ : وقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، هذا من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه.
وقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي : أثبته فيها بما وفقهم. وقوله : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) يعني : بلطف من عنده.
سورة الحشر
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢]
النزول
نزلت في بني النضير وذلك أنهم صالحوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، وعاقدوا أبا سفيان على أن يكونوا يدا واحدة على محمد ، وخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليستعين بهم في دية الرجلين الذي قتلهما عمرو بن أمية الضمري من بني عامر ، وكانا في ذمة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، ثم تناجوا بينهم وقالوا : إنكم لا تجدون هذا الرجل على مثل هذه الحالة ، وهو قاعد إلى جنب جدار من بيوتهم فقالوا : من رجل يعلو البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه ، فصعد عمرو بن جحاش فأخبره جبريل عليهالسلام بذلك ، وكان معه صلىاللهعليهوآلهوسلم نفر من أصحابه فقام صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : «لا تبرحوا حتى آتيكم» فرجع إلى المدينة
وأخبرهم بما كان ، وأمر صلىاللهعليهوآلهوسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن سلمة الأنصاري غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صبحهم بكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : «اخرجوا من المدينة» فقالوا : الموت أحب إلينا من ذلك ، فتنادوا بالحرب.
وقيل (١) : استمهلوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس إليهم عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ، ولئن خرجتم لنخرجن معكم ، فدربوا على الأزقة وحصونها فحاصرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء. على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على جمل ما شاءوا من متاعهم ، قيل إلا السلاح فحملوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات إلا بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وأجلاهم عمر من خيبر إلى الشام.
وقوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).
قيل : كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها ، والذي دعاهم إلى الخراب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليشدوا بها أفواه الأزقة وحسد المسلمين إن بقيت فلا يتحسرون على بقائها ، وأن ينقلوا معهم جيد الخشب كالساج المليح ، والذي دعا المسلمين إلى الخراب إزالة تحصنهم ، وأن لا يتسع لهم مجال الحرب.
__________________
(١) هذا لفظ : تفسير القرطبي ج ٨١ ص ٤ :. وقيل : استمهلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس إليهم عبد الله ابن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الآزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء.
وقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)
قيل : المعنى اعتبروا بما دبر الله من إخراجهم بغير قتال.
وقيل : وعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فاستدلوا على صدقه.
ولهذه الجملة ثمرات :
منها : أن للإمام نظره في الصلح ، كما صالح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ابتداء ، ثم نظره في المن على من أراد ، وترك ما أراد من الأموال حسب المصلحة ، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عند خروجهم.
ومنها : أن الواجب أن يجلوا من جزيرة العرب إلا لمصلحة.
قال الحاكم : وما فعله عمر من إجلائهم من جزيرة العرب هو الذي يقتضيه الشرع من الكتاب والسنة ، فقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» وقد فسر قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي : حشرهم وجمعهم إلى الشام ، وآخره ما فعله عمر من إخراج من بقي ، وفي الحديث كان آخر كلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اخرجوهم من جزيرة العرب» فإن خيف مفسدة جاز إبقاؤهم كما أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أهل نجران لما هموا بالانتقال إلى دار الحرب.
وقد قال الإمام يحيى بن حمزة في الانتصار : إن مكن الله تعالى أخرجناهم من جزيرة العرب.
ومنها جواز تخريب حصونهم وأراضيهم.
قال في الكشاف : واتفق العلماء أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق ، وتغرق وترمى بالمجانيق.
ومنها ما ذكر أبو العباس بن شريح أن قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا) دليل على صحة القياس.
قال الحاكم : إلا أن ما تقدم وما تأخر لا يليق بذلك.
قوله تعالى
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) [الحشر : ٥]
اللينة اختلف فيها فقيل : هي عامة لأنواع النخل. وقيل : للكرم ، وقيل : للنخل سوى العجوة عن ابن عباس ، وقتادة ، والأول عن مجاهد ، وابن زيد ، وأبي مسلم ، والثالث عن أبي سفيان. وقيل : هي لما قرب من الأرض من النخل ، وقيل : الفسيل لأنها اللينة.
ثمرة الآية : جواز قطع أشجار الكفار ، وخراب زروعهم ، قيل : لما أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بقطع نخيلهم ، قالت اليهود : زعمت يا محمد أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخيل.
وروي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بقطع النخيل إلا العجوة.
وعن جابر : العجوة من الجنة.
وقيل : لم يأمر بقطعها لمصلحة ، ورجحه الحاكم.
ومن ثمراتها : جواز الاجتهاد ولو بحضرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأن كل مجتهد مصيب ، وأن بعضهم اجتهد فقطع ، ورأى أن ذلك يوهن أمر الكفار ويغيظهم ، فكان هذا وجها في الاجتهاد ، وبعضهم لم يقطع ورأى أنه يصير إلى المؤمنين في الحال الثاني ، وذكر أبو مسلم أن رجلين من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أحدهما يقطع العجوة وأحدهما يقطع سائر النخل فسأل عن ذلك فقال الأول : أغيظ الكفار ، وقال الآخر : بقيته للنبي وللمؤمنين فنزلت الآية بتصويبهما.
وعن ابن مسعود قطعوا منها ما كان موضعا للقتال ، وكذلك يجوز إحراق الأشجار والنخيل إن رأى الإمام ذلك صلاحا ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، وكره الليث إحراق النخيل والشجرة المثمرة.
وقال الأوزاعي : أكره قطع الشجر وتخريب قرية أو كنيسة ، وروي عنه جواز ذلك.
وروى عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أحرق نخيل بني النضير. وروي أنه أمر بإحراقها.
قال في الشرح : ولم يلزم على هذا ما روي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقول في وصيته للجيش : «ولا تقطعوا شجرا ، ولا تغوروا عينا ، إلا شجرا يضركم» لأن الإمام إنما يقطع ويحرق إذا رأى الصلاح في ذلك ، فإذا كان قطعها يضر بالمسلمين تركت ، وإن كانت تضر المسلمين بأن يتقوا بها قطعت ، ولهذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إلا شجرا يضركم» هذا معنى كلامه ، وهذا حكم أهل الحرب.
وأما حكم أهل البغي فقد قال الأئمة ـ عليهمالسلام ـ : ما لم يجلبوا به على المسلمين فلا سبيل عليه ، فهذا يدل على أنه لا تخرب أراضيهم ، ولا تقطع أشجارهم ، ولكن هذا بنا على أن ذلك لا مصلحة في فعله ، فإن رأى الإمام صلاحا في قطع أشجارهم ، وخراب دورهم فعل ، وقد ذكر الأمير الحسين وغيره جواز العقوبة ، بإتلاف المال وأخذه.
أما إتلافه فقد ورد بذلك أخبار كثيرة :
منها أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «لقد هممت أن أحرق دار من يتخلف عن الجماعة» وهو لا يهم إلا بالجائز.
وروي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إذا وجدتم الرجل وقد غل فاحرقوا متاعه واضربوه».
وروي أن أمير المؤمنين أحرق نصف مال المحتكر ، وصرف نصفه إلى بيت المال.
وروي عن علي عليهالسلام أنه أحرق دار جرير بن عبد الله لما لحق بمعاوية.
وروي أنه أحرق دور قوم كانوا يبيعون الخمر ، وكذلك بعض دار ثور بن عمرو لما لحق بمعاوية ، وخرب بعضها ، وخرب الهادي عليهالسلام القرى ، وقطع النخيل والأعناب ، والزروع بنجران وأملح ، وقطع أعناب علاف بحقل صعدة عقوبة لهم على ترك انقيادهم ، وكذلك الناصر بن الهادي عليهالسلام خرب منازل أهل الخطى في نجران ، وقطع نخيلهم وأعنابهم ، وخرب أيضا بلاد قدم وقطابة ، وهكذا كثير من الأئمة فعل ذلك.
وأما أخذ المال عقوبة إلى بيت المال فجوزه الأمير الحسين وهو أحد قولي المؤيد بالله ، والمنصور بالله ؛ لأن أخذه أنفع للمسلمين من إتلافه ، وقد روي أن عليا عليهالسلام أخذ نصف مال المحتكر إلى بيت المال.
وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من أعطى زكاة ماله طائعا فله أجرها ، ومن قال لا : أخذناها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «من وجدتموه يصيد من هذه المواضع والحدود فمن وجده فله سلبه» أراد حرم المدينة.
وروي أن عمر قضى على من قتل في الحرم بدية وربع دية ، وقضى ابن عباس فيمن قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام بدية ، وثلثي دية ، وغير ذلك من الحكايات ، وأحد قولي المؤيد بالله : لا يجوز رفع المال إلى بيت المال عقوبة ؛ لأن ذلك يورث التهمة ، وقد ذكر هذا بعض المفرعين لمذهب الهادي عليهالسلام ، وكذلك منعه الإمام يحيى ، والغزالي.
قال الإمام في الانتصار : والعقوبة بالمال كانت جائزة في صدر الإسلام ، ثم نسخت.