تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : ٢ ـ ٥]

النزول

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ نزل قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنيه وقر ، فكان جهوري الصوت ، وكان إذا تكلم رفع صوته وربما يتأذى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن هذه الآية لما نزلت فقد ثابت ، ففقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر بشأنه فدعاه فسأله فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية ، وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة».

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : وما روي عن الحسن أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمحمله بكون الخطاب للمؤمنين على أن ينهى المؤمنون ليندرج تحت ذلك المنافقون ، ويكون النهي لهم أغلظ وأشد.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : لما نزلت قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : والله يا رسول لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله ،

٢٤١

وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يكلم النبي كأخي السرار ولا يسمعه حتى يستفهمه ، وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفد. أرسل إليهم من يعلمهم فيسلمون ، فيأمرهم بالسكينة والوقار عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : نزلت في قوم رفعوا أصواتهم في القراءة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : غير ذلك ، وحين كلمه أبو بكر وعمر سرا نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) ونزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في بني تميم ، وذلك أن الأقرع بن حابس وعتيبة ابن حصن ، والزبرقان بن زيد ، وقيس بن عاصم في أناس من بني تميم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنادوا : يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : «ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين» ثم فاخروه بالنظم والنثر ، فأمر قيس بن شماس وهو خطيب الأنصار فأجابهم نثرا ، وأمر حسان فأجابهم نظما ، فارتفعت الأصوات ونزلت الآية.

وثمرة هذه الآية وجوب استعمال الهيبة والتبجيل والتوقير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يجعل له مزية لا تكون لغيره ، وأن لا يكون خطابه كخطاب غيره ؛ لأنه قيل : إنهم كانوا يقولون يا محمد يا أحمد فأمر بأن لا يخاطبوه بما يخاطبون به بعضهم بعضا ، بل يقولون : يا رسول الله يا نبي الله.

قال الحاكم : وكما يحسن ذلك مع النبي فكذا مع الأئمة والعلماء ، ومن يجب تعظيمهم.

قال الحاكم والزمخشري : وليس القصد رفع الصوت ، ولكن القصد استعمال التعظيم والتوقير ، فإن رفع الصوت وجهر به إظهارا للاستخفاف فذلك كفر في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٤٢

وأما في حق العلماء والأئمة (١).

وقد يحسن الجهر إذا احتيج إليه في حرب أو مجادلة معاند على وجه لا يتأذى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا قال عليه‌السلام يوم حنين للعباس لما انهزم الناس : «اصرخ بالناس» وكان أجهر الناس صوتا ، يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس : يا صباحاه فأسقطت الحوامل ، وفيه يقول النابغة :

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم

وكان يكنى أبا عروة.

قال جار الله : زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فتفتلق مرارة السمع في جوفه.

واعلم أن التوقير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتعظيم واجب بلا إشكال ، والاستخفاف به كفر بلا إشكال ،

وقد انطوت هذه الجملة من الآيات على اثني عشر وجها ، مما يدل على الأمر بتبجيله عليه‌السلام

الأول : قوله تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

الثاني : (وَاتَّقُوا الَّذِي) أي اتقوا عذابه بتضييع حقه.

الثالث : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) المعنى بأعمالكم من التبجيل له وغيره.

__________________

(١) بياض في الأصل قال في الحاشية (لا يخلو إما أن يكون الاستخفاف لأجل تحملهم الشريعة فهو استخفاف بها فيكون كفرا علم من الدين ضرورة وإما أن يكون لاعتقاده رفعة نفسه أنه لا يتنزل لهم فيهتضمهم لذلك فمن قال بالتكفير والتفسيق بالقياس فأقل أحواله عنده الفسق ومن منع من ذلك توقف وأما الاثم فلا شك فيه عند الجميع ـ والله أعلم.

٢٤٣

الرابع : قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ).

الخامس : قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ).

السادس : قوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ).

السابع : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) قيل : امتحنها بمعنى أخلصها عن مجاهد.

وقيل : أكرمها عن ابن عباس.

الثامن : قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي تكفير لذنوبهم.

التاسع : قوله : (وَأَجْرٌ) أي ثواب.

العاشر : قوله : (عَظِيمٌ).

الحادي عشر : قوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).

الثاني عشر : قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

قال في عين المعاني : لما طلب المفاخرة قام الأقرع بن حابس :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وأنا رءوس الناس من كل معشر

وأن ليس في الأرض الحجاز كدارم

فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسان ليجيبهم فقال :

بني دارم لا تفخروا إن فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم

وفي أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يجيب دليل على جواز إجابة المتعدي بالقول ، وقد تقدم ذلك.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات : ٦]

٢٤٤

قراءة حمزة ، ويعقوب : (فتثبتوا) بالثاء من التثبيت وهو التأني ، وقراءة الباقين (فتبينوا) بالتاء والنون من (التبين) والتعرف ، وقراءة ابن مسعود : (فتبينوا) وهو بمعنى التبين.

النزول

قال في الكشاف : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه ، وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بالناس الفجر أربعا وهو سكران ، ثم قال : أزيدكم؟ فعزله عثمان ، وكان بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدقا إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم أحنة فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فحسبهم مقاتلين فرجع ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فغضب رسول الله وهم بغزوهم فوردوا فقالوا : نعوذ بالله من غضبه ، وغضب رسوله ، فاتهمهم وقال : «لتنتهنّ أو لأبعثنّ عليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلكم ، ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي ـ رضي الله عنه ـ».

وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع ، وقوله عليه‌السلام : «ويسبي ذراريكم» فيه دلالة على أن أولاد المرتدين يسبون كما ذكره محمد بن عبد الله ، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي ، وأحد احتمالي أبي طالب.

والاحتمال الثاني لأبي طالب ، وأحد قولي الشافعي : لا يسبون كما لا يسبى الأب ، وكما لو علقت به في دار الإسلام ، واحتج من جوز سبيه بأن الصحابة حكمت في المرتدين بحكم أهل الحرب في قتالهم ، لكن المرتدة لا تسبى عندنا ، وقال أبو حنيفة : تسبى.

__________________

(١) بياض في الأصول قدر نصف سطر تمت.

٢٤٥

ثمرة الآية أن خبر الفاسق لا يقبل ، ولا يعمل به ؛ لأن الله تعالى أمر بالتبين ، وهل فيها دلالة على قبول خبر الستير (١) أو على عدمه؟

قال أبو علي : فيها دلالة على أنه لا يقبل ؛ لأنه لا يحصل به العلم ، وأبطل بخبر الاثنين (٢).

وقيل : بل فيها دلالة على قبول خبر الستير ، لأن الله تعالى إنما أمر بالتبيين لكونه فاسقا (٣).

وقيل : إن دلالتها أن خبر الفاسق مردود ، ولا دلالة على غير ذلك من قبول خبر الستير أو رده ، وهذا إذا كان فاسقا فسقا صريحا.

وأما الفاسق من جهة التأويل فذهبت الفقهاء إلى قبول خبره وهو قول القاضي ، وأبي رشيد ، ويستدل على هذا بأن الفتنة ثارت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قبول بعضهم من بعض ما رواه ، ويقولون : هذا إجماع الصحابة.

وقال أبو علي ، وأبو هاشم : لا يقبل خبرهم ؛ لأنه إذا كذب في المعاملات منع كذبه من قبول خبره ، فكذلك الكذب على الله ورسوله ، وعلى سادات الإسلام.

يجاب على هذا بأن الكذب المانع من قبول الخبر إنما يكون ممن يتعمده لا ممن كان لا يتعمده ، فكذبه لا يقدح فيه.

قال في الجوهرة : ويأتي على قبول خبر فاسق التأويل كافر التأويل.

وعن أبي طالب : لا يقبل خبره ، والذي حكاه أبو مضر عن القاسم ويحيى ، وهو منصوص المؤيد بالله أن شهادة كافر التأويل وفاسق التأويل مقبولة.

__________________

(١) هو الذي لا يعرف حاله.

(٢) فإنه يقبل مع عدم حصول العلم.

(٣) فسقا صريحا.

٢٤٦

وفي الكافي عن الهادي وفي المهذب عن المنصور بالله مثل قول أبي علي ، وأبي هاشم : أن شهادته لا تقبل.

وأما خبر المجهول فقال أكثر العلماء : لا يقبل ، وقبله أبو حنيفة أخذا من قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فجعل الفسق سبب التبين.

قال الأكثر : العمل بالظن ممنوع إلا أنا خصصنا العدل بأدلة فبقى المجهول ، واختلفوا في قبول خبر الواحد فيما يقتضي الحد ، فقبله الأكثر ، ومنعه الكرخي ، وأحد قول أبي عبد الله البصري لقوله عليه‌السلام : «ادرءوا الحدود بالشبهات» ويقبل فيما تعم به البلوى [عملا] عند الأكثر.

وقال بعضهم : لا يقبل.

قوله تعالى

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات : ٩ ، ١٠]

النزول

عن ابن عباس : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك عبد الله بن أبي على أنفه وقال : خل حمارك فقد آذانا نتنه ، فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك ، وروي حماره أفضل منك ، وبول حماره أطيب منك ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء

٢٤٧

قومهما وهم الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي والأيدي ، والنعال ، والسعف ، فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم ، ونزلت.

وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا.

وقيل : نزلت في رجلين من الأنصار جرت بينهما منازعة في حق لهما فقال أحدهما : لآخذن حقي منك عنوة ، ودعاه الآخر إلى المحاكمة إلى رسول الله فأبى فتنازعا حتى كادا يتناولان بالأيدي والنعال دون السيوف ، ثم اصطلحا ، ففيهم نزلت.

وقيل : في حرب الأوس والخزرج في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمر نبيه فصالح بينهم ، فصاروا إخوانا عن الكلبي.

وقيل : كانت امرأة من الأنصار بينها وبين زوجها شيء فحبسها فجاء قومها فاقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت الآية عن السدي.

ولها ثمرات :

الأولى : جواز التسلية بما كان ابتداء وإن زال الآن ؛ لأن الله تعالى قال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ولا شبهة أن إحداهما باغية كما يقال : لو أن طائفتين من المؤمنين ارتدتا فاقتلوهم ، ومثل ذلك قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [آل عمران : ١١٣].

الثمرة الثانية : وجوب الاصلاح بينهما ؛ لأن فيه دفعا عن منكر ، ومن هذا يؤخذ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد تكاثرت الأدلة على الحث على الصلح قال تعالى : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء : ١١٤] وقال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨] وقد أفرد الحاكم في السفينة له بابا ، وروى أخبارا متعددة منها أنه صلّى الله عليه قال لأبي أيوب : «ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله ، تصلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقرب إليهم إذا تباعدوا».

٢٤٨

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد».

وعن أنس : من أصلح بين اثنين أعطاه بكل كلمة عتق رقبة ، وهذا الوجوب كالأمر بالمعروف ، وقد تبين أن لم يقم غيره مقامه وإلا فهو فرض على الكفاية ، ويشترط لوجوبه ما يشترط في النهي عن المنكر ، ومنها : أنه يكون الصلح بالأسهل ، فلا يقاتل الباغي إن أمكن بدون قتال.

ومنها : أنه يجوز قتال الباغي ، ويجب ، ويهدر دمه ، وأنه يجوز الخروج على الظلمة ، وأنه لا يفترق الحال بين أن يكون مع الإمام أم لا ، وهذا حيث يكون ذلك دفعا عن البغي ، والبغي طلب ما ليس له ظلما.

قال الحاكم : وتدل أن الباغي لا يكون إماما ؛ لأن من يجب قتاله لا تجب طاعته ، قال : وتدل الآية على وجوب المصالحة بعد الفيء لتزول الضغائن.

وقد قال [الإمام] يحيى بن حمزة : لا خلاف بين أئمة العترة أن جهاد البغاة أفضل من جهاد الكفار وهو قول الحنفية ؛ لأن معصيتهم في دار رب العالمين ، فكانت كالمعصية في المسجد ، وهي أغلظ من المعصية خارج المسجد ، وقد تقدم أنه يرد على هذا أن يقال : معصية الكفر أغلظ من معصية البغي ، فسبيل ذلك سبيل من عصى في المسجد ، بأن يظلم درهما وعصى خارج المسجد بأن يظلم درهمين ، ونحو هذا ، فإنه يقدّم دفع من عظمت معصيته.

قال في التقرير : من استمر من الظلمة على الجبايات فلا خلاف أنه يجب دفعه من باب النهي عن المنكر ، مع إمام وغيره.

قال في (الروضة والغدير) : قتال البغاة أفضل من قتال الكفار ، ذكره يحيى بن عبد الله ، وموسى بن عبد الله ، والمرتضى ، والمؤيد بالله ، والمنصور بالله ، وهو الذي يظهر من كلام المنصور بالله الحسن بن محمد ، والحسن بن وهاس ، والفقيه عبد الله بن زيد.

٢٤٩

قال في الكافي : وهو رأي أهل البيت.

قال الأمير : وذهب كثير من العلماء من أهل البيت وغيرهم إلى خلافه ، واحتج الأمير بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] فإذا وجب قتال الأقرب لكونهم أقرب إلى ضرر المسلمين ، فضرر من في بحبوحة دار الإسلام أكثر.

واختلف العلماء في غزوهم إلى بلادهم من غير إمام ، فروى في التقرير عن القاسم ، والهادي ، وأسباطهما ، والمنصور بالله أخيرا : أنه لا يجوز ؛ لأن الدار ملكهم.

وقال المنصور بالله ـ أولا ـ والحسن بن إسماعيل الجرجاني ، والحاكم أبو سعيد : يجوز.

قال في (الروضة والغدير) : وهو قول النفس الزكية ، والإمام المتوكل أحمد بن سليمان ؛ لأنه قاتل البغاة بعد ما عمي ، وبطلت ولايته بالعمى فجمع العساكر ، وهو قول المنصور بالله أولا ، وقد قال في شعره :

أهل بغي دماؤهم هدر

لسافكيها في غير وقت إمام

لأن الآية لم تخص الإمام من غيره.

وحكم الضمان لما جنت الباغية.

قال في الكافي : إذا جنت الباغية على نفس أو مال ضمن ذلك عند أصحابنا.

وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يضمن ، إلا ما وجد بعينه.

وفي الكشاف : إن كانتا باغيتين معا فلا ضمان ، وإن بغت إحداهما ولا منعة لها ضمنت ، وإن كانت كثيرة ولها منعة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن.

قال جار الله : وإنما قرن الصلح الثاني بالعدل دون الأول ؛ لأن في

٢٥٠

الأول هما باغيتان فكان الصلح لتسكين الفتنة لا للضمان ، وفي الثاني الباغية إحداهما فكان الصلح للضمان ، فلذلك قال بالعدل.

والفيء : الرجوع إلى حكم الله تعالى. وللبغاة أحكام استنباطها من غير الآية تكملة لما ذكر.

إن قيل : ما يكون بين القبائل من الحروب والغزو من بعضهم لبعض هل يكون الجميع بغاة أو البعض؟

قلنا : الحال يختلف فإن لم يكن مع أحد القبيلتين للأخرى مظلمة من مال أو دم فطلبت إحداهما الصلح ، وأبت الأخرى فالآبية هي الباغية بلا إشكال إن كانت قاصدة ، وإن قصدت مع إبائها من الصلح ، وكانت القاصدة طالبة للصلح نظر في ذلك ، فإن كانت القبيلة الممتنعة من الصلح إذا لم تقصد قصدت فهي باغية ، ذكره المؤيد بالله ، وإن كانت لا تقصد فهي مبغي عليها حال القصد.

وأما إذا كان مع أحدهما دم أو مال فطولب بذلك وامتنع ، ولم يرجع إلى أمر الله وكان إذا سلم ما عليه كف عنه فهو باغ ، وإن كان لا يرجع إلى حكم الشرع ، ويؤثر فيه الوعظ والنصح فليس بباغ.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : ١١ ، ١٢]

٢٥١

النزول

روي عن ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر ، وأنه دخل المسجد وجعل يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا فانتهى إلى رجل فقال : أصبت مجلسا فاجلس ، فجلس خلفه مغضبا فقال : يا ابن فلانة ذكر أمّا له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه حياء.

وقيل : نزلت في وفد تميم استهزءوا بفقراء الصحابة كعمار ، وخباب ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم ، فنزلت الآية عن الضحاك.

وأما قوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) فنزلت في امرأتين من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سخرتا بأم سلمة ، وذلك أنها ربطت شعرها بشيء وأسدلته خلفها فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب.

وقيل : سخرت نساء النبي عليه‌السلام بأم سلمة ، عن أنس.

وقيل : في صفية بنت حيي قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن النساء يعيرنني ويقولن : يا يهودية بنت يهودي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هلا قلت أبي هارون ، وعمي موسى ، وزوجي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وأما قوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) فنزلت في جمع من الصحابة كانوا يتنابزون بالألقاب.

وقيل : في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بها بعضهم بعضا.

وأما قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) وقوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) وقوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فنزلت في رجلين اغتابا رفيقا لهما.

قال في الكشاف : عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن سلمان ـ

٢٥٢

رضي الله عنه ـ كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبغي لهما إداما ، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان بذلك فقالا : لو أرسلناه إلى بئر سمحة لغار ماؤها ، وهي بئر من بؤر مكة (١) ، فلما راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما» فقالا : ما تناولنا لحما ، فقال : «إنكما قد اغتبتما».

ثمرة هذه الآية أن الله تعالى حرم بها السخرية بالمؤمنين ، واللمز بهم والتنابز بالألقاب ، وظن السوء ، والتجسس والغيبة.

أما السخرية فهي والاستهزاء نظيران ، وفي قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) إشارة إلى أن هذا النهي لمن يجوّز أنه مرضي عند الله لا إذا ظهر عصيانه ، والمعنى : لا يسخر أحد لرثاثة حالة أو لعيب في خلقة ، فلعله عند الله أخلص ضميرا وأتقى قلبا فتكونوا قد استهزأتم بمن عظمه الله. وقيل : المعنى خشية أن تكونوا على حال أشر من حاله.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : ولقد بلغ من توقي السلف وتصونهم من ذلك أنه قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه.

وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا.

وأما اللمز فهو الطعن باللسان ، وهو بمعنى الهمس ، ولهذا ورد قول الشاعر :

تدلي بود إذا لاقيتني ملقا

وإن أغب كنت أنت الهامز اللمزة

وقيل : الهمزة بالقول والإشارة ، واللمز بالقول.

__________________

(١) صوابه : من بؤر المدينة (ح / ص).

٢٥٣

وفي قوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) إشارة إلى أن النهي متوجه إلى لمز من كان كالنفس من المؤمنين في التصون لا إلى من لا يدين بدين المؤمنين ، ذكر معناه جار الله.

قال : وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس».

وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : أنه ذكر الحجاج فقال : أخرج إلى بنانا قصيرة قل ما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ، ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ، قوله : يطبطب يعني : يحرك شاربه ، ولما مات الحجاج قال الحسن : اللهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ، ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ولا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل ، هيهات فدون ذلك السيف والسوط.

والخفش : صغر في العينين وضعف في البصر خلقة ، وهو الذي يبصر بالليل لا بالنهار ، وفي يوم الغيم دون اليوم الصاحي.

وقيل : معناه لا يعب بعضكم بعضا ؛ لأن من فعل ذلك فقد عاب نفسه ؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة.

وقيل : معناه لا تفعلون ما تلمزون به ؛ لأن من فعل ذلك فقد لمز نفسه.

وأما التنابز بالألقاب فالمنهي عنه هو نبز السوء الذي فيه ذم وشين ، فأما ما يزين ويحبب وينوه بالذكر فجائز ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب اسم إليه» ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب والحسن.

قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : أشيعوا الكنى فإنه منبهة ، وقد لقّب أبو

٢٥٤

بكر بالعتيق ، والصديق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله.

وقوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) اختلف في معناه فقيل : من فعل ما نهيت عنه استحق اسم الفسوق ، فيكون ذلك نفس الاسم أو يكون المعنى استقباح الجمع بين الفسق والإيمان ، كما يقال : بئس الشأن بعد الكبر الصبوة ، ويكون فاعل هذه الأشياء فاسقا بمعنى (١).

وقيل : أن يسمي غيره فاسقا ، وقيل : بئس الذكر كلامكم لمن آمن : يا يهودي ، أو يا نصراني ، عن الحسن.

وقيل : أراد بذلك من يتوب بمعصية فيعير بها ، عن ابن عباس.

وأما الظن المحرم فذلك ظن السوء بمن ظاهره الستر ، وقد قيل : إذا احتمل الشيء وجوها فيجب أن يظن به الجميل ، وإن لم يحتمل إلا وجها واحدا وهو القبيح فقد أتي من قبل نفسه.

قال جار الله : كل ظن لم يكن له أمارة صحيحة ، وسبب ظاهر كان حراما ، ووجب اجتنابه ، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وعرف بالأمانة ، فظن الفساد والخيانة به محرم ، بخلاف من اشتهر بالمجاهرة بالخبائث.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء».

في عين المعاني عن مجاهد : المنهي عنه التكلم بما يظن ؛ لأن في الحديث : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».

فأما التجسس : فقد قال تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) فقرأه السبعة بالجيم.

__________________

(١) أنه خرج عن عادة المؤمنين.

٢٥٥

وعن ابن عباس وأبي رجاء : بالحاء ، وكذا عن الحسن ، قيل : هما واحد ، أي : لا تتبعوا عورات المسلمين.

وقيل : لا تبحثوا عما خفى وهو الطلب ، ومنه الجاسوس والمجسة.

وقيل : بالجيم البحث لغيره ، وبالحاء لنفسه ، وقيل : بالجيم للشر وبالحاء للخير ، وضعف بقراءة ابن عباس ، والحسن ، وقد أفاد ذلك النهي عن تتبع عورات المسلمين ، والاستكشاف عما ستروه.

وعن مجاهد : خذوا ما ظهر ، ودعوا ما ستره الله.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته».

وعن زيد بن وهب : قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط تقطر لحيتيه خمرا ، فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به ، وذكر في (شرح الإبانة) عن الناصر عليه‌السلام أنه يجوز التجسس للمصلحة ، وذلك بأن يعرف الناس أن الإمام إذا كان يبحث عن العورات انقرعوا وقلّت المعاصي.

وأما قوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) هذا تحريم للغيبة ، وقد سئل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «أن تذكر أخاك بما يكره ، فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته».

وعن ابن عباس : الغيبة إدام كلاب النار.

وقيل : الغيبة ذكر الغيب بظهر الغيب ، وفي الآية الكريمة تشديد في قبحها من حيث أسند الفعل إلى أحد فقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) والمراد أن أحدا من الآخرين لا يحب ذلك.

ومنها : التمثيل بأكل لحم الأخ بأن ذلك أفضع من غيره.

٢٥٦

ومنها : أن جعل التمثيل بأكل لحمه ميتا.

وقوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي كما كرهت ذلك فأكره غيبة أخيك ، وهي هي ، وقد أفرد للغيبة أبواب ، وذكر للحامل عليها أسباب.

قيل : لما أمر الله تعالى في أول الآيات بالتواصل وقطع الإحن نهى عن سبب التقاطع ، وذلك ما ذكر من المنهيات ، ثم عقب تعالى ذلك بأن التفاخر بالأنساب خطأ ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قيل : أراد من آدم وحواء ، وقيل : من ماء الرجل والمرأة ، وإنما جعلناكم شعوبا وقبائل لأجل التعارف ، والشعوب من الشّعب وهي الكثرة ، والقبيلة بعده.

وقيل : القبائل من العرب ، والشعوب في العجم.

ولذلك ثمرات : منها : تحريم التفاخر بالأنساب.

ومنها : لزوم معرفة النسب ، وقد جاء في الحديث ما معناه (احفظوا من أنسابكم ما تواصلون به).

ومنها تعظيم التقي من غير نظر إلى نسبه ، والقراءة الظاهرة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) بكسر إن.

قال جار الله : وقرئ بالفتح يعني : ويكون تعليلا لعدم التفاخر بالنسب ؛ لأن الأكرم عند الله هو الأتقى.

وفي الحديث : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط ، لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يوما فسأل عنه صاحبه فقال : محموم ، فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في ذمائه فمات فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت الآية ، قوله : لما به أي متهيئ

٢٥٧

لما لا بد له منه ، وقوله : في ذمائه بقية حركته ،

وهذه الآية الكريمة حجة لزيد بن علي ، والناصر ، ومالك ، والإمامية أن الكفاءة في الدين فقط لا بالنسب ،

ومذهب الهادي عليه‌السلام والمؤيد بالله ، والشافعي ، وأبي حنيفة أن النسب معتبر في الكفاءة ؛ لأن لذلك دليلا خاصا ، وذلك قوله عليه‌السلام : «العرب بعضها أكفا لبعض» وخبر سلمان أمرنا أن ننكحكم ولا ننكح منكم ، يعني العجم ، وتفصيل المسألة ، وتعلق العلماء في اختلافهم مستنبط من غير هذه الآية.

قوله تعالى

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]

دلالة على أن الاعتقاد شرط في الإيمان لا مجرد القول كفعل المنافقين ، ثم رد الله على هؤلاء الذين ادعوا الإيمان وهم منافقون ، فقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا يعم مجاهدة النفس ، والهوى ، والشيطان والمحارب ، وإنفاق المال الذي يجب ، والذي يندب كما فعل عثمان ـ رضي الله عنه ـ في جيش العسرة أنه جهزه ، فلا يقال : هذا شرط للإيمان ، ولكنه تعالى أشار إلى من صدق إيمانه من الصحابة ، فإنه فعل هكذا.

وقوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) دلالة على أن الهداية نعمة من الله سبحانه يجب له الشكر عليها ، والمن لله سبحانه ، وقد ذكر الحاكم فيه وجوها في سورة (ألم نشرح).

٢٥٨

سورة ق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق : ٦ ـ ٨]

ثمرة ذلك : وجوب النظر في الأدلة وتحريم التقليد.

قوله تعالى

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [ق : ٣٩ ، ٤٠]

المعنى : أصبر على ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه ، أو على ما يقول المشركون من إنكار البعث.

قال في الكشاف : قيل : إن هذا منسوخ بآية السيف ، وقيل : الصبر مأمور به على كل حال.

قال الحاكم : وقيل : أصبر على ما يؤذونك من قولهم شاعر ومجنون.

قال : والأول الوجه ؛ لأنه في سياق مقالهم بالتشبيه ونحوه ، وأما قوله : «وسبح بحمد ربك» ففي ذلك أقول للمفسرين ، قيل : معناه نزه الله

٢٥٩

بالتسبيح من مقالتهم ، وقيل : قل (سبحان الله والحمد لله) عن عطاء الخراساني.

وقيل : هذا أمر بالصلوات الخمس ، فأراد بقوله : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) ، صلاة الفجر ، وبقوله : (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ، صلاة العصر ، عن قتادة ، وابن زيد ، وأبي علي ، وقيل الظهر والعصر ، عن ابن عباس ، والحسن ، وأراد بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) ، صلاة العشاءين ، عن أبي علي.

وقيل : صلاة الليل ، عن مجاهد ، وقيل : العتمة ، عن بن زيد.

قال الحاكم : والأول الوجه ؛ لأن الأمر على الوجوب والأمر بالفضل أمر ندب.

وأما قوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ففي ذلك أقوال.

الأول : مروي عن علي عليه‌السلام وعمر بن الخطاب ، والحسن بن علي ، وأبي هريرة ، والحسن والشعبي ، والنخعي والأوزاعي ، وروى ذلك عن بن عباس موقوفا عليه ، ومرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن المراد ركعتان بعد المغرب ، وحاء في الحديث عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين».

وأما قوله تعالى في الطور : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩] فالركعتان قبل الفجر.

القول الثاني : أن المراد التسبيح بعد الصلاة باللسان ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد.

القول الثالث : أنه أراد النوافل بعد المكتوبات كالوتر ، والسنن ، وهذا مروي عن أبي زيد ، وأبي علي وإذا حمل الأمر على النوافل والتسبيح باللسان كان الحمل على الندب لدلالة الإجماع.

٢٦٠