تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

الثاني : عن مقاتل أن هذا في حق فيه قصاص ، وما تقدم في حق لا قصاص فيه كالجروح.

الثالث : أن هذا حيث فيه دفع عن نفسه ، فيكون الانتصار طاعة ، وما تقدم إذا كان لا يذل نفسه.

وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق.

قال الزمخشري : ومن أخذ بحقه ولم يتعد فهو محمود ، ومطيع ، وذلك إذا لم يسرف بالزيادة ، بل حرج قدر ما يستحق ، أورد على سفيه محاماة على عرضه وردعا ، فهو مطيع.

قال في التهذيب : والأولى بالمرء أن لا يحتمل الذلة مع التمكن من العزة ، وقد ظهرت الثمرات في بيان المعنى.

قوله تعالى :

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٠ ، ٤٣]

ثمرة : هذه الجملة أمران الأول : فضيلة العفو وذلك يؤخذ من وجوه.

الأول : من قوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) فسمى العفو صلحا ؛ لأنه من الأعمال الصالحة ، وقيل : أراد إذا كان العفو يصلح بين الطائفتين.

الثاني : من قوله تعالى : (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

قال جار الله : وهذه العدة المبهمة معناها لا يقاس أمرها في العظم.

١٨١

الثالث : من قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) فجعل له حال الصابرين والغافرين.

الرابع : قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقيل المعنى : من الأمور الثابتة التي أمرنا بها ولم تنسخ ، وقيل من أعلى درجات الفضل.

وأعلم أن الآية مطلقة لم تخص عفوا من عفوا ولكن قد أخرجت صور.

الأولى : ما كان فيه حق الله تعالى.

الثانية : ما كان العفو يحصل منه ذلة أو تماد في منكر.

الثالثة : العفو عن المصر ، على قول أبي القاسم خلاف قول عامة الشيوخ.

قال في التهذيب : العفو بعد التوبة حسن بالاتفاق ، وفي حق المصر يحسن عند مشايخنا لأنه إسقاط حقه.

وقال أبو القاسم : لا يحسن ؛ لأنه إغراء ولو كان حسنا لكان الله به أولى.

قلنا : مع قيام الوعيد لا يكون إغراء ، ويجوز الإسقاط بالعفو لجوازه بالتوبة ، ويجوز أن يعفو الله عن المصر عقلا ، وإنما منع منه السمع فهذه ثمرة.

الثمرة الثالثة جواز استيفاء الحق وحسنه.

وقوله تعالى

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠]

أراد أن الأولى تسوء من أساء عليه.

والثانية تسوء المستوفى منه ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] أراد ما يسوءهم من المصائب.

١٨٢

وقيل ذلك على طريق المقايلة وهو كثير في كلامهم. قال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقوله تعالى : (مِثْلُها) أي : لا يحصل عدوان بالزيادة.

قال : في التهذيب عن السدي ، وابن أبي نجيح إذا قال أخزاه الله يقول : أخزاه الله ، وهذا كما ورد به الحديث «المستبّان ما قالا فهو على البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم».

وأما ما ورد فيه القصاص فذلك جلى ، وأما أخذ مال الغير إذا أخذ مالك ففي ذلك الخلاف وقد تقدمت الأقوال الثلاثة.

وأما المسابّة فقد جوز المجاراة الحاكم والزمخشري ، وغيرهما ، ودل عليه عموم الآية والحديث «المستبّان ما قالا فهو على البادئ حتى يعتدي المظلوم» ، ولكن إنما يجوز بما لا يكون فيه كذب ، ولا بهتان فلا يقذفه افتراء إن قذفه.

وقيل : لا تجوز المجازاة بالسب ، وقد قال المؤيد بالله في الإفادة : البادئ والمجيب سواء في باب الشتم ووجه هذا.

قال الزمخشري : وقد يكون العفو أفضل لما تقدم ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا فيقال لهم : أدخلوا الجنة بإذن الله».

ويحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه‌الله ، فكان المظلوم يكظم ، ويعرق ، ثم يمسح العرق ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله ، وفهمها إذ ضيعها الجاهلون.

١٨٣

قال : وقد ينعكس الأمر فيكون المندوب ترك العفو ، وذلك إذا أحتج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى.

وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن زينب أسمعت عائشة ـ رضى الله عنهما ـ بحضرته وكان ينهاها فلا تنتهي فقال لعائشة : دونك فانتصري.

قلت : حكى لى القاضي الأفضل يحيى بن محمد صاحب ثاه أنه وصل إلى حي الإمام الناصر رحمه‌الله كتاب من شخص فضلله وخطأه حتى قال : إن ملك النصارى سيرته أعدل من سيرتك هذا معناه ، فقرأه الإمام وقام من قعوده ، وأعرق من قامته إلى قدميه ، وظهر ذلك عليه ، فلما رآه جلساؤه على هذه الحالة أشاروا أنه ينكل بالكاتب ، وينفي ، ويفعل به ويفعل ، فلم يزل الإمام يسكن نفسه ، ويستعمل الكظم والنظر ، حتى لاح له العفو ، فأخذ الكتاب وكتب على ظهره لقد تشدقت وتفيهقت ، ولكنا نظرنا إلى قوم أنزل الله في الثناء عليهم كلاما فقال تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وقد عفونا عنك. هذا معنى كلامه.

قوله تعالى

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى : ٤٠]

قال جار الله (رحمه‌الله) فيه دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية ، خصوصا حال الحرد ، والتهاب الحمية ، فربما كان المجازي ظالما وهو لا يشعر.

وقوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) [الشورى : ٤١]

هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول وتفسره قراءة من قرأ (بعد ما ظلم).

قوله تعالى : (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١]

١٨٤

قيل : يعني أثم ، وقيل : مكروه في الدنيا ، ولا في الآخرة.

قال جار الله : للمعاقب ولا للمعاتب والعائب يعني لا يعاقبه الغير ولا يعتب عليه ، ولا يعيبه.

قوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى : ٤٢]

يعني يبدؤهم بالظلم.

قوله تعالى : (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الشورى : ٤٢]

أي يعلون ، ويتكبرون ، ويفسدون لأن البغي الطلب فإذا كان بغير حق قبح لا إذا كان الطلب بحق.

قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) [الشورى : ٣٧] أي : أجيبوا من يدعوكم إلى الإيمان.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [الشورى : ٤٨] قيل المعنى : تحفظهم عن اعتقاد الباطل وقيل تحفظهم إلى الخير كرها.

قال : في عين المعاني هذا منسوخ بآية السيف.

قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣]

قال : في عين المعاني عن سهل بن أبي الجعدة : احترق مصحف فلم يبق إلا قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وغرق مصحف فانمحى كل شيء إلا ذلك.

١٨٥

سورة الزخرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) [الزخرف : ١٣]

قال في عين المعاني هذا فيه معنى الأمر.

قال : جار الله ومعنى ذكر نعمة الله : أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها ، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم ، وهو ما يروى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : «بسم الله فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف : ١٣ ، ١٤]».

وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا.

وقالوا : إذا ركب السفينة ، قال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود : ٤١].

وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه رأى رجلا ركب دابة.

فقال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا). فقال : أفبهذا أمرتم؟ فقال : فبم أمرنا؟ قال : تذكروا نعمة ربكم ، وكان قد أغفل التحميد فنبهه عليه.

وقال في عين المعاني قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد من أمتي استوى على ظهر دابته فيقول كما أمره الله تعالى إلا غفر الله له».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ركب قال هذا ، وكبر ثلاثا ، وهلل ثلاثا.

١٨٦

ويقال : قبل : هذا الحمد لله الذي حملنا في البر والبحر ، ورزقنا من الطيبات ، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا ، ومنّ علينا بالإيمان والقرآن ، ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) الآية.

قال : وحكي أن قوما ركبوا في سفر وقالوا : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) الآية وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالا فقال : أما أنا فمقرن لهذه ، فقمصت فاندقت عنقه ، والمقرن المطيق.

وعن قتادة إذا نزل من الفلك والأنعام قال : اللهم انزلنا منزلا مباركا ولعل هذا أمر ندب كالتحميد بعد الأكل.

قوله تعالى

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف : ١٨]

المعنى : أو جعل للرحمن من الولد من هذه صفته ، وفي ذلك وجوه :

الأول : أنه أراد النساء ؛ لأنهن يتزين بالزينة والحلية ، وهن إذا احتجن إلى مجاراة الرجال كان هذا الذي نشأ في الزينة غير مبين ، ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان ، وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال ، وقد قيل : ما أرادت امرأة أن تكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.

ويستمر من هذا أمران :

الأول : كراهة تولية النساء للأمور التي تحتاج فيها إلى المحاورة والمناظرة ، وقد ورد عنه : «استروا عيهن بالسكون ، وعوراتهن بالبيوت» فأما الحكم فلا يصح ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» وذلك لما مات كسرى فقيل : من ولوا بعده ، فقيل : ابنته بوران ، وقال (١) :

__________________

(١) بياض في (ب) قدر نصف سطر وفي (أ) سطر تقريبا.

١٨٧

الأمر الثاني : جواز الحلية من الذهب والفضة وغيرهما للنساء ، ذكر ذلك أبو العالية وهو إجماع.

الوجه الثاني : أنه أراد الأوثان.

الثالث : أنه أراد التماثيل من الذهب والفضة التي يعملونها.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : (١) وفي هذا إشارة إلى أن النساء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام ، وأنه من صفات ربات الحجال ، فعلى الرجل أن يتجنب ذلك ، ويأنف منه ويعيش كما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ اخشوشنوا ، واخشوشبوا ، وتمعددوا ، معنى اخشوشنوا أي : البسوا الخشن ، ومعنى اخشوشبوا ، أي : كلوا الخشن من الطعام ، وهو ما لا يشتهى أكله ، ومعنى تمعددوا أي : تشبهوا بمعد.

قوله تعالى

(إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢]

ثمرة ذلك تحريم التقليد في أصول الدين ، ووجوب النظر في الأدلة.

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) [الزخرف : ٢٦]

دل ذلك على أن البراءة من الكفار مشروعة ، كما فعل إبراهيم ، وقد تجب عند التهمة.

__________________

(١) الكشاف ج ٣ ص ٤٨٣.

١٨٨

قوله تعالى

(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢]

قيل في ذلك دلالة على جواز الاستئجار.

وقيل أيضا : إن بعضهم قد يملك غيره ، وذلك حيث يصح الملك بأن يسبيه ، أو تلده جاريته ، ثم يصح نقله بعد ذلك.

قوله تعالى

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣]

المعنى أنه تعالى لا يفعل المفسدة ؛ لأن قوله : (أُمَّةً) أي كفارا أو طالبين للدنيا ، وما كان يدعو إلى الفساد فهو مفسدة.

وهو يستثمر من هذا أن فعل سبب القبيح والداعي إليه قبيح ، وأن من كان إذا نظر إلى زخارف الدهاقين وإلى مواكب الظلمة دعاه ذلك إلى جمع المال من حله وغير حله ، أو إلى أن يستصغر مع نعم الله عليه فإنه تقبح منه الإجابة إلى بيوت الدهاقين المزخرفة ، ومواكب الظلمة المزينة.

قوله تعالى

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥]

قال الحاكم : في ذلك دلالة على جواز الرجوع إلى الغير عند محاجة الخصم ، وفي معنى السؤال وجوه :

الأول : أنه أراد يسأل مؤمني أهل الكتاب ، وهذا مروي عن الحسن وابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، وعطاء ، والسدي ، ومقاتل.

قيل : وفي قراءة ابن مسعود (واسأل الذين أرسلنا إليهم رسلنا من قبلك).

١٨٩

وقيل : المسئول أمم الأنبياء وإن كانوا كفارا فالتواتر يحصل العلم بخبرهم ، وهذا مروي عن أبي علي.

وقيل : المسئول الأنبياء ليلة الإسراء جمعوا له وصلى بهم ، وأمر بسؤالهم عن سعيد بن جبير ، وابن زيد.

قال في الكشاف : فلم يسأل ولم يشك.

وقيل : السؤال عبارة عن النظر وهو كثير في كلام الشعراء عن سؤال الديار والرسوم والأطلال ، وقول من قال :

سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك جوازا أجابتك اعتبارا.

قوله تعالى

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [الزخرف : ٨٣]

هذا وعيد وليس بإباحة.

قوله تعالى

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٩]

في معنى الصفح وجهان :

الأول : أن المراد اعرض عن دعائهم ، وهو منسوخ بآية السيف.

والثاني : أن المراد فأعرض عن السفه عليهم تكرما ، وادعهم.

ووجه ثالث عن أبي مسلم ، وأبي علي ، أن هذا وعيد.

وأما قوله تعالى : (وَقُلْ سَلامٌ) قيل المعنى : قولا نسلم به من شرهم.

وقيل : المعنى وادعهم بسلام غير التحية.

١٩٠

سورة الدخان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣]

قيل : هذه الليلة ليلة القدر ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وأبي علي وأبي مسلم ، ورجحه الحاكم والزمخشري ، وقال : هو قول أكثر المفسرين ، والمراد : أنزلنا القرآن قيل : إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نزل من سماء الدنيا نجوما على حسب المصلحة.

وقيل : المراد بهذه الليلة ليلة النصف من شعبان ، وهذا مروي عن عكرمة ، فإن قيل : إذا فسرت بليلة النصف من شعبان فكيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(١) [القدر : ١](٢).

وثمرة الآية بيان فضل هذه الليلة ، وإن فسرت بليلة القدر فقد نطق القرآن الكريم بفضلها في قوله تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٣] وفي فضلها فصول كثيرة ، وإن فسرت بليلة النصف من شعبان فقد وصفها الله تعالى بالبركة ، وقد تظاهرت الأخبار بفضلها ، وقد أفرد

__________________

(١) بياض في (ب) قدر سطر وكلمتين وفي (أ) ثلاثة أسطر تقريبا

(٢) يقال في الجمع بأنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا في شعبان وهو المراد بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ثم نزل أول يومه في رمضان وهو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

١٩١

الحاكم في السفينة بابا في فضلها ، وتسمى ليلة البراءة ؛ لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.

قال جار الله : وهي تختص بفضيلة العبادة فيها.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ، ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب القبر ، وثلاثون يرفعون عنه آفات الدنيا ، وعشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يرحم من أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام كلب».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن ، أو ساحر ، أو مشاحن ، أو مدمن خمر ، أو عاق للوالدين ، أو مصر للزنا».

قال جار الله : وتسمى ليلة المباركة ، ومن عادة الله في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة.

قوله تعالى

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان : ٢١]

قيل : أراد فلا موالاة بيني وبينكم ، ويكون ثمرة ذلك أن المشروع مصارمة من لا يرجى منه الصلاح.

وقيل : معناه دعوني كفافا فلا تؤذوني ولا تقتلوني.

قوله تعالى

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) [الدخان : ٢٢]

قيل : كان دعاؤه : اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم.

وقيل : هو قوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس : ٨٥].

١٩٢

ثمرة ذلك : جواز مثل هذا الدعاء لكن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ لا يدعون دعاء ظاهرا إلا بإذن.

وقوله تعالى أول الآية : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) [الدخان : ٢٠].

قيل : بالحجارة ، وقيل : بالسب ، ومعناه : اعتصمت.

قال الحاكم : وفي ذلك دلالة أن الواجب على العبد عند الخوف أن يعتصم بالله.

قوله تعالى

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان : ٢٩]

قيل : المعنى فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض وهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا لهلاكهم مسرورين ، وهذا مروي عن الحسن ، وأبي علي ، وصححه الحاكم ؛ لأنه الحقيقة في البكاء.

وثمرة ذلك : جواز البكاء على موت المؤمن ، والمسرة بموت الكافر.

وفي عين المعاني عن مجاهد : إنهما يبكيان على المؤمن أربعين صباحا.

وعن ابن عباس : إذا مات المؤمن بكى عليه مصلاه من الأرض ، ومصعد عمله من السماء ، ومنزل رزقه منها ، وبكاؤهما كبكاء الحيوان.

وفي الحديث : «ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ، ثم قرأ صلّى الله عليه هذه الآية وقال : إنهما لا يبكيان على كافر» وهذه فضيلة لمن مات غريبا. في التهذيب.

وقيل : البكاء بمعنى : لم يطهر لهم موضع من موضع صلاة ؛ لأن الجماد لا يبكي.

١٩٣

وقيل : بكاء السماء والأرض حمرة أطرافهما.

قال السدي : لما قتل الحسين بن علي عليه‌السلام بكت عليه السماء ، وبكاؤها حمرتها.

وعن ابن سيرين : إن الحمرة التي مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي عليه‌السلام

قال في عين المعاني عن علي عليه‌السلام : (البكاء حمرة الأطراف). كما روي لما قتل الحسين بن علي عليه‌السلام أحمرت السماء أربعة أشهر.

وقيل : المراد ما لحقتهم رحمة ، والعرب تدعو للميت ، تقول :

سقته الغوادي ، وسقاه المزن ، يريدون به الرحمة.

وعن أبي مسلم أن هذا تحقير لهم ، أي : كان أمرهم أهون أن يبكي عليهم أحد ، وهكذا عن ابن قتيبة أن ذلك عبارة عن قلة خطرهم كما يقال في الرجل الشريف :

الريح تبكي شجوها (١)

والبرق تلمع في غمامه

أي لامعا يبكي أيضا ، وقال آخر :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وقيل غير ذلك.

قوله تعالى

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان : ٣٧]

تبع الحميري كان مؤمنا وقومه كافرون ، ولذلك ذم الله قومه ولم

__________________

(١) في (ب) شيخها

١٩٤

يذمه ، وهو الذي سار بالجيوش ، وحيّر الحيرة أي : بناها ، كما يقال مدّن المدن وهي بلدة قريبة من الكوفة وهو الذي هدم سمرقند وبناه ، وكان إذا كتب قال : بسم الله الذي ملك بحرا وبحرا ، أي بحارا كثيرة.

وقيل : برا وبحرا.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تسبوا تبّعا فإنه كان قد أسلم».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أدري أتبع كان نبيا أو غير نبي». وعن ابن عباس : كان نبيا.

وقيل : نظر إلى قبرين بناحية حمير وقال : هذا قبر رضوى ، وقبر حبّى بنتي تبع لا تشركان بالله شيئا.

وقيل : هو كساء البيت ، ويستخرج من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أدري أتبع كان نبيا» أنا غير مكلفين بمعرفة الأنبياء ، ولكنا مكلفون بالتصديق بما أنزل إليهم جملة ، لقوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) البقرة : ١٣٦] الآية.

نكتة ذكرها في عين المعاني قال : أسعد بن ملك بن كرب سمي تبع لكثرة أتباعه ، وله شعر :

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

وشروقها بيضاء صافية

وغروبها حمراء كالورس

وتشتت الأهواء أزعجني

سيرا لأبلغ مغرب الشمس

ولرب مطمعة يضلّ بها

رأي الحليم إلى شفا نفس

قوله تعالى

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤]

قيل : نزلت في أبي جهل لما قال : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، في عين المعاني (شجرة الزقوم) في أسفل النار مرتفعة إلى أعلاها ، وما من دركة إلا وفيها غصن منها.

١٩٥

في التهذيب : تأخذ بحلوقهم فتحرق أجوافهم.

قال في الكشاف عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقرئ رجلا فكان يقول : طعام اليتيم فقال قل : طعام الفاجر يا هذا.

وفي عين المعاني كان أبو الدرداء لا ينطلق لسانه فيقول طعام اليتيم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قل طاعم الفاجر».

قال في الكشاف : ولهذا استدل أبو حنيفة أن القراءة بالفارسية جائزة إذا أدى القارئ المعاني ؛ لأنها دلت على أن إبدال لفظة بلفظة جائز إذا كانت مؤدية معناها.

واعترض الزمخشري رحمه‌الله بأن قال : إن كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز من اللطف المعاني والإعراب ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية ولا غيرها ، وما كان أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ يحسن الفارسية فلم يكن ذلك منه عن تحقيق منه وتبصر.

وروى علي بن أبي الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكاره القراءة بالفارسية ، وقد يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمنع بعض العرب في قراءته بالكاف بالقاف ، نحو : (كل هو الله أحد) ابتداء ، ثم نسخ ذلك ومنع ، وهذا حجة من منع القراءة بالفارسية.

وفي كلام الزمخشري إشارة إلى أن من لا يحسن اللفظة لفساد اللسان نحو أن يجعل الحرف حرفا آخر نحو يحمن في رحمن أنه يتركها وهذا هو الذي ذكره القاضي زيد ، والفقيه يحيى بن أحمد للمذهب فإن جاء بها أفسدت.

وقال أبو مضر : الأولى الترك فإن جاء بها لم تفسد ، ومفهوم كلام المؤيد بالله أن الواجب أن يأتي بها ، فإن ترك جاهلا صحت ، فعلى الرواية من أبي حنيفة يجعل فاسد اللسان وغيره سواء.

١٩٦

وأما الزمخشري فمفهومه أنهما سواء في عدم الإجزاء ، وأهل المذهب اختلفوا في فاسد اللسان ما حكم اللفظة الملحونة في حقه على الثلاثة الأقوال المتقدمة.

وأما إذا لم يكن ذلك لفساد اللسان فالظاهر من كلامهم عدم الإجزاء ، وهذا في القرآن لأن الله تعالى وصفه بأنه عربي.

أما في غيره من أذكار الصلاة فقد جوزوا التسبيح بالفارسية لمن لا يحسن العربية ، فيلزم مثله في التكبيرة ، فلو أبدل الراء في أكبر ياء لم تفسد إذا لم يحسن الراء.

حكى إمام الحديث ـ رحمه‌الله ـ أحمد بن سليمان الأوزري عن الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد بن حميد ـ رحمه‌الله ـ أنه سمع رجلا في تكبيرة الافتتاح يقول : الله أكبي بقلب الراء ياء فقال : قل الله أجل.

قوله تعالى

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان : ٥٨]

المعنى : سهلنا بكونه عربيا ، ليتدبروا فيه فينظروا في أوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده.

وثمرة ذلك : وجوب النظر في معاني القرآن ، لكنه كسائر العلوم في أنه فرض على الكفاية.

١٩٧

سورة الجاثية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) [الجاثية : ٦]

وقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦]

تدل على وجوب التفكر في الآيات المذكورة ليستدل بها على أن لها صانعا ، قديما ، قادرا ، حيا ، سميعا ، بصيرا ، حكيما.

قوله تعالى

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [الجاثية : ٧]

يدل على قبح الإفك ، وهو الكذب والإصرار على القبيح ، والاستكبار عن قبول الحق ، والاستهزاء بآيات الله وذلك عام.

وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن.

قوله تعالى

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [الجاثية : ١٢]

يستثمر من ذلك وجوب الحج ، وإن لم يمكنه السفر إلا بركوب البحر ، وقد تقدم ، وأنه يجوز التجارة مع ركوب البحر ، وأنه يجوز

١٩٨

الغوص فيه للحلية من اللؤلؤ والمرجان ، ونحو ذلك ، وكذلك لأخذ الصيد.

قوله تعالى

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤]

قيل : نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلا من عفار شتمه فهم أن يبطش به ، فنزلت وأمره بالعفو ، عن ابن عباس ، ومقاتل.

وعن سعيد بن المسيب : كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارئ هذه الآية فقال : ليجزى عمر بما صنع ، ومعناه : ليجزى بصبره واحتماله وقوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول الآية والذي بعثك بالحق لا يرى الغضب في وجهي.

وعن ابن عباس : لما أنزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قال يهودي في المدينة يقال له فنحاص : احتاج رب محمد ، فسمع عمر ذلك ، فأخذ سيفه وخرج في طلبه ، فنزل : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) الآية فدعا رسول الله عمر ، وأمره بالعفو.

وقال : القرظي ، والسدي : قوم من أصحاب رسول الله آذاهم المشركون قبل أن يؤمروا بالقتال ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت ، ونسخت بآية السيف.

وقد روي نسخها عن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد.

قال الحاكم : يجوز أن يقال : لا نسخ وأنهم أمروا بالرفق وحسن المقال مع الأمر بالقتال ، ويجوز أن ينهى عن القتال في حال.

واعلم أن الفقهاء قد اختلفوا في التعزير هل يجوز إسقاطه؟

قال في الانتصار : ظاهر مذهب الأئمة أنه واجب لا يجوز إسقاطه كالحد ؛ لأنه شرع للزجر.

١٩٩

وقال أبو حنيفة : يجب إقامة التعزير إن ظن الإمام أن الزجر باللسان لا يردع ، وتحصيل الغزالي ، والمروزي واختاره في الانتصار أنه إذا كان حقا لله فالخيرة للإمام ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرف من سيرته الإغضاء عن كثير من التعزير ، وإن كان حقا لآدمي وجب إقامته ، يعني بعد رفعه إلى الإمام ، أما في حق المسبوب قبل رفعه إلى الحاكم فلا إشكال أن له أن يعفو ويكون أفضل لما تقدم ، إلا أن يكون في الانتصاف ردع عن منكر ، وقد حكى عن الصادق أنه حق للحاكم فيكون له أن يعفو ، ولم يفصل ، وأطلق هذا في الكافي عن أبي طالب.

قوله تعالى

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية : ١٩]

ولا إشكال أن مناصرة الظالم لا تجوز ، ولكن أن يبلغ حكم موالاته هل يكون حكمه كحكمه أم لا؟ وهذا يفصّل فيه فإن نصره على معصية توجب الكفر والفسق فقد رضى بها فيصير كالفاعل لها ، فمن ناصر الباغي على الظلم عدوانا صار فاسقا ، ومن ناصر الكافر على إظهار كلمة الكفر صار كافرا ؛ لأنه قد رضى بذلك ، فإن ناصر الكافر على عدو لا على خصلة كفرته فلا دليل على تكفيره قطعيا ، وفي هذا كلام في غير هذا الموضع.

قوله تعالى

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣]

قيل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي كان يعبد ما تهواه نفسه ، عن مقاتل.

وقيل : كانت العرب تعبد ما تهوى فإذا رأوا بعد ذلك شيئا عبدوه ورموا الأول في بئر أو كسروه ، عن سعيد بن جبير.

٢٠٠