آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣
بأنّ السّنة عبارة : «عن نفس قول المعصوم عليهالسلام وفعله وتقريره» ، ومن المعلوم ، أنّ السّنّة بهذا المعنى حجّة عند الإماميّة ، بلا شبهة ، فلا مجال للبحث عن حجّيتها ، مع أنّ مقتضى كونها موضوعا ، هو البحث عن عوارضها الذّاتية ، كالحجيّة.
نعم ، للبحث عن حجّية خبر الواحد الحاكي عن السّنّة مجال ، إلّا ، أنّ هذا أجنبيّ عن البحث عن حجّيّة الموضوع وهو نفس السّنّة ، وعليه ، فما هو الموضوع (السّنّة) لا يبحث عنه ، وما يبحث عنه (الخبر الحاكي عن السّنّة) ليس هو الموضوع ؛ وهكذا الحال في الخبرين المتعارضين.
لا يقال : إنّ هذا الإيراد يدفع بما صدر عن الشّيخ الأنصاري قدسسره من إرجاع مسألة حجيّة أخبار الآحاد إلى أنّ السّنة وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت (١)؟
لأنّه يقال : أوّلا : أنّ البحث عن ثبوت الموضوع المعبّر عنه ب «مفاد كان التّامّة» أو «الهليّة البسيطة» ، وعدم ثبوته المعبّر عنه ب «مفاد ليس التّامّة» لا يكون بحثا عن عوارض الموضوع المعبّر عنها في القضايا الموجبة ب «مفاد كان النّاقصة» أو «الهليّة المركّبة» وهو ثبوت شيء لشيء ، وفي القضايا السّالبة ب «مفاد ليس النّاقصة» وهو عدم شيء لشيء (في معدولة المحمول) ، أو سلب شيء عن شيء (في السّالبة المحصّلة).
ونتيجة ذلك ، هو ما عرفت من : أنّ البحث المفروض ليس من مسائل العلم ، بل يكون من مباديه التّصديقيّة.
وثانيا : لو سلّم ، أنّ البحث عن ثبوت الموضوع ، هو البحث عن عوارضه ، ولكن لا يجدي ذلك في المقام ؛ إذ المحتملات في ثبوت السّنّة بخبر الواحد ثلاثة :
__________________
(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٨ ، الطّبعة الجديدة.
أحدها : ثبوتها الواقعي ؛ ثانيها : ثبوتها العلمي ؛ ثالثها : ثبوتها التّعبّدي.
وأنت ترى ، أنّ شيئا منها لا يصلح لجعل البحث عن حجّيّة الخبر بحثا عن عوارض الموضوع وهو السّنّة.
أمّا الأوّل : فلأنّ المقصود منه هو كون الخبر منشأ لثبوت السّنّة الواقعي وعلّة لوجودها العينيّ الخارجيّ ، ومن المعلوم ، أنّه لا يبحث عن مثل هذا الثّبوت والوجود في علم الاصول ، بمعني : أنّه لا يبحث فيه عن أنّه ، هل توجد وتتحقّق السّنّة في الخارج بخبر الواحد أم لا؟ مضافا إلى أنّ جعل خبر الواحد منشأ لثبوت السّنّة واقعا ، خطأ محض ، كيف! وأنّ السّنّة معلولة لعللها ومباديها التّكوينيّة ، كسائر أقوال المعصوم عليهالسلام أو أفعاله الصّادرة منه عليهالسلام.
وأمّا الثّاني : فلأنّ المقصود منه هو كون الخبر موجبا للعلم بثبوت السّنّة ووجودها العلميّ الواقعيّ الوجدانيّ ، وهذا ـ أيضا ـ ممّا لا يبحث عنه في الاصول ، بمعنى : أنّه لا يبحث فيه عن أنّه ، هل توجد السّنّة وجودا علميّا ذهنيّا بخبر الواحد أم لا؟ فلا يكون إذا من المسائل الاصوليّة.
وأمّا الثّالث : فلأنّ معناه ومرجعه إلى وجوب العمل على طبق الخبر ، كوجوبه على طبق السّنّة ، وهذا المعنى وإن اقتضى كون البحث المفروض بحثا عن العوارض ، إلّا أنّه ليس من عوارض الموضوع وهو السّنّة ، بل من عوارض الحاكي عنها وهو الخبر ، فما هو الموضوع (السّنّة) لا يبحث عن عوارضه ، وما يبحث عن عوارضه وهو الخبر ، لا يكون موضوعا ، بل يكون حاكيا عنه.
هذا كلّه ، لو كان المراد من السّنّة ، معناها الأخصّ وهو نفس قول المعصوم عليهالسلام أو فعله عليهالسلام أو تقريره عليهالسلام.
وأمّا لو كان المراد منها ، معناها الأعمّ الشّامل للخبر الحاكي عنها ـ أيضا ـ فالبحث عن حجيّة الخبر وإن كان بحثا عن أحوال الموضوع وعوارضه وهو السّنّة بهذا المعنى ، ويكون مندرجا في المسائل الاصوليّة ، فيندفع الإشكال ، إلّا أنّ الإشكال في كثير من المباحث ، باق بحاله ، كمباحث الألفاظ ، من الأوضاع ، والحقيقة والمجاز ، والأوامر والنّواهي ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، وكمباحث الاستلزامات العقليّة ، ومباحث الحجج والأمارات ، عدا مبحث حجّيّة ظاهر الكتاب وحجّيّة العقل ، ومباحث الاصول العمليّة العقليّة والنّقليّة.
ضرورة ، أنّ هذه المباحث لا تختصّ بالأدلّة الأربعة ، بل تعمّ غيرها ، فلا يكون البحث عنها بحثا عن عوارض الأدلّة ، كما لا يخفى.
(الأمر السّابع : تعريف علم الاصول)
قد عرّف علم الاصول بتعاريف لا تخلو عن الإشكال :
منها : ما عن المشهور (١) ، من : «أنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة».
ولكن يشكل عليه ، تارة بعدم الانعكاس ؛ واخرى بعدم الاطّراد.
أمّا عدم الانعكاس ، فلخروج بعض مهمّات المباحث الاصوليّة عن هذا التّعريف ، كمباحث الاصول العمليّة ـ نقليّة وعقليّة ـ في الشّبهات الحكميّة ، ومباحث الظنّ الانسدادي ؛ بناء على الحكومة ، لا الكشف.
__________________
(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٤٥.
أمّا الاصول العمليّة النّقليّة ، فلأنّها ليست قواعد علميّة ممهّدة لاستنباط الأحكام ، بل هي قواعد واصول عمليّة مقرّرة لتعيين الوظائف العمليّة ، وإخراج الشّاك المتردّد في موقف العمل ، عن الشّكّ والتّرديد بلا أىّ نظر إلى الواقع ، وأنّه هل هو الحلّ ، أو الحرمة ، أو الطّهارة ، أو النّجاسة ، مثلا؟
وبعبارة واضحة : أنّ قواعد الاستنباط ناظرة إلى الواقع ، بحيث تصيّر الجاهل به عالما به ، وهذا بخلاف القواعد والاصول العمليّة ، فإنّها ناظرة إلى تعيين الوظائف العمليّة للمكلّف حال شكّه وجهله ، فلا تخرج الجاهل بالواقع من الجهل إلى العلم به ولا تصيّره عالما به ؛ ولذلك سمّيت ب «الاصول العمليّة» وقالوا : إنّها ممّا ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل ، بل الاصول العمليّة الشّرعيّة ، كالبراءة والاحتياط الشّرعيّين إرشادات إلى الاصول العمليّة العقليّة.
لا يقال : إنّ البراءة الشّرعيّة تدلّ على الإباحة الظّاهريّة ، وهكذا سائر الاصول العمليّة ؛ فإنّها تفيد أحكاما شرعيّة ظاهريّة ، وعلى هذا فالاصول العمليّة ـ أيضا ـ تكون من القواعد العلميّة الممهّدة لاستنباط الأحكام.
لأنّه يقال : إنّ البراءة الشّرعيّة المستفادة من «حديث الرّفع» فليس في وسعها إثبات الحكم الشّرعي ووضعه ، حتّى يصحّ استنباط الحكم منها ، بل إنّما هي ناظرة إلى نفيه ورفعه ، كما لا يخفى.
وأمّا الاصول العمليّة العقليّة ، كالبراءة والاشتغال العقليين ، فلأنّها ـ أيضا ـ كالنّقليّة قواعد عمليّة قرّرت من ناحية العقل ، لتعيين وظيفة الشّاك في موقف العمل.
وتوهّم كونها ناظرة إلى الأحكام الظّاهريّة ؛ مندفع ـ أيضا ـ بأنّ مثل البراءة ليس في وسعها إلّا التّأمين ورفع العقوبة ، فهو من الاصول المؤمّنة ، المرخّصة
المعذّرة ، من دون أن تكون بصدد إثبات حكم من الأحكام أصلا.
وأمّا الظّن الانسدادي بناء على الحكومة ، فلأنّ معنى الحكومة ، هو حكم العقل بوجوب العمل على طبق الظّنّ والحركة على وفقه في مقام الامتثال ، من دون الانتهاء إلى حكم شرعيّ واقعيّ أو ظاهريّ ، فليس الظّن على هذا ، إلّا حجّة عقليّة مؤمّنة معذّرة ، نظير العلم والقطع حال الانفتاح ، فكما أنّ القطع حال الانفتاح حجّة بنفسه ، لامتثال الأحكام المقطوع بها ، كذلك الظّن حال الانسداد حجّة بنفسه ، لامتثال الأحكام المظنون بها.
والنّتيجة ، هو أنّ الظّن على الحكومة ، كالبراءة ممّا ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل ويلوذ به بحكم العقل ، من دون أن يكون من القواعد العلميّة الممهّدة ، لاستنباط الأحكام الشّرعيّة.
ثمّ إنّه قد اورد على تعريف المشهور بعدم الانعكاس ـ أيضا ـ إذ يخرج منه كثير من مباحث الألفاظ ؛ بداهة أنّها ليست قواعد وكبريات ممهّدة للاستنباط ، بل تكون بحوثا صغرويّة ومسائل أدبيّة لغويّة ، كالبحث عن معاني الحروف وأسماء الإشارات والموصولات ونحوهما ، وكالبحث عن معنى المشتقّ والأمر والنّهي وغير ذلك من مباحث الألفاظ.
وفيه : أنّ تلك المباحث وإن كانت صغرويّة ، إلّا أنّها ـ أيضا ـ تكون من القواعد الممهّدة للاستنباط ، بمعونة الكبرى المبحوث عنها في باب الظّن ، وهي كبرى حجيّة الظّهورات ، ولا فرق في كون الشّيء طريقا إلى استنباط الأحكام ، بين أن يكون كذلك بنفسه ، كالمسائل المتكفّلة للكبريات ، أو بضمّ كبرى اخرى إليه ، كالمسائل المتكفّلة للصّغريات ، فافهم واغتنم.
هذا كلّه في الإشكال على تعريف المشهور بعدم الانعكاس.
وأمّا الإشكال عليه بعدم الاطّراد ، فلأنّ التّعريف المذكور يشمل القواعد الفقهيّة ، حيث إنّها ـ أيضا ـ قواعد ممهّدة تقع في طريق استنباط الأحكام الشّرعيّة ، كالقواعد الاصوليّة.
وفيه : أنّ القواعد الفقهيّة ليست إلّا أحكاما عامّة جارية في الأبواب المختلفة من الفقه ، بلا اختصاص لها بباب دون باب ، فأين هذا من القواعد الّتي يستنبط منها الأحكام!؟
وإن شئت فقل : إنّ القواعد الاصوليّة إنّما مهّدت لاستنباط الأحكام الشّرعيّة بخلاف القواعد الفقهيّة ، فإنّها نفس الأحكام العامّة المستنبطة الّتي تنطبق على مواردها.
ومن المعلوم : أنّ تطبيق الحكم المستنبط على موارده ، غير استنباط الحكم من قاعدته ، ففي القواعد الاصوليّة ، استنباط وتوسيط ، بمعني : أنّ بها يستنبط الحكم ويتوسّل إليه ؛ وأمّا القواعد الفقهيّة ، ففيها انطباق وتطبيق على مواردها الجزئيّة ، كقاعدة اليد والفراغ والتّجاوز وغيرها.
ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدسسره فيما أفاده في المقام ، حيث قال ـ بعد العدول عن تعريف المشهور ـ ما هذا لفظه : «ويمكن أن يقال : بأنّه هو القواعد الآليّة الّتي يمكن أن تقع في كبرى الأحكام الكلّيّة الفرعيّة أو الوظيفة العمليّة ، فيخرج بالآليّة ، القواعد الفقهيّة ، فإنّ المراد بها كونها آلة محضة ، ولا ينظر فيها ، بل ينظر بها فقط ، والقواعد الفقهيّة ينظر فيها ، فتكون استقلاليّة لا آليّة». (١)
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٥ و ٦.
وممّا ذكرنا انقدح ضعف ما عن بعض المعاصرين : «من أنّ القواعد الفقهيّة تشتمل دائما على حكم كلّي ... تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة العمليّة ، ومجرّد كونها تطبيقيّة لا يضرّ بكونها آليّة ، كما لا يخفى». (١)
فتحصّل : أنّ القواعد الفقهيّة هي نفس الأحكام الشّرعيّة الكلّيّة المستنبطة المنطبقة على مواردها ، بخلاف القواعد الاصوليّة ، فإنّها ليست بأحكام مستنبطة ، بل هي ممّا يستنبط به الأحكام.
وإن شئت ، فقل : إنّ القواعد الاصوليّة تسمّى ب «قواعد الاستنباط» ، والقواعد الفقهيّة تسمّى ب «قواعد التّطبيق» أو بالأحكام الكلّيّة المستنبطة ، فافهم واغتنم.
ومنها (من التّعاريف المذكورة في علم الاصول) ما عن المحقّق الخراساني قدسسره من : «أنّه صناعة يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو الّتي ينتهي إليها في مقام العمل». (٢)
وفيه : ما لا يخفى ؛ إذ العلم المدوّن ليس إلّا نفس القضايا والقواعد ، لا الصّناعة الّتي يعرف بها القواعد.
على أنّه لو كان المقصود من قوله قدسسره : «صناعة يعرف بها القواعد» هو معرفة موضوعات القواعد ، وتصوّر محمولاتها ونسبها ، فلا ينطبق إلّا على المبادي التّصوريّة ، كما أنّه لو كان المقصود منه هي الأدلّة والبراهين الّتي يستدلّ بها لإثبات القواعد ، فلا ينطبق إلّا على المبادي التّصديقيّة.
__________________
(١) انوار الاصول : ج ١ ، ص ٣٢.
(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٩.
ومن الواضح : أنّ أخذ المبادي في تعريف العلم والالتزام بكون العلم هو خصوص المبادي ، ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، ولم يعهد ذلك من أحد ؛ ضرورة ، أنّ العلم ليس إلّا نفس القواعد والمسائل ، أو هي مع المبادي.
وقد اورد على هذا التّعريف ـ أيضا ـ بوجوه آخر إلّا أنّه لا حاجة إلى نقلها ونقدها بعد ما عرفت ما هو العمدة في الإشكال.
ومنها : ما عن المحقّق النّائيني قدسسره : من أنّه «عبارة عن العلم بالكبريات الّتي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعيّ كلّي». (١)
وفيه : ما تقدّم من الإشكال على تعريف المشهور بعدم الانعكاس ؛ حيث يلزم خروج مباحث الاصول العمليّة ، والظّنون الانسداديّة ـ بناء على الحكومة ـ من هذا التّعريف ، مع أنّهما من أهمّ المباحث الاصوليّة ، وكذا خروج كثير من مباحث الألفاظ منه.
ومنها : ما عن المحقّق العراقي قدسسره من : «أنّه القواعد الخاصّة الّتي تعمل في استخراج الأحكام الكلّيّة الإلهيّة ، أو الوظائف العمليّة الفعليّة ، عقليّة كانت ، أم شرعيّة». (٢)
والحقّ أنّ هذا التّعريف هو أسدّ التّعاريف وأمتنها ؛ لكونه مصونا عن الإشكالات المتقدّمة.
نعم ، لو عرّف ، ب «أنّه القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة ، أو
__________________
(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ١٩.
(٢) نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٢٠.
لتعيين الوظيفة العمليّة عند الجهل بتلك الاحكام ولدى الشّكّ والحيرة في موقف العمل» ، لكان أولى وأحسن ، كما لا يخفى.
لا يقال : إنّ مقتضى الصّناعة هو إضافة قيد الآليّة في التّعريف ، لإخراج القواعد الفقهيّة منه ، كما اضيف في بعض التّعاريف.
لأنّه يقال : إنّ هذا القيد وإن كان ممّا لا بدّ منه في إخراج تلك القواعد من التّعريف ، إلّا أنّه يستفاد من قولنا : «لاستنباط الأحكام الشّرعيّة» إذ لا معنى له ، إلّا جعل القواعد الاصوليّة آلة ووسيلة للنّيل والوصول إلى الأحكام الكلّيّة ، في قبال القواعد الفقهيّة الّتي هي نفس الأحكام المستنبطة.
(الأمر الثّامن : المبادي وأقسامها)
إنّ مبادي كلّ علم على قسمين :
أحدهما : المبادي التّصوريّة.
ثانيهما : المبادي التّصديقيّة.
أمّا الأوّل : فقد عرّف بكلّ ما يتوقّف عليه معرفة حدود موضوعات المسائل ومحمولاتها ، وحدود أجزاءهما ، إن كانتا من الامور المركّبة ؛ أو قيودهما ، إن كانتا من الامور المقيّدة ؛ وحدود جزئيّاتهما ، إن كانتا من الكلّيّات المنطبقة ؛ وكذا حدود النّسب بين الموضوعات والمحمولات.
أمّا الثّاني : فقد عرّف بكلّ ما يتوقّف عليه إثبات محمولات مسائل العلم
لموضوعاتها والتّصديق بثبوتها لها ، من الأدلّة والبراهين ، كما أنّ البحث عن ثبوت الموضوع أو المحمول أو عن ثبوت أجزاءهما ، أو جزئيّاتهما ، أو عن ثبوت النّسب بين الموضوعات والمحمولات ، من المبادي التّصديقيّة ، أيضا.
ثمّ إنّهم قد زادوا المبادي الأحكاميّة في علم الاصول ، وهي ـ أيضا ـ إمّا تصوّريّة ، يتوقّف عليها حدود الحكم وحدود أقسامه ؛ وإمّا تصديقيّة ، يتوقّف عليها التّصديق بالملازمة بين الحكمين وعدمها ، أو التّصديق بإمكان اجتماعهما ، أو امتناعه.
وبعبارة اخرى : إنّ البحث عن حقيقة الحكم وماهيّته يتوقّف على مباديه التّصوريّة ، نظير البحث عن الحكم التّكليفي والوضعي والنّفسي والغيري والعيني والكفائي والتّعييني والتخييري والمطلق والمشروط وغيرها.
وأمّا البحث عن عوارض الحكم وأحواله ، فيتوقّف على مباديه التّصديقيّة ، نظير البحث عن إمكان اجتماع الحكمين أو امتناعه ، أو البحث عن الملازمة بينهما ، وما يتوقّف عليه التّصديق بهذا أو ذاك ، فمبادي الأحكام ليست بخارجة عن دائرة المبادي التّصوريّة والتّصديقيّة ، بل هي ـ أيضا ـ كسائر مبادي العلوم لا تخلو من أحد هذين القسمين.
الأمر التّاسع : الوضع
المقامات الثّمانيّة
* المقام الأوّل : منشأ دلالة الألفاظ على معانيها* المقام الثّاني : أنّ الواضع من هو؟
* المقام الثّالث : حقيقة الوضع
* المقام الرّابع : تقسيم الوضع
* المقام الخامس : المعاني الحرفيّة وكيفيّة وضع الحروف
* المقام السّادس : معاني المبهمات وكيفيّة وضعها
* المقام السّابع : معاني الهيئات
* المقام الثّامن : المعاني الإنشائيّة والإخباريّة
(الأمر التّاسع : الوضع)
يقع البحث عن الوضع في مقامات ثمانية :
(المقام الأوّل : منشأ دلالة الألفاظ على معانيها)
فيه قولان :
أحدهما : القول بالوضع وهو الحقّ ، وسيتّضح وجهه من تضعيف القول الثّاني.
ثانيهما : القول بالمناسبة الذّاتيّة بين الألفاظ والمعاني ، بمعني : أنّ اللّفظ إنّما يدلّ على معناه بالطّبع ، وبلحاظ خصوصيّة في ذاته وحاقّ هويّته ، بلا وضع وتعهّد في البين ، كالمناسبة بين الماء والبرودة ، أو النّار والحرارة ، فكما أنّ المناسبة هناك ذاتيّة تكوينيّة ، لا وضعيّة جعليّة ، كذلك المقام ، هذا هو المنسوب إلى سليمان بن عبّاد الصّيمري. (١)
ولا يخفى : أنّ هذا القول ممّا لا يساعده الوجدان والبرهان.
أمّا الوجدان ، فلأنّ المناسبة الذّاتية تقتضي انتقال الذّهن من مجرّد سماع اللّفظ إلى معناه ، مع أنّه ليس كذلك بالوجدان ، بل لا بدّ للسّامع من العلم بالوضع وتعلّم أوضاع اللّغات المتنوّعة الجارية على الألسنة المختلفة.
__________________
(١) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ١٠٧.
وقياس الوضع في الألفاظ بمورد الماء والبرودة ، أو النّار والحرارة ، قياس مع الفارق ؛ ضرورة ، أنّ العلقة في المقيس إليه ذاتيّة نشأت من علّيّة أحدهما للآخر ، فالماء علّة للبرودة ، والنّار علّة للحرارة ، وهذا بخلاف اللّفظ والمعني ، حيث لا علّيّة بينهما بوجه.
وبالجملة : العلقة الذّاتيّة لا تكون إلّا في موارد العلّيّة والمعلوليّة أو المعلوليّة لعلّة ثالثة ، وليست من الامور الجزافيّة ، كما لا يخفى.
أمّا البرهان ، فلقيامه على استحالة أمرين :
أحدهما : التّركيب في البسيط المحض.
ثانيهما : التّرجيح بلا مرجّح ، مع أنّ المناسبة الذّاتيّة بين اللّفظ والمعنى تقتضي كلا الأمرين.
تقريب ذلك : أنّه لا ريب في إطلاق الألفاظ الكثيرة واللّغات المختلفة ـ حسب اختلاف الألسنة ـ على الله تبارك وتعالى ، مع أنّه ـ تعالى ـ بسيط محض خال عن التّركيب بالمرّة ـ من المادّة والصّورة ، أو الجنس والفصل ، أو الوجود والماهيّة ـ ومن المعلوم ، أنّه لو كان الرّبط الطّبيعي والعلقة الذّاتيّة بين جميع هذه اللّغات والألفاظ ، وبينه تبارك وتعالى ، لزم التّركيب في ذاته المقدّسة ، وخروجه عن الصّرافة والبساطة ، تعالى الله عن ذلك ؛ إذ مقتضى ذلك الرّبط ، لزوم تحقق الجهات المختلفة في ذاته المقدّسة.
ولو قيل : بوجود الرّبط بين بعض هذه الألفاظ ، أكثر من لفظ واحد ، وبينه تعالى ، لزم ـ أيضا ـ محذور التّركيب ، مضافا إلى محذوري التّرجيح بلا مرجّح ، ونقض قاعدة المناسبة الذّاتيّة ، كما أنّه لو قيل : بالرّبط الذّاتي بين واحدة من تلك الألفاظ وبينه
تعالى ، لزم محذور النّقض والتّرجيح بلا مرجّح البتّة ، فلا مناص إذا من القول بالوضع وعدم المناسبة الذّاتيّة ، المؤيّد بالوجدان والبرهان ، على ما مرّت الإشارة إليهما.
اللهمّ إلّا أن يقال : بحصول المناسبة الذّاتيّة وطريانها بعد الوضع ، وهذا كما ترى ؛ إذ كيف يمكن أن يصير أمر اعتباريّ جعليّ (الوضع) منشأ لأمر ذاتي تكويني؟!
ثمّ إنّه قد استدلّ للقول الثّاني بأمرين :
الأوّل : أنّ مقتضى كون العلقة بين الألفاظ والمعاني وضعيّة جعليّة ، هو اختصاص بعض الألفاظ ببعض المعاني دون بعض ، وهذا كما ترى ، ترجيح بلا مرجّح وتخصيص بلا مخصّص ، لا يمكن الالتزام به.
الثّاني : أنّ مقتضى ذلك هو انعدام العلقة وانقراضها بانعدام الجاعلين والواضعين وانقراضهم ، وهذا ـ أيضا ـ ممّا يشكل الالتزام به.
ولكن يرد على الأوّل : بأنّ عدم وجدان المرجّح لا يدلّ على عدم وجوده ، ولا ينحصر التّرجيح بالعلقة الذّاتيّة حتّى ينتفي بانتفائها ، بل يمكن أن يكون أمرا آخر لاحظه الواضع ، أو المستعمل ، كسهولة التّلفّظ والأداء ، وحسن التّركيب ونحوهما.
ويرد على الثّاني : بأنّ المقام ، كسائر الامور الاعتباريّة ، إنّما يدور مدار الاعتبار ـ وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ـ لا المعتبر ، فيبقى ما دام الاعتبار باقيا ، ألا ترى ، أنّ بعض الألسنة والألفاظ واللّغات الّذي كان متداولا في الأعصار الماضية والقرون الخالية يكون متداولا ـ أيضا ـ في عصرنا هذا ، كما أنّ بعضا منها صارت مهجورة متروكة منقرضة ، فهل هذا إلّا لأجل دوران هذه الامور مدار الاعتبار ، فتبقى ما دام الاعتبار باقيا وتنعدم ما دام معدوما؟
نعم ، قوانين التّكوين ونظاماته دائمة باقية ، كقانون العلّيّة والمعلوليّة.
فتحصّل : أنّه ليس منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هي المناسبة الذّاتيّة ، بل هو منحصر بالوضع ، كما هو المختار.
(المقام الثّاني : أنّ الواضع من هو؟)
قد نسب إلى عدّة من الأشاعرة (١) : أنّ الواضع هو الله تعالى ، واختاره المحقّق النّائيني قدسسره (٢) ، فقال في تقريره ما يرجع إلى امور :
الأوّل : أنّ البشر ليس في وسعه الوضع ؛ لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة ، فضلا عن جميع اللّغات ، والمحيط هو الله تعالى فقط ، فدعوى أنّ مثل «يعرب بن قحطان» أو غيره هو الواضع ، ممّا لا سبيل إليه.
الثّاني : أنّه لو كان وضع الألفاظ لمعانيها من شخص أو أشخاص ، لاشتهر وبان ، ولكانت التّواريخ المعدّة لضبط الأخبار والحوادث المهمّة السّالفة ، تضبطه حيث يدور عليه التّفهيم والتّفهّم ، وتحوم حوله الإفادة والاستفادة.
ومن المعلوم : أنّه لا عين ولا أثر في التّاريخ من زمن حدوث الوضع ، ومن الواضع للألفاظ أو الواضعين لها ، فليس الواضع إلّا الله تبارك وتعالى.
الثّالث : أنّ جعل هذه الألفاظ بإزاء المعاني من الله تعالى ، ليس جعلا تشريعيّا
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٧.
(٢) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١١.
محتاجا إيصاله إلى إرسال الرّسل وإنزال الكتب ، كجعل الأحكام الشّرعيّة ، ولا جعلا تكوينيّا جبّل الإنسان على إدراكه والعلم به ، كحدوث العطش عند احتياجه إلى الماء ، بل يكون جعلا متوسّطا بين الجعلين ، ألهم الله كلّ عنصر من عناصر البشر بلفظ مخصوص عند إرادة معنى مخصوص بقدر استعداده.
الرّابع : أنّ الله تعالى جعل لكلّ لفظ مخصوص معنى مخصوصا ، باعتبار مناسبة بينهما ، مجهولة عندنا.
الخامس : أنّ وجود المناسبة والجهة المقتضية لتأدية معنى مخصوص بلفظ مخصوص ، ممّا لا بدّ منه ، وإلّا لزم التّرجيح بلا مرجّح.
السّادس : أنّه لا يلزم أن تكون تلك الجهة والمناسبة ، راجعة إلى ذات اللّفظ حتّى تكون الدّلالة ذاتيّة ، بل لا بدّ من أن يكون هناك جهة مرجّحة حتّى تخرج تأدية معنى مخصوص بلفظ مخصوص عن التّرجيح بلا مرجّح. (١)
هذا ، ولكن تلك الامور غير ناهضة لإثبات مدّعاه قدسسره.
أمّا الأوّل : فلأنّه إنّما يتمّ إذا كان الوضع أمرا دفعيّا واقعا في زمان واحد ، مع أنّه ليس كذلك ؛ بل هو أمر تدريجيّ يدور مدار الأغراض والحاجات سعة وضيقا ، كثرة وقلّة ، كما أنّ الحاجات والأغراض تدور مدار مرور الأيّام والأعصار كذلك.
والوجه فيه : أنّ الوضع زائدا على قدر الحاجة ، لغو محض ، بلا شبهة ، فلا حاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ، حتّى يقال : بخروجه عن حيطة الطّاقة البشريّة.
__________________
(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٣٠.
أمّا الثّاني : فلأنّه بعد ما عرفت آنفا ، من كون الوضع تدريجيّا ، ظهر لك ، أنّ الواضع ليس شخصا واحدا أو أشخاصا معيّنين موجودين في عصر واحد ، حتّى يضبط عمله أو عملهم في التّاريخ ، بل الواضعون كثيرون طول الأعصار والقرون.
أمّا الثّالث : فلأنّه لا واسطة بين الجعلين (التّشريعي والتّكويني) فإن كان الشّيء من الامور الحقيقيّة والأشياء المتأصّلة الّتي لا تدور مدار الاعتبار ، وجودا وعدما وحدوثا وبقاء ، كان أمرا تكوينيّا ، وإلّا كان من الامور الاعتباريّة.
وأمّا الإلهام ، فإن كان بمعنى الهداية الفطريّة التّكوينيّة ، فهي موجودة في جميع الموجودات ، كما يشهد عليه قوله تعالى : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). (١)
وإن كان بمعني الوحي إلى نبيّ من أنبياءه ، فلم يضبط في التّاريخ ، ولا عين ولا أثر منه فيه ، بل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٢) دليل واضح على عدم نزول الألفاظ عليهم عليهمالسلام من الله ، وعلى أن اللّسان ، كان قبل الإرسال والوحي موجودا.
وكيف كان ، فمسألة الإلهام وإن كانت حقّة ، إلّا أنّها لا تختصّ بباب الوضع ولا بالإنسان.
وأمّا الرّابع : فلأنّ وجود المناسبة بين اللّفظ والمعني ، المجهولة عندنا ، وإن كان ممكنا ثبوتا ، لكن لا دليل عليها إثباتا ، والعلقة الذّاتيّة التّكوينيّة بينهما ، كالملازمة أو العلّيّة ، ممّا عرفت حاله آنفا.
__________________
(١) سورة طه (٢٠) : الآية ٥.
(٢) سورة ابراهيم (١٤) : الآية ٤.
وأمّا الخامس والسّادس : فلما عرفت سابقا ، من أنّ التّرجيح ليس بمنحصر في المناسبة أو العلقة الذّاتيّة بوجه العلّيّة.
فتحصّل : أنّ الواضع ليس هو الله تعالى ، وكذا ليس شخصا واحدا ، أو أشخاصا معيّنين ، في عصر واحد ، بل أشخاص كثيرون جعلوا الألفاظ بإزاء معانيها طول الأعصار.
(المقام الثّالث : حقيقة الوضع)
هنا أقوال :
الأوّل : أنّ الوضع أمر جعليّ اعتباريّ ، بمعني : جعل اللّفظ للمعني وتعيينه بإزائه ، لأجل الدّلالة عليه والحكاية عنه ، وهذا ما ذهب إليه جمع من الأعلام (١) واختاره الإمام الرّاحل قدسسره (٢) ولا يخلو من قوّة ، بلا فرق بين الوضع التّعييني والتّعيّني ، بل التّعيّني ـ أيضا ـ تعيينيّ تدريجيّ ، ولا يخفى ، أنّه ليس منشأ العلقة بين اللّفظ والمعنى ، إلّا هذا الاعتبار.
والإشكال : بأنّ الوضع لو كان هي العلقة الاعتباريّة ، لزم انقراضه بانقراض الواضعين ؛ مندفع بما عرفت سابقا ، من أنّ الوضع يدور مدار الاعتبار ، فلا ينقرض بانقراض المعتبر ، كما هو كذلك في سائر الامور الاعتباريّة ، كالزّوجيّة والملكيّة والحرّيّة والرّقيّة وغيرها.
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٤٣.
(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٨.
الثّاني : أنّ الوضع أمر اعتباريّ ، بمعنى : نحو اختصاص اللّفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ، ناش من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه اخرى. وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدسسره. (١)
وفيه : أوّلا : أنّ هذا التّعريف يكون من قبيل تعريف الشّيء بآثاره ولوازمه ؛ ضرورة ، أنّ الاختصاص إنّما هو من آثار الوضع لا نفسه.
وثانيا : أنّه تعريف بأمر مبهم مجمل ، وهذا ممّا لا يعهد في التّعاريف ، حيث إنّ المقصود منها هو التّوضيح والتّفصيل ، كما لا يخفى.
الثّالث : أنّ الوضع أمر اعتباريّ ، لا بمعنى : جعل العلقة بين اللّفظ والمعني الّذين لا علاقة بينهما أصلا ؛ لعدم إمكان هذا النّوع من الجعل بينهما ، بل بمعنى : تعهّد الواضع والتزامه بأنّه متى أراد معنى ، تكلّم بلفظ كذا ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق الرّشتي قدسسره (٢) وتبعه العلّامة الحائري اليزدي قدسسره. (٣)
وفيه : أوّلا : أنّه إنّما يتمّ في العلقة التّكوينيّة الّتي لا تقبل الجعل والاعتبار ، وأمّا العلقة الوضعيّة الاعتباريّة ، كما هي المقصود في المقام ، فلا مانع من قبولها للجعل والاعتبار ، بل لا مناص من الالتزام به.
وثانيا : أنّه قد يكون الواضع غافلا عن التّعهد المذكور ، بل ربّما لا يكون مستعملا للّفظ الّذي وضعه ، حتّى يحتاج إلى الالتزام والتّعهد ، بل يضع الألفاظ ليستعملها الآخرون.
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٠.
(٢) بدائع الافكار ، ص ٣٦ ، حيث قال : «لبداهة أنّ الوضع فعل للواضع ...».
(٣) راجع ، درر الفوائد : ج ١ ، ص ٣٥.